قالُوا آمَنَّا: في موضع الحال من ضمير «ساجدين»، أو من «السّحرة».
بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ : أبدلوا الثّاني من الأوّل، لئلّا يتوهّم أرادوا به فرعون.
في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن عليّ بن محمّد القاسانيّ، عمّن ذكره، عن عبد اللّه بن القاسم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-، عن أبيه، عن جدّه قال: قال أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليه-: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو. إلى أن قال: وخرجت سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون، فرجعوا مؤمنين.
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمّد، [و علي
بن محمد، عن القاسم بن محمد] عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال: ومن ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا، فهو من المستكبرين.
فقلت له: إنّما يرى [أنّ] له عليه فضلا بالعافية إذا رآه مرتكبا للمعاصي.
فقال: هيهات هيهات، فلعلّه أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف محاسب. أما تلوت قصّة سحرة موسى- عليه السّلام-. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ، أي: باللّه وبموسى. أو الاستفهام فيه للإنكار.
و قرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب وهشام، بتخفيف الهمزتين، على الأصل.
و قرأ حفص: «آمنتم به»، على الإخبار.
و قرأ قنبل: قال فرعون وآمنتم. يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة، ويمدّ بعدها مدّة، في تقدير ألفين. وقرأ في طه على الخبر، بهمزة وألف. وقرأ في الشّعراء على الاستفهام بهمزة ومدّة مطوّلة، في تقدير ألفين.
و قرأ الباقون، بتخفيف الهمزة الأولى وتليين الثّانية.
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ، أي: أنّ هذا الصّنع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى.
فِي الْمَدِينَةِ: في مصر، قبل أن تخرجوا منها للميعاد إلى هذه الصّحراء وتواطأتم.
لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها، يعني: القبط، وتخلص لكم ولبني إسرائيل. وكان هذا الكلام من فرعون تمويها على النّاس، لئلّا يتّبعوا السّحرة في الإيمان.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ : عاقبة ما فعلتم. وهو تهديد مجمل تفصيله.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ: من كلّ شقّ طرفا.ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ : تفضيحا لكم، وتنكيلا لأمثالكم.
قيل : إنّه أوّل من سنّ ذلك. فشرعه اللّه للقطّاع، تعظيما لجرمهم. ولذلك سمّاه محاربة اللّه ورسوله، ولكن على التّعاقب لفرط رحمته.
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ : بالموت لا محالة، فلا نبالي بوعيدك. أو إنّا لمنقلبون إلى ربّنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنّهم استطابوه شغفا على لقاء اللّه. أو مصيرك ومصيرنا إلى ربّنا، فيحكم بيننا.
وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا: وما تنكر منّا وتعيب.
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا: وهو خير الأعمال وأصل المناقب، ليس ممّا يأتي لنا العدول عنه، طلبا لمرضاتك.
ثمّ فزعوا إلى اللّه فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبرا يغمرنا، كما يفرغ الماء. أو صبّ علينا ما يطهّرنا من الآثام، وهو الصّبر على وعيد فرعون.
وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ : ثابتين على الإسلام.
و قيل : إنّه فعل بهم ما أوعدهم به.
و قيل : لم يقدر عليهم، لقوله- تعالى-: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ: بتغيير النّاس عليك، ودعوتهم إلى مخالفتك.
وَ يَذَرَكَ: عطفا على «يفسدوا». أو جواب للاستفهام بالواو، كقول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودّة والإخاء
على معنى: أ يكون منك ترك موسى، ويكون تركه إيّاك.
و قرئ ، بالرّفع، على أنّه عطف على «أ تذر». أو استئناف. أو حال.
و قرئ ، بالسّكون، كأنّه قيل: يفسدوا ويذرك، كقوله: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ.
وَ آلِهَتَكَ: معبوداتك.
قيل : كان يعبد الكواكب.
و قيل : صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها، تقرّبا إليه. ولذلكفَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : كان [فرعون] يعبد الأصنام، ثمّ ادّعى بعد ذلك الرّبوبيّة.
و في مجمع البيان : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قرأ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ، يعني: عبادتك.
و روي : أنّه كان يأمرهم- أيضا- بعبادة البقر. ولذلك أخرج السّامريّ لهم عجلا جسدا له خوار، وقال: هذا إلهكم وإله موسى.
قالَ: فرعون.
سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، كما كنّا نفعل من قبل. ليعلم إنّا على ما كنّا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهّم أنّه المولود الّذي حكم المنجّمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده.
و قرأ ابن كثير ونافع: «سنقتل» بالتّخفيف.
وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ : غالبون. وهم مقهورون تحت أيدينا.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا: لمّا سمعوا قول فرعون وتضجّروا منه، تسكينا لهم.
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ: تسلية لهم، وتقرير للأمر بالاستعانة باللّه، والتّثبّت في الأمر.
وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ : وعد لهم بالنّصرة، وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم، وتحقيق له.
و قرئ : «و العاقبة» عطفا على اسم «إنّ».و «اللّام» في «الأرض» يحتمل العهد والجنس.
و في تفسير العيّاشيّ : عن عمّار السّاباطيّ قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
قال: فما كان للّه، فهو لرسوله، وما كان لرسوله، فهو للإمام بعد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.
و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد [بن عيسى] عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي خالد الكابليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: وجدنا في كتاب عليّ- عليه السّلام- إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
... أنا وأهل بيتي، الّذين أورثنا اللّه الأرض. ونحن المتّقون. والأرض كلّها لنا. فمن أحيى أرضا من المسلمين، فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها. فإن تركها أو أخربها بعد ما عمرها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو أحقّ بها من الّذي تركها، فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي. وله ما أكل منها حتّى يظهر القائم من أهل بيتي بالسّيف، فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها، كما حواها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ومنعها. إلّا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنّه يقاطعهم [على ما في أيديهم] ويترك الأرض في أيديهم.
و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، [عن معلّى بن محمّد] عن عليّ بن أسباط، عن صالح بن حمزة، عن أبيه، عن أبي بكر الحضرميّ قال: لمّا حمل أبو جعفر- عليه السّلام- إلى الشّام، إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه، قال لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أميّة: إذا رأيتموني قد وبّخت محمّد بن عليّ ثمّ رأيتموني قد سكت، فليقبل عليه كلّ رجل منكم وليوبخّه. ثمّ أمر أن يؤذن له.
فلمّا دخل أبو جعفر- عليه السّلام- قال بيده: السّلام عليكم. فعمّهم جميعابالسّلام، ثمّ جلس.
فازداد هشام عليه حنقا بتركه السّلام عليه بالخلافة، وجلوسه بغير إذن. فأقبل يوبّخه، ويقول فيما يقول له: يا محمّد بن عليّ، لا يزال الرّجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنّه الإمام سفها وقلّة علم. ووبّخه بما أراد أن يوبّخه.
فلمّا سكت، أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبّخه حتّى انقضى آخرهم.
فلمّا سكت القوم، نهض- عليه السّلام- قائما، ثمّ قال: أيّها النّاس، أين تذهبون، وأين يراد بكم!؟ بنا هدى اللّه أوّلكم، وبنا يختم آخركم. فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكا مؤجّلا. وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول اللّه- عزّ وجلّ-: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
فأمر به إلى الحبس.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
قالُوا، أي: بنو إسرائيل.
أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا: بالرّسالة، بقتل الأبناء.
وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا، أي: بإعادته.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: قال الّذين آمنوا لموسى : قد «أوذينا» قبل مجيئك- يا موسى - بقتل أولادنا. وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا لمّا حبسهم فرعون لإيمانهم بموسى.
قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ: تصريحا بما كنّى عنه أوّلا، لمّا رأى أنّهم لم يتسلّوا بذلك. ولعلّه أتى بفعل الطّمع، لعدم جزمه بأنّهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
و قد روي : أنّ مصرا إنّما فتح لهم في زمن داود- عليه السّلام-.
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ : فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ: بالجدب، لقلّة الأمطار والمياه. والسّنة.غلبت على عام القحط، لكثرة ما يذكر عنه ويؤرّخ به ثمّ اشتقّ منها. فقيل : أسنت القوم: إذا قحطوا.
وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ: بكثرة العاهات.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ : لكي يتنبّهوا على أنّ ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، فيتّعظوا. أو لترقّ قلوبهم بالشّدائد، فيفزعوا إلى اللّه ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ: من الخصب والسّعة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: «الحسنة» ها هنا، الصّحة والسّلامة والأمن والسّعة.
قالُوا لَنا هذِهِ: لأجلنا، ونحن مستحقّوها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب وبلاء.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: «السّيِّئة» هنا، الجوع والخوف والمرض.
يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ: يتشأموا بهم، ويقولوا: ما أصابتنا إلّا بشؤمهم.
و هذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة. فإنّ الشّدائد ترقّق القلوب وتذلّل العرائك وتزيل التّماسك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهي لم تؤثّر فيهم بل زادوا عندها عتوّا وانهماكا في الغيّ.
و إنّما عرّف «الحسنة» وذكرها مع أداة التّحقيق، لكثرة وقوعها وتعلّق الإرادة بإحداثها بالّذات، ونكّر «السّيئة» وأتى بها مع حرف الشّكّ، لندورها وعدم القصد بها إلّا بالتّبع.
أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أي: سبب خيرهم وشرّهم عنده، وهو حكمه ومشيئته. أو سبب شؤمهم عند اللّه، وهو أعمالهم المكتوبة عنده. فإنّها الّتي ساقت إليهم ما يسوءهم.
و قرئ : «إنّما طيرهم». وهو اسم الجمع.
و قيل: هو جمع.
وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ : أنّ ما يصيبهم من اللّه- تعالى-. أو منشؤم أعمالهم.
وَ قالُوا مَهْما أصلها «ما» الشّرطيّة، ضمّت إليها «ما» المزيدة للتّأكيد، ثمّ قلبت ألفها هاء استثقالا للتّكرير.
و قيل : مركّبة من «مه» الّذي يصوت به الكاف، و«ما» الجزائيّة.
و محلّها الرّفع على الابتداء، أو النّصب بفعل يفسّره تَأْتِنا بِهِ، أي: أيّما شيء تحضرنا وتأتنا به.
مِنْ آيَةٍ: بيان «لمهما». وإنّما سمّوها: آية، على زعم موسى لا لاعتقادهم.
و لذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ، أي: لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا.
و الضّمير في «به» و«بها» «لمهما». ذكّره قبل التّبيين، باعتبار اللّفظ. وأنّثه بعده، باعتبار المعنى.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ: ماء طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم، من مطر أو سيل.
و قيل : الجدري.
و قيل : الموتان.
و قيل : الطّاعون.
و في تفسير العيّاشيّ: عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه سئل: ما الطّوفان؟
فقال: هو طوفان الماء والطّاعون.
وَ الْجَرادَ وَالْقُمَّلَ.
قيل : هو كبار القردان.
و قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها.
وَ الضَّفادِعَ وَالدَّمَ.
نقل : أنّهم مطروا ثمانية أيّام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته.و دخل الماء بيوتهم، حتّى قاموا فيه إلى تراقيهم. وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم، ولم تدخل فيها قطرة ماء . وركد على أراضيهم، فمنعهم من الحرث والتّصرف فيها ودام ذلك عليهم أسبوعا.
فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا ونحن نؤمن بك.
فدعا، فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزّرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا.
فبعث اللّه عليهم الجراد، فأكلت زروعهم وثمارهم ثمّ أخذت تأكل الأبواب والسّقوف والثّياب. ففزعوا إليه ثانيا. فدعا، وخرج إلى الصّحراء وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النّواحي الّتي جاءت منها، فلم يؤمنوا.
فسلّط اللّه عليهم القمّل، فأكل ما أبقاه الجراد. وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم، فيمصّها. ففزعوا إليه، فرفع عنهم.
فقالوا: قد تحقّقنا الآن أنّك ساحر.
ثمّ أرسل اللّه عليهم الضّفادع، بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلّا وجدت فيه.
و كانت تمتلى منها مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي، وإلى أفواههم عند التّكلم. ففزعوا إليه وتضرّعوا. فأخذ عليهم العهود، ودعا. فكشف اللّه عنهم. فنقضوا العهود.
ثمّ أرسل اللّه عليهم الدّم، فصارت مياههم دماء . حتّى كان يجتمع القبطيّ مع الإسرائيليّ على إناء، فيكون ما [يلي القبطي] دما وما يلي الإسرائيليّ ماء. ويمصّ الماء من فم الإسرائيليّ، فيصير دما في فيه.
و قيل : سلّط اللّه عليهم الرّعاف.
آياتٍ مُفَصَّلاتٍ: مبيّنات، لا يشكل على عاقل أنّها آيات اللّه ونعمته عليهم، أو منفصلات.
قيل : لامتحان أحوالهم، إذ كان بين كلّ اثنتين منها شهر. وكان امتداد كلّ
واحدة أسبوعا.
و قيل : إنّ موسى لبث فيهم، بعد ما غلب السّحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل.
و الّذي في الخبر الآتي: أنّ المهلة بين أكثر الآيات سنة.
فَاسْتَكْبَرُوا: على الإيمان.
وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قيل : يعني: العذاب المفصّل. أو الطّاعون، أرسله اللّه عليهم بعد ذلك.
و في تفسير العيّاشيّ : عن الرّضا- عليه السّلام-: «الرّجز» هو الثّلج. ثمّ قال:
خراسان بلاد رجز.
و في مجمع البيان : عن الصّادق- عليه السّلام-: أنّه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل ذلك، فماتوا فيه وجزعوا. وأصابهم ما لم يعهدوه قبله.
قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ: بعهدك عندك، وهو النّبوّة أو بالّذي عهده إليك، أن تدعو فيجيبك، كما أجابك لآياتك.
و هو صلة «لادع»، أو حال من الضّمير فيه. بمعنى: ادع اللّه متوسّلا إليه بما عهد عندك.
أو متعلّق بفعل محذوف دلّ عليه التماسهم، مثل أسعفنا إلى ما نطلب منك بحقّ ما عهد عندك.
أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، أي: أقسمنا بعهد اللّه عندك «لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ».
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ، أي: حدّ من الزّمان هم بالغوه، فمعذّبون فيه. أو مهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت.
و قيل : إلى أجل عيّنوه لإيمانهم.إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ : جواب «لما»، أي: فلمّا كشفنا عنهم، فاجئوا النّكث من غير توقّف وتأمّل فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ: فأردنا الانتقام.
فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ: أي: البحر الّذي لا يدرك قعره.
و قيل : لجّة البحر، ومعظم مائه.
و اشتقاقه من التّيمّم، لأنّ المنتفعين به يقصدونه.
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ، أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها، حتّى صاروا كالغافلين عنها.
و قيل : الضّمير للنّقمة، المدلول عليها بقوله: «فانتقمنا».
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، مقطوعا. ونسب حديثه في مجمع البيان إلى الباقر والصّادق- عليهما السّلام- قال: لمّا سجد السّحرة و[من] آمن به [من] النّاس، قال هامان لفرعون: إنّ النّاس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه.
فحبس كلّ من آمن به من بني إسرائيل. فتابع اللّه عليهم بالآيات، وأخذهم بالسّنين ونقص من الثّمرات.
ثمّ بعث عليهم الطّوفان، فخرّب دورهم ومساكنهم حتّى خرجوا إلى البريّة وضربوا الخيام. وامتلأت بيوت القبط ماء، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل الماء قطرة.
و أقام الماء على وجه أرضهم لا يقدروه على أن يحرثوا. [فجاء إليه موسى] .
فقال فرعون لموسى: ادع لنا ربّك، حتّى يكشف عنّا الطّوفان، حتّى أخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك.
فدعا موسى ربّه، فكشف عنهم الطّوفان. وهمّ فرعون أن يخلّي عنبني إسرائيل، فقال له هامان: إن خلّيت عن بني إسرائيل، غلبك موسى وأزال ملكك.
فقبل منه، ولم يخلّ عن بني إسرائيل.
فأنزل اللّه عليهم في السنّة الثّانية الجراد. فجردت كلّ شيء كان لهم من النّبت والشّجر، حتّى كانت تجرد شعر لحيتهم .
فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، وقال: يا موسى، ادع لنا ربّك أن يكشف عنّا الجراد حتّى أخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك.
فدعا موسى ربّه، فكشف عنهم الجراد. فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل.
فأنزل اللّه عليهم في السّنة الثّالثة القمّل. فذهبت زروعهم، فأصابتهم المجاعة.
فقال فرعون لموسى: إن دفعت عنّا القمّل، كففت عن بني إسرائيل.
فدعا موسى ربّه حتّى ذهب عنهم القمّل.
و قال: أوّل ما خلق اللّه القمّل في ذلك الزّمان. فلم يخلّ عن بني إسرائيل.
فأرسل اللّه عليهم بعد ذلك الضّفادع، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم.
و يقال: إنّها تخرج من أدبارهم وآذانهم وأنافهم.
فجزعوا من ذلك جزعا شديدا، فجاءوا إلى موسى فقالوا: ادع اللّه أن يذهب عنّا الضّفادع، فإنّا نؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل.
فدعا موسى ربّه. فرفع اللّه عنهم ذلك.
فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل، حوّل اللّه ماء النّيل دما. فكان القبطيّ يراه دما والإسرائيليّ يراه ماء. فإذا شربه الإسرائيليّ، كان ماء. وإذا شربه القبطيّ، كان دما. فكان القبطيّ يقول للإسرائيليّ: خذ الماء في فمك وصبّه في فمي. [فكان إذا] صبّه في فم القبطيّ، يحوّل دما.
فجزعوا [من ذلك] جزعا شديدا، فقالوا لموسى: لئن رفع [اللّه] عنّا الدّم،لنرسلنّ معك بني إسرائيل.
فلمّا رفع اللّه عنهم الدّم، غدروا ولم يخلّوا عن بني إسرائيل.
فأرسل اللّه عليهم الرّجز، وهو الثّلج، ولم يروه قبل ذلك. فماتوا فيه وجزعوا [جزعا شديدا] ، وأصابهم ما لم يعهدوه قبله.
فقالوا: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ.
فدعا ربه، فكشف عنهم الثّلج، فخلّى عن بني إسرائيل.
فلمّا خلّى عنهم، اجتمعوا إلى موسى- عليه السّلام-. وخرج موسى من مصر، واجتمع إليه من كان هرب من فرعون. وبلغ فرعون ذلك. فقال له هامان: قد نهيتك أن تخلّي بني إسرائيل، فقد اجتمعوا إليه. فجزع فرعون وبعث فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ وخرج في طلب موسى.
وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ، أي: بالاستبعاد وذبح الأبناء من مستضعفيهم.
مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، يعني: أرض الشّام. ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتمكّنوا في نواحيها.
الَّتِي بارَكْنا فِيها: بالخصب وسعة العيش.
وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ: ومضت عليهم، واتّصلت بالإنجاز عدته إيّاهم بالنّصرة والتّمكين. وهو قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ- إلى قوله-: ما كانُوا يَحْذَرُونَ.
و قرئ : «كلمات ربّك» لمتعدّد المواعيد.
بِما صَبَرُوا: بسبب صبرهم على الشّدائد.
وَ دَمَّرْنا: وخرّبنا.ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ: من القصور والعمارات.
وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ : من الجنّات. أو ما كانوا يرفعون من البنيان، كصرح هامان.
و قرأ ابن عامر وأبو بكر، هنا وفي النّحل: «يعرشون» بالضّمّ.
و هذا آخر قصّة فرعون وقومه.
و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعليّ بن محمّد القاسانيّ جميعا، عن القاسم بن محمّد الإصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: يا حفص، إنّه من صبر، صبر قليلا، إلى قوله- عليه السّلام-: ثمّ بشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصّبر، فقال- جل ثناؤه-: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ .
فعند ذلك قال- صلّى اللّه عليه وآله-: الصّبر من الإيمان، كالرّأس من الجسد.
فشكر اللّه- عزّ وجلّ- ذلك له، فأنزل اللّه- عزّ وجلّ-: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ. [فقال- صلّى اللّه عليه وآله-] إنّه بشرى وانتقام.
وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ: هذا وما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشّنيعة، بعد أن منّ اللّه عليهم بالنّعم الجسام وأراهم من الآيات العظام، تسلية لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ممّا رأى منهم بالمدينة، وإيقاظا للمؤمنين حتّى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم.
نقل : أنّ موسى- عليه السّلام- عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه، فصاموه شكرا.
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ: فمرّوا عليهم.
يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ: يقيمون على عبادتها.
قيل : كانت تماثيل بقر، وذلك أوّل شأن العجل. والقوم كانوا من العمالقةالّذين أمر موسى بقتالهم.
و قيل: من لخم.
و قرأ حمزة والكسائي: «يعكفون» بالكسر.
قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً: مثالا نعبده.
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ: يعبدونها.
و «ما» كافّة «للكاف».
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ : وصفهم بالجهل المطلق وأكّده لبعد ما صدر عنهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى، عن العقل.
و في نهج البلاغة : وقال له بعض اليهود: ما دفنتم نبيّكم حتّى اختلفتم فيه.
فقال: نرى إنّما اختلفنا عنه، لا فيه. ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر، حتّى قلتم لنبيّكم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
إِنَّ هؤُلاءِ: إشارة إلى القوم.
مُتَبَّرٌ: مكسّر.
ما هُمْ فِيهِ، يعني: إنّ اللَّه يهدم دينهم الّذي هم عليه، ويحطّم أصنامهم هذه، ويجعلها رضاضا.
وَ باطِلٌ: مضمحلّ.
ما كانُوا يَعْمَلُونَ : من عبادتها، وإن قصدوا بها التّقرّب إلى اللّه- تعالى-.
و إنّما بالغ في هذا الكلام بجعل «هؤلاء» اسم «إنّ»، والإخبار عمّا هم فيه بالتّبار وعمّا فعلوا بالبطلان، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا «لأنّ»، للتّنبيه على أنّ الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأنّ الإحباط الكلّيّ لازب لما مضى عنهم، تنفيرا وتحذيرا عمّا طلبوا.
قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً: أطلب لكم معبودا.
وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ : والحال أنّه خصّكم بنعم لم يعطها غيركم.و فيه تنبيه على سوء مقابلتهم. حيث قابلوا تخصيص اللّه إيّاهم من أمثالهم بما لم يستحقّوه، تفضّلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخسّ شيء من مخلوقاته.