سورة السجدة مكّيّة.
و في مجمع البيان : ما خلا ثلاث آيات منها. فإنّها نزلت بالمدينة: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [إلى تمام الآيات.
و هي ثلاثون آية.
و قيل : تسع وعشرون آيه.]
بسم الله الرحمن الرحيم
في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قراء سورة السّجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه اللَّه كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما كان منه. وكان من رفقاء محمّد وأهل بيته- عليهم السّلام-.
و بإسناده، عن الصّادق- عليه السّلام- قال: من اشتاق إلى الجنّة وإلى صفتها، فليقرأ الواقعة. ومن أحبّ أن ينظر إلى صفة النّار، فليقرأ سجدة .و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: من قراء الم تنزيل وتبارك الّذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر.
و روى ليث بن أبي الزّيد ، عن جابر قال: كان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- لا ينام حتّى يقرأ ألم تنزيل وتبارك الّذي بيده الملك.
و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّ العزائم أربع: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق، والنّجم، وتنزيل السّجدة، وحم السّجدة.
الم إن جعل اسما للسّورة، أو القرآن، فمبتدأ خبره تَنْزِيلُ الْكِتابِ: على أنّ التنزيل بمعنى: المنزل. وإن جعل تعديد الحروف، كان تنزيل خبر محذوف. أو مبتدأ، خبره لا رَيْبَ فِيهِ: فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ : حالا من الضّمير في «فيه».
لأنّ المصدر لا يعمل فيها بعد الخبر. ويجوز أن يكون خبرا ثانيا، والخبر ولا رَيْبَ فِيهِ حال من الكتاب، أو اعتراض. والضّمير في «فيه» لمضمون الجملة.
و يؤيّده قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ: فإنّه إنكار، لكونه من ربّ العالمين. وقوله:
بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: فإنّه تقرير له.
و نظم الكلام على هذا، أنّه أشار أوّلا إلى إعجازه. ثمّ رتّب عليه أنّ تنزيله من ربّ العالمين. وقرّر ذلك بنفي الرّيب عنه. ثمّ أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه. فإنّ «أم» منقطعة. ثمّ أضرب عنه إلى إثبات أنّه الحقّ المنزل من اللَّه، وبيّن المقصود من تنزيله فقال: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ: إذ كانوا أهل الفترة.
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ : بإنذارك إيّاهم.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: مرّ بيانه.
ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ: ما لكم إذا جاوزتم رضا اللَّه، أحد ينصركم ويشفع لكم. أو ما لكم سواه وليّ ولا شفيع، بل هو الّذي يتولّى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أنّ الشّفيع متجوّز به للنّاصر. فإذا خذلكم لم يبق لكم
وليّ ولا ناصر.
أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ : بمواعظ اللَّه.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ: يدبّر أمر الدّنيا بأسباب سماويّة، كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض.
ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ:
قيل : ثمّ يصعد إليه ويثبت في علمه موجود.
فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ : في برهة من الزّمان متطاولة، يعني بذلك: استطالة ما بين التّدبير والوقوع.
و قيل : يدبّر الأمر بإظهاره في اللّوح. فينزل الملك بذلك. ثمّ يعرج إليه في زمان هو كألف سنة.
و قيل : يقضي قضاء ألف سنة. فينزل به الملك. ثمّ يعرج بعد الألف لألف آخر.
و قيل : يدبّر المأمور به من الطّاعات منزلا من السّماء إلى الأرض [بالوحي.] ثمّ لا يعرج إليه خالصا كما يرتضيه، إلّا في مدّة متطاولة، لقلّة المخلصين والأعمال الخلص .
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ، يعنى: الأمور الّتي يدبرّها والأمر والنّهي الّذي أمر به وأعمال العباد كلّ هذا يظهره يوم القيامة. فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدّنيا.
و في مجمع البيان : معناه: أنّه ينزّل الملك بالتّدبير أو الوحي: ويصعد إلى السّماء.
فيقطع في يوم واحد من أيّام الدّنيا مسافة ألف سنة ممّا تعدّونه أنتم. لأنّ ما بين السّماء والأرض مسيرة خمسمائة عام.فهذه ستّة احتمالات لا ينافي قوله : فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خمسة منها.» لأنّ المراد منه يوم القيامة. والمراد في الاحتمالات غيره.
و أمّا الاحتمال الخامس: وهو ما ذكره عليّ بن إبراهيم فينافيه. وقد قيل في التّوجيه بينهما : إنّه جعل- سبحانه- ذلك اليوم على الكافر مقدار خمسين ألف سنة. فإنّ المقامات في يوم القيامة مختلفة.
و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه- بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال في كلام طويل: فإنّ للقيامة خمسين موقفا. كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون. ثمّ تلا هذه الآية: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ: فيدبّر أمرها على وفق الحكمة .
الْعَزِيزُ: الغالب على أمره.
الرَّحِيمُ : على العباد في تدبيره.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ: خلقه موّفرا عليه ما يستعدّه ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة.
و «خلقه» بدل من «كلّ» بدل الاشتمال.
و قيل : علم كيف يخلقه من
قوله- عليه الصّلاة والسّلام-: «قيمة المرء ما يحسنه»
، أي: يحسن معرفته. و«خلقه» مفعول ثان.
و قرأ نافع والكوفيّون بفتح اللّام على الوصف. «فالشّيء» على الأوّل مخصوص بمنفصل، وعلى الثّاني بمتّصل.
وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ :
في تفسير عليّ بن إبراهيم قال: هو آدم.
و في عيون الأخبار ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع سليمان المروزيّ يقول
فيه المأمون بعد كلام طويل: يا عمران هذا سليمان المروزيّ متكلّم خراسان.
قال عمران: يا أمير المؤمنين، إنّه يزعم انّه واحد خراسان في النّظر. وينكر البداء.
قال: فلم لا تناظر .
قال عمران: ذلك إليك .
فدخل الرّضا- عليه السّلام- فقال: في أيّ شيء أنتم ؟
قال عمران: يا ابن رسول اللَّه، هذا سليمان المروزيّ.
فقال له سليمان: أ ترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟
فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء، على أن يأتيني فيه. بحجّة أحتجّ بها على نظرائي من أهل النّظر.
قال المأمون: يا أبا الحسن، ما تقول فيما تشاجرا فيه؟
قال: وما أنكرت من البداء، يا سليمان؟ واللَّه- عزّ وجلّ- يقول : أَ وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟ ويقول- عزّ وجلّ- وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ويقول : بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويقول- عزّ وجلّ -: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ.
و يقول : وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ويقول- عزّ وجلّ- : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ. ويقول- عزّ وجلّ- : ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ: ذرّيّته سمّيت به لأنّها تنسل منه، أي: تنفصل.
مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ : ممتهن.
ثُمَّ سَوَّاهُ: قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغي.
وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ: أضافه إلى نفسه تشريفا وإشعارا بأنّه خلق عجيب،و أنّ له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الرّبوبيّة. ولأجله قيل: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ، أي: ولده من سلالة. وهو الصّفوة من الطّعام والشّراب، مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. قال: النّطفة [المني.] ثُمَّ سَوَّاهُ، أي: استحاله من نطفة إلى علقة ومن علقة إلى مضغة حتّى نفخ فيه الرّوح.
وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ: خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا.
قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ : شكرا قليلا.
وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميّز منه. أو غبنا فيه.
و قرئ، «ضللنا» بالكسر. من ضلّ يضلّ.
و في جوامع الجامع : روى عن عليّ- عليه السّلام- وابن عبّاس: «صللنا» بالصّاد وكسر اللّام. من صلّ اللّحم، وأصلّ اللّحم: إذا أنتن.
و قرأ ابن عامر: «إذا» على الخبر والعامل فيه ما دلّ عليه .
أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ: وهو أ نبعث أو يجدّد خلقنا.
و قرأ نافع والكسائيّ ويعقوب: «إنّا» على الخبر. والقائل أبيّ بن خلف.
و إسناده إلى جميعهم لرضاهم به.
بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ: بالبعث، أو بتلقيّ ملك الموت وما بعده.
كافِرُونَ : جاحدون.
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ: يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا. أو لا يبقى منكم أحد.
و «التفعّل» و«الاستفعال» يلتقيان كثيرا، كتقصّيته واستقصيته واستعجلته.
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم.ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ : للحساب والجزاء.
و في كتاب التّوحيد : عن عليّ- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-، وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات: فأمّا قوله بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ، يعني: البعث. فسمّاه اللَّه- عزّ وجلّ- لقاء. وأمّا قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وقوله : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وقوله : تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ وقوله : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ وقوله : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فإنّ اللَّه- تبارك وتعالى- يدبّر الأمور كيف يشاء، ويوكّل من خلقه من يشاء. وأمّا ملك الموت، فإنّ اللَّه يوكّله بخاصّة من يشاء من خلقه، ويوكّل رسله من يشاء من خاصّته بمن يشاء من خلقه يدبّر الأمور كيف يشاء.
و ليس كلّ العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسّره لكلّ النّاس. لأنّ فيهم القويّ والضّعيف. ولأنّ منه ما يطاق حمله ومنه ما لا يطاق حمله، إلّا أن يسهّل اللَّه له حمله وأعانه عليه من خاصّة أوليائه. وإنّما تكفيك أن تعلم أنّ اللَّه هو المحيي المميت، وأنّه يتوفّى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكة وغيرهم.
و في من لا يحضره الفقيه : وسئل الصّادق- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ- :
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وعن قول اللَّه- عزّ وجلّ- قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وعن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ والَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ وعن قول اللَّه- عزّ وجلّ- تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وعن قوله- عزّ وجلّ- : وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ وقد يموت في الدّنيا في السّاعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلّا اللَّه- عزّ وجلّ-. فكيف هذا؟فقال: إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشّرطة له أعوان من الإنس، يبعثهم في حوائجه فتتوفّاهم الملائكة، ويتوفّاهم ملك الموت من الملائكة، مع ما يقبض هو، ويتوفّاهم اللَّه- تعالى- من ملك الموت.
و في الكافي : أبو عليّ الأشعري، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن أسباط بن سالم مولى أبان قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: جعلت فداك، يعلم ملك الموت بقبض من يقبض؟
قال: لا، إنّما هي صكاك تنزل من السّماء اقبض نفس فلان بن فلان بن فلان.
علىّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن عمرو بن عثمان، عن المفضّل بن صالح، عن زيد الشحّام قال: سئل أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- عن ملك الموت، يقال: الأرض بين يديه كالقصعة يمد يده منها حيث يشاء.
فقال: نعم.
محمّد، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن لحظة ملك الموت.
قال: أما رأيت النّاس يكونون جلوسا فتعتريهم السّكينة فما يتكلّم أحد منهم؟ فتلك لحظة [ملك الموت] حيث يلحظهم.
عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد ، عن بعض أصحابه، عن محمّد بن سكين قال: سئل أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- عن الرّجل يقول: استأثر اللَّه بفلان.
فقال: ذا مكروه.
فقيل: فلان يجود بنفسه؟
فقال: لا بأس. أما تراه يفتح فاه عند موته مرّتين أو ثلاثا؟ فذلك حين يجود بها لما يرى من ثواب اللَّه- عزّ وجلّ- وقد كان بها ضنينا.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: لمّا أسري بي إلى السّماء رأيت ملكا من الملائكة بيده لوح من نور لا يلتفت يمينا ولا شمالا مقبلا عليه كهيئة الحزين. [فقلت: من هذا يا جبرئيل؟
فقال: هذا ملك الموت. مشغول في قبض الأرواح.]
فقلت أدنني منه، يا جبرائيل، لأكلّمه.
فأدناني منه. فقلت له: يا ملك الموت، أكلّ من مات أو هو ميّت فيما بعد أنت تقبض روحه؟
قال: نعم.
قلت: وتحضرهم بنفسك؟
قال: نعم، ما الدّنيا كلّها عندي فيما سخرّها اللَّه- عزّ وجلّ- لي ومكّنني منها إلّا كالدّرهم في كفّ الرّجل يقلّبه كيف يشاء. وما من دار في الدّنيا، إلّا وأدخلها كلّ يوم خمس مرّات. وأقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم: لا تبكوا عليه. فإنّ لي إليكم عودة وعودة حتّى لا يبقى منكم أحد.
فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: كفى بالموت طامّة، يا جبرائيل.
فقال جبرائيل: ما بعد الموت اطمّ وأعظم من الموت.
و في نهج البلاغة : هل تحسّ به إذا دخل منزلا؟ أم هل تراه إذا توفّى أحدا؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمّه؟ أ يلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الرّوح أجابته بإذن ربّها؟ أم هو ساكن معه في أحشائها؟ كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله!؟
و في مجمع البيان : وروى عكرمة عن ابن عبّاس: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: الأمراض والأوجاع كلّها بريد الموت ورسل الموت . فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه وقال: يا أيّها العبد، كم خبر بعد خبر، وكم رسول بعد رسول ؟ أنا الخبر الّذيليس بعدي خبر. وأنا الرّسول أجب ربّك طائعا أو مكرها.
فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه، قال: على من تصرخون؟ وعلى من تكبون؟ فو اللَّه ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا. بل دعاه ربّه. فليبك الباكي على نفسه. وإنّ لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدا.
و في من لا يحضره الفقيه : وقال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت أن يبيضّ وجهه أشد من بياض لونه، ويرشح جبينه، ويسيل من عينيه كهيئة الدّموع. ذلك آية خروج روحه. وإنّ الكافر تخرج روحه سيلا من شدقه، كزبد البعير كما تخرج نفس الحمار.
و سئل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- : كيف يتوفّى ملك الموت المؤمن؟
فقال: إنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذّليل من المولى.
فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتّسليم ويبشّره بالجنّة.
و قال أمير المؤمنين- عليه السّلام -: إنّ المؤمن إذا حضره الموت وثقه ملك الموت.
فلولا ذلك لم يستقرّ.
و في عوالي اللّئالي : وفي الحديث أنّ إبراهيم- عليه السّلام- لقى ملكا فقال له: من أنت؟
فقال: أنا ملك الموت.
فقال: أ تستطيع أن تريني الصّورة الّتي تقبض فيها روح المؤمن؟
قال: نعم. أعرض عنّي.
فأعرض عنه [ثمّ التفت إليه.] . فإذا هو شابّ حسن الصّورة، حسن الثّياب، حسن الشّمائل، طيّب الرّائحة.
فقال: يا ملك الموت، لو لم يلق المؤمن إلّا حسن صورتك لكان حسبه.
ثمّ قال له: هل تستطيع أن تريني الصّورة الّتي تقبض فيها روح الفاجر ؟فقال: بلى. [ثمّ] قال: أعرض عنّي.
فأعرض عنه. ثمّ التفت إليه. فإذا هو رجل أسود، قائم الشّعر، منتن الرّائحة، أسود الثّياب، يخرج من فيه ومن مناخره النيّران والدّخان. فغشى على إبراهيم. ثمّ أفاق. وقد عاد ملك الموت ألى حالته الأولى.
فقال: يا ملك الموت، لو لم يلق الفاجر إلّا صورتك هذه لكفته.
وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: من الحياء والخزي.
رَبَّنا: قائلين: ربّنا.
أَبْصَرْنا: ما وعدتنا.
وَ سَمِعْنا: منك تصديق رسلك.
فَارْجِعْنا: إلى الدّنيا.
نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ : إذ لم يبق لنا شكّ بما شاهدنا.
و جواب «لو» محذوف. تقديره: لرأيت أمرا فظيعا. ويجوز أن تكون للتّمنّي والمضيّ فيها وفي «إذ». لأنّ الثّابت في علم اللَّه بمنزلة الواقع. ولا يقدّر لترى مفعولا. لأنّ المعنى: لو تكون منك رؤية في هذا الوقت. أو يقدّر ما دلّ عليه صلة «إذ». والخطاب لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- أو لكلّ أحد.
وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها: ما هدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتّوفيق له.
وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي: ثبت قضائي وسبق وعيدي. وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ : لعلمي بأنّهم ينسون لقاء يومهم هذا، ويرتكبون ما يوجب لهم هذا.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا: فإنّه من الوسائط والأسباب المقتضية له.
إِنَّا نَسِيناكُمْ: تركناكم من الرّحمة. أو في العذاب ترك المنسيّ.
و في استئنافه وبناء الفعل على «إنّ» واسمها، تشديد في الانتقام منهم.
وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : كرّر الأمر للتّأكيد ولما نيط به من التّصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السّيّئة من التّكذيب والمعاصي، كما علّله بتركهم تدبّر أمرالعاقبة والتّفكّر فيها دلالة على أنّ كلّا منهما يقتضي ذلك.
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها: وعّظوا بها.
خَرُّوا سُجَّداً: خوفا من عذاب اللَّه.
وَ سَبَّحُوا: ترّهوه عمّا لا يليق به، كالعجز عن البعث.
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ: حامدين له شكرا، على ما وفّقهم للإسلام وآتاهم الهدى.
وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ : عن الإيمان والطّاعة، كما يفعل من يصير مستكبرا.
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ: ترتفع وتتنحّى.
عَنِ الْمَضاجِعِ: الفرش ومواضع النوم.
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ: داعين إيّاه.
خَوْفاً: من سخطه.
وَ طَمَعاً: في رحمته.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً لعلّك ترى أنّ القوم لم يكونوا ينامون.
قال: قلت: اللَّه ورسوله وابن رسوله أعلم.
قال: فقال: لا بدّ لهذا البدن أن تريحه حتّى يخرج [نفسه. فإذا خرج] النّفس استراح البدن ورجع الرّوح فيه قوة على العمل. فإنّما ذكرهم تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً أنزلت في أمير المؤمنين- عليه السّلام- وأتباعه من شيعتنا. ينامون في أوّل اللّيل، فإذا ذهب ثلثا اللّيل أو ما شاء اللَّه فزعوا إلى ربّهم راغبين مرهبين طامعين فيما عنده. فذكرهم اللَّه في كتابه. فأخبرك اللَّه بما أعطاهم أنّه أسكنهم في جواره، وأدخلهم جنّته، وآمن خوفهم ، وأذهب رعبهم.
قال: قلت: جعلت فداك، إن أنا قمت في آخر اللّيل أيّ شيء أقول إذا قمت؟
قال: قل: «الحمد للَّه ربّ العالمين وآله المرسلين. والحمد للَّه الّذي يحيي الموتى ويبعث من في القبور.» فإنّك إذا قلتها، ذهب عنك رجز الشّيطان ووسواسه- إن شاء اللَّه.
و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن علىّ بن النّعمان، عن ابن مسكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟
قلت: بلى- جعلت فداك.
قال: أمّا أصله، فالصّلاة. وفرعه، الزّكاة. وذروة سنامه، الجهاد.
ثمّ قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير.
قلت: نعم- جعلت فداك.
قال: الصّوم جنّة [من النّار.] والصّدقة تذهب بالخطيئة. وقيام الرّجل في جوف اللّيل يذكر اللَّه. ثمّ قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
علىّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن محبوب، عن جميل، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا اللَّه- عزّ وجلّ- خوفا فتلك [عبادة] العبيد، وقوم عبدوا اللَّه- تبارك وتعالى- طلب الثّواب، فتلك [عبادة] الأجراء، وقوم عبدوا اللَّه- عزّ وجلّ- حبّا له، فتلك عبادة الأحرار. وهي أفضل العبادة.
و في كتاب الخصال : عن يونس بن ظبيان قال: قال الصّادق جعفر بن محمّد- عليه السّلام-: إنّ النّاس يعبدون اللَّه على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الخرصاء. وهو الطّمع، وآخرون يعبدون فرقا [من النار،] فتلك عبادة العبيد.
و هي الرّهبة، ولكنّى أعبده حبّا له، فتلك عبادة الكرام. وهو الأمن
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و في مجمع البيان : روى الواحديّ بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينا نحن مع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ. فتفرّق القوم. فإذارسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- أقربهم منّى. فدنوت منه.
فقلت: يا رسول اللَّه، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار.
قال: لقد سألت عن عظيم- وأنّه ليسير على من يسّره اللَّه عليه-: تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة المكتوبة، وتؤدّى الزّكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان.
قال: وإن شئت أنبأتك عن أبواب الخير.
قال: قلت: أجل، يا رسول اللَّه.
قال: الصّوم جنّة [من النّار.] والصّدقة تكفّر الخطيئة. وقيام الرّجل في جوف اللّيل يبتغي وجه اللَّه.
ثمّ قرأ هذه الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ.
و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه - بإسناده قال: قال الصّادق- عليه السّلام- في قوله: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: كانوا لا ينامون حتّى يصلّوا العتمة.
و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب كلام طويل في تزويج فاطمة- عليها السّلام- من علىّ- عليه السّلام- وفيه: وباتت عندها أسماء بنت عميس أسبوعا، بوصيّة خديجة إليها.
فدعا لها النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- في دنياها وآخرتها. ثمّ أتاهما في صبيحتهما.
و قال: السّلام عليكم. أدخل- رحمكم اللَّه؟
ففتحت له أسماء الباب. وكانا نائمين تحت كساء.
فقال: على حالكما. فأدخل رجليه بين أرجلهما. فأخبر اللَّه عن أورادهما تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ (الآية) فسأل عليّا: كيف وجدت أهلك؟
قال: نعم العون على طاعة اللَّه.
و سأل فاطمة، فقالت: خير بعل.
فقال: اللّهمّ اجمع شملهما، وألّف بين قلوبهما، واجعلهما وذرّيّتهما من ورثة جنّة النّعيم،و ارزقهما ذرّيّة طاهرة طيّبة مباركة، واجعل في ذرّيّتهما البركة، واجعلهم أئمّة يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما يرضيك.
ثمّ أمر بخروج أسماء وقال: جزاك اللَّه خيرا.
ثمّ خلا بها بإشارة الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم.
وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ : في وجوه الخير.
و في محاسن البرقيّ : عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن علىّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ألا أخبرك بأصل الإسلام وفرعه وذروته وسنامه ؟
قال: قلت: بلى- جعلت فداك.
قال: أصله، الصّلاة. وفرعه، الزّكاة. وذروته وسنامه ، الجهاد في سبيل اللَّه. ألا أخبرك بأبواب الخير؟
[قلت: نعم- جعلت فداك.
قال:] الصّوم جنّة [من النار.] والصّدقة تحطّ الخطيئة. وقيام الرّجل في جوف اللّيل يناجي ربّه. ثمّ قرأ: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ: لا ملك ولا نبيّ مرسل.
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ: ممّا تقرّبه عيونهم.
و قرأ حمزة ويعقوب: «أخفى» على أنّه مضارع، أخفيت .
و قرئ: «نخفي، وأخفي». والفاعل في الكلّ هو اللَّه- تعالى . و«العلم» بمعنى المعرفة. و«ما» موصولة، أو استفهامية، معلّق عنها الفعل.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أي: جوزوا جزاء، أو أخفى للجزاء. فإنّ إخفاءه لعلو شأنه.و قيل : هذا القوم أخفوا أعمالهم، فأخفى اللَّه ثوابهم .
و في تفسير علىّ بن إبراهيم : وقوله عزّ وجلّ : [وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا في الدّنيا ولم نعمل به. فَارْجِعْنا إلى الدّنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ.] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها قال: ولو شئنا أن نجعلهم كلّهم معصومين لقدرنا. وقوله- عزّ وجلّ -: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ، اي: تركناكم. وقوله- عزّ وجلّ- تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فإنّه حدّثني أبي، عن عبد الرّحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: ما من عمل حسن يعمله العبد إلّا وله ثواب في القرآن إلّا صلاة اللّيل. فإنّ اللَّه- عزّ وجلّ- لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها عنده. فقال- جلّ ذكره-: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ- إلى قوله- يَعْمَلُونَ.
ثمّ قال: إنّ للَّه- عزّ وجلّ- كرامة في عبادة المؤمنين في كلّ يوم جمعة. فإذا كان يوم الجمعة بعث اللَّه إلى المؤمن ملكا معه حلّتان فينتهي إلى باب الجنّة.
فيقول: استأذنوا لي على فلان.
فيقال له: هذا رسول ربّك على الباب.
فيقول لأزواجه: أيّ شيء ترين عليّ أحسن؟
فيقلن: يا سيّدنا والّذي أباحك الجنّة ما رأينا عليك أحسن من هذا. قد بعث إليك ربّك.
فيتّزر بواحدة [و يتعطّف بالأخرى. فلا يمرّ بشيء إلّا أضاء له حتّى ينتهي إلى الموعد. فإذا اجتمعوا تجلّى لهم الرّب- تبارك وتعالى.] فإذا نظروا إليه، أي: إلى رحمته خرّوا سجّدا.فيقول: عبادي، ارفعوا رؤوسكم. ليس هذا يوم سجود ولا عبادة. قد رفعت عنكم المؤنة.
فيقولون: يا ربّ، وأي شيء أفضل ممّا أعطيتنا الجنّة ؟
فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا.
فيرجع المؤمن في كلّ جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يده. وهو قوله : وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وهو يوم الجمعة. إنّها ليلة عزّاء، ويوم أزهر. فأكثروا فيها من التّسبيح والتّهليل والتّكبير والثّناء على اللَّه- عزّ وجلّ- والصّلاة على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.
قال: فيمرّ المؤمن. فلا يمرّ بشيء إلّا أضاء له حتّى ينتهي إلى أزواجه.
فيقلن: والّذي أباحنا الجنّة، يا سيّدنا، ما رأيناك أحسن منك السّاعة!؟
فيقول: إنّي قد نظرت إلى نور ربّي.
ثمّ قال: إنّ أزواجه لا يغرن ولا يحضن ولا يصلفن.
قلت: جعلت فداك، إنّي أردت أن أسألك عن شيء أستحي منه.
قال: سل.
قلت: جعلت فداك، ثم قلت هل في الجنّة غناء ؟
قال: إنّ في الجنة شجرا يأمر اللَّه رياحها، فتهبّ. فتضرب تلك الشّجرة بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها حسنا.
ثمّ قال: هذا عوض لمن ترك السّماع للغناء في الدّنيا مخافة اللَّه.
قال: قلت: جعلت فداك، زدني.
فقال: إنّ اللَّه خلق جنّة بيده. ولم ترها عين. ولم يطلع عليها مخلوق. يفتحها الرّبّ كلّ صباح. ويقول: ازدادي ريحا. وازدادي طيبا. وهو قول اللَّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.و في مجمع البيان وروي في الشّواذّ، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: قرّات أعين.
و روي عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال: ما من حسنة إلّا ولها ثواب مبيّن في القرآن إلّا صلاة اللّيل. فإنّ اللَّه- عزّ اسمه- لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها. قال: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ (الآية).
و في جوامع الجامع : وفي الحديث: يقول اللَّه تعالى: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرأوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ (الآية).
و في محاسن البرقي : عنه، عن أبيه، عن الحسن بن علىّ بن فضّال، عن علىّ بن النّعمان، عن الحارث بن محمّد الأحوال، عمّن حدّثه، عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه- عليهما السّلام- قالا: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لعلىّ: [يا علىّ،] إنّه لمّا أسري بي رأيت في الجنّة نهرا أبيض من اللّبن وأحلى من العسل وأشدّ استقامة من السّهم. فيه أباريق عدد النّجوم. على شاطئه قباب الياقوت الأحمر والدّرّ الأبيض. فضرب جبرائيل بجناحيه [إلى جناحه] فإذا هو مسكة زفرة.
ثمّ قال: والّذي نفس محمّد بيده، إنّ في الجنّة لشجرا يتصفّق بالتّسبيح بصوت لم يسمع الأوّلون والآخرون [بمثله.] يثمر ثمرا كالرّمّان. يلقي ثمره إلى الرّجل، فيشقّها عن سبعين حلّة. والمؤمنون على كراسيّ وهم الغرّ المحجّلون. أنت إمامهم يوم القيامة. على الرّجل منهم نعلا شراكهما من نور يضيء أمامه حيث شاء من الجنّة. فبيناهم كذلك إذأشرقت عليه امرأة من فوقه، تقول: سبحان اللَّه، يا عبد اللَّه، أ ما لنا منك دولة؟
فيقول: من أنت؟
فتقول: أنا من اللّواتي قال اللَّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
ثم قال: والّذي نفس محمّد بيده، إنّه ليجيئه كلّ يوم سبعون ألف ملك يسمّونه باسمه واسم أبيه.
و في شرح الآيات الباهرة : روى الشّيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه، عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصّفّار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن علىّ بن النّعمان، عن الحارث بن محمّد الأحول، عن أبي عبد اللَّه، عن أبي جعفر- عليهما السّلام- بأدنى تغيير.
ثمّ قال: وذلك
ما ذكره الطّوسيّ- رضي اللَّه عنه- في أماليه، بإسناده عن جابر بن عبد اللَّه- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لعليّ- عليه السّلام-: يا علىّ، ألا أبشّرك؟ ألا أمنحك؟
قال: بلى، يا رسول اللَّه.
قال: خلقت أنا وأنت من طينة واحدة. ففضلت منها فضلة. فخلق اللَّه منها شيعتنا.
فإذا كان يوم القيامة يدعى النّاس بأمّهاتهم إلّا شيعتك. فإنّهم يدعون بآبائهم لطيب.
مولدهم.
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمّد الأشعريّ، عن عبد اللَّه بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من أطعم مؤمنا حتّى يشّبّعه لم يدر أحد من خلق اللَّه ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا اللَّه ربّ العالمين.
أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً: خارجا عن الإيمان.
لا يَسْتَوُونَ : في الشّرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى.و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رضي اللَّه عنه-، عن الحسن بن علىّ- عليه السّلام-. حديث طويل وفيه يقول- عليه السّلام-: وأمّا أنت يا وليد بن عقبة، فو اللَّه، ما ألومك أن تبغض عليّا، وقد جلدك في الخمر ثمانين جلدة، وقتل أباك صبرا [بيده] يوم بدر. أم كيف تسبّه فقد سمّاه اللَّه مؤمنا في عشر آيات من القرآن وسمّاك فاسقا؟
و هو قول اللَّه- عزّ وجلّ-: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ.
و في أصول الكافي: علىّ بن محمّد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرّزّاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام-: ونزل بالمدينة : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فبرّأه اللَّه ما كان مقيما على الفرية أن يسمّى بالإيمان. قال اللَّه- عزّ وجلّ-: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ.
و في تفسير علىّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ قال: فذلك إنّ علي بن أبي طالب- عليه السّلام- والوليد بن عقبة بن أبي معيط تشاجرا. فقال الفاسق الوليد بن عقبة:
أنا، واللَّه، أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأمثل منك حشوا في الكتيبة.
فقال علىّ- عليه السّلام-: اسكت. فإنّما أنت فاسق.
فأنزل اللَّه: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فهو علىّ بن أبي طالب- عليه السّلام-.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى: الحقيقيّ. والدّنيا منزل مرتحل عنها لا محالة.و قيل : «المأوى» جنّة من الجنان .
نُزُلًا: سبق في آل عمران.
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ : بسبب أعمالهم، أو على أعمالهم.
وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ: مكان جنّة المأوى للمؤمنين.
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها: عبارة عن خلودهم فيها.
وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ : إهانة وزيادة لغيظهم.
و في شرح الآيات الباهرة: قال محمّد بن العبّاس- رضي اللَّه عنه-: حدّثنا إبراهيم بن عبد اللَّه، عن الحجّاج بن منهال، عن حمّاد بن سلمة، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس [- رحمه اللَّه- قال: إنّ الوليد بن أبي معيط قال لعلّى: أنا أقسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة.
فقال له عليّ- عليه السّلام-: أسكت يا فاسق.
فأنزل اللَّه- جلّ اسمه-: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ- إلى قوله- تُكَذِّبُونَ.
و قال- أيضا-: حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه بن أسد، عن إبراهيم بن محمّد الثقفيّ، عن عمرو بن حمّاد، عن أبيه، عن فضيل، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس] في قوله- عزّ وجلّ- أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ قال: نزلت في رجلين:
أحدهما من أصحاب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وهو المؤمن. والآخر فاسق.
فقال الفاسق للمؤمن: أنا واللَّه احدّ منك سنانا وأقسط منك لسانا وأملى منك حشوا في الكتيبة.
فقال المؤمن للفاسق: اسكت يا فاسق.
فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ-: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. ثمّ بيّن حال المؤمن فقال: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.و بيّن حال الفاسق فقال: أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
و ذكر أبو مخنف- رضي اللَّه عنه
أنّه جرى عند معاوية بين الحسن بن عليّ- صلوات اللَّه عليهما- وبين الفاسق الوليد بن عقبه كلام. فقال له الحسن- عليه السّلام-: لا ألومك أن تسبّ عليّا وقد جلدك في الخمر ثمانين سوطا وقتل أباك صبرا مع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- في يوم بدر، وقد سمّاه اللَّه- عزّ وجلّ- في غير آية مؤمنا وسمّاك فاسقا.
وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى: من عذاب الدّنيا.
قيل : إنّه المصائب والمحن في الأنفس والأموال.
و قيل : هو القتل يوم بدر بالسّيف.
و قيل : يريد به ما محنوا به من السنة سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والكلاب.
و قيل : هو الحدود.
دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ: عذاب الآخرة.
لَعَلَّهُمْ: من بقي منهم.
يَرْجِعُونَ : يتوبون عن الكفر.
و قيل : ليرجع الآخرون عن أن يدنبوا مثل ذنوبهم.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، في قوله- عزّ وجلّ- وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [- إلى قوله- بِهِ تُكَذِّبُونَ] قال: إنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما. فإذا بلغوا أسفله زفرت بهم جهنم. فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد. فهذه حالهم.
و أمّا قوله- عزّ وجلّ-: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ
(الآية) قال : العذاب الأدنى عذاب الرّجعة بالسّيف. ومعنى قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني فأنّهم يرجعون في الرّجعة حتّى يعذّبوا.
و في مجمع البيان : وأمّا العذاب الأدنى، ففي الدّنيا. واختلف فيه- الى قوله- وقيل: هو عذاب القبر- عن مجاهد.
و روي- أيضا- عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- والأكثر في الرّواية عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أنّ الْعَذابِ الْأَدْنى الدّابّة والدّجّال.
و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رضي اللَّه عنه-: حدّثنا عليّ بن حاتم، عن حسن بن محمّد بن عبد الواحد، عن جعفر بن عمر بن سالم، عن محمّد بن حسين بن عجلان، عن مفضّل بن عمر قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-:
وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ قال: الأدنى، غلاء السّعر. والأكبر، المهديّ بالسّيف.
و قال- أيضا -: حدّثنا الحسن بن أحمد ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن مفضّل بن صالح، عن زيد، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: الْعَذابِ الْأَدْنى دابّة الأرض.
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها: فلم يتفكّر فيها.
و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض عنها مع فرط وضوحها وإرشادها إلى أسباب السّعادة بعد التّذكير بها عقلا.
إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ : فكيف بمن كان أظلم من كلّ ظالم!؟
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ: كما آتيناك.
فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ: شك.
مِنْ لِقائِهِ: من لقائك الكتاب، لقوله : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ. فإنّا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه. فليس ذلك ببدع ممّا لم يكن قطّ حتّى ترتاب فيه. أو منلقاء موسى الكتاب. أو من لقائك موسى في الآخرة. أو من لقائك الأذى: كما لقي موسى الأذى. أو من لقائك موسى ليلة أسري بك إلى السّماء.
و في جوامع الجامع : فقد روي أنّه- عليه الصّلاة والسّلام- قال: رأيت ليلة أسري بي موسى- عليه السّلام- رجلا آدم طوالا جعدا كأنّه من رجال شنوءة .
وَ جَعَلْناهُ، أي: المنزل على موسى.
هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ النّاس إلى ما فيه من الحكم والأحكام.
بِأَمْرِنا: إيّاهم به أو بتوفيقنا له.
لَمَّا صَبَرُوا:
[و قرأ حمزة والكسائيّ ورويس: لما صبروا ]، أي: لصبرهم على الطّاعة، أو عن الدّنيا.
وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ : لإمعانهم فيها النّظر.
و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، وعليّ بن محمّد القاسانيّ، جميعا، عن القاسم بن محمّد الإصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: يا حفص، إنّ من صبر، صبر قليلا. وإنّ من جزع، جزع قليلا.
ثمّ قال: عليك بالصّبر في جميع أمورك. فإنّ اللَّه- عزّ وجلّ- بعث محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فأمره بالصّبر والرّفق- إلى قوله-: فصبر [رسول اللَّه] - صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- حتّى نالوه بالعظائم. [و رموه بها] فضاق صدره. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. ثم كذّبوه ورموه فحزن لذلك. فأنزل اللَّه : [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ]
وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا. فألزم النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- نفسه الصّبر. فتعدّوا فذكروا اللَّه- تبارك وتعالى-. وكذّبوه.
فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ -: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. فصبر النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- في جميع أحواله. ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصّبر. فقال- جلّ ثناؤه-: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. [فعند ذلك قال- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- الصّبر من الإيمان كالرّأس من الجسد.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.]
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، وقوله: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا قال: كان في علم اللَّه أنّهم يصبرون على ما يصيبهم. فجعلهم أئمّة.
حدثنا حميد بن زياد قال: حدّثنا محمّد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه [، عن آبائه] - عليهم السّلام- قال: الائمّة في كتاب اللَّه إمامان: إمام عدل، وإمام جور، قال اللَّه- تعالى-: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لا بأمر النّاس. يقدّمون أمر اللَّه قبل أمرهم وحكم اللَّه قبل حكمهم.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب: أنّ النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- دعا لعليّ- عليه السّلام- وفاطمة- عليها السّلام- فقال: اللّهمّ اجمع شملهما، وألّف بين قلوبهما، واجعلهما وذرّيّتهما من ورثة جنّة النّعيم، وارزقهما ذرّيّة طيّبة طاهرة مباركة، واجعل في ذرّيّتهما البركة، واجعلهم أئمّة يهدون بأمرك إلى طاعتك ويأمرون بما يرضيك.
و في شرح الآيات الباهرة»: قال محمّد بن العبّاس- رضي اللَّه عنه-: حدّثنا عليّ بن
[عبد اللَّه بن أسد عن إبراهيم بن محمّد الثّقفيّ، عن عليّ بن هلال الأحمسيّ، عن الحسن بن وهب العبسيّ، عن] جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ- عليهما السّلام- قال: نزلت هذه الآية في ولد فاطمة- عليها السّلام- خاصّة: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ، أي: لمّا صبروا على البلاء في الدّنيا وعلم اللَّه منهم الصّبر، جعلهم أئمّة يهدون بأمره عبادة إلى طاعته المؤدّية إلى جنّته- فعليهم من ربّهم صلواته وأكمل تحيّته.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: يقضي فيميّز الحقّ من الباطل بتمييز المحقّ من المبطل.
فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدّين.
أَ وَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الواو، للعطف على منويّ من جنس المعطوف. والفاعل منويّ، دلّ عليه كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ، أي: كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية. أو ضمير «اللَّه» بدليل القراءة بالنّون .
يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ: يعنى: أهل مكّة، يمرّون في متاجرتهم على ديارهم.
و قرئ يمشّون بالتّشديد .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ : سماع تدبّر واتّعاظ.
أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ: الّتي جرز نباتها، أي: قطع وازيل. لا الّتي لا تنبت لقوله: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً:
و قيل : اسم موضع باليمن.
تَأْكُلُ مِنْهُ: من الزّرع.
أَنْعامُهُمْ: كالتّين والورق.
وَ أَنْفُسُهُمْ: كالحبّ والثّمر.
أَ فَلا يُبْصِرُونَ : فيستدلّون به على كمال قدرته وفضله.وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ: النّصر. أو الفصل بالحكومة من قوله : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا.
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ : في الوعد به.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ قيل : هو يوم القيامة. فإنّه يوم نصر المسلمين على الكفرة والفصل بينهم.
و قيل : يوم بدر. أو يوم فتح مكّة. والمراد ب الَّذِينَ كَفَرُوا المقتولون منهم فيه. فإنّهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون. وانطباقه جوابا عن سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم. فإنّهم لمّا أرادوا به الاستعجال تكذيبا واستهزاء، أجيبوا بما يمنع الاستعجال.
و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن يعقوب- رضي اللَّه عنه-: حدّثنا الحسين بن عامر، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن محمّد بن سنان، عن ابن درّاج قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ قال: يوم الفتح، يوم تفتح الدّنيا على القائم- عليه السّلام- لا ينفع أحدا تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمنا وبهذا الفتح موقنا. فذلك الّذي ينفعه إيمانه ويعظم عند اللَّه قدره وشأنه وتزخرف له يوم القيامة: جنانه وتحجب عنه نيرانه. وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين ولذّريّته الطّيّبين- صلوات اللَّه عليهم أجمعين.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بتكذيبهم.
و قيل : هو منسوخ بآية السّيف.
وَ انْتَظِرْ: النّصرة عليهم.
إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ : الغلبة عليك.
و قرئ، بالفتح. على معنى أنّهم أحقّاء بأن ينتظر هلاكهم، أو أنّ الملائكة ينتظرونه .و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم في قوله:- عزّ وجلّ- أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ قال: الأرض الخراب. وهو مثل ضربة اللَّه- عزّ وجلّ- في الرّجعة والقائم- عليه السّلام-. فلمّا أخبرهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بخبر الرّجعة قالوا: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ وهذه معطوفة على قوله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ فقالوا: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فقال اللَّه- عزّ وجلّ- قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، يا محمّد، وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.