.: النبي موسى (ع) :.
مقدمة:
لقد جاءت قصة موسى (ع) في القرآن الكريم، أكثر من سائر الأنبياء، وأشير إلى قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل أكثر من مائة مرة، في أكثر من ثلاثين سورة...
ولو إننا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثم وضعناها جانبا إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصور البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أن مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدما من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني – بنفس النسبة – أكثر واكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية اكبر، وحوى عبرا ونكات أكثر، وقد ركز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.
المراحل الخمس من حياة موسى
وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذه النبي الإلهي العظيم من خمس دورات ومراحل:
1. مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.
2. مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرص "مدين" في كنف النبي شعيب.
3. مرحلة بعثته، ثم الواجبات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.
4. مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون، والحوادث التي جرت عليه في الطرق، وعنده وروده إلى بيت القدس.
5. مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.
ولادة موسى
كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح "الأطفال" من بني إسرائيل حتى أن القوابل "من آل فرعون" يراقبن النساء الحوامل "من بني إسرائيل".
ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودة مع أم موسى (ع) "وكان الحمل خفيا لم يظهر أثره على أم موسى" وحين أحست أم موسى بأنها مقرب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنها تحمل جنينها في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة – هذا اليوم إليها.
وحين ولد موسر (ع) سطع نور بهي من عينية فاهتزت القابلة لهذا النور وطبع حبه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.
ونقرأ حديث عن الإمام الباقر (ع) في هذا الباب: "فلما وضعت أم موسى موسى نظرت إليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: تذبح الساعة، فعطت الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: مالك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه".
فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه "وأنال بذلك جائزتي" ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبه الشديد في قلبي، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظن أن عدونا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.
موسى في التنور
خرجت القابلة من بيت أم موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها "موسى" بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئا إلا التنور المشتعل نارا.. فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت إنها صديقتي وقد جاءت زائرة فحسب، فخرجوا آيسين.
ثم عادت أم موسى إلى رشيدها وصوابها وسألت "أخت موسى" عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وفد جعل الله النار عليه بردا وسلاما "الله الذي نجى إبراهيم الخليل من نار النمرود" فأخرجت وليدها سالما من التنور.
لكن الأم لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.
وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحست بالاطمئنان أيضا.
﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾.(1)
كان ذلك من الله ولابد أن يتحقق فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.
فجاءت إلى نجار مصري "وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا" فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.
فسألها النجار قائلا: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأم لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وإنها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.
فلما سمع النجار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلادين، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة، فظن أولئك أنه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي، فرجع ثانية ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى مع الارتجاج والعي، وأخيرا فقد فهم إن هذا أمر إلهي وسر خفي، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.
وخرير الماء أضحى مهده
ولعل الوقت كان فجرا والناس – بعد – نيام، وفي هذه الحال خرجت أم موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثم ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل.. وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء... ولا أحد يستطيع أن يصور – في تلك اللحظات الحساسة – قلب الأم بدقة.
لا يستطيع أي أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها مع الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكن هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة الإيرانية "بروين اعتصامي"-بتصرف- تحكي صورة "تقريبية" عن ذلك الموقف:
أم موسى حين ألقت طفلـها للذي رب السمى أوحى لها
نظرت للنيل يمضي مسرعا آه لو تعرف حـقا حـالها
ودوي الموج فيه صاخـب وفتاها شاغـل بلبـالـها
***
وتناغيه بصمــت: ولدي كيف يمضي بك هذا الزورق
دون ربان، وإن ينسك من هو ذو لطف فمن ذا يشـفـق
فأتاها الوحي: مهلا، ودعي باطل الفكر ووهـمـا يزهـق
***
إن موسى قد مضى للمنزل فاتق الله ولا تستـعـجلـي
قد تلقينـا الـذي ألقــيته بيد ترعى الفتى لا تجـهلي
وخرير المـاء أضحى مهده في إهتزاز مؤنس إن تسألي
***
وله المـوج رؤوما حـدبا فاق مـن يحـدب أما وأبا
كل نهر ليس يطغى عبثا إن أمـر الله كـان السببا
***
يأمر البحر فيغدو هائجـا وله الطوفان طوعا مائجا
عالم الإيجاد من آثــاره كل شيء لعلاه عــارجا
***
أين تمضين دعيـه فـله خير رب يرتضـيه لاهجا
محبة موسى في القلوب
ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!
ورد في الأخبار أن فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه "آسية" في انتظار هذا "الحادث" وفي يوم من الأيام.. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عماله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!
ومثل الصندوق "المجهول" الخفي أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.
بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلا!.
فلما وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون "آسية".. وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبته أكثر فأكثر.
ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصة من لسانه! يقول القرآن في هذا الصدد: ﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا﴾.
وبديهي أن الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحضانهم فيكون لهم عدوا ولدودا، بل أرادوه – كما قالت امرأة فرعون – قرة عين لهم.
ولكن النتيجة والعاقبة.. كان ما كان وحدث ما حدث.. ولطافة التعبير كامنة في أن الله سبحانه يريد أن يبين قدرته، وكيف أن هذه الجماعة "الفراعنة" عبأت جميع قواها لقتل بني
إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله - وكانت كل هذه المقدمات من أجله – يتربى في أحضانهم كأعز ابنائهم.
ويستفاد من القرآن الكريم أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض اتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأن القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: ﴿وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لاتقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا..﴾(2).
ويلوح للنظر أن فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت "الصندوق" وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظله، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.
فأيده أطرافة وأتباعه المتملقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن يجري هذا القانون عليه.
ولكن آسيه امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.
وإذا أضفنا قصة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى – على ما قدمناه – فسيكون دليلا آخرا يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الأزمة.
ولكن القرآن – بجملة مقتضية وذات مغزى كبير – ختم الآية قائلا: ﴿وهم لا يشعرون﴾.
أجل، أنهم لم يشعروا أن أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا... ولا أحد يستطيع أن يرد هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها أبدا..
تخطيط الله العجيب
إظهار القدرة.. ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.
إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، أن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه!
وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!..
وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.
فالقابلة التي اولدت موسى كانت من الأقباط.
والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيا.
والذين التقطوا الصندوقكانوا من آل فرعون!.
والذي فتح باب الصندوق كان فرعون نفسه أو امرأته آسيه.
وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربى فيه موسى – البطل الذي قهر فرعون – هو قصر فرعون ذاته. وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.
عودة موسى إلى حضن أمه
أم موسى التي قلنا عنها: أنها القت ولدها في أمواج النيل. أقتحم قلبها طوفان شديد من الهم على فراق ولدها، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.
فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبر القرآن الكريم ﴿وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين﴾.
وطبيعي تماما أن أما تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلا ولدها الرضيع، ويبلغ بها الدهور درجه لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.
ولكن الله الذي حمل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم بأنه بعين الله، وإنه سيعود إليها وسيكون نبيا.
وعل أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان، ولكنها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثرة وتعرف خبره ﴿وقالت لأخته قصيه﴾.
فاستجابت "أخت موسى" لأمر أمها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثر الشبهة، حتى بصرة به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه آل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: ﴿فبصرت به عن جنب﴾.
ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أخته تتعقبه ﴿وهم لا يشعرون﴾.
وعلى كل حال، فقد أقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وحرمنا عليه المراضع من قبل﴾.(3)
طبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عدة ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولاسيما أن ملكة مصر "امرأة فرعون" تعلق قلبها به بشدة، وأحبته كروحها العزيزة.
كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنه كان يأبى أثداء المرضعات.
لعل ذلك آت من استيحاشه من وجود المرضعات، أو أنه لم يكن يتذوق ألبانهن، إذ يبدو لبن كل منهن مرا في فمه، فكأنه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرم عليه المراضع جميعا,
ولم يزل الطفل لحظة بعد أخر يجوع أكثر فأكثر وهو ويبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنها لا تعرف الطفل، فقالت: ﴿هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون﴾.(4)
إنني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا، وقلب طافح بالمحبة، وقد فقدت ولدها، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.
فسر بها هؤلاء وجاءوا بأم موسى إلى قصر فرعون، فلما شم الطفل رائحة أمه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سرورا، كما أن عمال القصر سروا كذلك لأن البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.
ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدة.. فليتك جئت قبل الآن، فمرحبا بك وبلبنك الذي حل هذه المشكلة.
لماذا ارضع من ثديها؟
حين أستقبل موسى ثدي أمه، قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أمه الحقيقية، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك، فقالت: أيها الملك، لأني ذات عطر طيب ولبني عذب، لم يأتني طفل رضيع إلا قبل بي، فصدقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة.
ونقرا في هذا الصدد حديثا قال الراوي: قلت للإمام الباقر(ع): فكم مكث موسى غائبا من أمه حتى ردة الله؟ قال "ثلاثة أيام".
وقال بعضهم: هذا التحرير التكويني لأن الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام.. الملوثة بأموال السرقة، أو الملوثة بالجرائم والرشوة وغصب حقوق الآخرين، وإنما أراد لموسى أن يرضع من لبن طاهر كلبن أمه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.
وتم كل شيء بأمر الله ﴿فرددناه إلى أمه كي تقر عيناها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾(5)
هنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل "موسى" عند أمه لترضعه وتأتي به كل حين – أوكل يوم – إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!
لا يوجد دليل قوي لأي من الاحتمالين، إلا أن الاحتمال الأول أقرب لنظر كما يبدوا! وهناك سؤال آخر أيضا، وهو: هل انتقال موسى إلى قصر فرعون بعد أكماله فترة الرضاعة أم أنه حافظ على علاقته بأمه وعائلته وكان يتردد مابين القصر وبيته؟!
قال بعض: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى (ع) بعد بعثته ﴿ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟!﴾(6)، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.
ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسى (ع) بقي مع كمال الاحترام في قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلا أن كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنه صمم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلان يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فولجه النزاع بنفسه.
موسى (ع) وحكاية المظلومين
وهنا نواجه مرحلة أخرى من قصة موسى (ع) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى "مدين" ثم سبب هجرته إلى مدين.
إن موسى ﴿دخل المدينة على حين غفلة من أهلها﴾.
فما هي المدينة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الإحتمال القوي أنها عاصمة مصر... وكما يقول البعض فإن موسى (ع) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتد يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.
والمقصود من جملة ﴿على حين غفلة من أهلها﴾ هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!
قال بعضهم: هو أول الليل، لأن الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم إبتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أخرى..
وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادة ونزاعا، فاقترب من منطقة النزاع ﴿فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه﴾.
والتعبير بـ "شيعته" يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربما كان قد إختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة أساسية.
فلما بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه ﴿فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه﴾.
فجاءه موسى (ع) لاستنصاره وتخليصه من عدوه الظالم.. الذي يقال عنه أنه كان طباخا في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهو إلى الأرض ميتا في الحال: ﴿فوكزه موسى فقضى عليه﴾.
ومما لاشك فيه، فأن موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتضح ذلك من خلال الايات التالية أيضا.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل، ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.
لذلك فإن موسى (ع) أسف على هذا الأمر ﴿قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين﴾.
وبتعبير آخر: فإن موسى (ع) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعى موسى (ع) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.
ثم يتحدث القرآن عن موسى (ع) فيقول: ﴿قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم﴾.
ومن المسلم به أن موسى (ع) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنه استغفر ربه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.
لذلك فإن موسى (ع) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق ﴿قال رب بما أنعمت على﴾ من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحد الآن ﴿فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ (7). ومعينا للظالمين.
بل سأنصر المؤمنين المظلومين، ويريد موسى (ع) أن يقول: إنه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا.. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين.."(8).
موسى يتوجه إلى مدين خفية
حيث أن خبر مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدل على أن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسى (ع) كان مذكورا من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.
وبالطبع فإن هذا القتل لم يكن قتلا عاديا، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة.. ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.
لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع ﴿فأصبح في المدينة خائفا يترقب﴾.
وهو على كل حال من الترقب والحذر، فوجئ في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره ﴿فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه﴾.
ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و ﴿قال له موسى إنك لغوي مبين﴾ إذ تحدث كل يوم نزاعا ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضا!!
ولكنه كان على كل حال مظلوما في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصرا في المقدمات أم لا) فعلى موسى (ع) أن يعينه وينصره ولا يتركه وحيدا في الميدان، ﴿فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما﴾ صاح ذلك القبطي: ﴿يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس﴾ ويبدو من عملك هذا أنك لست إنسانا منصفا ﴿إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين﴾(9).
وهذه العبارة تدل بوضوح على أن موسى (ع) كان في نيته الإصلاح من قبل، سواء في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الروايات أن موسى (ع) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يومتريد أن تقتل إنسانا، فأي إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسى (ع) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أخرى في طريق الإصلاح..
وعلى كل حال فإن موسى إلتفت إلى أن ما حدث بالأمس قد إنتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.
قرار قتل موسى
ومن جهة أخرى فإن الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحس فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى "مؤتمرهم" إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة.. وكما يقول القرآن الكريم: ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين﴾.
ويبدو أن هذا الرجل هو "مؤمن آل فرعون" الذي كان يكتم إيمانه ويدعى "حزقيل" وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.
وكان هذا الرجل متألما من جرائم فرعون، وينتظر أ، تقوم ثورة "إلهية" ضده فيشترك معها.
ويبدو أنه كان له أمل كبير بموسى (ع) إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربانيا صالحا ثوريا، ولذلك فحين أحس بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعه إليه وأنقذه من مخالب الخطر، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن في هذا الموقف فحسب سندا وظهيرا لموسى، بل كان يعد عينا لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.
أما موسى (ع) فقد تلقى هذا الخبر من هذا الرجل بجدية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة ﴿فخرج منها خائفا يترقب﴾.
وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شر القوم و ﴿قال رب نجني من القوم الظالمين﴾(10).
فأنا أعلم يارب أنهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت – دفاعا عن المحرومين- بوجه الظالمين، ولم آل جهدا ووسعا في ردع الأشرار عن الإضرار بالطيبين، فأسألك – يا ربي العظيم – أن تدفع عني أذاهم وشرهم.
ثم قرر موسى (ع) أن يتوجه إلى مدينة "مدين" التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة..
أين كانت مدن؟!
"مدين": اسم مدينة كان يقطنها "شعيب" وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة (وشمال الحجاز وجنوب الشامات) وأهلها من أبناء إسماعيل "الذبيح" ابن إبراهيم الخليل (ع)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.
أما اليوم فيطلق على "مدين" اسم "معان"(11). وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها، واسمها "معان" تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين.. وتنطبق عليها تماما.
لكن موسى شاب تربى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره ان يسافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقا خائفا على نفسه، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه "مدين" ويأسرونه ثم يقتلونه.. فلا عجب أن يظل مضطرب البال!
أجل، إن على موسى (ع) أن يجتاز مرحلة صعبة جدا، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه، ليستقر أخيرا إلى جانب المسضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه، وأن يتهيأ لنهضة إلهية لصالحهم وضد المستكبرين.
إلا أنه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفذ أبدا، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير.. ﴿ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل﴾(12).
عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير
نواجه هنا مقطعا آخر من هذه القصة، وهي قضية ورود موسى (ع) إلى مدينة مدين.
هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحدا أمضى عدة أيام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبدا، ولم يكن له بها معرفة، وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافيا، وقيل: إنه قطع الطريق في ثمانية أيام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، ورمت قدماه من كثرة المشي,
وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعا لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلا قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلصه من مخالب الفراعنة.
وبدأت معالم "مدين" تلوح له من بعيد شيئا فشيئا، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثم عرف بسرعة أنهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.
يقول القرآن في هذا الصدد: ﴿فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان﴾.
فحركه هذا المشهد.. حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفة والشرف، جاء إليهما موسى (ع) ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و ﴿قال ما خطبكما﴾.
ولم لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!
لم يرق لموسى (ع) أن يرى هذا الظلم، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين، فلم يتحمل ذلك كله، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!..
فقالت البنتان: إنهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة أغنامهم: ﴿قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء﴾.
ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما﴿وأبونا شيخ كبير﴾ فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلا أن نؤدي نحن هذا الدور.
فتأثر موسى (ع) من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم، ولا هم لهم غير أنفسهم.
فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر.. يقال: إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدة نفر ليخرجوها بعد إمتلائها من الماء، إلا أن موسى (ع) استخرجها بقوته وشكيمته وهمته بنفسه دون أن يعينه أحد ﴿فسقى لهما﴾ أغنامهما.
ويقال: إن موسى (ع) حين اقترب من البئر لام الرعاء، قال: أي أناس أنتم لا هم لكم إلا أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له: هلم واملأ الدلو، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتلئ لا يستخرجها إلا عشرة أنفار من البئر.
ولكن موسى (ع) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها.. ﴿ثم تولى إلى الظل وقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾(13).
أجل.. إنه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدبا وإذا دعا الله فلا يقول: رب إني أريد كذا وكذا، بل يقول: ﴿رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير﴾ أي إنه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.
لكن هلم إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات عجيبة! خطوة نحو الله ملء دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديدا، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.
وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنها تستحي من الكلام مع شاب غريب، ﴿فجاءته إحداهما تمشي على إستحياء﴾ فلم تزد على أن ﴿قالت إن أبي يدعوك ليجزيك ما سقيت لنا﴾.
فلمع في قلبه إشراق من الأمل، وكأنه أحس بأن واقعة مهمة تنتظره وسيواجه رجلا كبيرا!.. رجلا عارفا بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه، هذا الرجل ينبغي أن يكون إنسانا نموذجيا ورجلا سماويا وإلهيا.. رباه.. ما أروعها من فرصة.
أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى "شعيب" النبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلا لمن يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائنا من كان.
موسى في بيت شعيب
تحرك موسى (ع) ووصل منزل شعيب، وطبقا لبعض الروايات، فإن البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلا أن الهواء كان يحرك ثيابها وربما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب:
دخل موسى (ع) منزل شعيب (ع)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوة.. وتشع فيه الروحانية من كل مكان.. وإذا شيخ وقور يجلس ناحية من المنزل يرحب بقدوم موسى (ع)، ويسأله: من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟! ولم أراك وحيدا؟!
وأسئلة من هذا القبيل... يقول القرآن في هذا الصدد: ﴿فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين﴾(14) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!..
فالتفت موسى إلى أنه وجد أستاذا عظيما.. تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده اروحانية.. ويمكن ان يروي ظمأه منه.
كما أحس شعيب أنه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!
أجل.. كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذا عظيما, كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.
موسى صهر شعيب
جاء موسى إلى منزل شعيب، منزل قروي بسيط، منزل نظيف ومليء بالروحية العالية، وبعد أن قص عليه قصته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول – وبعبارة موجزة -: إنني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و﴿قالت احديهما يا أبت استأجره إن خير من اتأجرت القوي الأمين﴾.
هذه البنت التي تربت في حجر النبي الكبير، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا الحديث الوجيز الكريم، وأن تؤدي الكلام حقه بأقل العبارات.
ترى من أين عرفت هذه البنت أن هذا الشاب قوي وأمين أيضا؟ مع إنها لم تره الا لأول مرة على البئر، ولم تتضح لها سوابق حياته!
والجواب على هذا السؤال واضح وجلي.. إذ لاحظت قوته وهو ينحي الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأما أمانته وصدقه فقد اتضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها!.
أضف إلى ذلك.. من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إياه بضربة واحدة.. وأمانته وصدقه.. في عدم مساومته الجبابرة.
فرضي شعيب (ع) باقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى و ﴿قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج﴾ ثم أضاف قائلا: ﴿فإن أتممت عشرا فمن عندك﴾.
واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى.. وافق موسى و ﴿قال ذلك بيني وبينك﴾..
ثم أردف مضيفا بالقول: ﴿أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي﴾ أي سواء قضيت عشر سنين أو ثماني سنين "حجج" فلا عدوان علي..
ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى (ع) الله كفيلا وقال: ﴿والله على ما نقول وكيل﴾(15).
وبهذه البساطة أصبح موسى صهرا لشعيب على ابنته.
إسما ابنتي شعيب: واحدة "صفورة" أو "صفورا" وهي التي تزوجت من موسى (ع)، أما الثانية فاسمها "ليا".
أفضل أعوام عمر موسى
لا يعلم أحد – بدّقة- ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى (ع) سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.
في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسى (ع) مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب، وأن يكون راعياً لغنمه؛ ليغسل نفسه ممّا تطّبعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.
كان على موسى (ع) أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.
ومن جهة أُخرى كان موسى بحاجة إلى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود ويناء شخصيته. فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب؟!.
إنّ مسؤولية نبي من أولي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها، بل يمكن أن يقال: إنّ مسؤولية موسى (ع) -بعد مسؤولية النبي محمد (ص)- من بين الأنبياء جميعاً، كانت أثقل وأهم، بالنظر لمواجهة الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.
إنّ شعيباً قرر تكريماً لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها –في السنة التي ودّع فيها موسى شعيباً- أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.
ومن البديهي أنّ موسى (ع) لا يقنع في قضاء عمره برعي الغنم، وإن كان وجود ﴿شعيب﴾ إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.
فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.
وعليه أن ينهي وجود الظلمة وحكام الجور في مصر، وأن يحطّم الأصنام، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.
وأخيراً جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.
ويستفاد ضمناً من العبير بـ﴿الأهل﴾ التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسى (ع) كان عنده هناك غير زوجته ولدٌ وأولاد، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون، وكما صرّح بهذا المعنى في ﴿التوراة﴾ في سفر الخروج، وإضافةً إلى كل ذلك فإن زوجته كانت حاملاً أيضاً.
الشّرارة الأُولى للوحي
وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق. وكانت زوجته (أهله) مُقرباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى (ع) نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شيء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول: ﴿فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله انس من جانب الطور ناراً﴾ ثمّ التفت إلى أهله و﴿قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبرٍ أو جذوةٍ من النار لعلكم تصطلون﴾ أن الوقت كان ليلاً بارداً.
ولم يرد في الآية كلامٌ عن حالة زوجة موسى، ولكن المشهور أنّها كانت حاملاً وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة.. وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.
﴿فلما أتاها﴾ أي أتى النّار التي آنسها ورآها، وجدها ناراً لا كمثل النيران الأُخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق، بل هي قطعة من النور والصفاء، فتعجب موسى من ذلك ﴿نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنّي أنا الله ربّ العالمين﴾ (16).
ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شيء، فأوجد في الوادي شجرى ليكلّم موسى.. وموسى بشر له جسم وأذنان ولابدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية.. وطبيعي أن كثيراً من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاماً داخلياً، وأحياناً يرون ما يوحى إليهم في ﴿النوم﴾ كما كان الوحي يأتيهم. أحياناً – عن طريق سماع الأمواج الصوتية.
وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم، تعالى الله عن ذلك.
فاخلع نعليك
إن موسى (ع) حين اقترب من النّار، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو أجمل، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخضر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء.. ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبساً فأتته ثانية.. وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّى تتجه النّار إليه، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.
﴿يا موسى إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك إِنّك بالواد المقدس طوى﴾(17).
إنّ موسى (ع) قد أمر بخلع نعليه احتراماً لتلك الأرض المقدسة، وأن يسير بكل خضوع وتواضع في ذلم الوادي ليسمع كلام الحق، وأمر الرسالة.
وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح: ﴿إِنّي أنا ربّك﴾ وأحاطت بكل وجود لذة لا يمكن وصفها، فمن هذا الذي يتحدث معي؟ إنّه ربّي الذي جللني بالفخر الكلمة ﴿ربّك﴾ ليُعلمني بأنّي قد تربيت وترعرعت منذ نعومة أظافري وإلى الآن في ظل رحمته وعناياه، وأصبحت مهيئاً لرحمة عظيمة.
لقد أُمر أن يخلع نعليه، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة.. الأرض التي تجلى فيها النور الإِلهي، ويسمع فيه نداء الله، ويتحمل مسؤولية الرسالة، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.
وفي حديث عن الإمام الصادق (ع) فيما يتعلق بهذا الجانب والزمن من حياة موسى (ع) حيث يقول ﴿كن لما لا ترجوا أرجى منك لما ترجو، فإن موسى بن عمران خر جليقبس لأهله ناراً فرجع إليهم وهو رسول نبي﴾ وهي إِشارة إلى أن الإِنسان كثيراً ما يأمل أن يصل إلى شيء لكنه لا يصل إليه، إِلّا أن أشياء أهم لا أمل له في نيلها تتهيأ له بفضل الله.
عصا موسى واليد البيضاء
لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإِثبات ارتباطهم بالله، وإِلّا فإنّ أي واحد يستطيع أن يدعي النّبوة، وبناء على هذا فإِن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إِلّا عن طريق المعجزة. وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها دعوة وكتاباً سماوياً للنّبي، ويمكن أن تكون أُموراً أُخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية، إضافة إلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النّبي، فهي تزيد من عزيمته وإيمانه وثباته.
على كل حال، فإن موسى (ع) بعد تلقيه أمر النّبوة، يجب أن يتلقى دليلها وسندها أيضاً، وهكذا تلقّى موسى (ع) في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾؟
إنّ هذا السؤال البسيط المقترن باللطف والمحبة، إضافة إلى أنّه بثّ الطمأنينة في نفس موسى (ع) الذي كان غارقاً حينئذٍ في دوامة من الاضطراب والهيجان فإنّه كان مقدمة لحادثة مهمّة.
فأجاب موسى: ﴿قال هي عصاي﴾ ولما كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة، وربّما كان يظن أيضاً أن قوله: ﴿هي عصاي﴾ غير كاف، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف: ﴿أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي﴾ أي أضرب بها على أغضان الشجر فتتساقط أوراقها لتأكلها الأغنام ﴿ولي فيها مآرب أُخرى﴾(18).
من المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد، فهم يستعملونها أحياناً كسلاح للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء، وأحياناً يصنعون منها مظلة في الصحراء تقيهم حرّ الشمس، وأحياناً أُخرى يربطون بها وعاء أو دلواً ويسحبون الماء من البئر العميق.
على كل حال، فإنّ موسى غط في تفكير عميق: أيّ سؤال هذا في هذا المجلس العظيم، وأيّ جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟
﴿وأن ألق عصاك فلما رآها تعتز كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقب﴾.
ويوم اختار موسى (ع) هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة، ويهشُّ بها على غنمه، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرى العظيمة المودعة من قبل الله. وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين، وهكذا هي موجودات العالم، نتصور أنها لا شيء، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.
في هذه الحال سمع موسى (ع) مرة أُخرى النداء من الشجرة ﴿أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين﴾(19). (20)وعلى كل حال، كان على موسى (ع) أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية؛ لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك، فلا مجال للخوف إذاً.
آية من الرعب، آية من النور
كانت المعجزة الأُولى آية ﴿من الرعب﴾، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أُخرى ﴿من النور والأمل﴾ومجموعهما سيكون تركيباً من ﴿الإنذار﴾ و﴿البشاره﴾ إذْ جاءه الأمر ﴿أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء﴾ فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض –كالبرص ونحوه- بل كان نوراً إلهياً جديداً.
لقد هزّت موسى (ع) مشاهدته لهذه الأُمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية.. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره ﴿واضمم إليك جناحك من الرهب﴾.
وجاء موسى النداءُ معقّباً: ﴿فذانك برهانان من ربّك إلى فرعون وملئه إنّهم كانوا قوماً فاسقين﴾(21).
فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى.. فعليك –يا موسى- أن تؤدي وظيفتك بنصحهم، وإلّا واجهتهم بما هو أشد.
طلب أسباب النصر
ومضافاً إلى أن موسى (ع) لم يستوحش ولم يخف من هذه المعمّة الثقيلة الصعبة، ولم يطلب من الله أي تخفيف في هذه المهمة. ولما كان أهم وأول أسباب النصر الروح الكبيرة، والفكر الوقاد، والعقل المقتدر، وبعبارة أُخرى: رحابة الصدر، فقد ﴿قال رب اشرح لي صدري﴾.
نعم إنّ أوّل رأسمال لقائد ثوري هو رحابة الصدر، والصبر الطويل، والصمود والثبات، والشهامة وتحمل المشاكل والصعاب.
ولما كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والصعاب التي لا يمكن تجاوزها إلّا بلطف الله، فقد طلب موسى من الله في المرحلة الثّانية أن تُيسر له أُموره وأعماله، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه، فقال: ﴿ويسر لي أمري﴾.
ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال: ﴿واحلل عقدة من لساني﴾ فصحيح أن امتلاك الصدر الرحب أهم الأُمور والأسس، إلّا أنّ بلورة هذا الأساس تتمّ إِذا وجدت القدرة على إِراءته وإظهاره بصورة كاملة، ولذلك فإِنّ موسى بعد طلب انشراح الصدر، ورفع الموانع والعقبات، طلب من الله حل العقدة من لسانه.
خاصًة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: ﴿يفقهوا قولي﴾(22) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق الذي أصاب لسان موسى (ع) نتيجة احتراقه في مرحلة الطفولة –كما نقل ذلك بعض المفسرين عن ابن عباس- بل المراد عقد اللسان المانعة من إِدراك وفهم السامع، أي أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغى والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً.
أخي رفيقي ومعيني
وعلى كل حال، فإِنّ القائد والقدوة والموفق والمنتصر هو الذي يمتلك إِضافة إلى سعة الفكر وقدرة الروح، بياناً أخاذاً بليغاً خالياً من كل أنواع الإِبهام والقصور.
ولما كان إِيصال هذا الحمل الثقيل –حمل رسالة الله، وقيادة البشر وهدايتهم، ومحاربة الطواغيت والجبابرة- إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد، ولا يمكن أن يقوم به إِنسان بمفرده، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو: ﴿واجعل لي وزيراً من أهلي﴾.
لماذا طلب موسى أن يكون هذا الوزير من أهله؟ فسببه واضح، لأنّه يعرفه جيداً ومن جهة أُخرى فإنّه أحرص من غيره، فكم هو جيد وجميل أن يستطيع الإِنسان أن يتعاون مع شخص تربطه به علائق روحية وجسمية؟!
ثمّ يشير إلى أخيه، فيقول: ﴿هارون أخي﴾(23) وهارون –حسب نقل بعض المفسّرين- كان الأخ الأكبر لموسى، وكان يكبره بثلاث سنين، وكان طويل القامة، جميلاً بليغاً، عالي الإِدراك والفهم، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين(24).
وقد كان نبيّاً مرسلاً (25) وكذلك كانت له بصيرة بالأُمور وميزاناً باطنياً لتمييز الحق من الباطل(26). وأخيراً فقد كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته، (27) فقد كان يسعى جنباً إلى جنب مع أخيه في أداء هذه الرسالة الثقيلة.
صحيح أن موسى (ع) حينما طلب ذلك من الله في تلك الليلة المظلمة في الوادي المقدس حيث حُمّل الرسالة، كان قد مضى عليه أكثر من عشر سنين بعيداً عن وطنه، إلا أن ارتباطه -عادة- بأخيه لم يقطع بصورة كاملة، بحيث أنّه يتحدث بهذه لصراحة عنه، ويطلب من الله أن يشاركه في هذا البرنامج الكبير.
ثمّ يبيّن موسى (ع) هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول: ﴿أشدد به أزري﴾.
ويطلب، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب: ﴿واشركه في أمري﴾ فيكون شريكاً في مقام الرسالة، وفب إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير، إلّا أنّه يتبع موسى على كل حال، فموسى إمامه ومقتداه.
وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول: ﴿كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنّك كنت بنا بصيراً﴾ وتعلم حاجاتنا جيداً، ومُطَّلِع على مصاعب هذا الطريق أكثر من الجميع، فنحن نطلب منك أن تعيننا على طاعتك، وأن توفقنا وتؤيدنا في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا الملقاة على عاتقنا.
ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة إلّا هذه الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت ﴿وقال قد أُتيت سؤالك يا موسى﴾(28).
إنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الإِستجابة وحلاوتها وانزال كل إِبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟
موسى في مواجهة فرعون
انتهت المرحلة الأُولى لمأمورية موسى (ع) وهي موضوع الوحي ﴿والرسالة﴾ وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير!...
وتعقيباً على المرحلة الآنفة تأتي المرحلة الثّانية، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون، والكلام المصيري الذي جرى بينهم!
يقول القرآن الكريم مقدمةً لهذه المرحلة: ﴿فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العالمين﴾. وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يُرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم: ﴿أن أرسل معنا بني إسرائيل﴾.
وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نيرْ العبوديّة والقهر والإستعباد، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.
وصل موسى (ع) إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمِّلَ.. وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما.. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته.
وهنا يلتفت فرعون قيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنه لينفي الرسالة ويقول لموسى: ﴿ألم نربّك فينا وليداً..﴾.
إذْ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فأنقذناك من الهلاك، وهيّأنا لك مرضعة، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولاً به، فتربّيت في محيط هادىء آمن منعّماً... وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زماناً ﴿ولبثت فينا من عمرك سنين﴾.
ثمّ توجه موسى وذكرّه بموضوع قتل القبطي فقال: ﴿وفعلت فعلتك التي فعلت﴾.
إشارةً إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّاً ولديك مثل هذه السابقة؟!
ثمّ بعد هذا كله: ﴿وأنت من الكافرين﴾! (أي بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّاً وأنت كافر بنعمتي؟!
وفي الحقيقة؛ كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكومتً بهذه التهم الموجهة إليه، وبهذا المنطق الإستدراجي.
أهميته. (أو أنه أساساً لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة، لأن تربية الشخص لا تكون دليلاً على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالاً، ليسلك سبيل الرشاد)
وعلى كل حال أجابه موسى (ع): ﴿قال فعلتها إذاً وأن من الضالين﴾.
أي إن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل، بل لكي يحمي المظلوم ويدافع عنه، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله،
﴿ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين﴾!
ثمّ يردّ موسى (ع) على كلام فرعون الذي يمنُّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباهُ، معترضاً عليه بلحن قاطع فيقول: ﴿وتلك نعمة تمنُّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل﴾ (29).
صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني -وأنا طفل رضيع- إلى قصرك، لأتربّى في كنفك، وكان في ذلك بيان لقدرة الله، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيتُ في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!
ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر! حتى أمرت أن يُقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!
فهذا الظالم المفرط من قبلك، كان سبباً لأن تضعني أُمي في الصندوق حفاظاً عليّ، وتلقيني في أمواج النيل، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج ﴿زورقي﴾ الصغير حتى توصله إلى قصرك... أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بييت أبي الكريم، وصييرني في قصرك الملوّث!...
الإتهام بالجنون
حين واجه موسى (ع) فرعون بلهجة شديدة؛ وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و﴿قال فرعون وما ربّ العالمين﴾..المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى (ع) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلاً ومستهزئاً.
إلّا أنّ موسى -على كل حال- لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجدّ... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ ﴿قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتُمْ موقنين﴾.
فالسموات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلّا ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّس، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!...
إلّا أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي... فعاد لمواصلة الإستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و﴿قال لمن حوله ألا تستمعون﴾.
ومعلوم من هم الذين حول فرعى اتهام موسى بالجنون فـ ﴿قال إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون﴾...
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!؟؟.
وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأن يقول: ﴿إن رسولنا الذي أرسل إلينا﴾، بل قال: ﴿إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم﴾، لأن التعبير برسولكم -أيضاً- له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الإستعلائية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.
إلّا أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى (ع) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ﴿قال ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون﴾.
فإذا كنت -يا فرعون- تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!... وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إلّا أنّ العيب كامن فيكم، لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير.
وفي الواقع إن موسى (ع) أجاب عن اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فإنه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!﴾.
غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال ﴿حربةٍ﴾ يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، و﴿قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين﴾(30).
فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود إلهٍ ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!...
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى (ع) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!...
بلادكم في خطر
رأينا كيف حافظ موسى (ع) على تفوّقه -من حيث المنطق- على فرعون، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واهٍ وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارةً يرميه بالجنون، وأخيراً يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام!...
وهنا يقلب موسى (ع) صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً أخرى يخذل فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضاً، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت فرعون متحدّياً و﴿قال أو لو جئتك بشيءٍ مبين﴾...
وهنا وجد فرعون نفسه في طريقٍ مغلق مسدود... لأن موسى (ع) أشارَ إلى خطَة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لاعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادراً على ذلك فلنرى، ونعلم حينئذٍ أنّه لا يمكن الوقوف أمامه، وإلّا فسنكتشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة...
فاضطر فرعون إلى الإستجابة لاقتراح موسى (ع) و﴿قال فأت به إن كنت من الصادقين﴾... ﴿فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين﴾... ﴿بأمر الله﴾.
ثمّ أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (أعلى الثوب) وأخرجها فإذا هي بيضاء منيرة: ﴿ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين﴾.
في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والآُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة! والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي (ع).
غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى (ع)، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد ﴿قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم﴾.
ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيءٍ للوصول إلى هدفهم.
وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولاً عند السامعين، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى (ع) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر.
ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى (ع)، قال لهم: ﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟﴾.
والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: ﴿أليس لي ملكُ مصر﴾؟!
والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة!... فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن وله: ﴿ماذا تأمرون﴾؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!...
ويستفاد من القرآن الكريم (31)أنّ أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر، وكانوا في حالة من الإِضطراب النفسي بحيث كان كلٌّ منهم يسأل الآخر قائلاً: وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟!
وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و﴿قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين﴾. أي أمهلهما وابعث رسلك إلى جميع المناطق والأمصار. ﴿يأتوك بكل سحّار عليم﴾(32).
وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للأمر.رفهيأوا خطةً على أنّه ساحر، لابدّ من مواجهته بسحرةٍ أعظم منه وأكثر مهارة!...
وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى (ع).
اجتماع السحرة من كلّ مكانٍ
تحرك المأمورون بحسب اقتراح أصحاب فرعون إلى مدن مصر لجمع السحرة والبحث عنهم، وكان الموعد المحدد ﴿فجمع السحرة لميقات يوم معلوم﴾.
وبتعبير آخر: إنّهم هيأوهم من قبل لمثل هذا اليوم، كي تجتمعوا في الوعد المقرر في ﴿ميدان العرض﴾...
والمراد من ﴿اليوم المعلوم﴾ كما يستفاد من بعض الآيات في سورة الأعراف، أنّه بعض أعياد أهل مصر، وقد اختاره موسى (ع) للمواجهة ومنازلة السحرة... وكان هدفه أن يجد الناس فرصة أوسع للإجتماع، لأنّه كان مطمئناً بأنّه سينتصر، وكان يريد أن يظهر آيات الله وضعف فرعون والملأ من حوله للجميع، وليشرق نور الإيمان في قلوب جماعة كثيرين!..
الحضور في هذا المشهد: ﴿وقيل للناس هل أنتم مجتمعون﴾ وهذا التعبير يدلّ على أنّ المأمورين من قِبَلِ فرعون بذلوا قصارى جهودهم في هذا الصدد... وكانوا يعلمون أنّهم لو أجبروا الناس على الحضور لكان ردّ الفعل سلبيّاً، لأنّ الإنسان يكره الإجبار ويعرض عنه بالفطرة! لذلك قالوا: هل ترغبون في الحضور؟ وهل أنتم مجتمعون؟ ومن البديهي أن هذا الأسلوب جرّ الكثير إلى حضور ذلك المشهد.
وقيل للناس: إن الهدف من هذا الحضور والإجتماع هو أنّ السحرة إذا انتصروا فمعنى ذلك انتصار الآلهة وينبغي علينا اتباعهم: ﴿لعلنا نتّبع السحرة إن كانوا هم الغالبين﴾ فلابدّ من تهييج الساحة للمساعدة في هزيمة عدو الآلهة إلى الأبد.
وواضح أنّ وجود المتفرجين كلّما كان أكثر شدّ من أزر الطرف المبارز، وكان مدعاةً لأن يبذل أقصى جهده، كما أنه يزيد من معنوياته وعندما ينتصر الطرف المبارز يستطيع أن يثيرالصخب والضجيج إلى درجةً يتوارى بها خصمه، كما أن وجود المتفرجين الموالين بإمكانه أن يضعف من روحيّة الطرف المواجه ﴿الخصم﴾ فلا يدعه ينتصر!
أجل إن اتباع فرعون بهذه الآمال كانوا يرغبون أن يحضر الناس، كما أنّ موسى (ع) كان يطلب -من الله- أن يحضر مثل هذا الجمع الحاشد الهائل! ليبيّن هدفه بأحسنِ وجه.
كل هذا من جهة، ومن جهة أُخرى كان السحرة يحلمون بالجائزة من قبل فرعون ﴿فلما جاء السحرة قالوا لفرعون ءَإنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين﴾...
وكان فرعون قلقاً مضطرب البال، لأنّه في طريق مسدود، وكان مستعدّاً لأن يمنح السحرة أقصى الإمتيازات، لذلك فقد أجابهم بالرضا و﴿قال نعم وإنّكم إذاً لمن المقرّبين﴾(33). أي إن فرعون قال لهم: ما الذي تريدون وتبتغون؟! المال أم الجاه، فكلاهما تحت يديّ!...
وهذا التعبير يدلُّ على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهمّاً إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعدّه أجراً عظيماً، وفي الحقيقة لا أجر أعظم من أن يصل الإنسان إلى مقربة من القدرة المطلوبة!...
المشهد العجيب لسحر السحرة
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، ويدّ من عزمهم، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسخت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق، مثلاً، بحيث تتحرك وتلمع عند شروق الشمس عليها!
وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة، ففرعون وقومه من جانب والسحرة من جانب آخر، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث، كلهم حضروا هناك!
وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: ﴿قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون﴾(34).
ويستفاد من القرآن الكريم(35) أنّ موسى (ع) قال ذلك عندما سألوه السحرة: هل تلقي أنت أوّلاً أم نلقي نحن أوّلاً؟
وهذا الإقتراح من قبل موسى (ع) يدلّ على أنّه كان مطمئناً لانتصاره، ودليلاً على هدوءئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون... كان هذا الإقتراح يُعدَ أوّل ﴿ضربة﴾ يدمغ بها السحرة، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنّه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.
وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا ﴿الميدان﴾، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى (ع) ﴿فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون﴾(36).
أجل، لقد استندوا إلى عزّة فرعون كسائر المتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!
وهنا -كما يبيّن القرآن تحركت العصيُّ كأنّها الأفاعي والثعابين ﴿فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾(37).
وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم، لتتغلّب حسب تصوّرهم على عصى موسى، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوّهم وفضلهم عليه...
فتهللت أسارير وجوه الناي ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيتي فرعون وأتباعه، وسُرّوا سروراً لم يكن يخفى على أحد، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد!
إنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيماً ومهماً، ومدروساً ومهيباً، كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف، ونظراً إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّااً، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿فأوجس في نفسه خيفةً موسى﴾(38) أي إن المشهد كان عظيماً جدّاً ورهيباً إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلاً، وإن كان ذلك الخوف -حسب تصريح نهج البلاغة- (39)لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعباً، وعلى أي حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.
نور الإيمان في قلب السحرة
إلّا أنّ موسى (ع) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم ﴿فألقى موسى عصاه﴾ فتحولت إلى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وأدوات السحرة بسرعة بالغة ﴿فإذا هي تلقفُ ما يأفكون﴾(40).
وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة...
وتبدّل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا –إلى تلك اللحظة- مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى ﴿فأُلقي السحرة ساجدين﴾.
الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ﴿أُلقي﴾ وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم...
واقترن هذا العمل العبادي -وهو السجود- بالقول بلسانهم فـ﴿قالوا آمنا بربّ العالمين﴾.
ولئلا يبقى مجالٌ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً آخر فإنّهم قالوا: ﴿ربّ موسى وهارون﴾(41).
وهذا التعبير يدّل على أنّه وإن كان موسى (ع) متكفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلّا أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر، وكان مستعداً لتقديم أي عون لأخيه.
وهذا التبدل والتغيّر المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا أنفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية... كلّ ذلك لما كان عندهم من ﴿علم﴾ استطاعوا من خلاله أن يتركوا الباطل ويتمسكو بالحقّ!
آمنتم به قبل أن آذن لكم
أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً مهنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثيير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و﴿قال آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾.
لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالاً، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبريين!.
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم به)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!
إلّا أن فرعون لم يقتنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلاً، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فاتّهمم السحرة أوّلاً بأنّهم تواطؤوا مع موسى (ع) وتآمرةا على أهل مصر جميعاً، فقال: ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾.
وقد اتفقتم مع موسى من قبل قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سييطرة حكومتكم؛ وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم...
إلّا أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها ﴿فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأُصلبنكم أجمعين﴾(42).
أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العالم، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).
لا ضير إنّا إلى ربّنا منقلبون
إلّا أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة -والمؤمنين في هذه اللحظة- قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله؛ بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع وأحبطوا خطته و﴿قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون﴾.
فأنت بهذا العمل لا تنقصّ منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحققيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذه التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلّا أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا ﴿فاقض ما أنت قاضٍ﴾!
ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى (ع) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلم فـ﴿إنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين﴾(43)...
إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.
وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ!
أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟!
إنّها قوّة الإيمان. إنها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف!
إلّا أن هذا المشهد -على كل حال- كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته -طبقاً لبعض الروايات- فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون- إلّا أن ذلك لن يكفئ عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها أكثر فأكثر!...
ففي كل مكان كانت أصداء النّبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا بموسى أيضاً.
وآمنت امرأة فرعون
إنّ زوجة فرعون (آسية) قد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى (ع) أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أن الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقاً.
وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: ﴿ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين﴾ وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.
في رواية عن الرّسول (ص) ﴿أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محّمد، ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون﴾.
ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك. لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راعٍ كموسى.
لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حدّا ليس له مثييل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي إختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة ﴿في الجنّة﴾، والبعد المعنوي وهو القرب من الله ﴿عندك﴾ وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة.
قرار قتل موسى
لقد اشتد الصراع بين موسى (ع) وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة، لا يذكر القرآن عنها كثيراً في هذه الفقرة، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسى (ع) لمنع انتشار دعوته وللحيولة دون ذيوعها، لكنّ المستشارين من (الملأ) من القوم عارضوا الفكرة.
يقول تعالى: ﴿وقال فرعون ذروني أقتل موسى وَليدع ربّه﴾ (44).
نستفيد من الآية أنّ أكثرية كسنشتريو وبعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب (ع) من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية، إلّا أنّ فرعون –بدافع غروره- يصر على قتله مهما كانت النتائج.
وبالطبع، فإنّ سبب امتناع (الملأ) عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة...
فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي –كما احتملنا- هو السبب.
وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسى (ع) بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته.
إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسى (ع) مجرّد حادث صغير ومحدود، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار... تيارٌ كبير يصعب السيطرة عليه.
البعض الآخر من المقربين لفرعون ممَن لا يميل إليه، كان يرغب ببقاء موسى (ع) حياً حتى يشغل فكر فرعون دائماً، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيداً عن عيون فرعون، ويفعلون ما شاؤوا من دوم رقابته.
وهذا الأمر يعبّر عن (سليقة) في بلاط السلاطين، إذ يقوم رجال الحاشية –من هذا النوع- بتحريك بعض أعداء السلطى حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم، وليأمنوا هم من رقابته عليهم، كي يفعلوا ما يريدون!
أخاف أن يبدّل دينكم
وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى (ع) بدليلين، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال الأول، كما يحكي القرآن ذلك: ﴿إنّي أخاف أن يبدّل دينكم﴾.
وفي الثّاني: ﴿أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾.
فإذا سكتّ أنا وكففت عن قتله، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر، وستتبدل عباة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحجتكم؛ وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسى (ع) وأتباعه، وهو أمرٌ تصعب مجاهدته في المستقبل، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.
والآن لنر كيف كان رد فعل موسى (ع) والذي يبدو أنّه كان حاضر في المجلس؟
يقول القرآن في ذلك: ﴿وقال موسى إنّي عذت بربي وربكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب﴾ (45).
قال موسى (ع) هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى، وأثبت بذلك بأنّه لا يعتز أو يخاف أمام التهديدات.
أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله!
من هنا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ موسى (ع) وفرعون. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة (مؤمن آل فرعون) الذي كان من المقربين إلى فرعون، لكنه اتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه من موقعه في بلاط فرعون –مكلفاً بحماية موسى (ع) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.
فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط. يقول تعالى: ﴿وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله﴾. أتقتلوه في حين أنّه: ﴿وقد جاءكم بالبينات من ربّكم﴾.
هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجره، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم اتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق؛ في سبيل دعوة موسى، وإله موسى... هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟
فكروا جيداً، لا تقوموا بعملٍ عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلّا فالندم حليفكم... ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين:﴿وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم﴾.
إنّ حبل الكذب قصير –كما يقولون- وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأمُوراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب.
ثم أضاف: ﴿إنّ الله لا يعدي من هو مسرفٌ كذّاب﴾.
فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.
ولم يكتف (مؤمن آل فرعون) بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلينٍ وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكقروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. ﴿يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا﴾.
ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: ﴿قال فرعون ما أريكم إلّا ما أرى﴾ وهو إنِي أرى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.
ثمّ إنني: ﴿وما أهديكم إلّا سبيل الرشاد﴾ (46).
التحذير من العاقبة!
كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.
لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسى (ع) يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: ﴿وقال الذي آمن يا قوم إنّي أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب﴾.
ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة. ﴿مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم﴾.
لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة، وبعضهم بالصواعق المحرقة، ومجموعة من الزلازل المخرّبة.
واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون: ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك؛ أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم؛ ترى ماذا عمل أُولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم... لذلك كلّه فإني أخاف علكم مثل هذا المصير المؤلم!؟
ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم: ﴿وما الله يريد ظلماً للعباد﴾.
لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل أنبياءه لهدايتهم، ولصدّ طغيان العتاة عنهم، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.
ثم أضاف: ﴿ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد﴾ (47) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلّا أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.
وفي كلّ الأحوال، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفاً، فانتهى إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسى (ع)، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا المخطط إلى أن استطاع موسى (ع) أن يفلت من الخطر.
لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم الله (ع): وكما سيتضح لاحقاً من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضاً في هذا السبيل.
الكلام الأخير
في آخر مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كلّ ما هو ضروري، أمّا القوم من ملأ فرعون، فكان لهم –كما سنرى ذلك- قرارهم الخطير بشأنه!
الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما: ﴿فوقاه الله سيئات ما مكروا﴾ (48).
إنّ التعبير بـ﴿سيئات ما مكروا﴾ يفيد أنّهم وضعوا خططاً مختلفة ضدّه... ترى ما هي هذه الخطط؟
في الواقع، إنّ القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة، لكنّها –حتماً- لا تخرج عن ألوان العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام، إلّا أنّ اللطف الإلهي أبطل مفعولها جميعاً وأنجاه منهم.
تفيد بعض التفاسير أنّ مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق بموسى (ع)، وعبّر البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضاً: أنّهُ هرب إلى الجبل عندما صدر عليه قرار الموت، وبقي هناك مختفياً عن الأنظار.
ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين، إذ يمكن أن يكون قد هرب إلى الجبل أولاً، ثمّ التحق ببني إسرائيل.
أريد أن أطلع إلى إله موسى!!
بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في أثناء عزم فرعون على قتل الكليم (ع)، إلّا أنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبره وتعاليه إزاء الحق، لأنّ فرعون لم يكن ليملك مثل هذا الإستعداد أو اللياقة الكافية للهداية، لذلك نراه يواصل السير في نهجه الشرير، إذ يأمر وزيره هامان ببناء برج للصعود إلى السماء (!!) كي يجمع المعلومات عن إله موسى، ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب﴾. أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني إلى السماوات.
﴿أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذباً﴾.
ولكن ماذا كانت النتيجة؟! ﴿كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلّا في تباب﴾ (49).
إنّ أول ما يطالعنا هنا هو السؤال عن الهدف الذي كان فرعون يرغب بتحقيقه من خلال عمله هذا.
هل كان فرعون بهذا المقدار من الغباء والحماقة والسذاجة بحيث يعتقد أن إله موسى موجود فعلاً في مكان ما من السماء؟ وإذا كان موجوداً في السماء، فهل يستطيع الوصول إليه بواسطة إقامة بناء مرتفع يعتبر ارتفاعه تافهاً إزاء جبال الكرة الأرضية؟
إنّ هذا الاحتمال ضعيف للغاية، ذلك لأنّ فرعون بالرغم من غروره وتكبره، فقد كان يمتاز بالذكاء والقدرة السياسية التي أهّلته للسيطرة على شعب كبير لسنين مديدة من خلال أساليب القهر والقوة والخداع.
لذلك كلّه نرى الموقف يدعونا إلى تحليل هذا التصرف الفرعوني لمعرفة دواعيه وأهدافه الشيطانية.
فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراءهذا التصرّف والأهداف هذه هي:
أولاً: أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوة موسى (ع) وثورة بني إسرائيل. وقضية بناء مثل هذا الصرح المرتفع يمكن أن تحوز على اهتمام الناس، وتهيمن على اهتماماتهم الفكرية، وبالتالي إلى صرفهم عن القضية الأساسية.
إن فرعون خصص لبناء صرحه مساحة واسعة من الأراضي، ووظّف في إقامته خمسين ألفاً من العمال والبنائين المهرة، بالإضافة إلى من انشغل بتهيئة وسائل العمل والتمهيد لتنفيذ المشروع، وكلّما كان البناء يرتفع أكثر ازداد تأثيره في الناس، وأخذ يجلب إليه الإهتمام والأنزار أكثر، إذ أصبح الصرح حديث المجالس، والخبر الأوّل الذي يتناقله الناس، وفي مقابل ذلك يتناسون قضية انتصار موسى (ع) على السحرة –ولو مؤقتاً- خصوصاً مع الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الإهتزاز العنيف الذي ألحق بجهاز فرعون وأساط الناس.
ثانياً: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس، وعلى الأخص العاطلين منهم، لكي يجد هؤلاء في الشغل عزاءٌ –ولو مؤقتاً- عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه. من ناحية ثانيه فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدي إلى ارتباطهم بخزانة فرعون وأمواله، وبالتالي ارتباطهم بنظامه وسياسته!
ثالثاً: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه، ويرمق السماء ببصره، أو يرمي سهماً نحو السماء، ويرجع إلى الناس فيقول لهم: لقد انتهى كلّ شيء بالنسبة لإله موسى. والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال!!
أما بالنسبة إلى فرعون نفسه، فقد كان يعلم أنّه حتى لو ارتقى الجبال الشامخات التي تتطاول في علوها على صرحه، فإنّه سوف لن يشاهد أي شيء آخر يفترق عمّا يشاهده وهو يقف على الأرض المستوية يتطلع نحو السماء!
والطريف في الأمر أنّ فرعون بعد قوله: ﴿فاطلع إلى موسى﴾ رجع خطوة إلى الوراء فنزل عن يقينه إلى الشك، حيث قال بعد ذلك: ﴿وإنّي لأظنه كاذباً﴾ إذ استخدم تعبير (أظن)!
هنا ناقش جماعة من المفسّرين (50) مسألة (الصرح)، وهل بنى فرعون (الصرح) حقّاً أم لا؟!
ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّناً بأيّ وجه وأي حساب.
ترى.. ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.
وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعاً من الجبل؟.
وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟!
ولكن أُولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة، وهي أن مصر لم تكن أرضاً جبلية، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل. حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخجع بها الناس.
خمسون ألف بنّاء يبنون البرج
وعلى كل حال، فطبقاً لما ورد في بعض التواريخ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعه ليبنى عليها الصرح أو البرج، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالاً طائلة في هذا السبيل، واشغل عمالاً كثيرين في هذا البناء.. حتى أنّه ما من مكان إلّا وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.
وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للافرج، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.
صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفاً على جميع الأطراف. وكتب بعضهم: إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناءً بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي إلى أعلى البرج.
قتلتُ إله موسى
ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك.. جاء فرعون بنفسه يوماً وصعده بتشريفات خاصة.. فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.
المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل.. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى.
ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.
ونقلوا هذا الخبر أيضاً، وهو أنّ البناء لم يدم طويلاً (وطبعاً لا يدوم) أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس.. ونقلوا في هذا الصدد قصصاً أُخرى، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.
العقوبات التنبيهية
لقد كان القانون الإِلهي العام في دعوة الأنبياء هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الأقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.
وفي القرآن الكريم إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون، إذ يقول تعالى: ﴿ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم يذّكرون﴾.
ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع، ولكن الخطاب موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء، لأنّ بيدهم أزمة الناس..... أن يضلوا الناس، أو يهدونهم، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضاً.
ويجب أن لا نستبعِد هذه النقطة، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاءً عظيماً لمصر، لأنّ مصر كانت بلداً زراعياً، فكان الجدب مؤذياً لجميع الطبقات، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون –وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها- كانوا أكثر تضرراً بهذا البلاء. ثمّ إنّ الجدب استمر عدّة سنوات.
ولكن بدل أن يستوعب (آل فرعون) هذه الدروس الإلهية، ويستيقظوا من غفلتهم غفوتهم العميقة، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة، وفسّروها حسب مزاجهم، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا: إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا، وصلاحنا ﴿فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه﴾
ولكن عندما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى (ع) وجماعته فوراً ويقولون هذا من شومهم: ﴿وإن تصبهم سيئةٌ يطّيروا بموسى ومن معه﴾.
لكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم: اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم إنّما هو من قبل الله، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة، ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴿ألا إنّما طائرتهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ (51).
النّوائب المتنوعة
القرآن الكريم يشير إلى مرحلة أُخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون، فعندما لم تنفع المرحلة الأُولى، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمِرة، ولكنّهم –وللأسف- لم ينتبهوا مع ذلك.
وفي البداية يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى: ﴿وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين﴾.
إنّ التعبير بـ (الآية) لعلّه من باب الالإِستهزاء والسخرية، لأنّ موسى (ع) وصف معاجزه بأنها آيات الله، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.
إنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان -تبعاً لذلك العصر- أقوى جهاز إعلامي، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الإِستخدام... إنّ هذا الجهاز الإِعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان، وجعلها شعاراً عاماً ضد موسى (ع) لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى (ع) للحيلولة دون إنتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.
ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أُمّة أو قوماً دوم أن يتمّ عليهم الحجّة قال في لآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون... فقال أولاً: ﴿فأرسلنا عليهم الطوفان﴾.
ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).
إنّ هجوم أسراب الجراد كان عظيماً جدّاً إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلاً وقضماً وإتلافاً، حتى أنّها أفزعتها من جميع الغصون والأوراق، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.
وكلّما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى (ع) ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.
وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل ﴿والقمل﴾. والظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات، وتفسدها وتتلفها.
وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: ﴿والضفادع﴾.
ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق، ولم يسلّموا.
وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم ﴿الدّم﴾.
قال البعض: إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام، وأُصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم، بحيث صار تعافه الطباع، ولم يعد قابلاً للإِنتفاع.
وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة –رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى- ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين. ﴿آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين﴾ (52).
وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة، والجراد في سنة أُخرى، والآفات الزراعية في سنة ثالثة، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال، لا شك أنّها كانت تقع بصورة منفصلة، وفي فواصل زمنيّة مختلفة كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.
هذا والجدير بالإِنتباه أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك، ولا شك أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه، وكانت هذه الشواطئ والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.
ومن الطبيعي أنّ الطوفان عندما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها، وكذا عندما كانت الضفادع تخرج من الماء، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرى المحصول في الدرجة الأُولى.
كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضاً، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم (53).
نقض العهد المتكرر
القرآن الكريم نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإِلهيّة، إنّهم عندما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها، ويطلبون من موسى (ع) أن يدعو لهم، ويسأل لله في خلاصهم، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأُولى.
وفي البداية نقرأ: ﴿ولمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى اُدع لنا ربّك بما عهد عندك﴾.
إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه.
ثمّ يقولون: إذا دعوتَ فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل: ﴿لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل﴾.
ويشير إلى نقضهم للعهد ويقول: ﴿فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون﴾ (54).
إنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعيّن أمداً، فكان يقول لهم: في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم، حتى يتّضح لهم أنّ إرتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمراً اتفاقياً وصدفة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.
إذا كان نبياً فلم لا يملك أسورة من ذهب؟
لقد ترك منطق موسى (ع) من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة أُخرى، والإِبتلاءات والمصائب التي نزلت على رؤوس أهل مصر والتي رفعت ببركة دعاء موسى (ع) من جهة ثالثة، أثراً عميقاً في ذلك المحيط، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون، ووضعت كل نظامهم الإِجتماعي والديني موضع سؤال واستفسار.
هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى (ع) عن التأثير في أفطار شعب مصر، فالتجأ إلى القيم الواهية المنحطة التي كانت حاكمة في ذلك المحيط، وقارن بينه وبين موسى (ع) من خلال هذه القيم ليبدو متفوقاً على موسى، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: ﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون﴾.
أمّا موسى فماذا يملك؟ لا شيء سوى عصا ولباس صوف! فلمن الشأن الرفيع والمكانة لسامية، له أم لي؟ أهو يقول الحق أم أنا؟ افتحوا عيونكم جيداً وتأمّلوا دقيقاً في المسألة..
وبهذا فقد عظم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبيّ الإِسلام (ص).
التعبير بـ(نادى) يوحي بأن فرعون عقد مجلساً عظيماً لخبراء البلد ومستشاريه، وخاطبهم جميعاً بصوت عال فقال ما قال، أو أنّه أمر أن يوزع نداؤه كرسالة في جميع أنحاء البلاد.
ثمّ يضيف: ﴿أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكان يبين﴾ (55) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين –حكومة مصر، وملك النيل- وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.
هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: ﴿واحلل عقدة من لساني﴾ (56)، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.
ليس عيباً عدم امتلاك الثروة الكثيرة، والألبسة الفاخرة، والقصورة المزينة، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم، بل هو فخر وكرامة وسمو.
إنّ التعبير بـ(مهين) لعله إشارة إلى الطبقات الإِجتماعيّة في ذلك الزمان، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية، والكادحين الفقراء طبقة واطئة، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.
ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: ﴿فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين﴾(57) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور من ذهب، ومعاونين له كباقي الرسل؟
يقولون: إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد لذهبيّة، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار نقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.
موسى وهارون ولباس الصوف
ورد عن أمير المؤمنين (ع) بيان معبر وبليغ هنالك حيث يقول: (... ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون (ع) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه فقال: (ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلّا أُلقي عليهما أساورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه).
والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأُمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء، فكانوا يقولون أحياناً: لماذا أرسل الله بشراً وليس ملكاً؟ وأحياناً أُخرى: إذا كان إنساناً فلماذا لم يأت معه ملك؟
في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم، وليقدروا على أن يكونوا من الناحية العلمية قدوة وأسوة لهم.
المرحلة الرّابعة مرحلة البناء من أجل الثّورة
رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلّا أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منهما انتصاراً مهمّاً:
1- بنو إسرائيل بنبيّهم (موسى (ع)) والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأن يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..
2- شقّ موسى (ع) طريقه وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء نصر جمعاءّ!
3- همّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة –لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامه –على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى.
هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى (ع) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم!
وهنا يبيّن القرآن الكريم مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فيقول أولاً: ﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة﴾ فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وتم تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.
ثمّ تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت: ﴿وبشّر المؤمنين﴾ (58).
يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.
لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:
1- الإِهتمام أوّلاً بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّى فوائد:
إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.
والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إلى حياة مستقلة.
والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.
2- أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر، لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة.
وأدّى هذا العمل إلى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك وضع لمسائل الإِجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.
3- التوجه إلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالإِعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.
4- إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى –باعتباره قائداً- بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من اشكار الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.
فأخرجناهم من جنّات وعيون وكنوزٍ ومقامٍ كريم
ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والقرآن يجسد هذا المشهد فيقول أوّلاً: ﴿وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متّبعون﴾.
وفعلاً امتثل موسى (ع) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.
إلّا أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأهوانه إلى المدن لجمع القوات: ﴿فأرسل فرعون في المدائن حاشرين﴾.
بالطبع فإنّ في تلك الظروف، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فوراً، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج...
ولعبئة الناس -ضمناً- وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن ﴿إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون﴾.
فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.
إنّ هؤلاء (أي موسى وقومه) بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم...
أضاف ﴿وإنّهم لنا لغائظون﴾ فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!
ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: ﴿وإنا لجميع حاذرون﴾ ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.
ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: ﴿فأخرجناههم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم﴾... أجل ﴿كذلك وأورثناها بني إسرائيل﴾ (59). (60)
عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة
القرآن الكريم يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!
وكما قرأنا سابقاً فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأَ مقداراً كافياً من (القوّة) والجيش، قال البعض: كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، وتبعهم نفسه بمليون.
تحركوا في جوف الليل ليدركوهمم بسرعة، فبلغوهم صباحاً: ﴿فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون﴾ (61).
فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة... هؤلاء غاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالاً... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعاً بحدّ السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.
اضرب بعصاك البحر
وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مُرّة لا يمكن وصف مرارتها... وعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.
إلّا أنّ موسى (ع) كان مطمئناً هادئ البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لا يتخلف أبداً ولن يخلف الله وعده رسله!...
لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكامل الإطمئنان والثقة و﴿قال كلّا إن معي ربّيْ سيهدين﴾.
وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقون، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: ﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...﴾.
تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!
فامتثل موسى (ع) أمر ربه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقَّ البحر ﴿فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم﴾!
وعلى كل حال، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره إلى البحر، وأمواجه، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طُرُق سالكة، فمرّتْ كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!
إلّا أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مَركبِ غرورهم، فاتبعو موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: ﴿وأزلفنا ثمّ الآخرين﴾...
وهكذا ورج فرعون وقومه البحر أيضاً، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية، وأن عذاب الله سينزلفيهم!
ويقول القرآن الكريم: ﴿وأنجينا موسى ومن معه أجمعين﴾.
وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأُولى فانهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.
ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: ﴿ثمّ أغرقنا الآخرين﴾ (62)...
فاليوم ننجيك ببدنك
أصبح فرعون كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإِيمان: ﴿حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إلّا الذي آمنت به بنوا إِسرائيل﴾فلست مؤمناً بقلبي فقط، بل إِنّي من المسلمين عملياً: ﴿وأنا من المسلمين﴾.
ولما تحققت تنبؤات موسى (ع) الواحدة تلو الأُخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي لكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إلى إِظهار الإِيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إِسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت أنّه لا إِله إلّا الذي آمنت به بنو إِسرائيل!
إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإِيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت، إِيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرب ومذنب وليست له أية قيمة، أو يكون دليلاً على حسن نيته أو صدق قوله، ولهذا فإِنّ الله سبحانه خاطبه فقال: ﴿الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾.
لكن ﴿فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية﴾ (63) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.
هناك بحث في المراد من البدن هنا، فالكثير يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث أنّ الكثير لو لا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى سبحانه جسده خارج الماء.
اللطيف هنا أنّ البدن في اللغة العربية يعني الجسد العظيم -وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلىء الجسم- كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!
إلّا أنّ البعض الآخر قالوا: إِنّ أحد معاني البدن هو الدرع، وهذه إِشارة إلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.
ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء، أم لا؟
لا يمكننا اثبات ذلك.
معبر بني إسرائيل!
ورد التعبير في القرآن مراراً عن موسى أنه عبر بقومه (البحر) (64) كما جاء في بعض الآيات لفظ (اليمّ) بدلاً من البحر (65).
والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من (البحر) و(اليم) هنا، أهو إشارة إلى البحر الأحمر (المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات)؟
يستفاد من التوراة الحالية -وكذلك من كلمات بعض المفسّرين- أنه إشارة إلى البحر الأحمر... إلّا أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل.
الاقتراح على موسى بصنع الوثن
القرآن الكريم يشير إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإِنتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية.
وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى (ع) وأثقل بمراتب كثيرة -كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.
يقول سبحانه: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر﴾ أي النيل العظيم. ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام ﴿فأَتَوا على قوم يعكفون على أصنامٍ لهم﴾.
فتأَثَّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوت لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء ﴿قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلِهة﴾.
فانزعج موسى (ع) من هذا الإِقتراح الأحمق بشدّة، وقال لهم: ﴿قال إنّكم قوم تجهلون﴾ (66).
إنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى (ع)، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها، فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها!!
جواب امير المؤمنين لليهودي
ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين (ع) قائلاً: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله عليه قائلاً: (إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعَلْ لنا إِلهاً كما لهم آلهة، فقال إنّكم قوماً تجهلون).
أي إنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة، وقال موسى إنّكم قوم تجهلون.
إنّ موسى (ع) -لتكميل حديثه لبني إسرائيل- قال: إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له ﴿إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانو يعملون﴾.
ثمّ أضاف موسى (ع) للتوكيد: ﴿أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين﴾.
وإحدى النعم الإِلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالإِلتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإِلهية المقدسة فحسب، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئاً أبداً. يقول في البداية: تذكَّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائماً ﴿وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب﴾.
ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان الأُمور بتفصيل بعد إجمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والإسترقاق ﴿يقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم﴾ (67).
بنو إِسرائيل والأرض المقدسة
القرآن الكريم يبيّن واقعة دخول بني إِسرائيل إلى الأرض المقدسة نقلاً عن لسان نبيّهم موسى (ع) فيقول: ﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين﴾.
وقد اختلف حول المراد بعبارة (الأرض المقدسة)، وحول موقعها الجغرافي من العالم.
فيرى البعض أنّها أرض (بيت المقدس) حيث القدس الشريف، وآخرون يرون أنّها (أرض الشام) وفئة ثالثة ترى أنّها (الأردن وفلسطين) وجماعة أُخرى تقول أنّها أرض (الطور).
ولكن لا يستبعد أن يكون المراد من العبارة المذكورة كل أرض الشام التي تشمل جميع الإِحتمالات الواردة، لأنّ هذه الأرض -كما يشهد التاريخ- تعتبر مهداً للأنبياء، ومهبطاً للوحي، ومحلاً لظهور الأديان السماوية الكبرى، كما أنّها كانت لفترات طوال من التاريخ مركزاً للتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ونشر تعاليم الأنبياء.. لهذه الأسباب كلها سميت بـ(الأرض المقدسة) مع أنّ هذا الإِسم يطلع عن منطقة (بيت المقدس) بصورة خاصّة أحياناً.
وقد واجه بنو إِسرائيل دعوة موسى (ع) للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الإِنتصارات في ظل الصدف والمعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال، وردّ هؤلاء على طلب موسى (ع) بقولهم: ﴿قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإِنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإِن يخرجوا منها فإِتل داخلون﴾.
ويدل جواب بني إِسرائيل هذا على الأثر المشؤوم الذي خلفه الحكم الفرعوني على نفوس هؤلاء فإنّ في كلمة (لن) التي تفيد التأييد دلالة على الخوف والرعب العميقين اللذين استوليا على هذه الطائفة ممّا أرغمهم على الإِمتناع عن الدخول في أي صراع من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها.
وكان على بني إِسرائيل أن يحرروا تلك الأرض بكفاحهم وتضحياتهم، أمّا لو أنّ الأعداء تركوا الأرض المقدسة أو أبيدوا فيها بمعجزة على خلاف السنة الإِلهية الطبيعية، فإِن بني إِسرائيل بدخولهم إِليها –في مثل هذه الحالة دون أي عناء أو مشقة- كانو سيواجهون العجز في إِدارة تلك الأرض الواسعة الغنية، ولم يكونوا ليبدو أيّ اهتمام بالحفاظ على شيء حصلوا عليه دون جهد أو معاناة، فلا يظهر لديهم والحالة هذه أي استعداد أو كفاءة لعمل ذلك.
أمّا المراد من عبارة ﴿قوماً جبارين﴾ فهم كما تدل عليه التواريخ قوم (العمالقة) الذين كانوا يمتلكون أجساماً ضخمة، وكانت لهم أطوال خارقة، بحيث ذهب الكثير إلى المبالغة في طول أجسام هؤلاء وصنعوا الأساطير الخرافية من ذلك، وكتبوا فيهم مواضيع تثير السخرية لا يسندها أيّ دليل علمي، وبالأخص فيما كتبوه عن المدعو بـ(عوج) في التواريخ المصطنعة المشوبة بالخرافات والأساطير (68).
بعد هذا الحديث يشير القرآن الكريم إلى رجلين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى والورع وشملهما بنعمه الكبيرة، فجمعا صفات الشجاعة والشهامة والمقاومة مع الدرك الإِجتماعي والعسكري ممّا دفعهما إلى الدفاع عن اقتراح النّبي موسى (ع) فواجها بني إِسرائيل بقولهما: ادخلوا عليهم من باب المدينة، وحين تدخلون عليهم سيواجهون الأمر الواقع فتكونون أنتم المنتصرون، يقول القرآن الكريم في هذا المجال: ﴿قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإِذا دخلتموه فإِنّكم غالبون﴾.
ويؤكد بعد ذلك على ضرورة الإِعتماد على الله في كل خطوة من الخطوات، والإِستمداد من روح الإِيمان بقوله تعالى: ﴿وعلى الله فتوكلوا إِن كنتم مؤمنين﴾ (69).
وما ذكره أغلب المفسّرين حول هوية هذين الرجلين هو أنّهما (يوشع بن نون) و(كالب بن يوحنا) وهما من النقباء الإِثني عشر في بني إِسرائيل (70).
أخبرونا كلّما انتصرتم
والذي حصل حقيقة هو أنّ بني إِسرائيل لم يقتنعوا بأي من الإِقتراحات المذكورة، فهم بسبب الضعف والجبن المتأصلين في نفوسهم خاطبوا موسى (ع) وأخبروه صراحة بأنّهم لن دخلوا تلك الأرض مادام العمالقة موجودين فيها، وطالبوا موسى أن يذهب هو وربه لمحاربة العمالقة وسألوه أن يخبرهم عن إنتصاره حيث هم قاعدون، وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: ﴿قالوا يا موسى إِنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون﴾.
وتبيّن هذه الآية مدى الوقاحة التي وصل إِليها بنو إِسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى (ع)، فهم بقولهم (لن) و(أبداً) أكدوا رفضهم القاطع للدخول إلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسى (ع) ودعوته واستهزأوا بهما، بقولهم: ﴿إِذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون...﴾ كما أنّهم –أيضاً- لم يعيروا التفاتاً لإِقتراح الرجلين المؤمنين، ولم يبدوا حيال ذلك أي جواب.
والطريف في الأمر أن التوراة المتداولة قد أوردت أجزاء مهمّة من هذه القصة، في الباب الرابع عشر من سفر الأعداد.
ثمّ إنّ موسى أصابه اليأس والقنوط من القوم، ورفع يديه للدعاء مناجياً ربّه قائلاً: إِنّه لا يملك حرية التصرف إلّا على نفسه وأخيه، وطلب من الله أن يفصل بينهما وبين القوم الفاسقين العصاة. ﴿قال ربّ إني لا أملك إلّا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾ (71).
تيه بني إسرائيل
وكانت نتيجة صلف وعناد إِسرائيل أنّهم لاقوا عقابهم، إِذ استجاب الله دعاء نبيه موسى (ع)، فحرّم عليهم دخول الأرض المقدسة، المليئة بالخيرات مدّة أربعين عاماً، وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: ﴿قال فإِنّها محرمة عليهم أربعين سنة...﴾.
وزادهم عذاباً إِذ كتب عليهم التيه والضياع في البراري والقفار طيلة تلك الفترة، حيث يقول القرآن الكريم في ذلك:﴿يتيهون في الأرض...﴾ وقد سميت الصحراء التي تاه فيها بنو إِسرائيل باسم (التيه) أيضاً، وكانت جزءاً من صحراء سيناء.
بعد ذلك تذكر الآية أنّ ما نال بني إِسرائيل من عذاب في تلك المدة، كان مناسباً لما فعلوه، وتطلب من موسى (ع) أن لا يحزن على المصير الذي لاقوه حيث يقول سبحانه: ﴿فلا تأس على القوم الفاسقين﴾ (72).
وربما كان سبب ورود الجملة الأخيرة، هو أنّ موسى (ع) قد ثارت عاطفته بعد أن علم بالعذاب الذي كتبه الله على بني إِسرائيل، فطلب من الله العفو لقومه –كما ورد في التوراة المتداولة- فأجابه برد سريع أوضح له أن بني إِسرائيل يستحقون ذلك العذاب، وهم لا يستحقون العفو الإِلهي لأنّهم أُناس فاسقون وعصاة، متكبرون، ومن كان هذا شأنه سيلاقي –حتماً- مثل هذا المصير.
ويجب الإِنتباه إلى أنّ حرمان بني إِسرائيل من الدخول إلى الأرض المقدسة، لم يكن له طابع للإِنتقام (كما أن جميع العقوبات الإِلهية ليس فيها طابع إنتقامي، بل هي إِما تكون لأجل تقويم شخصية الفرد، أو تكون نتيجة لأخطائه ومعاصيه).
وقد اشتمل هذا الحرمان على فلسفة خاصّة، حيث تحرر بنو إِسرائيل بعد معاناة طويلة قاسوها في ظل الكبت والقمع الفرعوني اللذين خلفا فيهم عقد الإِحساس باحتقار النفس والذل والضيعة والنقص، لذلك فهم لم يبدوا استعداداً لتطهير أنفسهم وأرواحهم في تلك الفترة بعد التحرر وفي ظل وزعامة نبيّهم موسى (ع) كما لم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كان من شأنها أن تعيء لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز والؤدد، وجوابهم لموسى (ع) –الذي اشتمل على رفضهم الدخول إلى ميدان الجهاد التحرري في الأرض المقدسة- خير دليل على هذه الحقيقة.
لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إِسرائيل من التيه والضياع في الصحراء، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء، محيط الحرية وفي أحضان التعاليم الإِلهية، وقد صقلت نفوسهم حياة الصحراء القاسية الضارية، ووهبت لأرواحهم وأنفسهم القوة والقدرة، وأعدتهم لخوض غمار ذلك الجهاد ليقيموا حكومة الحق في تلك الأرض المقدسة!
ندم مجموعة من بني إسرائيل
مجموعة من التائهين ندمت على ما فعلته أشد الندم، وتضرعت إلى الله، فشمل الله سبحانه بني إسرائيل ثانية برحمته، وأنزل عليهم نعمة التي يشير القرآن الكريم إلى بعضها: ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾.
والظّل له أهمية الكبرى لمن يطوي الصحراء طيلة النهار وتحت حرارة الشمس اللّافحة، خاصة أن مثل هذا الظّل لا يضيّق الفضاء على الإِنسان ولا يمنع عنه هبوب النسيم.
يبدو أن الغمام الذي تشير إليه الآية الكريمة، ليس من النوع العابر الذي يظهر عادة في سماء الصحراء، ولا يلبث أن يتفرق ويزول، بل هو من نوع خاص تفضل به الله على بني إسرائيل ليستظلوا به بالقدر الكافي.
وإضافة إلى الظل فإنّ الله سبحانه وفّر لبني إسرائيل بعد تيههم الطعام الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه خلال أربعين عاماً خلت من ضياعهم: ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
لكن هؤلاء عادوا إلى الكفران: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (73).
المنّ والسّلوى
بناءً على ما روي عن النّبي (ص): (إن الكماة من المنّ). (74) يتّضح أنّ (المنّ) فطريات مأكولى كانت تنمو في تلك الأرض.
بشأن (السلوى) قال بعض المفسرين إنه العسل، وأجمع الباقون على أنه نوع من الطير، كان يأتي على شكل أسراب كبيرة إلى تلك الأرض، وكان بنو إسرائيل يتغذون من لحومها... في النصوص المسيحية تأييد لهذا الرأي(75).
شاء الله بفضله ومنّه أن يكثر هذا الطير في صحراء سيناء آنئذٍ لسدّ حاجة بني إسرائيل من اللحوم، ولم تكن هذه الكثرة من الطير طبيعية في تلك المنطقة.
انفجار العيون في الصّحراء
تذكير آخر بنعمة أُخرى من نعم الله على بني إسرائيل: وهذه النعمة أغذقها الله عليهم، حين كان بنو إسرائيل في أمسّ الحاجة إلى الماء وهم في وسط صحراء قاحلة، فطلب موسى (ع) من الله عزّ وجل الماء: ﴿وّإِذِ اسْتَسْقَى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾، فتقبل الله طلبه، وأمر نبيّه أن يضرب الحجر بعصاه: ﴿فَقُلْنّا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ بعدد قبائل بني إسرائيل.
وكل عين جرت نحو قبيلة بحيث أن كل قبيلة كانت تعرف العين التي تخصّها ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾.
كثرت الأقوال في طبيعة الحجر الذي انفجرت منه العيون، وكيفية ضربه بالعصا، والقرآن لا يزيد على ذكر ما سبق.
قال البعض: إن هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وأن المياه جرت قليلة أولاً، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم. ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية، لكن الحادثة هنا مقرونة بالإِعجاز كما هو واضح (76).
لقد مَنّ الله على بني إسرائيل بإنزال المنّ والسلوى، وفي هذه المرّة يمنّ عليهم بالماء الذي يعزّ في تلك الصحراء القاحلة، ثم يقول سبحانه لهم: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ تَعْثَوا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (77).
وفي هذه العبارة حث لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء، وأن يكون هذا أقل شكرهم لله على هذه النعم.
المطالبة بالأطعمة المتنوعة
بعد شرح نِعَم الله على بني إسرائيل، يذكر القرآن الكريم صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى.
يتحدّث أولاً عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطعمة متنوعة بدل الطعام الواحد (المَنّ وَالسَّلْوى): ﴿وَإِذّ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾.
فخاطبهم موسى ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ إِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم﴾.
ويضيف القرآن: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (78).
الميعاد الكبير
القرآن الكريم يشير إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل، ومشكلة موسى (ع) معهم، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرَك بالأبصار، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وإنحرافهم عن مسير التوحيد، وضجّة السامريّ العجيبة.
يقول تعالى أوّلاً: ﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربّه أربعين ليلة﴾.
ثمّ ذكر أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه، وأن لا يتبع سبيل المفسدين: ﴿وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ (79). (80)
المطالبة برؤية الله
هنا يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى (ع) –بإلحاح وإصرار- أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلاً من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد. ﴿ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك﴾.
ولكن سرعان ما سمع الحواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً ﴿قال لن تراني ولكن اُنظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكاً﴾.
فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه ﴿وخرّ موسى صعقاً﴾.
وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك ﴿فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين﴾ (81).
لماذا طلب موسى رؤية الله؟
كيف طلب موسى (ع) -وهو النّبي العظيم ومن أُولي العزم- رؤية الله وهو يعلم جيداً أن الله ليس بجسم، وليس له مكان، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟
وأوضح الأجوبة هو أن موسى (ع) طرح مطلب قومه، لأنّ جماعة من جَهَلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا وقد أمر موسى (ع) من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي، وقد صُرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) (82).
ألواح التوراة
وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسى (ع).
ففي البداية: ﴿قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي﴾.
فإذا كان الأمر كذلك ﴿فخذ ما آتيناك وكن من الشاكرين﴾.
ثمّ أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى (ع) بقوله: ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء﴾.
ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة ﴿فخذها بقوّة﴾.
وأن يأمر قومه أيضاً بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها ﴿وأمر قومك يأخذوا بأحسنها﴾.
كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم ﴿سأوريكم دار الفاسقين﴾ (83). (84)
اليهود وعبادتهم للعجل
يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى (ع) إلى ميقات ربّه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى (السامري) مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.
إنّ السامري كان يعرف أن قوم موسى (ع) قد عانوا سنين عديدة من الحرمان، مضافاً إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية –كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر- ويولون الحليّ والذهب احتراماً خاصّاً، لهذا صنع عجلاً من ذهب حتى يستقطب إليه إهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.
أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟ فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإِقامة أحد أعيادهن، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل.
إنَّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الإِجتماعية لم تكن لتحدث من دون مقدمة وأرضيَّة، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عندما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأُخرى مشهداً من الوثنية، حيث وجدو قوماً يعبدون البقر، وكما مرّ عليك طلبوا من موسى (ع) صنماً كتلك الأصنام، ولكن موسى (ع) وبّخهم وردّهم، ولامهم بشدّة.
وثالث، تمديد مدّة ميقات موسى (ع) من ثلاثين إلى أربعين، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسى (ع) بواسطة بعض المنافقين.
والأمر الرابع، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خِطته المشؤومة، كل هذه الأُمور ساعدت على أن تُقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية، ويلتفوا حول العدل الذي أوجده لهم السامريّ.
600 ألف عابد العجل في يومين
والعجيب أنّ بعض المفسرين ذكروا أنّ هذا التبدّل والإنحراف في بني إسرائيل قد حدث في أيّام قليلة فحسب، فبعد أن مضت (35) يوماً على ذهاب موسى (ع) إلى ميقات ربّه، شرع السامري بعمله، وطلب من بني إسرائيل أن يجمعوا كلّ أدوات الزينة التي أخذوها كعارية من الفراعنة وما أخذوه منهم بعد غرقهم، ووضعوها جميعاً في اليوم السادس والثلاثين والسابع والثلاثين والثامن والثلاثين في موقد النّار، وأذابوها ثمّ صنعوا منها تمثال العجل، وفي اليوم التاسع والثلاثين دعاهم السامري إلى عبادته، فقبلها جماعة عظيمة –وعلى بعض الرّوايات ستمائة ألف شخص- وفي اليوم التالي، أي في نهاية الأربعين يوماً، رجع موسى.
﴿واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار﴾ (85).
ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحلي) صدر من السامريّ (86) إلّا أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيراً منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده، وبذلك كانوا شركاء في جريمته، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.
وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد –في بدء النظر- أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل، إلّا أنّه بالتوجه إلى الآية التي تقول: ﴿ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون﴾ (87) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثه هنا ليس كلّهم، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل، وذلك بشهادة الآيات القادمه التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.
ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل
يبيّن تعالى بالتفصيل كت جرى بين موسى (ع) وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته، وردة فعل موسى (ع) الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.
يقول في البدء: ولما عاد موسى (ع) إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيعتهم ديني وأسأتم الخلافة ﴿ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي﴾ (88).
ومن هنا يستفاد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أٍفاً، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسى (ع) بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ ﴿قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك وَأضلّهم السامريّ﴾ (89).
ثمّ إنّ موسى (ع) قال لهم: ﴿أعجلتم أمر ربّكم﴾ (90).
المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة –أوّلاً- دليلاً على موتي، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثو وتنتظروا قليلاً ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.
وفي هذا الوقت بالذات، أي عندما واجه موسى (ع) هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل، وكان الغضب الشديد يسربل كل كيانه، ويثقل روحه حزن عميق، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإِصلاح والتعمير أمر صعب وععسير جدّاً. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نَغمة مخالفة شاذة، وافقت هوى ورغبة، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمراً ممكناً وسهلاً.
ثورة الغضب
فهنا لا بدّ أن يظهر موسى (ع) غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط، كي يوقظ الأفكار المخدَّرة لدى بني إسرائيل، ويوجد انقلاباً في ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.
إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد زفي تلك الأزمة، إذ يقول: إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطاً غاضباً ﴿وألقى الألواح وأخذ بأس أخيه يجرّه إليه﴾ (91).
وأنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة، وصاح به، لماذا قصّرتَ في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري.
وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس –من جانب- حالة موسى (ع) النفسية، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.
وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقع قبيحاً –فرضاً- وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملاً صحيحاً، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الإِنزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم... ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم... إنّ هذا العمل لم يكن قط غير مذموم فحسب، بل كان يعد عملاً واجباً وضرورياً.
إنّ موسى (ع) انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجاً شديداً لم يسبق له مثيل، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ المشاهد ألا وهو الإنحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.
وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماماً.
يابن أمّ، لا ذنب لي
إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل، فقد قلب المشعد رأساً على عقبِ في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.
ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال –وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة-: يابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جهلوني ضعيفاً إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني، فإذن أنا بريء، فلا تفعل بي ما سيكون موجباً لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين ﴿قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾.
إن التعبير بـ: (ابن أمّ) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسى (ع) في هذه الحالة الساخنة.
وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.
لقد هدأ غضب موسى (ع) بعض الشيء، وتوجه إلى الله ﴿قال ربّ اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين﴾ (92).
إنّ طلب موسى (ع) العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه، لم يكن لذنب اقترفاه، بل كان نوعاً من الخضوع لله، والعودة إليه، وإظهار النفرة من أعمال الوصنيين القبيحة (93). (94)
كيف كان للعجل الذهبي خوار؟
إنّ السامري كان بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلم العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر. ويقول آخرون: كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمَع منه صوتٌ على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعاً بِهيئة هندسية خاصّة.
ثمّ إنّ موسى (ع) بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلتَ ما فعلت، وما هدفك من ذلك؟: ﴿قال فما خطبك يا سامري﴾ فأجابه و﴿قال بصرت بما لم يبصروا فقبضت قبضة من أثر الرّسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي﴾ (95).
تُرى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! قولان مشهوران...
الأوّل: إنّ مراده هو: إنّني رأيت جبرئيل على فرس، عند مجيء جيش فرعون إلى ساحل البحر، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، فقبضت شيئاً من تراب قدمه، أو (مركبه) وأدّخرته لهذا اليوم، فألقيته داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلّا من أثر ذلك التراب الذي أخذته.
الثّاني: إنّني آمنت –بداية الأمر- بقيم من آثار الرّسول (موسى)، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيداً وملت إلى عبادة الأصنام، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.
جزاء السّامري
من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (ع) لم يكن مقبولاً بأي وجه، ولذلك فإنّ موسى (ع) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلاً: ﴿قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس﴾ أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الإقتراب منك، فقليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزياً بعيداً عنهم!
قال البعض: إنّ جملة ﴿لا مساس﴾ إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى (ع) التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحداً. فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضالّة، ويجمعهم حوله، ويجب أن يُحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتّصل به أيّ شخص، فإنّ هذا الطرد والعزلة أشدّ من الموت والإعدام على مصل السامري وأضرابه. لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.
وقال بعض: إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه وخطئه، فإبتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّاً لا يمكن لأحد أن يمسّه، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض. أو أنّ السامري قد اُبتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كلّ إنسان، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني).
والعقاب الثّاني: إنّ موسى (ع) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: ﴿وإنّ لك موعداً لن تخلفه﴾.
والثالث: ﴿وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفاً﴾ (96) (97).
ذنب عظيم وتوبة فريدة
لقد فعلت ردة فعل موسى (ع) الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عَبَدة العجل الإسرائيليون -وهم أكثرية القوم- على فعلهم، ومن أجل أن لا يُتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة، يضيف القرآن الكريم قائلاً: ﴿إنّ الذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّة في الحياة الدنيا﴾ (98).
أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الأرض المقدسة.
أو أنّه إشارة إلى معمّة قتل بعضهم بعضاً العجيبة التي كُلّفوا بها كجزاء وعفوبة لمثل هذا الذنب العظيم.
يشير القرآن إلى طريقة التورة المطروحة على بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ﴾(99).
لا شك أن عبادة عجل السامري لم تكن مسألة هينه، لأن بني إسرائيل شاهدوا ما شاهدوا من آيات الله ومعجزات نبيّهم موسى (ع)، ثم نسوا ذلك دفعة، وخلال فترة قصيرة من غياب النّبي إنحرفوا تماماً عن مبدأ التوحيد وعن الدين الإِلهي.
كان لا بدّ من اقتلاع جذور هذه الظاهرة الخطرة، كي لا تعود إلى الظهور ثانية خاصة بعد وفاة صاحب الرسالة.
الاعدام الجماعي
كانت الأوامر الإِلهية بالتوبة شديدة لم يسبق لها نظير في تاريخ الأنبياء، وتقضي هذا الأوامر أن تقترن التوبة بإعدام جماعي لعدد كبير من المذنبين، على أيديهم أنفسهم.
طريقة تنفيذ هذا الإعدام لا تقل شدة عن الإِعدام نفسه، فقد صدرت الأوامر الإِلهية أن يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، وفي ذلك عذابان للمذنب: عذاب قتل الأصدقاء والمعارف على يديه، وما ينزل به –هو نفسه- من عذاب القتل.
وجاء في الأخبار أن موسى أمر في ليلىة ظلماء كل الجناحين إلى عبادة العجل، أن يغتسلوا ويرتدوا الأكفان ويعملوا السيف بعضهم في البعض الآخر.
ولعلك تسأل عن السبب في قساوة هذه التوبه ولماذا لم يقبل الله تعالى منهم التوبة دون إراقة الدماء؟
الجواب: إن السبب في شدّة هذا الحكم يعود إلى عظمة الذنب الذي إرتكبوه بعد كل ما شاهدوه من آيات ومعاجز، وإلى أن هذا الذنب يهدّد وجود الدعوة ومستقبلها لإن اُصول ومبادئ جميع اللبنات الفوقية والمباني الحضارية للدين، فلو تساهل موسى (ع) مع ظاهرة عبادة العجلـ لأمكن أن تبقى سُنّة في الأجيال القادمة، خاصة وأن بني إسرائيل كانوا على مرّ التاريخ قوماً متعنتين لجوجين.
ولابدّ من عقاب صارم يبقى رادعاً للأجيال التالية عن السقوط في هاوية الشرك.
خذوا ما آتيناكم بقوّة
نقل الطبرسي عن أبي زيد: أنّه حين رجع موسى من الطور، أتى بالألواح، قال لقومه: جئتكم بالأبواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها. قالوا: ومن يقبل قولك؟! فأرسل الله عزّ وجلّ الملائكة حتى نتقوا (رفعو) الجبل فوق رؤوسهم، فقال موسى (ع): إن قبلتهم ما آتيتكم به وإلّا أرسلو الجبل عليكم، فأخذوا التوراة ويجدوا لله تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي).
وجمع من المفسرين يذهبون إلى جبل الطور رفع فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر الله لإيجاد الظل عليهم، وهناك من يقول إن زلزالاً شديداً ضرب الجبل، بحيث كان يرى بنو إسرائيل قمة الجبل على رؤوسهم من شدّة الإِهتزاز، وترقبوا أن يسقط الجبل عليهم، لكن الزلزال هدأ بفضل الله واستقرّ الجبل.
ويحتمل أيضاً أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر الله على أثر زلزال شديد أو صاعقة، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم (100).
فلنقرأ تفصيل القصّة في القرآن الكريم ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوَنَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّنْ بَعْدِ ذّلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيِكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِّنَ الْخَسِرِينَ﴾ (101). مواد هذا الميثاق عبارة عن: توحيد الله، والإِحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصابح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء. هذه المواد وردت في التّوراة كذلك.
جبل الطّور
اختلف المفسرون في المقصود من جبل (الطّور)، مهم من قال: إنه نفس الجبل الذي أُوحي فيه إلى موسى. وقال آخرون: ‘مخ اسم جنس بمعنى مطلق (الجبل) لا جبل بعينه. وجاء تعبير (الجبل) بدل كلمة الطور في قوله تعالى: ﴿وّإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ (102).
التوراة
(التوراة) لفظة عبرية تعني (الشريعة والقانون)، وأُطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران (ع). وقد تطلق أيضاً على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة.
إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألف من التوراة وعدد من الكتب الأُخرى. والتوراة تتألّف من خمسة أقسام، كلّ قسم يسمّى (سفراً) وهي: (سفر التكوين) و(سفر الخروج) و(سفر الاعداد) و(سفر التثنية). هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضاً من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام.
أمّا الكتب الأُخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى (ع) في شرح أحوال الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران (ع).
بديهيّ أنّ هذه الكتب – عدا الأسفار الخمسة- ليست كتباً سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك. وحتّى (زبور) داود الذي يطلقون عليه اسم (المزامير) هو شرح مناجاة داود ومواعظه.
أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية، بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران (ع)، إذ فيها بيان موت موسى (ع) ومراسيم دفنه، وبعض الحوادث التي وقعت بعده، على الأخصّ افصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب كتب بعد موت موسى (ع).
يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أُموراً فاضحة للأنبياء، وبعض الأقوال الصبيانية، ممّا يؤكّد زيف هذه الكتب. والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت، وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبو هذه الكتب بعده.
________________________________________
1. القصص، 7.
2. القصص، 8-9.
3. – "المراضع" جمع "مرضع" على زنة "مخبر" ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها.
4. القصص، 12 – 10. .
5. القصص،13.
6. الشعراء، الآية 18.
7. القصص، 15-17.
8. ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!
للمفسرين أبحاث مذيلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.
وبالطبع فإن أصل هذا العمل ليس مسألة مهمة. . لأن الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.
إنما المهم عند علماء التفسير هو تعبيرات موسى (ع) التي ولدت إشكالات عندهم.
فهو تارة يقول: ((هذا من عمل الشيطان)).
وفي مكان آخر يقول: ((ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي)).
فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.
ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة، وهو أن ما صدر من موسى (ع) هو من قبيل "ترك الأولى" لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأن قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.
ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنه عمل حرام ذاتا، بل يؤدي إلى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ةمناف لذلك العمل!.
9. القصص، 18-19.
10. القصص، 20-21.
11. كما أن بعضا من المفسرين يعتقدون أن مدين إسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء، وجاء اسمها في التوراة بـ "مديان" أيضا. كما يرى البعض: إن أساس تسمية هذه المدينة "بمدين" هو لأن أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه "مدين" كان يعيش في هذه المدينة.
12. القصص، 22.
13. القصص، 23-24.
14. القصص، 25.
15. القصص، 26-28.
16. القصص، 30 _ 29.
17. طه، 12.
18. طه، 18 _ 17.
19. القصص، 31.
20. يقول تعالى: {وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقب}. كما عبر قي بعض الآيات عن العصا بـ{ثعبان مبين}سورة الأعراف الآية 107 وسورة الشعراء الآية 32.
وإن هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفة لتلك الحية. . التي كانت في البداية حية صغيرة، ثم ظهرت كأنّها ثعبان مبين.
كما ويحتمل أن موسى (ع) رآها في الوادي بصورة حية، ثمّ في المرات الأُخرى بدأت تظهر بشكل مهول {ثعبان مبين}.
21. القصص، 32.
22. طه، 28 _ 25.
23. طه، 30_29.
24. مجمع البيان ذيل الآية.
25. كما يظهر من الآية (45) من سورة المؤمنون: {ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين}.
26. كما ورد في الآية (48) من سورة الأنبياء: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء}. .
27. ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّاً} مريم، 53.
28. طه 36_31.
29. الشعراء، 22_16.
30. الشعراء، 29_23.
31. الآية (110) من سورة الأعراف.
32. الشعراء، 37_30.
33. الشعراء، 42_38.
34. الشعراء، 43.
35. الآية (115) من سورة الأعراف.
36. الشعراء، 44.
37. طه، 66.
38. طه، 67.
39. الخطبة، 4.
40. هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!
على كل حال لا شك في أنّ تبديل ((العصا)) إلى حية عظيمة معجزة، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفه، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد –الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية –ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق الطبيعة.
ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب، والأخشاب والنباتات هي الأُخرى من التراب، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين، ولكن في ضوء الإعجاز تقتصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة، فتتخذ القطعة من الخشب –التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين- تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.
والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية –وينفوا طابعها الإعجازي، ويظهرونها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب
السماوية. إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم: هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكماً على قوانين الطبيعة، أم لا؟ فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلّا لغواً لديهم. وإذا كانو مؤمنين بذلك، فما الداعي لنحت مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية. (وإن لم نر أحداً من المفسّرين -على ما بينهم من اختلاف السليقة- عمد إلى هذه التّفسير المادي، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).
41. الشعراء، 48_45.
42. الشعراء، 49.
43. الشعراء، 51_50.
44. مؤمن، 26.
45. مؤمن، 27_26.
46. مؤمن، 29_28.
47. مؤمن، 32_31.
48. مؤمن، 45.
49. مؤمن، 37.
50. كالفخر الرازي والآلوسي.
51. الأعراف، 131_130.
52. الأعراف، 133_132.
53. راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة.
54. الأعراف، 135_134.
55. الزخرف، 52_51.
56. طه، 27.
57. الزخرف، 53.
58. يونس، 87.
59. الشعراء، 59_52.
60. هَل حكمَ بنُو إسرائيلَ في مصر؟!
على أساس تعبير القرآن الكريم {كذلك وأورثناها بني إسرائيل}. . . فإنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادو إلى مصر وسيطروا على الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.
وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التفسير.
في حين أن بعض المفسرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلّا أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.
وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع التّفسير.
ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.
وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى (ع) وفي زمان النّبي سليمان بن داود، والآية {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} ناظرة إلى هذا المعنى!
إلّا أنّه مع ملاخظة موسى (ع) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض دوم أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين. . . إمّا أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول، إن قسماً منهم بقوا في أرض مصر بأمر موسى (ع) واستولوا على العرش وحكموا في مصر!. . . وفي غير هاتين الحالين لا يتجلّى مفهوم لاخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها. . .
61. الشعراء، 61.
62. الشعراء، 66_62.
63. يونس، 92_90.
64. اقرأ سورة يونس: الآية 90_وطه الآية 77_والشعراء الآية 63.
65. اقرأ سورة طه الآية 78_والقصص الآية 40_والذاريات الآية 40.
66. الأعراف، 138.
67. الأعراف، 141_139.
68. يبدو أن مثل هذه الخرافات التي تسربت حتى إِلى بعض الكتب الإِسلامية، وإِنّما هي من صنع بني إِسرائيل، والتي تسمّى عادة بـ((الإِسرائيليات)) والدليل على هذا القول هو ما ورد نصاً في التوراة المتداولة من أساطير خرافية تشبه أساطير العمالقة، في سفر الأعداد في أواخر الفصل الثّالث عشر.
69. المائدة، 23_21.
70. الباب الأوّل من سفر التثنية في التوراة المتداولية، فيه إِشارة إِلى أنّ اسمي هذين الرجلين هما ((يوشع)) و((كاليب)).
71. المائدة، 24_25.
72. المائدة، 26_25.
73. البقرة، 57.
74. وتذكر التوراة أن ((المنَّ)) حبٌّ يشبه بذر الكزبرة يتساقط على الأرض ليلاً، وكان بنو إسرائيل يجمعونه ويصنعون منه خبزاً ذا طعم خاص.
وثمة احتمال آخر هو أن الأمطار الغزيرة النافعة التي هطلت بفضل الله على تلك الصحراء أثرت على أِجار تلك المنطقة فأفرزت عصارة حلوة استفاد منها بنو إسرائيل.
واحتمل بعضهم أن يكون ((المنّ)) نوعاً من العسل الطبيعي حصل عليه بنو إسرائيل في الجبال والمرتفعات المحيطة بصحراء التيه. وهذا التّفسير يؤيد ما ورد من شروح على العهدين (التوراة والإِنجيل) حيث جاء: ((الأراضي المقدسة معروفة بكثرة أنواع الأوراد والأزهار، ومن هنا فإن مجاميع النحل تبني خلاياهم في أخاديد الصخور وعلى أغصان الأشجار وثنايا بيوت النّاس، بحيث يستطيع أفقر النّاس أن يتناول العسل)).
75. حيث ورد في تفسير على العهدين ما يلي: ((إعلم أن السلوى تتحرك بمجموعات كبيرة من افريقيا، فتتحه إلى الشمال، وفي جزيرة كابري وحدها يصطاد من هذا الطائر 16 ألفاً في الفصل الواحد... هذا الطائر يجتاز طريق بحر القلزم، وخليج العقبة والسويس، ويدخل شبه جزيرة سيْناء. وبعد دخوله لا يستطيع أن يطير في إرتفاعات شاهقة لشدّة ما لاقاه من تعب وعناء في الطريق، فيطير على إرتفاغ منخفض ولذلك يمكن اصطياده بسهولة... وورد ذكر ذلك في سفر الخروج وسفر الأعداء من التوراة)).
يستفاد من هذا النص أن المقصود بالسلوى طير خاص سمين يشبه الحمام معروف في تلك الأرض.
76. في الفصل السابع عشر من ((سفر الخروج)) تذكر التوراة:
((فقال الرب لموسى سر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل وعصاك التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب –ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخر فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل)).
77. البقرة، 60.
78. البقرة، 61.
79. الاعراف، 142.
80. لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟
إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا، هو: لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.
ذكر تفسيرات عديدة لهذا التفكيك، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاماً مع أحاديث أهل البيت (ع) هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوماً، إلّا أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوماً ثمّ مدّده عشرة أيّام أُخرى، اختباراً لبني إسرائيل كي يُعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل. فقد روي عن الإِمام محمّد الباقر (ع) أنّه قال: إنّ موسى (ع) لما خرج وافداً ربّه واعدهم ثلاثين يوماً، فلمّا زاده الله على القلاثين عشراً قال قومه، قد أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل).
وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإِسلامية، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوماً، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالباً في الليالي.
81. لماذا طلب موسى (ع) من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟
السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا قال مويى (ع) لأخيه: اصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟
نقول في الجواب: إنّ هذا –في الحقيقة- نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلاً على قِصَرِهم وصغرهم. . . بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبزته تابعاً ومطيعاً لنصائح موسى (ع).
82. الاعراف، 143.
83. مم تاب موسى (ع)؟
إنّ سؤالاً بطرح نفسه هنا هو: أن موسى (ع) بعد أن أفاق قال: {تبتُ إليك} في حين أنّه لم يرتكب إثماً أو معصية، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل، وكان طرحه بتكليف من الله، فهو أدى واجبه إذن، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يُحسب هذا العمل إثماً؟؟
ولكن يمكن الحواب على هذا السؤال من جانبين:
الأوّل: أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه، وأظهر الإِِيمان.
الآخر: أنّ موسى (ع) وإن كان مكلَّفاً بأن يطرح طلب بني إسرائيل، ولكنّه تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر، انتهت مدّة هذا التكليف، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد، وقد بيّن ذلك بجملة، {إنّي تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين}. .
84. الاعراف، 145.
85. ثمّ إن ها هنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:
1- نزول الألواح على موسى
إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحاً على موسى (ع) قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها، لا أنّه كانت في يدي موسى (ع) ألواح قمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.
ولكن ماذا كانت تلك الألواح، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر، وإنما أشار إليها بصورة الإِجمال وبلفظة ((الألواح)) فقط، وهذه الكلمة جمع ((لوح))، وهي مشتقّة من مادة ((لاح يلوح)) بمعنى الظهور والسطوع، وحيث أنّ المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة، تسمى الصفحة لوحا. ولكن ثمّة اختمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.
2- كيف كلّم الله موسى؟
يستفاد من الآيات القرآنية تامتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسى (ع)، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال ((شجرة الوادي الأيمن)) وربّما من ((جبل الطور)) وتبلغ مسمع موسى فما ذهب إليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جموداً على الألفاظ تصوُّر خاطىء بعيد عن الصواب.
86. الاعراف، 148.
87. كما تشهد بذلك آيات سورة طه.
88. الاعراف، 159.
89. الاعراف، 150.
90. طه، 85.
91. الاعراف، 150.
92. الاعراف، 150.
93. الاعراف، 151_150.
94. مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة:
يستفاد من الآيات الحاضرة، أن بني إسرائيل هم الذيت صنعوا العجل لا هارون، وأنّ شخصاً خاصاً في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل عذا العمل، ولكن هارون –أخا موسى ووزيره ومساعده- لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه، ولم يأل جهداً في هذا السبيل، حتى أنّهم كادوا يقتلوه لمعارضته لهم.
ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب من صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى خارون خليفة موسى (ع) ووزيره وأخيه، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة، مايلي:
((لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: إنزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإِزميل وصنعه عجلاً مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.
فلمّا نظر هارون بنى مذبحاً أمامه ونادى هارون وقال: غداً هيد للربّ (قمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل)).
ثمّ تشرح التوراة قصّة رجوع موسى (ع) غاضباً إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة، ثمّ تقول:
((وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبتَ عليه خطيّة عظيكةً؟!
فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ)).
إنّ ما ذكر هو قِسمٌ من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أُخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).
كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج أيضاً),
وعلى كل حال، تعترف التوراة لهارون –الذي كان خليفة لموسى (ع) وعارفاً بتعاليم شريعته- بمنزلة سامية. . . ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل، وحتى أنّه اعتذر لموسى (ع) عليه بما هو أثبح من الذنب حيث قال: إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساساً وقد شجعتهم عليه.
في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّت بأدران الشرك والوثنية.
على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآنُ الكريمُ ساحة الأنبياء والرسل، وتنسب النوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة هذا القرآن وتحريف التوراة والإِنجيل الفعليين، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.
95. طه، 96.
96. طه، 97.
97. من هو السامري؟
إنّ أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولمّا كان المعتاد أن يبدّل حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل ((موشى)) إلى ((موسى))، و((يشوع)) إلى ((يسوع))، نفهم من ذلك أنّ السامري كان منسوباً إلى ((شمرون))، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرّابع ليعقوب.
ومن هنا يتّضح أنّ إعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد –بأنّ القرآن قد عرّف شخصاً كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيماً ومروّجاً لعبادة العجل باسم السامري المنسوب إلى ((السامرة))، في حين أنّ السامرة لم يكن لها وجود أصلاً في ذلك الزمان –لا أساس له-، لأنّه كما قلنا منسوب إلى شمرون لا السامرة.
على كلّ حال، فإنّ السامري كان رجلاً أنانياً منحرفاً وذكياً في الوقت نفيه، حيث إستطاع أن يستغلّ نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوحد –بجرأة ومهارة خاصّة- تلك الفتنة العظيمة التي سبّبت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام، وكذلك رأينا أيضاً أنّه لاقى جزتء هذه الأنانيّة والفتنة في هذه الدنيا.
98. الاعراف، 152.
99. البقرة، 54.
100. مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالاً بشأن إمكان تحقيق الإِلتزام عن طريق التخويف والإِرهاب.
هناك من قال: إن رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه، لأن أخذ الميثاق بالإِكراه لا فيمة له.
والأصح أن نقول: لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق بالقوّة. وهذا الإِرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن قم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة وإختيار.
على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العلمية، لا بالجانب الإِعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإِكراه.
101. البقرة، 64_63.
102. الاعراف، 171.