انحراف ثمود قوم صالح عليه السلام
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ (1)
ثمود! قبور في الصخور
أعلام الجحود
مقدمة:
بعد هلاك عاد بنحو مائة عام، ظهرت حضارة ومدينة أخرى تقودها ثمود.
وثمود من العرب العاربة. جاءت قافلتهم من حول جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح عليه السلام. شأنها كشأن العديد من القوافل التي تركت المنطقة الأولى وانتشرت في الأرض، وكان على رأس قافلة ثمود: ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وانتهى مسيرها إلى موقع بين الشام والحجاز، وكانت أهم حاضرة لهم مدينة الحجر.. وذكر المسعودي: أن حجر ثمود في الجنوب الشرقي من أرض مدين وهي مصاقبة لخليج العقبة.. وما زالت آثار ثمود باقية إلى يومنا هذا والمكان الذي فيه ديارهم يعرف اليوم ب (فج الناقة). والنبي الذي بعثه الله تعالى إلى ثمود. هو صالح عليه السلام. وكان بينه وبين هود عليه السلام - كما ذكر المسعودي - نحو مائة عام (2). وصالح عليه السلام ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم بالقيام بأمر الله والنهضة للتوحيد ضد الوثنية.
ويذكره الله تعالى بعد نوح وهود عليهما السلام. ولقد أثنى الله عليه بما أثنى به على أنبيائه ورسله. وذكر صالح عليه السلام في القرآن تسع مرات في سور: الأعراف، هود، الشعراء، وذكرت ثمود في القرآن في أحد عشرة سورة: الأعراف، هود، الحجر، الشعراء، النمل، فصلت، الذاريات، النجم، القمر، الحاقة، الشمس.
1 - في خيام الانحراف:
قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ (3) ويقول عز وجل: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ (4) لقد كانت البداية هدى، وهذا الهدى غزته ثقافة الجودي، ثقافة ما بعد الطوفان التي قامت على أعمدة التوحيد، وعندما انطلقوا لإقامة مجتمعاتهم الجديدة. كانت الفطرة في أعماقهم تدلهم على طريق الصواب. وبالجملة. عرفهم الله الحق وما يؤدي إليه والباطل وماذا يترتب عليه. فمن هنا كانت دائرة الاستبصار، ولكن دائرة الاستبصار هذه انطفأت في صدور الذين كفروا. وذلك بعد أن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم. وعلى هذا كانت دائرة العمى، وعندما جاءهم رسول من ربهم كي يعيدهم إلى دائرة الاستبصار، صدوا عن سبيل الله، وإلى هنا شق القوم طريقهم في اتجاه الاستئصال والله غني عن العالمين، وطريق ثمود نحو الاستئصال هو نفسه طريق عاد. بكل شعاراته وأعلامه، لقد رفضت ثمود ما رفضته عاد، فمن خيمة الشذوذ والانحراف رفضوا الرسول البشر.. يقول تعالى: ﴿إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (5) وفي احتجاجهم على نبيهم صالح عليه السلام قالوا له: ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ (6). لقد أمسكوا بذيل الآباء في رفض البشر الذين يدعونهم إلى عبادة الله وحده، رغم أنهم يحملون المعجزات التي تؤيد دعواهم، وذلك لأنهم يشاركونهم في البشرية. هذا في الظاهر. أما الحقيقة فلأنهم يروا أنفسهم أفضل من الأنبياء، من حيث أنهم يمتلكون الأموال والأولاد والأنعام وزينة الحياة الدنيا. ولديهم العتاد والجموع وهذا ما لم يتوفر للأنبياء، لقد كانوا يرون أنفسهم أفضل بني آدم. فأمسكوا بذيل الشيطان الذي قاس أفضليته على آدم بأن الله خلقه من نار بينما خلق آدم من طين. إن فقه الغباء لم يفطن في البداية أن الله هو الخالق ولم يفطن في النهاية إلى أن الله هو الرزاق وأن له في خلقه شؤون وما خلق سبحانه شيئا إلا بهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة.
وإذا كانت ثمود قد أمسكت بذيل عاد في رفض البشر الرسول، فإنهم سقطوا معهم في قاع اتباع الهوى وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فأورثهم الصد عن الحق. وأما طول الأمل فأورثهم نسيان الآخرة، ومع ثقافة الصد والنسيان لم تتدبر ثمود فهلك عاد وقوم نوح من قبل. فأقاموا بيوتهم في بطون الصخر وجعلوا لها أبوابا ضيقة يتحكمون فيها عند هبوب الرياح. حتى لا يهلكوا كما هلكت عاد. وكانت عاد من قبل قد شيدت لها أبنية على قمم المرتفعات حتى لا يهلكهم الطوفان الذي أهلك قوم نوح من قبل. وعن ثمود يقول تعالى: ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ (7) أي يسكنون الكهوف المنحوتة من الحجارة ظنا منهم أن هذا يجعلهم آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية. إنها ثقافة النسيان. التي انطلقت إلى غابة طول الأمل الشيطانية. وهناك في كل جرف صخري داخل واديهم السحيق. أقاموا مساكنهم التي ظنوا أنها تدفع عنهم الموت، ولم يكن يدري أهل ثقافة الانحراف. أن كفران النعمة أورثهم الجوع والخوف. والجائع لا يشبع من طعام ولا من حياة، ولأنه يريد مزيد من الحياة، خاف من المستقبل، وفي عالم الخوف يقف الخائف وراء الجدر، فلا يقاتل إلا من ورائها ولا يكيد إلا من ورائها، وثمود لم تكتف بالوقوف وراء الجدر بل دخلت فيها. يقول تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ (8) أي الذين ينحتون الصخر ويخرقونه ليتخذون منه بيوتا (9). لقد ظنوا أن ما يصنعوه يؤمن سعادتهم في الدنيا، ولم يدر أهل كفران النعمة ونسيان العهد، أن بطون الجبال ستكون عذابا لهم في يوم أليم وأن حضارتهم لن تحمل للمستقبل إلا دخانا، يدل على أن في هذا المكان يوما ما اضطرمت نار الغضب، كي يعتبر بهم من أراد الاعتبار.
2 - الرسول والدعوة.
1 - الرسول:
بعث صالح عليه السلام وكان يومئذ غلام حدث (10) وروي أنه بعث وهو ابن ست عشرة سنة، فلبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة (11) وذكر ابن الأثير في الكامل أنه بعث وهو ابن ثلاثين سنة، ومات وهو ابن ثمان وخمسون سنة (12) ورواية بعثه وهو غلام رواها غير واحد، وهناك روايات ذكرت أن دعوة صالح عليه السلام كانت عشرين سنة، وهذه مدة غير كافية لنسيان ثقافة خروج الناقة من الصخرة. ومن المعروف أن معجزة الناقة أدت إلى إيمان العديد وعلى رأسهم رئيس القوم (13). أما الرواية التي نصت على أن صالحا عليه السلام بعث وهو غلام أو ابن ست عشرة سنة وأنه لبث فيهم حتى بلغ مائة وعشرين سنة، فهي تستقيم مع الأحداث لأن المدة كافية لظهور أجيال ترى في الناقة عادة مألوفة، ولا تراها كمعجزة كما رآها الجيل السابق، ومع هذه الأجيال تدور معارك العقيدة، بين معسكر الحق ومعسكر الشذوذ الذي يسهر عليه آباء الانحراف الذين لم يؤمنوا برسالة صالح وتمسكوا بذيول الآباء. فالناقة كانت في الحقيقة حجة على جيلين. جيل طلب الآية. وجيل لم يطلب الآية ولكنه رآها وهو يشب بين القوم.
الجيل الأول آمن منه من آمن وعاش في ثقافة المعجزة، أما الجيل الثاني فجاء يسمع ثقافة المعجزة وثقافة الصد عن السبيل، وهو مخير بين هذا وذاك. إما أن يكون مع الناجين. وإما أن يكون امتدادا لأجيال لن تلد إلا فاجرا كفارا وحينئذ يكون عذاب الاستئصال.
بعث صالح عليه السلام وهو غلام. وبعث الله تعالى صالحا في هذا السن معجزة في حد ذاتها. ليرى فيه القوم رجاحة العقل في زمن عز فيه أن يرى عاقل تنجبه ثقافة الجوع والخوف والصخور، وصالح عليه السلام كان من بيت شرف ومشهود له بالأمانة، وعندما تتوج الأمانة والشرف إنسانا صادقا في عالم يتخذ من خناجره معاول لتمزيق أحشاء الصخور بحثا عن الأمن. يكون هذا الإنسان في حد ذاته دعوة للسمع وللبصر. فلعل السمع منه يدل القوم إلى الأمن الذي يقود إلى السعادة الحقيقية، لأنهم عندما يسمعون سيسمعون من عاقل، وعندما ينظرون فسينظرون إلى أمين لا يسألهم أجرا، لقد كان بعثه عليه السلام وهو غلام معجزة لم يتدبرها الأوائل، لأنهم انطلقوا في ليل الانحراف الذي يغشى بأجنحته السوداء دروب الضياء والمعرفة، وكان عليه السلام يراهم وهم يهرولون في اتجاه الصخور ويخبرهم أن الطريق إلى الأمن لا يحتاج إلى هذه المشاق. وأنه يبدأ من توحيد الله وعبادته والسير داخل المجتمع بالعدل والإحسان. وأن لا يسرفوا ولا يطغوا ولا يعلوا في الأرض. كان يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن القوم تجنبوه في بداية الأمر، ولم يجبه من قومه إلا نفر يسير من الضعفاء، الذين لا ينظرون إلى الصورة. ولكن يتعمقون في القول وبلاغته ومضمونه وأهدافه، ولا ينظرون إلى طول الجسم وما عليه. وإنما ينظرون إلى أعماق الإنسان، حيث الأمانة والعفة والطهر والنقاء والصدق، كان هذا هو حال الضعفاء الذين اتبعوا صالحا عليه السلام، أما الجبابرة فتجنبوه لعدم استطاعتهم دفع حججه، وأوهموا أتباعهم أنهم إنما تركوه لصغر سنه.
وشب صالح عليه السلام في ثمود، وكان كل يوم يمر يشعر معه الجبابرة بالخطر الذي يحمله صالح عليه السلام. لقد وجدوه يحمل عقيدة تعمل من أجل الإطاحة بما كان عليه آباؤهم. وهذه العقيدة تلازمه من يوم أن شاهدوه في أول أمره كنبت أخضر ذي أصل ثابت. يتسلق فرعه في اتجاه السماء، إلى اليوم الذي أصبح فيه كشجرة تشب مع الأجيال وتحمل لهم الثمار، كان الجبابرة يشعرون بالخطر، ولأنهم لا يتنفسون إلا من خيمة الانحراف، كان كل يوم يمر لا يزدهم من الإيمان إلا بعدا، لم يتدبروا يوما في أحوال صالح الذي حمل الرشد والكمال في شخصه وبيته، ولا يأتي منه إلا الخير. ولا يترقب منه إلا النفع.
2 - الدعوة:
يقول تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ / أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ / فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ / وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ / الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (14).
لقد هدم عليه السلام عقائدهم وثقافاتهم التي تقوم عليها، فدعاهم لأن يتدبروا وأن يتقوا الله، وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، ثم نفى عن نفسه أي طمع دنيوي. والدليل أنه لم يسألهم الأجر كما يسألهم كهان الأوثان الأجر عندما يفتونهم، وليس معنى أنه لا يسألهم الأجر أن ما يقوم به لا وزن له، وإنما له ثواب وأجر عند الله رب العالمين وهو يطمع في هذا الأجر وهذا الثواب، وبعد أن قرع عليه السلام آذانهم بالتوحيد. رد عقولهم إلى الحقيقة التي تعاموا عنها فقال: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ﴾؟ أي أنكم لن تتركوا في أرضكم وما أحاط بكم في أرضكم هذه. وأنتم مطلقوا العنان لا تسألون عما تفعلون وآمنون من أي مؤاخذة إلهية (15) لقد وعظهم وحذرهم نقم الله أن تحل بهم.. وذكرهم بأنعم الله حيث أنبت الله لهم الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من الزروع والثمرات (16) لكنهم لم يشكروا النعمة ويضعوها في محلها، وإنما اتخذوا تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها. وأنهم كانوا حانقين متقنين لنحتها ونقشها (17) ولأن ما يفعلوه لا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، أمرهم أن يقبلوا على الله بطاعته. لأن طاعته من طاعة الله. وأن لا يطيعوا أمر المسرفين.. فلا يقلدوهم ولا يتبعوهم في أعمالهم وسلوكهم. وخطابه عليه السلام كان للعامة التابعين للمسرفين، وكان للمسرفين الذين يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم ولقد - أمر بعدم طاعتهم لأنهم يفسدون في الأرض غير مصلحين. والإفساد لا ومن معه العذاب الإلهي والله عزيز ذو انتقام.
ولقد حذرهم عليه السلام من الإمساك بذيل المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، لأن الكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة، والكون ترتبط أجزاءه ارتباطا محكما، وأي انحراف أو تفريط فإن الميل والانحراف يكون إفسادا للنظام المرسوم. ويتبعه إفساد غاياته. الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية الجارية، فإن جرى على ما تهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله بالسنين وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد. وإن أقاموا على ذلك الفساد لرسوخه في نفوسهم. أخذهم الله بعذاب الاستئصال، وطهر الأرض من قذارة فسادهم (18) فماذا قال الجبابرة والمترفون والمسرفون لصالح عليه السلام عندما دعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من نقمه. وعندما بين لهم أن الطريق الصحيح لن يكون في ذيل الذين يفسدون في الأرض؟ يقول تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ / مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (19) لقد واجهوا النصح بحشد من الاتهامات فاتهموه - بأنه ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب السحر على عقله (20) وضعوا على كل مرحلة من مراحل حياته علامة تقول إنه مسحور. صادروا الحكمة والبلاغة والمضمون ودقوا وتد السحر. وعندما خاطبهم جمعوا له كل العلامات التي وضعوها على امتداد حياته وقالوا: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ ولم ينس طابور الانحراف أن يلقي بأثقال الآباء التي ألقي بها من قبل أمام نوح وهود عليهما السلام فقالوا لصالح عليه السلام: ، ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بآية تثبت صدقه في دعواه فقالوا: ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
لقد دعاهم عليه السلام لكي يدخلوا في رحاب الأمن الحق الذي يربط أجزاء الكون بالعدل. ولكن العدل عند خيمة الانحراف، أن تتركهم وما يفعلون، وأن تتركهم وما يقولون، وأن لا تحول بينهم وبين ما يحبون! العدالة عندهم أن تتركهم حتى لو أدت أعمالهم إلى احتراق الأخضر واليابس في مشهد واحد.
3 - انحراف جديد:
كانت ثمود أمة من أمم الانحراف، والانحراف لا بد وأن يترك تحت رماده بذور يصلح زرعها على أرض معسكر الانحراف. الذي يستلم الراية فيما بعد.
وهذه البذور تظل تحت الأرض لفترة حتى يأتي من يتعهدها حتى تكبر وتصبح شجرة من الدنس في نهاية الطريق. وإذا كانت ثمود قد تعهدت شجرة ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ التي قام كفار قوم نوح بتسليمها لكفار قوم هود، فإن ثمود كان لها السبق في إضافة معنى آخر يقبل بشرية الرسول بشروط، ولقد اتسعت هذه الشروط فيما بعد وكان في اتساعها كارثة.
فعندما حاصر صالح عليه السلام ثمود بحججه الدامغة، ولم تجد ثمود فيه إلا كل الخصال الحميدة، هرول إليه الضعاف واعتنقوا دعوته، وأمام هذا المد - وإن كان ضعيفا - اهتز الذين يحرصون على الحياة، وأصبحت أوراق فقه التحقير والانتقاص من البشر الذين يحملون رسالات الله لا تجدي. بعد أن أحرزت الدعوة تقدما لها في ديار الضعاف. لهذا قام كفار ثمود لتطوير فقه التحقير والانتقاص بما يسحب البساط من تحت أقدام النبوة فقالوا كما أخبر سبحانه:
﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ / أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ (21) لقد نصبوا شباك الصد عن سبيل الله، شباك صنعت من خيوط الحسد، وقالوا: " لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا قيادتنا لواحد منا " (22) فلو كان الوحي حقا، وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر جميعا (23) باختصار بثت أبواق ثمود ثقافة جديدة تقول للعامة والخاصة أن إثبات الرسالة لصالح وحده فيه انتقاص لكم، لأنكم تماثلونه في البشرية، فإذا جاز أن يدعي الرسالة، فمن حقكم أن تدعوا الانتفاخ بالروح القدس. وهذا البيان لن يصب في النهاية إلا في سلة الجبابرة. لأن الضعاف لن يجرؤ واحد منهم أن يدعي الانتفاخ أو يدعي الرسالة. لأنه لا يملك أن يقدم البينة عليها، فالبيان بالنسبة للضعفاء تحصين لهم في مواجهة صالح عليه السلام. أما بالنسبة للجبابرة، فإنهم إذا ادعوا الرسالة يمكن أن يلوحوا بما لديهم من عدة وما معهم من جموع، فالعدة والجموع قمم في عالم الانحراف والشذوذ، وعلى امتداد دعوات الأنبياء والرسل كانت معسكرات الانحراف ترفض الرسل لأنهم لا عدة لهم ولا جموع معهم، وأمام النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دفعوا بما ورثوه عن ثمود ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (24) لقد بدأوا في صدر البشرية بأهداف خفية حملتها الجماهير، أما عند الرسالة الخاتمة ظهر ما كان مخبوء. ظهر أن أهل العناد والعتو والتمرد صعب عليهم أن يكونوا مروا سنين كسائر الناس يعمهم حكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا مال له ولا قوة من رجال وسلاح. كان الجبابرة في عهد الرسالة الخاتمة هم العنوان. ومن وراء الجبابرة وقفت الجماهير أتباع الناعق في كل زمان ومكان.
فإذا كانت ثمود قد دقت أوتاد العدة والجموع في أول الزمان، فإن القرآن الكريم مزق هذه العدة وهذه الجموع في معسكر الباطل، في رده على الذين قالوا: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ فقال تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ / وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ / وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ / وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (25).
قال المفسرون: إن قولهم هذا ينبغي أن يتعجب منه! فإنهم يحكمون فيما لا يملكون، فهذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها ويرزقون. وهي رحمة منا. لا قدر لها ولا منزلة عندنا. وليست إلا متاعا زائلا. نحن نقسمها بينهم وهي خارجة عن مقدرتهم ومشيئتهم. فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى.
وهي مفتاح سعادة البشر الدائمة والفلاح الخالد. فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها عمن شاؤوا. إن متاع الدنيا من مال وزينة، لا قدر لها عند الله سبحانه ولا منزلة، ولولا أن يجتمع الناس على الكفر لو شاهدوا تنعم الكافرين، لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة. ودرجات عليها يظهرون بغيرهم، وكل هذا لا قيمة له في الآخرة التي جعلها الله للمتقين سعادة دائمة وفلاح خالد (26). إن معيار الذهب والفضة والسلاح والجموع، لا يصلح إلا في خيام ومعسكرات الانحراف، فهذه المكاييل إذا كان يمتلكها كافر فلا يحق ولا يجوز له أن يحدد النبوة على أساسها، لأنه يستعمل مكيال لا قدر له ولا منزلة في تحديد مصدر سعادة دائمة وفلاح خالد. إن الذي تكون مقدمته لا قدر لها ولا منزلة تكون نتائجه أيضا لا قدر لها ولا منزلة. ولقد دقت ثمود أوتادا لا قدر لها ولا منزلة. ومن خيمتهم اختنقت الأرض من الظلم، وبعد أن اتسع الشذوذ ظهر الذين ادعوا الحكم الإلهي، وظهر الأنبياء الكذبة، والهداة الكذبة، والفقهاء الكذبة، والأمراء الكذبة، ظهروا بعد أن أصبح المال يعسوبا ودليلا في عالم المجاعات والأهواء ومع ثقافة المال وهدايته. أصبح الحب مقتا، والنهار ليلا، والأمل يأسا، والسلم حربا، والفرح ألما، والسعادة شقاء ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ (27) ولما كانت مقدمة ثمود لا تنام ولا تكل شاء الله لها أن تجثوا تحت أقدام المسيح الدجال الذي يتاجر بالمال والأهواء. والمسيح الدجال حذر منه جميع رسل الله وأنبيائه وهو خارج آخر الزمان لا محالة (28) ليتلقط أبناء الشذوذ والانحراف الذين أخلصوا لخيام معسكرات الانحراف ابتداء من يوم نوح عليه السلام ومرورا بعاد وثمود وقوم لوط. وانتهاء بأتباع عجل بني إسرائيل والتثليث والمسجد الضرار. إن الدجال سيلتقط كل من يمثل رقعة من رقعات الشذوذ ليذيقه الله عذاب الذل والخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب أليم.
-1 فصلت/17.
2- مروج الذهب: 47 / 2.
3- سورة فصلت، الآية: 17.
4- سورة العنكبوت، الآية: 38.
5- سورة فصلت، الآية: 14.
6- سورة الشعراء، الآية: 159.
7- سورة الحجر، الآية: 82.
8- سورة الفجر، الآية: 9.
9- ابن كثير: 508 / 4.
10- مروج الذهب / المسعودي: 47 / 2.
11- الأنبياء / العاملي: 104.
12- الفتح الرباني: 46 / 20.
13- مروج الذهب: 47 / 2، ابن كثير: 228 / 2، تفسير الميزان: 315 / 10.
14- سورة الشعراء، الآيات: 141 - 152.
15- الميزان.
16- تفسير البغوي: 232 / 6.
17- ابن كثير: 343 / 3، البغوي: 233 / 6.
18- الميزان.
19- سورة الشعراء، الآيتان: 153 - 154.
20- الميزان.
21- سورة القمر، الآيتان: 24 - 25.
22- ابن كثير: 264 / 4، البغوي: 135 / 8.
23- الميزان.
24- سورة الزخرف، الآية: 31.
25- سورة الزخرف، الآيات: 32 - 35.
26- الميزان.
27- سورة هود، الآية: 68.
28- راجع سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال.
-----------------------------------
4 - المعجزة:
اتهمت ثمود صالح عليه السلام بأنه من المسحرين! وطالبوه بآية إن كان من الصادقين. وكان بعثه فيهم وهو غلام آية ولكنهم لم يتدبروها، ولقد طالبوه بإظهار العلامات كما ذكر المسعودي: ليمنعوه من دعائهم. وليعجزوه عن خطابهم (1).. وكان صالح عليه السلام قد حضر جمعا لهم. فسألوه أن يأتيهم بمعجزة تجانس أملاكهم، وذلك بعد اتفاق آرائهم. وكان القوم أصحاب إبل..
وتقدم زعيم القوم وقال له: يا صالح إن كنت صادقا في قولك، وأنك معبر عن ربك، فاظهر لنا من هذه الصخرة ناقة (وكانت صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكاتبة (2) وكانوا يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة) (3) ولتكن هذه الناقة: وبراء، سوداء، عشراء، نتوجا حالكة، صافية اللون، ذا عرف وناصية وشعر ووبر (4).
كان القوم لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله، وحول كل صنم جماهيره تهتف: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا من هذه الصخرة الناقة التي سألنا. لقد سأل الجبابرة معجزة من جنس ما يملكون وهتفت الجماهير هتاف الصخر الذي فيه يعملون. فقال لهم صالح عليه السلام: " لقد سألتموني شيئا يعظم علي ويهون على ربي سبحانه وتعالى " (5) وعندئذ أوحى إليه الله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ / وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ﴾ (6) لقد أوحى سبحانه إليه بأنه سيرسل على طريق الإعجاز الناقة التي سألوها، امتحانا لهم، وأمره أن يصبر على أذاهم، وأن يخبرهم بعد إرسال الناقة. أن الماء مقسوم بين الناقة وبين القوم، لكل منهما نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه، فالقوم يحضرون عند شربهم والناقة عند شربها (7) وفي يوم عيد القوم، وقف صالح عليه السلام أمام الصخرة يستغيث بربه، فتحركت الصخرة وتململت، وبدا منها حنين وأنين، ثم انصدعت من بعد تمخض شديد، كتمخض المرأة حين الولادة. وظهر منها ناقة على ما طلبوا من الصفة، ثم تلاها من الصخرة سقب لها (ولد الناقة) مثلها في الوصف (8) وفي رواية ابن كثير " ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا " (9).
لقد خرجت الناقة بمشيئة الله، أوجدها سبحانه كخلق آدم وحواء من غير أب ولا أم.. أوجدها تعالى تأييدا لصالح وتصديقا لدعوته، وآية من مبرئ الأكوان وموجد الزمان والمكان، لتدل على وحدانيته سبحانه، وعندما خرجت الناقة وولدها من الصخرة آمن خلق كثير (10) وقال صالح عليه السلام: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (11).
قال المفسرون: دعاهم أولا أن يعبدوا الله، وكانوا مشركين يعبدون الأصنام، وأخبرهم أنه قد جاءتهم من ربهم شاهد قاطع في شهادته، وهي الناقة التي أخرجها الله لهم من الصخرة. آية لنبوته بدعائه عليه السلام لربه، ثم أمرهم أن يتركوها تأكل من أرض الله، وحذرهم أن يمنعوها أو يمسوها بسوء كالعقر والنحر، فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم، ثم دعاهم إلى أن يوجهوا طاقاتهم التوجيه الصحيح، بأن يذكروا نعم الله عليهم، وذكرهم أن الله تعالى جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، وأن الله تعالى هو الذي مكنهم في منازلهم وكما أنه هو الذي أخرج لهم الناقة من بطن الصخرة فإنه تعالى هو الذي أعطاهم القوة ليتخذوا من السهول قصورا وينحتون من الجبال بيوتا. وهذا يدعوهم إلى ذكر آلاء الله فيهم، ولا يعثوا في الأرض مفسدين كان هذا توجيه صالح عليه السلام لهم، بعد أن أخرج الله الناقة من الصخرة الصماء، بين دهشة القوم، وتهليل وتكبير صالح عليه السلام والذين آمنوا معه.
5 - مواجهات بين الحق والباطل:
بعد معجزة الناقة آمن الناس، وتوارى بعض من الملأ الذين أصروا على الاستكبار وراء جدر النفاق أو جدر الصخر. بعد أن كبر عليهم أن يصبحوا من رعايا الصراط المستقيم وتحت قيادة صالح عليه السلام الذي يصغرهم في السن ولا يمتلك ما يمتلكوه من مال وجموع، والاستكبار في كل زمان ومكان لا يرضى إلا بما يشبع نفسه الأمارة بالسوء وأهواءه التي استنقعت في الدنس، الاستكبار هو الاستكبار من يوم أن رفض الشيطان أن يسجد لآدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان الاستكبار في ثمود يتنفس برئة آباء معسكر الانحراف ولا يجد لنفسه وجودا إلا في هذا المعسكر، لذلك كان يعز عليهم أن يروا صالحا عليه السلام، وهو يحطم عقيدة وثقافة خيام الشذوذ والانحراف. ولأن حياتهم فيما يحطمه صالح عليه السلام، فإنهم خاضوا العديد من المواجهات معه، منها ما حمل لافتات الترغيب وعرض المناصب القيادية، ومنها ما حمل لافتات التحقير والتشاؤم من الذين آمنوا، ومنها ما حمل الخناجر والسيوف لقتل صالح وقتل الناقة، وكان لكل لافتة زمان ورجال، فالزمن الذي عاصر معجزة الناقة أو سمع عنها كان المستكبرون يرفعون لافتة الصد المناسبة له، والزمن الذي لم ير ولكنه سمع كان له لافتة تناسبه، وفي جميع الأزمنة لم تخل الدائرة حول صالح عليه السلام من المؤمنين به وبرسالته.
1 - الترغيب بدائرة الضوء:
بعد أن امتص المجتمع معجزة الناقة، رأى جبابرة ثمود أن وجود المستضعفين حول صالح عليه السلام فيه خطر عليهم، فعلموا من أجل امتصاص الدعوة، بمعنى أن يدخلوها تحت عباءاتهم حتى إذا خرجت لا تحطم طرقهم، وكان سبيلهم من أجل تحقيق ذلك هو التلويح بالمنصب الرفيع في ثمود لصالح إذا ترك آلهتهم وشأنها، وقد رويت أحاديث عديدة في محاولات ثمود هذه. وفي كتاب الله تعالى إشارات تدل على عمليات التلويح بالمنصب. يقول تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ / قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ / قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ / وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ (12).
لقد بدأ حديثه ودعوته بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وفي هذا تحطيم للأرباب والآلهة التي اتخذوها من دون الله. ومنهج صالح عليه السلام في هذا لا يتبدل ولا يتغير، ثم ذكرهم بعد ذلك بنشأتهم من الأرض.
وبين لهم أن الله الذي أنشأهم من الأرض استخلفهم فيها، وعلى هذا فإنهم لا يفتقرون في وجودهم وبقائهم إلا إليه تعالى. لأنه تعالى هو الذي أنشأ وهو الذي استخلف، وبما أنه تعالى هو الذي يجب عليهم أن يعبدوه ويتركوا غيره، لأنه تعالى خالقهم والمدبر لأمر حياتهم، فيجب عليهم أن يسألوه أن يغفر لهم معصيتهم التي اقترفوها بعبادة غيره وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وعبادته إنه تعالى قريب مجيب.
هذا معنى ما قاله صالح عليه السلام. فماذا قال له رؤوس القوم الذين يحافظون على الانحراف؟ ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ والمعنى: أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحين. تنفع بخدماتك مجتمعهم.. لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال (13) كنا نرجوك في عقلك (14) ولكن هذا الرجاء قد خاب (15) لقد يئسوا منك، وسبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن دولتهم، وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم ﴿أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ كيف وإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت. ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة (16) ويقول صاحب الميزان: وقوله تعالى: ﴿أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ يدل على معنى العبادة المستمرة وذلك لاتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء.
عندما قالوا لصالح عليه السلام: لقد كان لنا رجاء فيك، وكنت مرجوا فينا لعلمك ولعقلك ولصدقك ولحسن تدبيرك. عندما قالوا هذا كانوا يلوحون بالمنصب في حقيقة الأمر. وعندما لوحوا بالمنصب عرضوا مطالبهم عندما قالوا:
فكل شئ يا صالح إلا هذا، وما كنا نتوقع أن تقولها. فيا لخيبة الرجاء فيك (17) وأمام الترغيب بالمنصب لوحوا بقبضتهم الحديدية في حالة رفض مطالبهم عندما أخبروه أنهم في شك مما يدعوهم إليه شك يجعلهم يرتابون فيه وفيما يقول: ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾. وهكذا عرضت ثمود مطالبها. لقد أرادت الأصنام رمز وحدتها القومية، فوضعت ما أرادت على سهم حديدي، مقدمته رجاء إن أصاب هدفه تمت لهم السيطرة على الدعوة، وإلا فثقافة التشكيك في مؤخرة السهم الحديدي من شأنها أن تقضي على الدعوة وتعود بالقطيع إلى غابات الآباء.
أمام ثمود وقف صالح عليه السلام يرى معالم الضياع على وجوه القوم، هو يدعوهم إلى الطهارة وهم يعملون من أجل إقامة سنن دولتهم، وهو قد حذرهم من قبل أن لا يمسوا الناقة بسوء، وبايعوه على ذلك وها هو يرى علامات النكث ترى بين طيات فقه التشكيك الذي لوحوا به، فقال لهم ردا على ما أثاروه: ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِير﴾ (18). والمعنى: أخبروني. إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي. وأعطاني الله الرسالة وأمرني تبليغ رسالته. فمن ينجيني من الله ويدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني، وما يريدوه مني هو ترك الدعوة (19). إن حرصكم من أجل أن أترك الدعوة وأرجع إليكم لا يزيدني إلا خسارة. إن اللحوق بكم فيه غضب لله وحرماني شرف الرسالة وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة وهذا كله خسارة بعد خسارة.
فطريقكم لا شئ فيه إلا التخسير. وبعد أن رفض عليه السلام أطروحاتهم، وضع قضية الناقة أمام عيونهم، لأن رفضه لمطالبهم سيترتب عليه صد عن السبيل وهذا الصد إذا اقترب من ناقة الله فستكون الكارثة بالنسبة لهم، فقال لهم: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ (20) أخبرهم بوضوح شديد، أن الناقة تأكل في أرض الله محررة، وحذرهم أن يمسوها بسوء، بجرح، أو قتل أو حتى ضرب وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، وبرفضه عليه السلام لعرضهم احترقت ورقة الاستكبار التي رغب بها صالح عليه السلام للدخول في دائرة الضوء الثامودي.
2 - حملات التشكيك:
قبل ظهور معجزة الناقة آمن بصالح عليه السلام أصحاب القلوب الصافية والعقول السليمة، وهؤلاء في الغالب من المستضعفين. آمنوا بمجرد أن دعا صالح إلى الله تعالى، كما هو الحال مع سائر الأنبياء والرسل، أما رؤساء القوم وشيوخهم فكانوا في شك من نبوة صالح عليه السلام ورسالته وصدقه في كل ما يدعيه وبعد معجزة الناقة وخروجها من الصخرة حسب طلبهم وبعد اتفاقهم على ذلك، آمنت منهم جموع كثيرة، ودخلوا في دائرة الاستبصار. ولكن الحال لم يستمر على هذا طويلا. فظهور الناقة أمامهم يوم شربها أصبح عادة كما أن العديد منهم ضاق ذرعا بالناقة نظرا لأن دوابهم كانت تخاف منها وتفر من طريقها رغم أن الناقة لا تؤذيها. ومع طول الأمد بدأ الاغواء الشيطاني وإغواء النفس الأمارة بالسوء، وتحرك الاستكبار من وراء الجدر ومن داخل الساحات العامة، وتحرك الملحدين الجفاة الغلاظ، وجروا معهم ضعاف الإيمان وجماهير الغوغاء أهل الطيش الهمج الرعاع أتباع كل ناعق يعمل لهم رغيفا.
كان يعيش على أرض ثمود من رأى معجزة خروج الناقة وسمع الوصية بها، ومن لم ير خروجها ولكنه سمع عنه وعن الوصية، ومن آمن بصالح عليه السلام سواء رأى المعجزة أو لم يرها. وبالإضافة إلى هؤلاء كان على أرض ثمود عمالقة الانحراف ومديري أجهزة الصد عن سبيل الله، ومن هذه الفئات جميعا تكون حزبين، أو فريقين: فريق مؤمن، وفريق استحب العمى على الهدى، وقام الفريق الثاني فريق الكفر باقتحام الساحة بشذوذه معلنا حملات التشكيك في رسالة صالح عليه السلام والناقة أمام عيونهم في الطرقات.
وبدأ معسكر الباطل في العدوان يقول تعالى في تحركهم: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (21).
لقد وقف الاستكبار أمام رقعة الاستضعاف. ووجه حديثه إلى الذين آمنوا بصالح. كي تصل رسالة الاستكبار بطريق غير مباشر إلى جموع المستضعفين في ثمود، وكانوا في الغالب الأعم يلجأون إلى صالح ويسمعون منه، ولقد دل سبحانه بيان قوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ بقوله: ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ على أن المستضعفين هم المؤمنون، وأن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين، ولم يكن يؤمن به أحد من المستكبرين (22) فأمام رقعة الاستضعاف وقف الذين استكبروا وطرحوا على المستضعفين سؤالا (أتعلمون أن صالحا مرسلا من ربه؟) إنه سؤال التشكيك بعد أن طال الأمد إلى حد ما وأصبحت معجزة الناقة تخضع للتراث، إن شاؤوا أضافوا إليه أساطير التشويه، وإن شاؤوا تركوه على حاله ولتفعل الأموال ما تريد فإن لم يكن فالسياط، وأمام السؤال كان الجواب قالوا: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ إنه جواب الثقة بالنفس. جواب من لا يخاف التهديد والتخويف. لقد أعلنوا الإيمان بما أرسل به، وما أرسل به لا يخضع لأساطير التشويه لأنهم على يقين من أمرهم. ولا يهتز أمام السخرية والاستنكار، لأنه راسخ في أعماق الفطرة وأعماق الوجود، ولا يخاف من سياسات التجويع والتخويف، لأن من عرف الحق لا يجوع ومن تمسك بالصبر لا يخاف. وأمام هذا المشهد ألقى الاستكبار بورقته التي تحمل شهوة الملك ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ لم تعد القضية قضية الناقة، لقد كفروا بالصراط المستقيم وفقهه وبأنبياء الله ورسله، وتمرغوا لأصنامهم ولأهوائهم في التراب، بعد أن كبر عليهم أن يصبحوا من رعايا الصراط المستقيم تحت قيادة صالح عليه السلام، الذي كان في منتهى الحزن من أجلهم لأنهم قومه وقبيلته وعشيرته، ولو أطاعوا ربهم لأصبحوا أحباءه. وبعد المفاصلة بين الإيمان والكفر، بدأ أسلوب العصي الغليظة، وفي عالم العصي الغليظة تصبح الرحمة شذوذا. وبدأ أسلوب التشهير والتجريح والتحقير، وتحت ثقافة من هذا النوع تفقد الإنسانية إنسانيتها! لأنها فقدت غايتها، وبدأ فريق الاستكبار يقوم بتوسيع دائرة تشكيكه. ولم يجد هذا الفريق ورقة يلعب بها غير ورقة التشاؤم، فأظهروا ضيقهم بصالح وبالذين معه، تحت عنوان أنهم يرونهم شؤما عليهم، ويتوقعون الشر من ورائهم. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ / قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (23) يقول المفسرون: لقد طرح صالح عليه السلام دعوته في حقيقة واحدة ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فكانت النتيجة ظهور فريقان. فريق مؤمن وفريق كافر (24) فأما الفريق الكافر فلقد استثمر مشاكله التي جاءت نتيجة لأفعاله في الصد عن سبيل الله، وذلك عندما دعاهم صالح عليه السلام بأن يستغفروا الله لعله سبحانه أن يرحمهم. فقالوا له: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ (أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا) لقد تشاءمنا بك وبمن معك ممن آمن بك، وبما أن قيامك بالدعوة وإيمانهم بك، قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا! فلن نؤمن بك ولن نستغفر (25)!
إنهم يشككون في صالح وأتباعه مستغلين أوضاعهم الاقتصادية في هذا التشكيك. أي يستثمرون مشاكلهم في الصد عن سبيل الله، طامعين أن يعود عليهم هذا الاستثمار بالنصر المظفر على صالح عليه السلام والذين آمنوا معه ﴿أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ إن منطق التشكيك باستثمار المشاكل منطق غير سليم لأنه بالنسبة لثمود وهي أول من دق وتده في المسيرة البشرية، يستند على قاعدة غير سليمة، وهي قاعدة التشاؤم، فالتطير والتشاؤم مأخوذ من عادات الأقوام الجاهلية التي تجري وراء الخرافات والأوهام، ولقد كانوا يتشاءمون كثيرا بالطير، ولذا سموا التشاؤم تطيرا. إنهم ليشككوا في الدعوة قالوا: (ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا)! إن هذا منطق أصحاب الجيوب المنتفخة والعقول المنتفخة. وأمام منطقهم العاجز الذي نبت في تيه الوهم والخرافة. وقف صالح عليه السلام. ليردهم إلى نور اليقين وإلى الحقيقة الواضحة، البعيدة عن الضباب والظلام " قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون " والمعنى: (طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله، وهو كتاب أعمالكم، ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات، بل أنتم قوم تختبرون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم) (26).
وأمام منطق صالح عليه السلام وحججه الدامغة! بدأ الشيطان يقود قافلة الانحراف بعد أن دعاها ولبت نداءه. وبدأت القافلة تخطط إلى ما هو أبعد من التشكيك، كي تحتفظ بالقومية التي شيد آباؤهم خيامها في معسكر الانحراف.
6 - نظرات في حركة الناقة:
لقد حافظ الانحراف في كل رمز من رموزه من أيام ابن آدم الأول قاتل أخيه. واحتوت خيامه على كل ثقافة للشذوذ وللتوثين تركها كفار قوم نوح وقوم هود. ولم تحفظ ذاكرة ثمود معجزة ناقة خرجت من الصخر بلا أب وبلا أم، ونسبها الله إلى نفسه وقال: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ لقد احتفظت ذاكرتهم بكل ما يبعدهم عن الله، وأبت عقولهم إلا أن تشرب من أوعية الدنس والعار التي تحتوي على ثقافة اتباع الهوى وطول الأمل.. تلك الثقافة التي خط الشيطان خطوطها الأولى. فمن ثمود من شاهد الناقة وهي تخرج من الصخرة ومن ورائها يجري ولدها، وسمع بأم أذنيه تحذير صالح عليه السلام من مساسها بأي سوء، ومنهم من سمع ولم يشاهد. ولكن هذا وذاك في معسكر الانحراف. لا قيمة لسمعهم ولا قيمة لأبصارهم ولا قيمة في أولادهم ولا قيمة في أموالهم، لأنهم ركبوا بما يضمرون في أنفسهم قطار الاستدراج الذي ينتهي بهم إلى محطة الاستئصال، وهناك يقطع الله تعالى دابرهم فلا ترى لهم من باقية.
إن أتباع الانحراف لهم آذان لا يسمعون بها ولهم عيون لا يبصرون بها ولهم قلوب لا يفقهون بها، لأنهم يستعملون حواسهم فيما لا يعود عليهم وعلى الإنسانية بالسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهم ما فقدوا مقياس الاستعمال الصحيح لحواسهم إلا بعد أن نسوا أو تعاموا عن الدليل الحق الذي يقودهم إلى الطريق الحق، ومن كانت مقدمته النسيان أو التعامي عن الحق في أول الطريق تمرغ في نهاية الطريق على أرض السراب بحثا عن الماء ولن يجد الماء! لأن المقدمة كانت تقوم على نسيان الله ومن نسي الله في أول الطريق أنساه الله نفسه على امتداد الطريق وانتهى أمره إلى الهلاك والله غني عن العالمين. وثمود نست وتعامت ففقدت الدليل، والدليل يحدثها من كل جانب. يقول لهم قولا واحدا: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ﴾ ويحذرهم تحذيرا واحدا ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (27) لقد كان لوجود الناقة بينهم حكمة، ومن وراء هذه الحكمة هدف، إن الناقة كانت شيئا ماديا يروه بأم أعينهم في طرقاتهم. كانت دابة على هيئة لم يألفوها، اختار عباقرتهم وفقهاؤهم أوصافها بأنفسهم وأخرجها الله لهم من الصخرة التي عينوها أيضا بأنفسهم، وهذا في حد ذاته دعوة للتدبر على امتداد أجيال ثمود، وإذا كانت الناقة وهيئتها هي الجزء المادي من المعجزة! فإن أفعالها هي الشطر الثاني من المعجزة وأفعال الناقة كانت حجة على الجميع من الطفل الرضيع وحتى الشيخ الفاني. كانت حجة على الذي رأى وسمع والذي لم ير ولم يسمع من ثمود.
وكما أن الناقة بهيئتها معجزة تقود إلى الله الحق فإن أفعال الناقة كانت أيضا معجزة تقود إلى الله الحق، وبما أن طريق الله الحق يبينه لثمود صالح عليه السلام! فإن معجزة الناقة المادية والفعلية هدفها أن تقف ثمود منصتة إلى الرسول الحق الذي يدلهم إلى الطريق الحق.
لقد كان عمل الناقة الوحيد أن تشرب يوما ولا يحضر شربها غيرها، وأن يشرب القوم يوما ولا يحضر شربهم غيرهم. وكانت الناقة إذا كان يوم شربها خرجت بلونها البهي الجذاب لكونها حمراء شقراء وبراء، وسارت في الطرقات بجسمها العظيم الضخم الذي تمتاز به عن غيرها من سائر نوق الدنيا، وتوجهت إلى الماء فتشرب حتى إنها لم تبق لهم شيئا من الماء يوم شربها. كما كانت تتوجه إلى المرعى فتأكل ما تشاء ولا يجوز لأحد منعها ومعارضتها، ثم تعود إلى حيث تبيت دون أن تضر أحدا في نفسه أو زرعه وشجره. تعود كما خرجت وهي في جميع تحركاتها لا تحتاج إلى حارس ولا سائس، وكانت سائر الدواب تخاف منها عندما تراها خارجة للذهاب إلى الماء والمرعى أو عائدة إلى ديارها، كانت سائر الدواب تخاف منها وتفر من طريقها وهي لا تؤذيها كما روي (28) أما في يوم شرب القوم فإنها لا تقرب الماء يوم شربهم ولا تزاحمهم، هكذا من نفسها، لأن واقع أمرها لا يدركه إلا الذي خلقها وسواها. وكانت عندما تعود لمبيتها يحلبونها، فلا يبقى في بلدتهم صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها في ذلك اليوم. هكذا جرت عليهم الأيام. يشربون لبن الناقة في اليوم الذي لا يشربون فيه الماء. ولا تأخذ الناقة منهم شيئا في اليوم الذي لا يحق لها أن تشرب من الماء.
إن فقدان الماء في يوم وخاصة في عالم الصحراء. وبالأخص في عالم ثمود الذي يقوم فيه العمال والجنود بنحت الصخور. يكون أمرا شاقا على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة التي تريد أن تنفذ خطتها وفق أطروحة الآمال الطويلة، وهو أمر شاق أيضا على سير التجارة وانتقال القوافل من هنا إلى هناك، لأن نقطة بدء الرحلة يتحدد يومها وفقا للقسمة بين الناقة وبين القوم. كي تتزود القوافل بالماء اللازم في اليوم المحدد لها. هذا إذا توفر لها الماء فعلا، نظرا لأن الناقة في يومها كانت إما تشربه جميعا أو تشرب معظمه، وليس الماء فقط بل نبات المراعي أيضا الذي تتزود منه القوافل ليكون زادا لدوابهم. باختصار كان في فقدان الماء ليوم واحد فقط خطورة عظيمة تهدد أركان ثمود، وبما أن الماء في يد القدرة الإلهية فكان أمام ثمود حلا واحدا لا بديل له. وهو الإيمان بالله وعبادته وفقا لهذا الإيمان. وخطوط هذه العبادة تكمن في طاعتهم لصالح عليه السلام لأن طاعته من طاعة الله.
وثمود عندما كانوا في دائرة الاستبصار بعد خروج الناقة من الصخرة، كانت الناقة لا تشرب من الماء إلا قليلا، وكلما ابتعدت ثمود عن دائرة الاستبصار، كلما شربت الناقة، من الماء بقدر ابتعادهم، حتى جاء اليوم الذي انهار فيه اقتصادهم. وتشاءموا من صالح عليه السلام. لقد كانوا يبتعدون. والناقة بأفعالها تدعوهم إلى دائرة الاستبصار. وصالح عليه السلام بأقواله وأفعاله يدعوهم إلى الهدى والطريق المستقيم يقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ (29) قال المفسرون: (مبصرة) صفة للناقة. أي تدل ثمود إلى الطريق الحق، وبأفعالها تدل على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي أجاب الله دعاؤه فيها.. فالناقة كانت مبصرة، ومعجزتها ظاهرة البينة، لقد كانت تتعامل مع الماء بحكمة فيها إعجاز تلتفت إليه ثمود، ولكن ثمود ركبت دواب استعجال السيئات، ولم ينصتوا لصوت الحكمة الذي تبثه الناقة، ولا لصوت العقل الذي يبثه صالح عليه السلام. لقد طالبهم بأن لا يستعجلوا بالسيئة قبل الحسنة. لأن حضور السيئة يبعد عنهم الماء. وأمرهم بأن يستغفروا الله، لأن مع الاستغفار يكون الماء. وبما أن الله تعالى جعلهم خلائف من بعد عاد، فصالح عليه السلام لم يقل لهم إلا ما قاله هود لعاد: ﴿يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ (30) ولم يقل لهم إلا ما قاله نوع لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا / يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾ (31) إن الناقة على الأرض مقياس للماء. ولله في خلقه شؤون. ولكن أصحاب الأدمغة الفارغة، والأحلام التافهة، لم يفقهوا حقيقة الأمر، ورفضوا الاستغفار واستثمروا أوضاعهم الاقتصادية المنهارة. التي يرجع سببها الرئيسي لكفرانهم بالنعمة ولصدهم عن سبيل الله.. استثمروها في مربعات التشكيك بصالح والذين معه، قائلين له: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا! ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (32).
لقد كانت الناقة دعوة للتأمل والتدبر. فخلقها عظيم مهيب، وكانت دعوة للشكر، لأن على لبنها عاش القوم، وكانت دعوة للاستغفار من الذنوب. لأنها مقياس للماء على أرض ثمود صاحبة الأعلام والجنود، كانت الناقة إشارة للذين يحفرون الصخور طلبا للخلود. إشارة تقول إذا كان هناك قوم قد أهلكوا بالطوفان! فليس بالضرورة أن يكون هلاك آخرين به. وقد يكون الهلاك في عدم وجود ماء. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾ (33) إن ذاكرة ثمود لم تع الحدث العظيم، لأنها استنقعت في أبوال إبل آباء معسكر الانحراف، وعندما تناسوا أو تعاموا عن الحدث وحكمته ابتعدوا عن دائرة الاستبصار، واقتربوا من دوائر الفتن، التي يجري على الهالك فيها قانون الاستدراج وهو قانون يضرب كل مفتون وكل جبار يرفض التوبة والاستغفار. لقد كانت الناقة علما بذاتها. علما يحمل لهم الخير. خيرا يدخل في أجوافهم.
وخيرا يدخل عقولهم لو تدبروا. وكانت الناقة جدارا يحميهم من الفتن لأنها تردهم إلى صالح. لأنهم إذا سقطوا في الفتن بلا دليل. فلا أمل في نجاتهم.
وصالح عليه السلام حذرهم من الفتن التي ليس فيها دليل يقود حين قال لهم: ﴿طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ (34) إن النجاة في عالم الفتنة لا تكون إلا لأصحاب البصائر الذين يعلمون أن طائرهم عند الله، ولأنهم يبدأون طريقهم من الله! فإنهم على امتداد الطريق تكون همتهم بالله وشغلهم فيه وفرارهم إليه، وثمود قامت بحملات الترغيب والترهيب والتشكيك من أجل الصد عن سبيل الله، وقال الذين استكبروا للذين آمنوا: ﴿َتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (35) وثمود لم يسمعوا للدليل الذي بعثه الله فيهم ليقودهم إلى الطريق المستقيم. لم يسمعوا له حين قال لهم: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ / الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (36) ولقد عصوا الله وأطاعوا أمر المسرفين لأن معهم مصالحهم وفي أوعيتهم أهواءهم. وعندما عصوا الله ورسوله ولم يتدبروا في معجزة الناقة كفرت ثمود. وفي عالم الكفر والظلام.
ركبت ثمود دواب المسرفين كي يصلوا بها إلى خيمة الآباء العتيقة في معسكر الشذوذ والانحراف، وبينما هم في رحلة الانحراف اتخذت ثمود أخطر قراراتها.
ألا وهو قرار قتل الناقة! الناقة التي تساعدهم كي يستغفروا، وتساعدهم كي لا يقعوا في بحور الفتن، وتدفعهم دفعا في اتجاه المبعوث فيهم. وبقرار ثمود قتل الناقة، يكونون قد دخلوا في حرب مع الله، لأن على الناقة تحذير، وهذا التحذير نقله إليهم صالح عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ (37) ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ / وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (38). لقد كانت الناقة لهم امتحان كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ (39) فإذا كانت الناقة امتحان فإن الخروج عليها جريمة. ولما كانت الناقة لها علاقة بالماء والنبات والزمان! فإن الخروج عليها في حقيقة الأمر خروج على النظام الكوني الذي ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض.
وعلى هذا يكون قرار ثمود جريمة ما بعدها جريمة. وما أكثر الجرائم التي ارتكبت في عالم الفتن وظن أصحابها أنها إنما وقعت على أرضية لا يفسد فيها للود قضية، هذا ظنهم ولكن الحقيقة أن هذه الجرائم من جنس الجريمة التي في ملف ثمود ويترتب عليها بصورة أو بأخرى ما أصاب ثمود.
1- مروج الذهب: 47 / 2.
2- ابن كثير: 228.
3- الميزان: 315 / 10.
4- مروج الذهب 47 / 2.
5- الأنبياء / العاملي: 105.
6- سورة القمر، الآيتان: 27 - 28.
7- الميزان: / 19.
8- مروج الذهب: 47 / 2.
9- ابن كثير: 228 / 2.
10- مروج الذهب: 47 / 2، ابن كثير: 228 / 2.
11- سورة الأعراف، الآيتان 73 - 74.
12- سورة هود، الآيات: 61 - 64.
13- الميزان: 312 / 10.
14- ابن كثير: 451 / 2.
15- في ظلال القرآن: 1907 / 2.
16- الميزان: 312 / 10.
17- في ظلال القرآن: 1907 / 2.
18- سورة هود، الآية: 63.
19- الميزان: 313 / 10.
20- سورة هود، الآية: 64.
21- سورة الأعراف، الآيتان: 75 - 76.
22- الميزان: 182 / 8.
23- سورة النمل، الآيات.: 45 - 47.
24- ابن كثير: 367 / 3، البغوي: 290 / 6.
25- الميزان: 373 / 15.
26- الميزان: 373 / 15.
27- سورة الأعراف، الآية: 73.
28- ابن كثير: 228 / 2.
29- سورة الإسراء، الآية: 59.
30- سورة هود، الآية: 52.
31- سورة نوح، الآيتان: 10 - 11.
32- سورة النمل، الآيتان: 46 - 47.
33- سورة الملك، الآية: 30.
34- سورة النمل، الآية: 47.
35- سورة الأعراف، الآيتان: 75 - 76.
36- سورة الشعراء، الآيات: 150 - 152.
37- سورة هود، الآية: 64.
38- سورة الشعراء، الآيتان: 155 - 156.
39- سورة القمر، الآية: 27.
-------------------------------------
7 - سفك الدماء:
خرجت الناقة بلا حارس وبلا سائس في اليوم المحدد لها ومعها فصيلها (ابنها) وروي أن ثمود مشى بعضهم إلى بعض وقالوا: اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها. لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم ولها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يقتلها ونجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق. ولد زنا لا يعرف له أب. يقال له: قدار. شقي الأشقياء. شؤم عليه. فجعلوا له جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده. تركها حتى شربت وأقبلت راجعة. فقعد لها في طريقها. فضربها بالسيف ضربة. فلم تعمل شيئا.
فضربها ضربة أخرى فقتلها. وخرت على الأرض على جنبها. وهرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل. فرغا ثلاث مرات إلى السماء (1) وروي أن جماعة تبعوا فصيلها لما هرب منهم فرماه أحدهم بسهم فأصابه في قلبه. فسقط على الأرض ثم جروه برجليه وأنزلوه. ووضعوا لحمه مع لحم أمه واقتسموه بينهم (2).
وروى ابن كثير أنها عندما شد عليها قدار بالسيف. خرت ساقطة إلى الأرض. ورغت رغاء واحدا تخدر سقبها (فصيلها) ثم طعنها قدار في لبتها فنحرها، وانطلق سقبها (فصيلها) حتى أتى جبلا منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا.. وقال ابن كثير يقال إنه رغا ثلاث مرات وأنه دخل في صخرة فغاب فيها.
ويقال: إنهم اتبعوه فعقروه مع أمه (3) وبلغ الخبر صالحا عليه السلام. فجاءهم وهم مجتمعون فلما رأى الناقة بكى وقال: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ (4) وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء (5) وكان الله تعالى قد أوحى إلى نبيه صالح: أن قومك قد طغوا وبغوا وقتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم، ولم يكن لهم منها ضرر. ولم يكن لهم فيها ضرر. وكان لهم أعظم المنفعة، فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام. فإن هم تابوا ورجعوا قبلت توبتهم.. وإن هم لم يتوبوا ولم يرجعوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث.. فلما أبلغهم صالح عليه السلام الذي أوحاه إليه ربه. اشتدوا وعتوا وتمردوا وقالوا: ﴿تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ (6).
لقد عقروا الناقة وابنها. واقتسموا لحم الابن وأمه بينهم، لقد أكل القوم ناقة الله! أكلوا ناقة الله! ما هذا؟ على أي درب من دروب الانحراف كان يقف هذا النمط من بني الإنسان؟ وعندما أكلوا.. دعاهم نبيهم للاستغفار، فقالوا كما قال كفار قوم نوح وقوم هود من قبل: (ائتنا بما تعدنا) فعلى أي شاطئ من الوحل كان يقف هذا النمط؟ لقد خرجوا على الكون، والصخور التي صنعوها لتكون لهم سكنا يحميهم من الرياح لن تقف حائلا بينهم وبين ما يستحقون من عقوبة، ولن تبكي عليهم الأرض ولا السماء وسوف يلعنون على امتداد الرحلة البشرية داخل معسكرات الذين آمنوا.
لقد عقروا ناقة الله، وعندما عقروها قال لهم الله: (تمتعوا).. يا لعظمة الانتقام. (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) عقروا ناقة الله التي لا أب لها ولا أم. الناقة التي خلقها الله عن طريق الإعجاز كما خلق آدم. لتكون حجة عليهم ومقياسا للماء في ديارهم. وبعد أن عقروها. قال لهم رب العالمين العزيز الصبور: (تمتعوا) يتمتعون في مدينتهم. ويتنعمون بالحياة. ويتلذذون بأنواع النعم. ثلاثة أيام. يتمتعون بالحياة الرخيصة، التي صدوا عن سبيل الله من أجلها، وقتلوا من أجلها ويتلذذون بما لديهم من نعم ظنوا أنها تقودهم إلى السعادة! وبعد ذلك سيعلمون الحقيقة في وقت لا يجدي فيه الندم.
8 - محاولة قتل صالح عليه السلام:
عندما رفض القوم التوبة والاستغفار بعد قتل الناقة، وعدهم صالح عليه السلام بالعذاب، وكان ذلك يوم الأربعاء يقول المسعودي: فقالوا له مستهزئين:
يا صالح متى يكون ما وعدتنا به من العذاب عن ربك؟ فقال: تصبح وجوهكم يوم مؤنس (الخميس) مصفرة. ويوم العروبة محمرة. ويوم شبار مسودة. ثم يصبحكم العذاب يوم أول (7) وعندما أعلن صالح عليه السلام عليهم هذا، كان بالمدينة تسعة رهط (8)، وهم التسعة الذين أخبر الله عنهم في كتابه. بقوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (9)، يقول ابن كثير: عن هؤلاء التسعة إنهم كانوا كبراء ثمود ورؤساءهم (10). وقال البغوي: كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح (11). فهؤلاء الجبابرة اجتمعوا بعد عقر الناقة. وبعد أن أخبرهم صالح عليه السلام بالعذاب الذي سيحل بهم. وأصدروا قرارا بقتل صالح عليه السلام. حتى يستطيعوا العيش كما يريدون. ولا ينغص عليهم أحد هذا العيش. فلقد عقروا الناقة وأكلوها، ولم يبق إلا الرسول والدعوة، فإذا قتل صالح، فلن يتبقى غير المستضعفين. وهؤلاء تقومهم السيوف التي قتلت الناقة.
يقول المسعودي: فهم التسعة بقتل صالح وقالوا: إن كان صادقا (فيما أخبرهم بالعذاب) كنا عاجلناه قبل أن يعاجلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته (12). وقام الجبابرة بتحديد خطوات تنفيذ جريمتهم. وقد أخبر الله تعالى عن خطوطها العريضة فقال: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ / قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ / وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (13) قال المفسرون: قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله. لنقتلن صالحا وأهله بالليل (لنبيتنه وأهله) فالتبيت القصد بالسوء ليلا، وبعد عملية قتله يقولون لوليه إذا حدث وعرفهم. ما شهدنا هلاك أهله. وفي هذا مكر منهم، لأنهم عندما ينفون مشاهدتهم لمهلك أهل صالح عليه السلام فإنهم في نفس الوقت ينفون مشاهدة مهلك صالح نفسه. وأيضا بنفيهم مشاهدة مهلك أهل صالح يضعهم في دائرة الصدق أمام القوم، لأن الحقيقة أنهم شاهدوا مهلك صالح وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط.
إن ثمود تحرت الدقة في تنفيذها للجريمة كي يبدوا الجبابرة بملابسهم الفاخرة أمام القوم في دائرة الصدق والشرف والمروءة ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أما مكرهم فهو التواطؤ على تبييته وأهله، والتبييت كما ذكرنا السوء بالليل. وأما مكره تعالى. فهو تقديره سبحانه هلاكهم جميعا. يقول المسعودي: فأتوه ليلا، فحالت الملائكة بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة ومنعه الله منهم (14) وقال ابن كثير والبغوي: قال هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالح، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته.
فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله. فدفعتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطأوا على أصحابهم. أتوا منزل صالح فوجدوهم (أي أصحابهم) منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه، ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا، وإن كان كاذبا، فأنتم من وراء ما تريدون. فانصرفوا عنهم (15).
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ / فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (16) لقد ضربتهم الحجارة يوم الأربعاء.
اليوم الذي عقروا فيه الناقة. ضربتهم قبل قومهم، ليذوق القوم عذاب الذل.
وهو يرى جبابرته وشيوخه وسادته. يسبحون في بحر من الدماء أمام بيت صالح عليه السلام. لقد قتلوا في الخلاء بعيدا عن بطون الجبال وأحشائها. وهم الذين قضوا حياتهم يحفرون في الصخر ليوفروا لأنفسهم نوما آمنا ومعيشة آمنة. لقد شاهدوا شيوخهم في العراء بعد أن أعطوهم بيعة إلى الأبد ليقتلوا بها كل طاهر حتى يعيش الجبابرة وفقهاؤهم وجنودهم في أمان. فها هم الجبابرة محت الحجارة ملامحهم، وها هم الغوغاء والرعاع الذين يرقصون مع كل قرد ينتظرون ألوانا ثلاثة على وجوههم: صفراء، ومحمرة، ومسودة، وبعد ذلك يأخذهم العذاب الأليم. كي يلحق التابع بالمتبوع.
9 - يوم الصيحة:
بعث الله تعالى في ثمود رسولا منهم فكذبوه. وأيد سبحانه رسوله فيهم بآية مبصرة هي الناقة فعقروها، والله تعالى عندما يرسل آياته إنما يرسلها تخويفا للناس ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها وأفظع. ولكن ثمود لم يخافوا وتقبلوا العادة المتوارثة على ما هي عليه، عادة آبائهم كفار قوم نوح وقوم هود الذين قالوا لكل رسول عندما أنذرهم عذاب الله: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وعندما وعدهم صالح عليه السلام بأن العذاب نازل بهم في ثلاثة أيام هموا بقتله ولكن الله حال بينهم وبينه وأمطرتهم الحجارة. ومنعه الله منهم.
عندما أصبح القوم نظروا إلى وجوههم كما وعدهم صالح. فوجدوا اللون الأصفر على وجوههم وهو علامة اليوم الأول. فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: قد جاءكم ما قال صالح. فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح ولا نقبل قوله وإن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة. فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح ولا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها! ولم يتوبوا ولم يرجعوا! فلما كان اليوم الثالث أصبحوا وجوههم مسودة، فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح. فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح (17).
وهكذا أدار الجبابرة العتاة معركتهم مع التوبة! لقد جرى في عروقهم الدم والموت، ولكن الاستكبار الذي نقب الصخور! أقام الدليل على أنه التلميذ الوفي لآبائه الذين كانوا بدورهم أوفياء للشيطان، وفي اليوم الأخير دقق العتاة في كل شق بكل صخرة وبكل جدار، وعلموا أنهم لن يفعلوا بمشاعلهم شيئا في الظلام.. وعندما أصبحوا من يوم الأحد. تغيرت الأجسام. وتيقن القوم صدق الوعد وأن العذاب واقع بهم. فجلسوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب؟ (18) وأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام بالخروج، وخرج صالح في ليلة الأحد من بين ظهرانيهم مع من خف من المؤمنين فنزل موضع مدينة الرملة من بلاد فلسطين، وآتاهم العذاب يوم الأحد (19) آتاهم جبرائيل عليه السلام فصرخ لهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم، وكانوا قد تحنطوا وتكفنوا في الأيام الثلاثة بعد أن علموا أن العذاب نازل بهم لا محالة، فماتوا جميعا في طرفة عين. صغيرهم وكبيرهم فلم يبق لهم ناعقة ولا رعية ولا شئ إلا أهلكه الله، فأصبحوا في ديارهم موتى، وأرسل الله تعالى إليهم مع الصيحة نار من السماء فأحرقتهم أجمعين (20).
قد ذكر الله تعالى أن سبب هلاكهم أنهم أخذتهم الرجفة فقال تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ (21) وفي موضع آخر قال سبحانه: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ﴾ (22) وفي موضع ثالث قال سبحانه: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ (23) والرجفة والصيحة والصاعقة دثار واحد لعذاب واحد أحاط بالظالمين من كل مكان وهذا العذاب عنوانه العريض هو الدمدمة. يقول تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَ / فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا / وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ (24) والدمدمة على الشئ: الإطباق عليه. يقال مثلا: دمدم عليه القبر. أي أطبقه عليه.
والدمدمة على ثمود أي شملهم الله بعذاب يقطع دابرهم بسبب ذنبهم. فسوى الدمدمة بينهم. فلم يفلت منهم قوي ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. وتحت عنوان الدمدمة تكون الصواعق التي لا تخلو عن صيحة هائلة تقارنها ومع هذا وذاك ترتجف الأرض نتيجة لملامسة الاهتزاز الجوي الشديد لها، ونتيجة لذلك توجف القلوب. وترتعد الأركان، فثمود جاء إليها العذاب الأليم من تحت دثار الدمدمة، عذاب تحمله صاعقة سماوية اقتربت الصيحة هائلة ورجفة في الأرض وفي قلوبهم. فأصبحوا في دارهم وفي بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم، لقد ضربتهم صيحة واحدة أصبحوا بعدها كالشجر اليابس كما أصبحت. عاد من قبل كجذوع نخل خاوية. يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ﴾ (25) أصبح العتاة وفقهاء الجبابرة كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته.. إنه عدل الله، لقد عقروا ناقة الله، واستكبروا أن تأكل وتشرب في أرض الله، فجعلهم الله في مماتهم كشجر لا يصلح إلا للدواب، ولقد رفعوا رقابهم أمام صالح عليه السلام وتطاولوا على الذين آمنوا. فجعلهم الله في مماتهم ساقطين على وجوههم وركبهم. ولقد شيدوا دورهم ومساكنهم داخل الصخور وتطاولوا بها على المستضعفين من الذين آمنوا ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ / فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ﴾ (26) أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم ليفروا من عذاب الله. وهو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم (27). لقد أطبق العذاب على ثمود فلم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم.. لقد حفروا في الصخور كي يتجنبوا الرياح المهلكة التي أطاحت بعاد. لكن العذاب جاءهم من طريق أسرع من الرياح. لقد حفروا في الصخور مخافة الموت فجلسوا فيما حفروا ينتظرون الموت. بعد أن تأكدوا من أن الذي وعدهم به صالح من عذاب آت لا ريب فيه. وأن عليهم أن يدفعوا ثمن خيانتهم للفطرة ولأنفسهم وللرسول وللمعجزة وللكون كله الذي ساروا فيه في عكس اتجاهه. لقد جلسوا وتحنطوا وتكفنوا ولم يعد في ثمود من يثق في أي قول يقال له من العتاة الذين وثنوا الفطرة ومهدوا السبيل لثقافة الانحراف والشذوذ وصدوا عن سبيل الله، لم يعد هناك من يثق في قول العتاة وذلك في وقت لن يجدي فيه الندم، بعد أن أطاحوا بالتوبة والاستغفار يوم أن دعاهم نبيهم إليها.
كان كل فرد في ثمود لا يثق إلا في كفنه، ذلك الشر الذي يطرد الشر من على صفحة هذه الأرض، وبينما هم في الأكفان جاءتهم الرجفة التي لم يعملوا لها حساب وفقا لمقاييس فروع الهندسة في عالم العتاة. والرجفة هي الاضطراب والاهتزاز الشديد كما يحدث في زلزلة الأرض وتلاطم البحر، وعندما ضربتهم، الرجفة أصبحوا في بيوتهم جاثمين، والجثوم في الإنسان كالبروك في الإبل، لقد برك الجبابرة وأتباعهم كل داخل دياره وعلى أبدانهم أكفانهم ليذوقوا عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد. جثوا في بطون الجبال ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ / فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ / فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (28) لقد جرى عليهم العذاب وفق ما يأذن به الله. وبينما كانت الدمدمة تحيط بهم من كل جانب. كان صالح عليه السلام ومن معه لا يخافون، لأنهم في رحاب الرحمة وداخل دائرة الأمن التي لا يشملها الغضب الإلهي ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {هود/67} كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ (29) ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ / وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (30).
وذهبت ثمود. بعد أن جعلها الله عبرة لكل من يعرض عن آيات الله. لقد كانت الناقة بينهم وتعيش على أرضهم وتنفعهم ولا تضرهم. ولكن قلوب الحجر التي في الصدور أعرضت عن آيات الله. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون إن وجود آية بين الناس حجة بالغة. وقتل هذه الآية جريمة من أعظم الجرائم يترتب عليها فتح أبواب الفتن وأبواب العقاب. لقد ذهبت ثمود ومن بعدها جاءت أمم أخذت منها سلاحها وأقوالها وأفعالها. ثم قامت بتطوير هذه الأدوات وهذه الثقافات وفقا للعصور التي ابتليت بهم. وقامت هذه الأمم ببناء أكثر من جرف صخري وراء جدر النفس من أجل الصد عن سبيل الله، ولكن تحت السماء لا يفر الظالمون.. واللسان والقلم في كل عصر مستعدان دوما لأن يحكيان القصة الأخيرة عند المحطة الأخيرة لهذه الأمم. لأن سقوط الباطل علامة من علامات الحق. فالباطل طارئ لا أصالة له في الوجود. والباطل مطارد من الله. ولا بقاء لشئ يطارده الله. إن الباطل مهزوم مهزوم. ولن تبقى إلا آثاره التي تفوح بالأبخرة النتنة الكريهة تلك الأبخرة التي أنتجها الضمير الآثم على مر العصور.
1- الميزان: 315 / 10.
2- كتاب الأنبياء: 106.
3- ابن كثير: 229 / 2.
4- سورة هود، الآية: 65.
5- ابن كثير: 229 / 2، مروج الذهب.
6- كتاب الأنبياء: 106.
7- مروج الذهب: 48 / 2.
8- الرهط الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى الأربعين.
9- سورة النمل، الآية: 48.
10- ابن كثير: 367 / 3.
11- البغوي: 291 / 6.
12- مروج الذهب: 48 / 2، ابن كثير: 229 / 2.
13- سورة النمل، الآيات: 48 - 50.
14- مروج الذهب: 48 / 2، البغوي: 293 / 6.
15- ابن كثير: 368 / 3، البغوي: 293 / 6.
16- سورة النمل، الآيتان: 50 - 51.
17- الميزان: 316 / 10.
18- ابن كثير: 229 / 2.
19- مروج الذهب: 48 / 2.
20- الميزان: 316 / 10.
21- سورة الأعراف، الآية: 78.
22- سورة هود، الآية: 67.
23- سورة فصلت، الآية: 17.
24- سورة الشمس، الآيات: 13 - 15.
25- سورة القمر، الآية: 31.
26- سورة الذاريات، الآيتان: 44 - 45.
27- الميزان: 381 / 10.
28- سورة الحجر، الآيات: 82 - 84.
29- سورة هود، الآيتان: 67 - 68.
30- سورة النمل، الآيتان: 52 - 53.