قدّمنا أنّ فصول هذا الكتاب تأتي في الترتيب والتبويب حسب ترتيب الأعمال المطلوبة من النائي عن مكّة الّذي وظيفته حجّ التمتّع ، وأنّ العمل الأوّل لكلّ ناسك مهما كانت وظيفته هو الإحرام ، وأنّ العمل الثاني للمعتمر بعمرة مفردة أو لحجّ التمتّع هو الطواف ثمّ ركعتاه .
أ مّا السعي بين الصفا والمروة فمحلّه بعد الطواف وركعتيه في العمرة والحجّ بشتّى أنواعه ، فهو تبع للطواف ومتأخّر عنه ، ولا يجوز تقديمه عليه ، ومن سعى قبل أن يطوف فعليه أن يرجع فيطوف ثمّ يسعى . أ مّا الموالاة والانتقال من الطواف وركعتيه إلى السعي مباشرة وبلا فاصل فهو أفضل بدون ريب ؛ لقول الإمام الصادق عليهالسلام : « إنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حين فرغ من طوافه وركعتيه قال : إبدأوا بما بدأ اللّه به [ من]([1]) إتيان الصفا »([2]) . ومن هنا ذهب كثير من العلماء إلى عدم جواز التأخير إلى اليوم الثاني اختياراً .
ومهما يكن ، فإنّ حقيقة السعي واحدة في العمرة والحجّ بأنواعه الثلاثة ، كما أ نّه ركن قيهما يبطلان بتركه عمداً ، فقد سئل الإمام عليهالسلام عن رجل ترك السعي متعمّداً ؟ قال [ عليهالسلام] : « لا حجّ له »([3]) .
___________________________________
[1] ما بين المعقوفين من المصدر .
[2] الوسائل 13 : 475 ـ 476 ، ب3 من أبواب السعي ، ح2 .
[3] الوسائل 13 : 485 ، ب7 من أبواب السعي ، ح3 .
وللسعي مستحبّات :
منها : الطهارة من الحدث والخبث ، فقد اتّفق الفقهاء على أ نّها مستحبّة في السعي لا واجبة ؛ لقول الإمام الصادق عليهالسلام : « لا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلاّ الطواف فإنّ فيه صلاة ، والوضوء أفضل على كلّ حال »([1]) .
وسئل الإمام عليهالسلام عن رجل يسعى بين الصفا والمروة ثلاثة أشواط أو أربعة ثمّ يبول أيتمّ سعيه بغير وضوء ؟ قال : « لابأس ، ولو أتمّ نسكه بوضوء لكان أحبّ إليّ »([2]) .
ومنها : استلام الحجر ، والشرب من ماء زمزم ، والصبّ على الجسد منه ، والخروج إلى الصفا من الباب المقابل للحجر على سكينة ووقار ؛ لقولالإمام الصادق عليهالسلام : « إذا فرغت من الركعتين ـ أي ركعتي الطواف ـ فأت الحجر الأسود فقبّله واستلمه وأشر إليه ، واشرب من ماء زمزم قبل أن تخرج إلى الصفا والمروة . . . »([3]) . [وقال عليهالسلام] : « وصب منه على رأسك وظهرك وبطنك ، وقل : اللّهم اجعله علماً نافعاً ورزقاً واسعاً . . . »([4]) إلى آخر الدعاء المأثور .
وقال [ عليهالسلام] : « ثمّ اخرج إلى الصفا من الباب الّذي خرج منه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو الباب الّذي يقابل الحجر الأسود . . . وعليك السكينة والوقار »([5]) .
ومنها : الصعود على الصفا حتّىترى البيت ، واستقبال الركن الّذي فيه الحجر ، والدعاء بالمأثور ، والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح مائة مائة ، والوقوف بقدر قراءة سورة البقرة ، وفي ذلك روايات عن أهل البيت عليهمالسلام([6]) .
___________________________________
[1] الوسائل 13 : 493 ، ب15 من أبواب السعي ، ح1 .
[2] الوسائل 13 : 494 ، ب15 من أبواب السعي ، ح6 .
[3] الوسائل 13 : 473 ، ب2 من أبواب السعي ، ح1 .
[4] الوسائل 13 : 473 ، ب2 من أبواب السعي ، ح2 .
[5] الوسائل 13 : 476 ، ب3 من أبواب السعي ، ح2 .
[6] الوسائل 13 : 476 ، ب4 من أبواب السعي .
1 ـ من ترك السعي عامداً بطل حجّه وعمرته ، قال صاحب الجواهر : ( بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع عليه ، والنصوص مستفيضة ، منها قول الإمام الصادق عليهالسلام : « من ترك السعي متعمّداً فعليه الحجّ من قابل » مضافاً إلى قاعدة « عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه » )([1]) .
ومن ترك السعي ناسياً لم يبطل حجّه ولا عمرته ، ووجب عليه أن يأتي به بنفسه حتّى ولو خرج ذو الحجّة ، فإن تعذّرت المباشرة أو تعسّرت استناب من يؤدّيه عنه ، قال صاحب الجواهر : ( بلا خلاف أجده في شيء من ذلك )([2]) .
ويدلّ عليه قول الإمام الصادق عليهالسلام : في رجل نسي السعي بين الصفا والمروة : « عليه أن يعيد »([3]) . وفي رواية اُخرى : « يطاف عنه »([4]) . وهذه الرواية صريحة بأنّ السعي يقبل النيابة عند تعذّر المباشرة جمعاً بينها وبين الاُولى التي قالت : « يعيد » أي يعيد السعي مع الإمكان ، ويستنيب مع عدمه .
2 ـ من زاد على السبعة عالماً عامداً بطل سعيه ، وعليه الاستئناف ؛ لأ نّه لم يأتِ بما اُمر ، ولقول الإمام عليهالسلام : « الطواف المفروض إذا زدت عليه مثل الصلاة ، فإذا([5]) زدت عليها فعليك الإعادة ، وكذلك السعي »([6]) .
ومن زاد عن سهو فهو مخيّر بين إلغاء الزائد والاعتداد بالسبعة فقط ، وبين أن يكمل الزائد سبعاً ، ويكون لديه سعيان : الأوّل واجب والثاني مستحبّ ، ويدلّ على ذلك أنّ الإمام سئل عن رجل سعى بين الصفا والمروة ثمانية أشواط ؟ قال [ عليهالسلام] :« إن كان خطأ طرح واحداً واعتدّ بسبعة »([7]) . وروي عنه [ عليهالسلام] أيضاً : « إذا استيقن أ نّه سعى ثمانية أضاف إليها ستّاً »([8]) . وإذا عطفنا إحدى الروايتين على الاُخرى نتج ما قاله الفقهاء من التخيير المذكور .
3 ـ إذا شكّ في عدد الأشواط أو في صحّتها بعد الانتهاء والفراغ من السعي بنى على الصحّة ، ولا شيء عليه ؛ لأ نّه شكّ بعد الفراغ .
وإذا شكّ في عدد الأشواط قبل إكمالها قال صاحب الجواهر : ( لا خلاف ولا إشكال في البطلان ؛ لتردّده بين محذوري الزيادة والنقصان ، وكلّ منهما مبطل )([9]) . هذا إلى أنّ العلم بتوجّه التكليف يقيناً يستدعي العلم بامتثاله والخروج عن عهدته يقيناً.
وإذا شكّ أ نّه هل ابتدأ من الصفا حتّى يكون السعي صحيحاً أو من غيره حتّى يكون فاسداً ؟ ينظر ، فإن كان شاكّاً في العدد أيضاً بطل السعي ، وإن كان ضابطاً للعدد وشكّ في الابتداء فقط وأ نّه من الصفا أو المروة فإن كان الشوط الّذي في يده مزدوجاً ـ كما لو كان ثانياً أو رابعاً أو سادساً وكان على الصفا أو متّجهاً إليه ـ صحّ
السعي ؛ لأ نّه يعلم والحال هذه أنّ الابتداء كان من الصفا . ومثله في الصحّة إذا كان الشوط مفرداً كما لو كان ثالثاً أو خامساً وكان على المروة أو متّجهاً إليها . ولو انعكس الأمر بحيث كان الشوط مفرداً وهو على الصفا أو مزدوجاً وهو على المروة بطل السعي ، ووجب الاستئناف .
4 ـ لا تجب الموالاة بين الأشواط ، فيجوز له الجلوس للاستراحة قبل التمام ، كما تجوز له الصلاة الواجبة وقضاء حاجة له أو لغيره ثمّ البناء على ما سبق ، وفاقاً للمشهور بشهادة صاحب الجواهر([10]) .
___________________________________
[1] الجواهر 19 : 429 .
[2] الجواهر 19 : 430 .
[3] الوسائل 13 : 485 ، ب8 من أبواب السعي ، ح1 .
[4] الوسائل 13 : 486 ، ب8 من أبواب السعي ، ح3 .
[5] في الطبعات السابقة : « إذا » وما أثبتناه من المصدر .
[6] الوسائل 13 : 490 ، ب12 من أبواب السعي ، ح2 .
[7] الوسائل 13 : 491 ، ب13 من أبواب السعي ، ح3 .
[8] الوسائل 13 : 490 ، ب13 من أبواب السعي ، ح1 .
[9] الجواهر 19 : 439 .
[10] الجواهر 19 : 443 .
من واجبات العمرة المفردة والحجّ التقصير أو الحلق ، ولكنّه ليس بركن ، وقد يجب على الناسك مرّة واحدة ، وقد يجب عليه مرّتين ، كما أنّ محلّه قد يكون بعد السعي ، وقد يكون بعد الذبح في منى . وأيضاً قد يتعيّن عليه التقصير فقط ، وقد يكون مخيّراً بينه وبين الحلق ، ويأتي هذا الاختلاف حسب وظيفة الناسك وصفته ، حيث يكون معتمراً بعمرة مفردة تارةً ومتمتّعاً اُخرى ، وقارناً أو مفرداً حيناً ، والتفصيل فيما يلي:
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « المعتمر عمرة مفردة إذا فرغ من طواف الفريضة وصلاة الركعتين خلف المقام والسعي بين الصفا والمروة حلق أو قصّر »([1]) . و« ليس على النساء حلق ، وعليهنّ التقصير »([2]) .
واستناداً إلى هذه الرواية وغيرها اتّفق الفقهاء على أنّ المعتمر بعمرة مفردة مخيّر بين الحلق والتقصير ، ولا يتعيّن عليه أحدهما ، على شريطة أن يأتي به بعد السعي لا قبله .
___________________________________
[1] الوسائل 13 : 511 ، ب5 من أبواب التقصير ، ح1 .
[2] الوسائل 13 : 512 ، ب5 من أبواب التقصير ، ح2 .
قدّمنا أنّ حجّ التمتّع مركّب من العمرة والحجّ ، ولذا تحتّم على المتمتّع واجبان :
الأوّل : تعيّن التقصير بعد السعي بين الصفا والمروة .
الثاني : التخيير بين التقصير والحلق بعد الذبح بمنى ، والحلق أفضل . ويدلّ على الأوّل ـ أي تعيين التقصير بعد السعي ـ قول الإمام الصادق عليهالسلام : « إذا فرغت من سعيك وأنت متمتّع فقصّر من شعرك . . . وقلّم من أظافرك »([1]) .
وقوله [ عليهالسلام] : « ليس في المتعة إلاّ التقصير »([2]) . أ مّا الواجب الثاني ـ وهو التخيير بين التقصير والحلق بعد الذبح ـ فقال صاحب الحدائق : ( هو المشهور بين الأصحاب )([3]) . وقال صاحب الجواهر : ( لا أجد فيه خلافاً إلاّ في الصرورة ، والّذي تلبّد شعره أو عقصه ، أي شدّه وفتله )([4]) .
ويدلّ عليه قول الصادق عليهالسلام : « ينبغي للصرورة أن يحلق ، وإن كان قد حجّ فإن شاء قصّر ، وإن شاء حلق . وإذا تلبّد شعره أو عقصه فإنّ عليه الحلق ، وليس عليه التقصير »([5]) .
وفهم أكثر الفقهاء هذه الرواية وما إليها ، على أنّ الصرورة ومن تلبّد شعره يتأكّد الحلق في حقّهما ولا يتعيّن . وذهب البعض([6] إلى أنّ الحلق متعيّن عليهما.
ومهما يكن فإنّ الحلق بالنسبة للصرورة والملبّد موجب للعلم والجزم بفراغ الذمّة وامتثال التكليف ، سواءً أكان المطلوب هو التعيين أو التخيير . أ مّا التقصير فلا يوجب هذا الحزم والقطع ؛ لاحتمال أن يكون المطلوب هو الحلق بالذات على سبيل التعيين.
ومن أجل هذا نميل إلى تعيين الحلق على الصرورة والملبّد ، وإلى التخيير بالقياس إلى غيرهما ، بل جاء في الرواية الصحيحة أنّ الإمام الصادق عليهالسلامقال : « يجب الحلق على ثلاثة : رجل لبد ، ورجل حجّ بداية ولم يحجّ قبلها ، ورجل عقص شعره »([7]).
وحكم القارن والمفرد حكم المتمتّع في التخيير بين الحلق والتقصير بعد الذبح بمنى .
___________________________________
[1] الوسائل 13 : 506 ، ب1 من أبواب التقصير ، ح4 .
[2] الوسائل 13 : 510 ، ب4 من أبواب التقصير ، ح2 .
[3] الحدائق 17 : 222 .
[4] الجواهر 19 : 233 .
[5] الوسائل 14 : 222 ، ب7 من أبواب الحلق والتقصير ، ح1 .
[6] مستند الشيعة 12 : 374 .
[7] الوسائل 14 : 222 ، ب7 من أبواب الحلق والتقصير ، ح3 ، وفيه : « حجّ بدءً لم . . . عقص رأسه » .
وبهذه المناسبة نشير إلى متعة الحجّ التي جاءت الرواية أنّ عمر قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا محرّمهما ومعاقب عليهما([1]) . فالمتعة الاُولى هي متعة النساء ـ أي الزواج المنقطع ـ والثانية هي متعة الحجّ . ولكي يتّضح المراد منها علينا أن نعرف أنّ فقهاء السنّة أجازوا أن يجمع الناسك في إحرام واحد وبنيّة واحدة بين الحجّ والعمرة كما هي الحال في حجّ القران ، وأنّ الشيعة قد منعوا من ذلك منعاً باتّاً ، وأوجبوا لكلّ نسك إحراماً مستقلاًّ ، وأشرنا إلى ذلك في فصل سابق بعنوان « أنواع الحجّ » .
وبعد أن عرفت هذا نتساءل إذا كان الناسك مريداً للحجّ والعمرة معاً وأحرم لهما معاً بإحرام واحد من الميقات ثمّ دخل مكّة فهل له ـ قبل أن يباشر بأعمال الحجّ ـ أن يفسخ ويعدل عن نيّة الحجّ الّذي كان قد قرنه بالعمرة ويصرف قصده إلى العمرة فقط حتّى إذا أدّاها عقّب بالحجّ وعندها ينقلب حجّه من القران إلى التمتّع ؛ لأنّ معنى حجّ التمتّع أن يعتمر أوّلاً ثمّ يحجّ كما سبقت الإشارة ؟ هذا ، مع العلم بأ نّه إذا جاز له ذلك ساغ له أن يأتي بعد الانتهاء من أعمال العمرة ، بكلّ ما كان محرّماً عليه حتّى النساء ، ثمّ يعقد إحراماً جديداً لحجّ التمتّع ويرجع التحريم ، وفي الفترة التي وقعت بين العمرة والحجّ يحلّ له ما كان محرّماً عليه .
وهذي هي بالذات متعة الحجّ التي حرّمها عمر ، أي أنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلمأجاز فسخ الحجّ والرجوع إلى العمرة ، وبذلك يستطيع الحاجّ أن يحلّ ويتمتَّع بما حرم عليه بهذه الفترة ، وحرّم عمر ذلك وأوجب البقاء على ما كان ، وعليه فلا يحلّ للحاجّ شيء ممّا حرم عليه إلاّ بعد طواف الزيارة الّذي أشرنا إليه . وقد اختلف السنّة فيما بينهم ، فمنهم من حرّم متعة الحجّ بقول عمر ومنهم أباحها .
وهذه المتعة لا تعني الشيعة في كثير ولا قليل ؛ لأ نّهم لا يجيزون الجمع بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ولا بنيّة واحدة [ كما في ]([2]) تفسير الرازي والمغني وفتح الباري في شرح صحيح البخاري([3]) .
___________________________________
[1] بداية المجتهد 1 : 346 .
[2] ما بين المعقوفين ليس في الطبعات السابقة .
[3] راجع تفسير الرازي 5 : 153 . المغني لإبن قدامة 1 : 514 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1 : 336 .