.: النبي نوح (ع) :.
نوح أول أنبياء أولي العزم
ذكر نوح (ع) في كثير من الآيات القرآنية، ومجموع السور التي ذكر فيها (ع) (29) سورة، وأما اسمه (ع) فقد ورد 43 مرة.
وقد شرح القرآن المجيد أقساما مختلفة من حياته (ع) شرحا مفصلا، وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ.
اسمه كان "عبد الغفار" أو "عبد الملك" أو "عبد الأعلى"، ولقب بـ"نوح" لأنه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه، وكان اسم أبيه "لمك" أو "لامك" وفي مدة عمره (ع) اختلاف، فقال البعض: 1490 عاما، وجاء في بعض الروايات أن عمره 2500 عام، وأما أعمار قومه الطويلة فقد قالوا 300 عام، والمشهور هو أن عمره كان طويلا، وصرح القرآن بمدة مكثه في قومه وهي 950 عاما، وهي مدة التبليغ في قومه.
كان لنوح (ع) ثلاثة أولاد، وهم "حام" "سام" "يافث" ويعتقد المؤرخون بأن انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة، فمن ينتسب إلى حام يقطن في القارة الأفريقية، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط والأقصى، وأما المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون في الصين.
سبعة مؤمنين بعد 950 عاما
قيل إن المدة التي عاشها بعد الطوفان 50 عاما، وقيل 60 عاما.(1)
وكان لنوح (ع) إبن آخر يدعى "كنعان" وكان مخالفا لأبيه، إذ رفض الإلتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الإنتساب إلى بيت النبوة، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفار.
وأما عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل 70 نفرا، وقيل 7 أنفار، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصة نوح (ع) في الأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة. (2)
كان نوح (ع) أسطورة للصبر والمقامة، وقيل هو أول من استعان بالعقل والإستدلال المنطقي في هداية البشر، بالإضافة إلى منطق الوحي وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.
قصة نوح المثيرة مع قومه
ولا شك أن قصة جهاد نوح (ع) المتواصل للمستكبرين في عصره، وعاقبتهم الوخيمة، واحدة من العبر العظيمة في تاريخ البشرية، والتي تتضمن دروسا هامة في كل واقعة منها.. والقرآن الكريم يبين بداية هذه الدعوة العظيمة فيقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾.
ثم يلخص محتوى رسالته في جملة واحدة ويقول: رسالتي هي ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ﴾ ثم يعقب دون فاصلة بالإنذار والتحذير مرة أخرى ﴿إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾.
في الحقيقة إن مسألة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد هي أساس دعوة الأنبياء جميعا. فلننظر الآن أول رد فعل من قبل الطواغيت واتباع الهوى والمترفين وامثالهم إزاء إنذار الأنبياء، كيف كان وماذا كان؟!
لا شك إنه لم يكن سوى حفنة من الأعذار الواهية والحجج الباطلة والأدلة الزائفة التي تعتبر ديدن جميع الجبابرة في كل عصر وزمان، فقد أجاب أولئك دعوة نوح بثلاثة إشكالات:
الأول: إن الإشراف والمترفين من قوم نوح (ع) قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك: ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ (3) زعما منهم أن الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أن البشر يحملها إلى البشر! وظنا منهم أ، مقام الإنسان أدنى من مقام الملائكة، أو أن الملائكة تعرف حاجات الإنسان أكثر منه.
الولي يعرف من زواره
والإشكال الثاني: إنهم قالوا: يا نوح؛ لا نرى متبعيك ومن حولك إلا حفنة من الأرذال وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾.
إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع، وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من زواره – كما يقال" فحين نلاحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنة من الأرذال والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك الأثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!
وصحيح أنهم كانوا صادقين ومصيبين في أن الزعيم يعرف عن طريق اتباعه، إلا أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القيم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلة من الاشراف.
إن روح الطبقة كانت حاكمة على افكارهم في اسوأ أشكالها، ولذلك كانوا يسمون الفقراء الحفاة بالأراذل.
ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي، لأدركوا جيدا أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النبي وأصالنها!
وإنما سموهم بـ"بادي الرأي" أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون مطالعة ويعشقون الشيء بنظرة واحدة، ففي الحقيقة كان ذلك بسبب أن اللجاجة والتعصب لم يكن لها طريق الى قلوب هؤلاء الذين التفوا حول نوح (ع) لان معظمهم من الشباب المطهرة قلوبهم الذين يحسون بضياء الحقيقة في قلوبهم، ويدركون بعقولهم الباحثة عن الحق دلائل الصدق في أقوال الانبياء (ع) وأعمالهم.
الإشكال الثالث: الذي أوردوه على نوح (ع) أنهم قالوا: بالإضافة الى أنك إنسان ولست ملكا، وأن الذين آمنوا بك والتفوا حولك هم من الأرذال، فإننا لا نرى لكم علينا فضلا ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾(4).
جواب نوح (ع)
القرآن الكريم يبين رد نوح (ع) وإجاباته المنطقية على هؤلاء حيث يقول: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾.
مع التدبر في الآية يتضح أن هذا الجواب يمكن أن يكون جوابا للإشكالات الثلاثة بأسرها.
لأن أول إشكال أوردوه على نوح هو: لم كنت إنسانا مثلنا ولم تكن ملكا؟ فكان جوابه لهم: صحيح إنني بشر مثلكم، ولكن الله آتاني رحمة وبينة ودليلا واضحا من عنده، فلا تمنع بشريتي هذه من أداء هذه الرسالة العظيمة، ولا ضرورة لأن أكون ملكا.
والإشكال الثاني هو: إن اتباع نوح مخدوعون بالظواهر. فيردهم بالقول: إنكم أحق بهذا الإتهام، لأنكم أنكرتم هذه الحقيقة المشرقة، وعندي أدلة كافية ومقنعة لكل من يطلب الحقيقة، إلا إنها خفيت عليكم لغروركم وتكبركم وأنانيتكم!
والإشكال الثالث: إنهم قالوا: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ فكان جواب نوح (ع): أي فضل أعظم من أن يشملني الله برحمته، وأن يجعل الدلائل الواضحة بين يدي، فعلى هذا لا دليل لكم على إتهامي بالكذب، فدلائل الصدق عندي واضحة ومجلية!..
وفي الختام يقول النبي نوح (ع) لهم: هل أستطيع أن ألزمكم الإستجابة لدعوتي وأنتم غير مستعدين لها وكارهون لها ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾.
ما أنا بطارد الذين آمنوا
﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ﴾.
وهذا يوضح بصورة جيدة وبجلاء إنني لا أبتغي هدفا ماديا من منهجي هذا، ولا أفكر بغير الأجر المعنوي من الله سبحانه، ولا يستطيع مدع كاذب أن يتحمل الآلام والمخاطر دون أن يفكر بالربح والنفع.
وهذا معيار وميزان لمعرفة القادة الصادقين من غيرهم الذين يتحينون الفرص ويهدفون إلى تأمين المنافع المادية في كل خطوة يخطونها سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويعقب نوح (ع) بعد ذلك في رده على مقولة طرد المؤمنين به من الفقراء والشباب فيقول بصورة قاطعة: ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ لأنهم سيلاقون ربهم ويخاصمونني في الدار الآخرة ﴿إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾.
ثم يخم كلامه لقومه بأنكم جاهلون ﴿وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾.
وأي جهل وعدم معرفة أعظم من أن تضيعوا مقياس الفضيلة وتبحثون عنها في الثروة والمال الكثير والجاه والمقام الظاهري، وتزعمون أن هؤلاء المؤمنين العفاة الحفاة بعيدون عن الله وساحة قدسه!
هذا خطؤكم الكبير وعدم معرفتكم ودليل جهلكم.
ثم أنتم تتصورون – بجهلكم- أن يكون النبي من الملائكة، في حين ينبغي أن يكون قائد الناس من جنسهم ليحس بحاجاتهم ويعرف مشاكلهم وآلامهم.
ثم يقول لهم موضحا: إنني لو طردت من حولي فمن ينصرني من عدل الله يوم القيامة وحتى في هذه الدنيا ﴿} وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ﴾.
فطرد المؤمنين الصالحين ليس بالأمر الهيّن، إذ سيكونون خصومي يوم القيامة بطردي لهم، ولا أحد هناك يستطيع أن يدافع عني ويخلصني من عدل الله، ولربما أصابتني عقوبة الله في هذه الدنيا، أم أنكم لا تفكرون في أن ما أقوله هو الحقيقة عينها ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ (5).
ولا أقول لكم عندي خزائن الله
وآخر ما يجيب نوح قومه ويرد على اشكالاتهم الواهية.. إنكم إذا كنتم تتصورون أ، لي إمتيازا آخر غير الإعجاز الذي لدي عن طريق الوحي فذلك خطأ، وأقول لكم بصراحة: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ ولا أستطيع أن أحقق كل شيء أريده وكل عمل أطلبه، حيث تحكي الآية عن لسانه ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾ ولا أقول لكم إنني مطلع على الغيب ﴿اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ ولا أدعي إنني غيركم كأن أكون من الملائكة مثلا ﴿وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾.
فهذه الإدعاءات الفارغة والكاذبة يتذرع بها المدعون الكذبة، وهيهات أن يتذرع بها الأنبياء الصادقون، لأن خزائن الله وعلم الغيب من خصوصيات ذات الله القدسية وحدها، ولا ينسجم الملك مع هذه الأحاسيس البشرية أيضا..
فكل من يدعي واحدا من هذه الأمور الثلاثة المتقدمة – أو جميعها – فهو كاذب.
وفي الختام يكرر التأكيد على المؤمنين المستنضعفين بالقول: ﴿وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا ...﴾.
بل على العكس تماما، فخير هذه الدنيا وخير الآخرة لهم وإن كانوا عفاة لخلو أيديهم من المال والثروة.. فأنتم الذين تحسبون الخير منحصرا في المال والمقام والسن وتجهلون الحقيقة ومعناها تماما.
وعلى فرض صحة مدعاكم أرذال و"أوباش" فـ ﴿اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ﴾.
أنا الذي لا أرى منهم شيئا سوى الصدق والإيمان يجب علي قبولهم، لأني مأمور بالظاهر، والعارف بأسرار العباد هو الله سبحانه، فإن عملت غير عملي هذا كنت آثما ﴿إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾(6).
كفانا الكلام فأين ما تعدنا به؟!
القرآن الكريم يتحدث عن قوم نوح (ع) أنهم: ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾.
فأين ما تعدنا به من عذاب الله ﴿فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(7).
وهذا الأمر يشبه تماما عندما ندخل في جدال مع شخص أو أشخاص ونسمع منهم تهديدا ضمنيا حين المجادلة فنقول: كفى هذا الكلام الكثير!! إذهبوا وافعلوا ما شئتم ولاتتأخروا، فمثل هذا الكلام يشير إلى إننا لا نكترث بكلامهمولا نخاف من تهديدهم، ولسنا مستعدين أن نسمع منهم كلاما أكثر.
فاختيار هذه الطريقة إزاء كل ذلك اللطف وتلك المحبة من قبل أنبياء الله ونصائحهم التي تجري كالماء الزلال على القلوب، إنما تحكي عن مدى اللجاجة والتعصب الأعمى لدى تلك الأقوام.
في الوقت ذاته يشعرنا كلام نوح (ع) بأنه سعى مدة طويلة لهداية قومه، ولم يترك فرصة للوصول إلى الهدف إلا انتهزها لإرشادهم، ولكن قومه الضالين أظهروا جزعهم من أقواله وإرشاداته. وهذه المعادلة تتجلى جيدا في سائر الآيات التي تتحدث عن نوح (ع) وقومه في القرآن. ففي سورة نوح (ع) بيان لهذه الظاهرة بشكل واف – أيضا- حيث تقرأ فيها: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا {6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا {7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا {8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا {9}﴾(8).
لقد أجاب نوح (ع) بجملة قصيرة على هذه اللجاجة والحماقة وعدم الإعتناء بقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء﴾ فذلك خارج من يدي على كل حال وليس باختياري، إنما أنا رسولهومطيع لأمره،فلا تطلبوا مني العذاب والعقاب!.. ولكن حين يحل عذابه فاعلموا إنكم لا تقدرون أن تفروا من يد قدرته أو تلجأوا إلى مأمن آخر ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾(9).
بداية النهاية
إن قصة نوح (ع) الواردة في القرآن الكريم، بينت بعدة عبارات وجمل، كل جملة مرتبطة بالأخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح (ع) في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح (ع) المستمرة والتي كانت في غاية الجدية، وبالإستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا – آمن به جماعة قليلة.. قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والإستقامة.
وهنا إشارة إلى المرحلة الثالثة من هذه المواجهة، وهي مرحلة إنتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإلهية.
ففي البداية تقرأ ما معناه: يا نوح، إنك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾.
وهي إشارة إلى أن الصفوف قد امتازت بشكل تام، والدعوة للإيمان والإصلاح غير مجدية، فلابد إذا من الإستعداد لتصفية والتحول النهائي.
وفي النهاية تسلية لقلب نوح (ع) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾(10).
وعلى كل حال لابد من إنزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم، وهكذا صدر الأمر بإعراقهم، ولكن لابد لكل شيء من سبب، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر، ولتتم الحجة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضا.
سفينة نوح
وجاء الأمر لنوح أن ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا...﴾.
يستفاد من كلمة "وحينا" أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن يكون كذلك، لأن نوحا (ع) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإنما هو وحي الله الذي يعيته في إنتخاب أحسن الكيفيات.
وفي النهاية ينذر الله نوحا أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنهم محكوم عليهم بالعذاب وإن الغرق قد كتب عليهم حتما ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾(11).
هذه السفينة فأين البحر؟
أما عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد – ولو لحظة واحدة – في دعوة النبي نوح (ع) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من "وحي الله" فتكون مسألة العذاب والطوفان حتمية!! إلا أنهم واصلوا إستهزاءهم وسخريتهم مرة أخرى وهي عادة الأفراد المستكبيرن والمغرورين ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
يقال إن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعا من السخرية والإستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الإستهزاء!
فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجارا آخر الأمر!
ومنهم من يقول: حسنا تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحرا، أرأيت إنسانا عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول: واها لهذه السفينة العظيمة، كان بإمكانك أن تصنع أصغر منها لمكنك سحبها إلى البحر.
كانون يقولون مثل ذلك ويقهقهون عاليا، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح وأصحابه وقلة عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحا!!
ولكن نوحا كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنها وليدة الإيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإنما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوما بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهيأ لذلك اليوم العظيم، وكان نوح (ع) أحيانا يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة ﴿قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.
ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ما تصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾(12).
لاشك إن سفينة نوح لم تكن سفينة عادية ولم تنته بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة الى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعا وطعاما كثيرا يكفي للمدة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان، ومثل هذه السفينة بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري ف بحر بسعة العالم، وينبغي أن تمر سالمة عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها، لذلك تقول بعض الروايات: إن طول السفينة كان ألفا ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع "كل ذراع يعادل نصف متر تقريبا".
ونقرأ في بعض الروايات أن النساء أبتلين قبل الطوفان بأربعين عاما بالعقم وعدم الانجاب، وكان ذلك مقدمة لعذابهم وعقابهم.
شروع الطوفان
رأينا سابقا كيف صنع نوح (ع) وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين، وهيأوا أنفسهم للطوفان، ذلك الطوفان الذي طهر سطح الأرض من لوث المستكبرين الكفرة.
والآن يتعرض القرآن الكريم لموضوع ثالث، وهو كيف كانت النهاية؟
وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين، فيبينه بهذا التعبير ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟
ويبدو إن احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى، والمراد بالتنور ليس تنورا خاصا، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة، وهي أن حين فار التنور بالماء – وهو محل النار عادة – التفت نوح (ع) وأصحابه إلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنه حدثت المفاجأة، فأين "الماء من النار"؟!
وبتعبير آخر: حين رأوا أن سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يصنع في مكان يابس ومحفوظ، من الرطوبة علموا أن أمرا مهما قد حدث وأنه قد ظهر في التكوين أمر خطير، وكان ذلك علامة لنوح (ع) وأصحابه أن ينهضوا ويتهيأوا.
ولعل قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصموا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى إنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.
في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحا ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾.
لكن كم هم الذين آمنوا معه؟ ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾(13).
إبن نوح ورفاق السوء
القرآن الكريم يشير من جهة إلى امرأة نوح وابنه كنعان – اللذين ستأتي قصتهم في الآيات المقبلة – وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر إنحرافهما وتآمرهما مع المجرمين، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين، لأن الشرط الأول للركوب كان هو الإيمان.
ويشير من جهة أخرى إلى أن ثمرة جهاد نوح (ع) بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته، لك يكن سوى هذا النفر القليل القليل!
بعض الؤوايات تقول إنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصا فقط، وتشير بعض الروايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النبي العظيم نوح (ع) من الصبر والإستقامة "في درجة قصوى بحيث كان معدل ما يبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريبا، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.
إركبوا بسم الله
جمع نوح (ع) ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأوشك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة ﴿وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾(14).
وأخيرا حانت اللحظة الحاسمة، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنها قطع الليل المظلم، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل، وتباعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة "مهولة ومرعبة جدا".
شرع المطر وتوالى مسرعا منهمرا أكثر فأكثر، وكما يصفه القرآن ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ {11} وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ {12}﴾(15).
ومن جهة أخرى إتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان، وهكذا اتصلت مياه الأرض بمياه السماء، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلا استوعبه الماء وصار بحرا محيطا خضبا.. أما الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾(16).
حادثة ابن نوح المؤلمة
﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ﴾(17) فإن مصيرك إلى الفناء إذا لم تركب معنا.
لم يكن نوح هذا النبي العظيم أبا فحسب، بل كان مربيا لا يعرف التعب والنصب، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب، فناداه عسى أن يستجيب له، ولكن – للأسف – كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرق عليه.
لذلك فإن هذا الولد اللجوج الاحمق، وظنا منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحا و ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾ ولكن نوحا لم ييأس مرة أخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾ ولا ينجو من هذا الغرق إلا من شمله لطف الله ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ﴾.
الجبل أمره سهل وهين، وكرة الأرض أمرها هين كذلك.. الشمس والمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرة إزاء قدرة الله الأزلية.
وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح إبنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(18).
يا نوح انه ليس من أهلك
حين رأى نوح إبنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾.
وهذا الوعد هو ما أشير إليه في سورة هود حيث يقول سبحانه: نوحا ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾(19).
فكان أن تصور نوح أن قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان، ولذلك خاطب نوح رب العزة بهذا الكلام.
ولكنه سمع الجواب مباشرة.. جواب يهز هزا كما إنه يكشف عن حقيقة كبيرة.. حقيقة إن الرباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة.. ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾.
فهو فرد غير لائق، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين. ﴿فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
فأحس نوح أن طلبه هذا من ساحة رحمة الله لميكن صحيحا، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده مما وعد الله به في نجاة أهله، لذلك توجه إلى الله معتذرا مستغفراو ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾(20).
نهاية الحادث
الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجيا، أما المجرمون الجهلة فظنا منهم أنه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شيء، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.
وكان نوح (ع) قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما "من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة" وعلى رواية " من عاشر شهر رجب حتى عاشر محرم" وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض، وطبقا لما جاء في بعض الروايات أنها سارت على أرض مكة وطافت السفينة حول الكعبة. وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية، والقرآن يبين هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدا، وفي الوقت ذاته بليغة وأخاذة، في جمل ست:
﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ﴾ صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.
﴿وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾ وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.
﴿وَغِيضَ الْمَاء﴾ ونزل الماء في جوف الأرض.
﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ انتهى حكم الله.
﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.
﴿وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(21) عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.
كم هي رائعة هذه التعابير وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الأخاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب: إن هذه الآية تعد أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة والفصاحة(22).
أين يقع الجودي؟
ذهب كثير من المفسرين أن الجودي الذي استقرت عليه السفينة جبل معروف قرب الموصل وقال آخرون: هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب "آمد".
وفي كتاب الراغب الأصفهاني "المفردات" أنه جبل بين الموصل والجزيرة، وهي "جزيرة ابن عمر في شمال الموصل".
ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد "فالموصل" وال"الجزيرة" و"آمد" جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.
وقال آخرون: يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية، والمعنى أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض، ولكن المشهور والمعروفهو المعنى الأول.
هبوط نوح بسلام
﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ﴾(23).
لا شك أن الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة.. فالأراضي العامرة والمراتع الخضر والغابات النضرة كلها أبيدت، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيأ وموفرا لهم فلا ينبغي الحزن على شيء..
مضافا إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياة الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحا وأصحابه أيضا أنه لا خطر يهددهم، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطا سالما مليئا بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.
فيتضح بهذا أن نوحا وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض، فإن لطف الله شملها جميعا كذلك.
هل كان طوفان نوح مستوعبا للعالم؟!
من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا إن الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون أخرى، بل غطى كل سطح الأرض، لأن كلمة "الأرض" ذكرت بصورة مطلقة ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾(24)، ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي﴾(25) وهكذا ذكر كثير من المؤرخين – أيضا – إن طوفان نوح كان عالميا، وكذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إلى واحد من أبناء نوح الثلاثة " حام وسام ويافث" الذي بقوا بعد مدة!
وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول، فلو لم تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولد الحيوانات، فهي تنطبق على طوفان نوح(26).
لم كان العقاب بالطوفان؟!
صحي إن قوما أو أمة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكون وسائل إزالتهم فالنتيجة واحدة، ولكن بالتدقيق في الآيات القرآنية نستفيد أن هناك تناسبا بين الذنوب وعقاب الله دائما وأبدا.
كان فرعون يرى قدرته وعظمته تجلى في "نهر النيل" ومياهه كثيرة البركات، ولكن الطريف إن هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.
وكان نمرود يعتمد على "جيشه" العظيم، لكننا نعلم إن جيشا – لا يعتد به – من الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.
وكان قوم نوح أهل زراعة "وأغنام" وكانوا يجدون كل خيراتهم في "حبات المطر" لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضا..
إمرأة نوح
القرآن الكريم يذكر بالعاقبة السيئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله، حيث يقول: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾.
ذكر بعض إن زوجة نوح كانت تدعى "والهة" وزوجة لوط "والعة" بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي إن زوجة لوط اسمها "والهة" وزوجة نوح اسمها "والعة" (27).
وعلى أية حال فإن هاتين المرأتين خانتا نبيين عظيمين من أنبياء الله. والخيانة هنا لا تعني الإنحراف عن جادة العفة والنجابة، لأنهما زوجتا نبيين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرسول (ص):"ما بغت إمرأة نبي قط".
كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (ع).
جاء في نهاية الآية: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾(28).
1- وورد بحث مفصل عن حياة نوح (ع) في التوراة المتواجد حاليا، إلا أن هناك اختلافا كبيرا بينه وبين القرآن المجيد، وهذا الإختلاف يدل على تحريف التوراة.
2- بحار الأنوار، ج 11.
3- هود، 27.
4- هود، 27-25.
5- هود، 30-28.
6- هود، 31.
7- هود، 32.
8- نوح، 5-13.
9- هود، 33.
10- هود، 36
11- هود، 37.
12- هود، 38-39.
13- هود، 40.
14- المجرى والمرسى: اسما زمان، ويعني الأول وقت التحرك، والثاني وقت التوقف.
15- القمر، 11.
16- هود، 41-42.
17- هود، 42.
18- هود، 43.
19- هود، 40.
20- نوح، 46-47.
21- هود، 44.
22- الشاهد على هذا الكلام هو أننا نقرأ في روايات التاريخ الإسلامي أن جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوما، مثل لب الحتطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم – لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها، ولكنهم حين بلغوا هذه الآية – محل البعث- هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر: هذا كلام لا يشبهه كلام آخر، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين، قالوا ذلك وانصرفوا عما اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين.
23- هود،48.
24- سورة نوح، 26.
25- سورة هود، 44.
26- وهذه النظرية موجودة في التاريخ الطبيعي للأرض، وهي أن محور الكرة الأرضية يتغير تدريجيا، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط الإستواء، ويحل خط الإستواء محلهما، وواضح أن الحرارة التي تكون في أعلى درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترة ترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيرا من اليابسة، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة، وكل ذلك يبعث على كثرة السحب والأمطار.
كما إن مسألة إختيار نوح (ع) من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملهما معه على السفينة يؤيد كون الطوفان عالميان أيضا، وإ عرفنا إن نوحا كان يسكن الكوفة – كما تقول الروايات- وإن طرف الطوفان وحافته – طبقا للروايات الأخرى – كان في مكة وبيت الله الحرام، فهذه نفسه أيضا مؤيد "لعالميّة الطوفان".
ولكن مع هذه الحال، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض، لأن إطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات القرآن، كما نقرأ في قصة بني إسرائيل، ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها﴾ الأعراف، 127.
وحمل الحيوانات في السفينة ربما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من الأرض، خصوصا أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمرا هينا "فتدبر"!
وهناك قرائن أخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أن الطوفان لم يستوعب الكرة الأرضية كلها. وهناك مسألة تسترعي الإنتباه- أيضا- وهي أن طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها، وعادة فإن وصول دعوة نوح في مثل زمانه إلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد.. ولكن على كل حال فالهدف القرآني من بيان هذه القصة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين، سواء كان الطوفان عالميا أو غير عالمي.
27- وقيل إن اسم إمرأة نوح "واغلة" أو "والغة".
28- التحريم، 10.