سورة يونس مكّيّة. وهي مائة وتسع آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده: عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين. وكان يوم القيامة من المقرّبين.
و في مجمع البيان : ابيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- قال: من قرأها، اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به، وبعدد من غرق مع فرعون.
الر:
فخّمها ابن كثير ونافع وحفص. وأمالها الباقون، إجراء لألف الرّاء مجرى المنقلبة من الياء.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : هو حرف من حروف الاسم الأعظم المنقطع في القرآن. فإذا ألفّه الرّسول أو الإمام فدعا به، أجيب.
و في تفسير العيّاشي : عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل، مضى بتمامهفي أوّل آل عمران وأوّل الأعراف. وفي آخره: وليس من حروف مقطّعة حرف ينقضي أيّامه، إلّا وقد قام قائم من بني هاشم عند انقضائه.
- إلى قوله-: ثمّ كان بدو خروج الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- «الم [، اللَّه». فلمّا] بلغت مدّته مقدمته، قام قائم ولد العبّاس عند «المص». ويقوم قائمنا عند انقضائها ب «المر» .
فافهم ذلك، وعه، واكتمه.
و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى سفيان بن سعيد الثّوريّ: عن الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه الصّادق- عليه السّلام-: و«الر» معناه: أنا اللَّه الرّؤوف الرّحيم.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ : إشارة إلى ما تضمّنته السّورة، أو القرآن من الآي. والمراد من «الكتاب»: أحدهما. ووصفه بالحكيم، لإشتماله على الحكم، أو لأنّه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ منها.
أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً: استفهام إنكار، للتّعجّب.
و «عجبا» خبر كان، واسمه أَنْ أَوْحَيْنا.
و قرئ ، [بالرفع على أن الأمر] بالعكس. أو على أن «كان» تامّة، و«أن أوحينا» بدل من عجب و«اللّام» للدّلالة على أنّهم جعلوه أعجوبة لهم يوجّهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم.
إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ: من أفناء رجالهم، دون عظيم من عظمائهم.
قيل : كانوا يقولون: العجب أنّ اللَّه لم يجد رسولا يرسله إلى النّاس إلّا يتيم أبي طالب. وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنّبوّة. هذا وإنّه- صلّى اللَّه عليه وآله- لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلّا في المال وخفّة الحال أعون شيء في هذا الباب . ولذلك كان أكثر الأنبياء- عليهمالسّلام- قبله كذلك.
و قيل : تعجّبوا من أنّه بعث بشرا رسولا، كما سبق ذكره في سورة الأنعام.
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ.
«أن» هي المفسّرة. أو المخفّفة من الثّقيلة، فتكون في موضع مفعول «أوحينا».
وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا: عمّم الإنذار، إذ قلّما أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه. وخصّص البشارة بالمؤمنين، إذ ليس للكفّار ما يصحّ أن يبشّروا به.
أَنَّ لَهُمْ: بأنّ لهم.
قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ: سابقة ومنزلة رفيعة. سمّيت: قدما، لأنّ السّبق بها، كما سمّيت النّعمة: يدا، لأنّها تعطى باليد. وإضافتها إلى الصّدق، لتحقّقها والتّنبيه على أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول والنّيّة.
و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلى بن محمّد، عن محمّد بن جمهور، عن يونس قال: أخبرني من رفعه إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: وَبَشِّرِ الَّذِينَ- إلى قوله- عِنْدَ رَبِّهِمْ.
قال: ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام-.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله: قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
قال: هو رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- مثله سواء.
و في مجمع البيان : أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. قيل: إنّ معنى قَدَمَ صِدْقٍ: شفاعة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله-. وهو المرويّ عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-.
و قيل : هو تقديم اللَّه إيّاهم في البعث يوم القيامة.أقول: ما روي من أنّها ولاية أمير المؤمنين، أو هو رسول اللَّه، أو شفاعة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله-، أو قيل: هو تقديم اللَّه إيّاهم في البعث يوم القيامّة، مرجعه إلى شيء واحد. فإنّ شفاعة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- لمن له الولاية، ومن له الولاية هو الّذي يقدّمه اللَّه في البعث.
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا، يعنون: الكتاب وما جاء به رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.
لَساحِرٌ مُبِينٌ .
و قرأ ابن كثير والكوفيّون: «لساحر»، على أنّ الإشارة إلى الرّسول. وفيه اعتراف بأنّهم صادفوا من الرّسول أمورا خارقة للعادة، معجزة إيّاهم عن المعارضة.
و قرئ : «ما هذا إلّا سحر مبين».
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الّتي هي أصول الممكنات.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: يقدّر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته، ويهيّء بتحريكه أسبابها وينزلها منه.
و «التّدبير» النّظر في أدبار الأمور، لتجيء محمودة العاقبة.
و في تفسير العيّاشي : عن الصّباح بن سيابة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:
إنّ اللَّه خلق السّنة اثني عشر شهرا، وهو ثلاثمائة وستّون يوما، فحجز منها ستّة أيّام خلق فيها السّموات والأرض. في ستّة أيّام فمن ثمّ تقاصرت الشّهور.
عن أبي جعفر ، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال إنّ اللَّه خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام، فالسّنة تنقص ستّة أيّام.
عن جابر ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- صلوات اللَّه وسلامه عليه-: إنّ اللَّه- جلّ ذكره وتقدّست أسماؤه- خلق الأرض قبل السّماء، ثمّ استوى على العرش لتدبير الأمور.و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل.
و فيه قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
يقول: على الملك احتوى.
و فيه ، خطبة- أيضا- للرّضا- عليه السّلام-. وفيها: مدبّر لا بحركة.
و بإسناده إلى أنس: عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-، عن جبرئيل- عليه السّلام-، عن اللَّه- تعالى- حديث طويل. وفيه: وأنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفه عنه، لئلّا يدخله العجب فيفسده ذلك. وأنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر، ولو أغنيته لأفسده . وأنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك. وأنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه [إلّا بالسّقم، ولو صححت جسمه لأفسده ذلك. وأنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه] إلا بالصّحّة، ولو أسقمته لأفسده ذلك. إنّي أدبّر من عبادي لعلمي بقلوبهم، فإنّي عليم خبير.
ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: تقرير لعظمته وعزّ جلاله، وردّ على من زعم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند اللَّه. وفيه إثبات الشّفاعة لمن إذنه له.
ذلِكُمُ اللَّهُ، أي: الموصوف بتلك الصّفات المقتضية للألوهيّة والرّبوبيّة.
رَبَّكُمُ: لا غير. إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
فَاعْبُدُوهُ: وحّدوه بالعبادة.
أَ فَلا تَذَكَّرُونَ : تتفكّرون أدنى تفكّر، فينبّهكم على أنّه المستحقّ للرّبوبيّة والعبادة، لا ما تعبدونه.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً: بالموت أو النّشور، لا إلى غيره، فاستعدّوا للقائه.
وَعْدَ اللَّهِ: مصدر مؤكّد لنفسه. لأنّ قوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» وعد من اللَّه.
حَقًّا: مصدر آخر مؤكّد لغيره، وهو ما دلّ عليه «وعد اللَّه».
إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ: بعد بدئه وإهلاكه.لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، أي، بعدله.
أو بعدالتهم، وقيامهم على العدل في أمورهم.
أو بإيمانهم، لأنّه العدل القويم، كما أنّ الشّرك ظلم عظيم. وهو الأوجه، لمقابلة قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ : فإنّ معناه: ليجزي الّذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم. لكنّه غير النّظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، والتّنبيه على أنّ المقصود بالذّات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعقاب واقع بالعرض. وأنّه- تعالى- يتولّى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ولذلك لم يعيّنه، وأمّا عقاب الكفره فكأنّه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم.
و الآية كالتّعليل لقوله: «مرجعكم جميعا». فإنّه لمّا كان المقصود من الإعادة مجازاة اللَّه المكلّفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة. ويؤيّده قراءة من قرأ:
«أنّه يبدأ» بالفتح، أي: لأنّه. ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا بما نصب «وعد اللَّه» حقّاً».
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، أي: ذات ضياء. وهو مصدر، كقيام. أو جمع ضوء، كسياط وسوط. والياء فيه منقلبة عن الواو.
و عن ابن كثير برواية قنبل: «ضئاءا» بهمزتين في كلّ القرآن، على القلب بتقديم اللّام على العين.
وَ الْقَمَرَ نُوراً، أي: ذات نور. وسمّي «نورا» للمبالغة. وهو أعمّ من الضّوء، كما عرفت.
و قيل : ما بالذّات ضوء ، وما بالعرض نور.
و قد نبّه- سبحانه- بذلك على أنّه خلق الشّمس نيّرة بذاتها والقمر نيّرا بعرض، مقابلة الشّمس والاكتساب منها.
و في روضة الكافي : عليّ بن محمّد، عن عليّ بن العبّاس، عن عليّ بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: فضرب [اللَّه] مثلمحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- الشّمس، ومثل الوصي القمر. وهو قول اللَّه- عزّ وجلّ-:
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و في كتاب التّوحيد : حدّثنا محمّد [بن] موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفيّ، عن موسى بن عمران النّخعيّ، عن عمّه، الحسين بن يزيد، عن إسماعيل بن مسلم قال: حدّثنا أبو نعيم البلخيّ، عن مقاتل بن حيان ، عن عبد الرّحمن بن ذرّ ، عن أبي ذرّ الغفاريّ- رحمه اللَّه- قال: كنت آخذا بيد النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- ونحن نتماشى جميعا، فما زلنا ننظر إلى الشّمس حتّى غابت.
فقلت: يا رسول اللَّه، أين تغيب؟
قال: في السّماء. ثمّ ترفع من السّماء السّابعة حتّى تكون تحت العرش، فتخرّ ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكّلون بها. ثمّ تقول: يا ربّ، من أين تأمرين أن أطلع، أمن مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، يعني بذلك: صنع الرّبّ العزيز في ملكه [العليم] بخلقه.
قال: فيأتيها جبرئيل- عليه السّلام- بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النّهار في طوله في الصّيف وفي قصره في الشّتاء، أو ما بين ذلك في الخريف والرّبيع.
قال: فتلبس تلك الحلّة، كما يلبس أحدكم ثيابه، ثمّ تنطلق بها في جوّ السّماء حتّى تطلع من مطلعها.
قال النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: فكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ثمّ لا تكسى ضوءا، وتؤمر أن تطلع من مغربها . فذلك قوله- عزّ وجلّ-: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. والقمر كذلك مطلعه ومجراه في أفق السّماء ومغربهو ارتفاعه إلى السّماء السّابعة، ويسجد تحت العرش. ثمّ يأتيه جبرئيل- عليه السّلام- بالحلّة من نور الكرسيّ، فذلك قوله- عزّ وجلّ-: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً.
وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ:
الضّمير لكلّ واحد، أي: قدّر مسير كلّ واحد منهما منازل، أو قدّره ذا منازل، أو للقمر.
و تخصيصه بالذّكر لسرعة سيره ومعاينة منازله وإناطة أحكام الشّرع به، ولذلك علّله بقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ: حساب الأوقات من الأشهر والأيّام في معاملاتكم وتصرّفاتكم.
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ: إلا ملتبسا بالحقّ، مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة.
يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ : فإنّهم المنتفعون بالتّأمّل فيها.
و قرأ ابن كثير والبصريّان وحفص: «يفصّل» بالياء.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: من أنواع الكائنات.
لَآياتٍ: على وجود الصّانع ووحدته وكمال علمه وقدرته.
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ : العواقب. فإنّه يحملهم على التّدبّر والتّفكر.
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: لا يتوقّعونه، لإنكارهم بالبعث وذهولهم بالمحسوسات عمّا وراءها.
وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا: من الآخرة، لغفلتهم عنها.
وَ اطْمَأَنُّوا بِها: وسكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها.
وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ : لا يتفكّرون فيها، لانهماكهم فيما يضادّها.
و العطف، إمّا لتغاير الوصفين والتّنبيه على أنّ الوعيد على الجمع بين الذّهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشّهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا. وإمّا لتغايرالفريقين.
و المراد بالأوّلين: من أنكر البعث، ولم ير إلّا الحياة الدّنيا. وبالآخرين: من ألهاه حبّ العاجل عن التّأمّل في الآجل والإعداد له.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: «الآيات» أمير المؤمنين والأئمّة- عليهم السّلام-. والدّليل على ذلك
قول أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ما للّه آية أكبر منّي.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ : بما واطبوا عليه وتمرّنوا به من المعاصي.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ: بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدّي إلى الجنّة. أو لإدراك الحقائق، كما
قال- عليه السّلام-: من عمل بما علم، ورثه اللَّه علم ما لم يعلم. أو لما يريدونه في الجنّة.
و مفهوم التّرتيب وإن دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصّالح، لكن دلّ منطوق قوله: «بإيمانهم» على استقلال الإيمان بالسّببيّة، وأنّ العمل، كالتّتمّة والرّديف له.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ: استئناف. أو خبر ثان. أو حال من الضّمير المنصوب على المعنى الأخير. وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ : خبر. أو حال أخرى منه، أو من «الأنهار». أو متعلّق «بتجري»، أو «بيهدي».
و في كتاب التّوحيد : حدّثني عليّ بن عبد اللَّه الورّاق ومحمد بن أحمد السّنانيّ وعليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق- رضي اللَّه عنه- قالوا: حدّثنا أبو العبّاس، أحمد بن يحيى بن زكريّا القطّان قال: حدّثنا بكر بن عبد اللَّه بن حبيب قال: حدّثنا تميم بن بهلول، عن أبيه [عن] ، جعفر بن سليمان البصريّ ، عن عبد اللَّه بن الفضل الهاشميّ قال: سألت أبا عبد اللَّه، جعفر بن محمّد- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً.فقال: إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- يضلّ الظّالمين يوم القيامة عن دار كرامته، ويهدي أهل الإيمان والعمل الصّالح إلى جنّته، كما قال: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ. وقال- عزّ وجلّ-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله- فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
دَعْواهُمْ فِيها، أي: دعاؤهم.
سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ: الَّلهمّ، إنّا نسبّحك تسبيحا.
وَ تَحِيَّتُهُمْ: ما يحيّي بعضهم بعضا. أو تحية الملائكة إيّاهم.
فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ: وآخر دعائهم.
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ : أي أن يقولوا ذلك.
و لعلّ المعنى: أنّهم إذا دخلوا الجنّة وعاينوا عظمة اللَّه وكبرياءه، مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال. ثمّ حيّاهم الملائكة بالسّلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو اللَّه- تعالى- فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الكرام.
و «أن» هي المخفّفة من الثّقيلة. وقد قرئ بها، وبنصب الحمد.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى الحسن بن عبد اللَّه: عن آبائه، عن جدّه، الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-، عن النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله- حديث طويل في تفسير: سبحان اللَّه، والحمد للّه، ولا إله إلّا اللَّه، واللَّه أكبر.
و في آخره قال- صلّى اللَّه عليه وآله-: وإذا قال: الحمد للّه، أنعم اللَّه عليه نعم الدّنيا موصولا بنعم الآخرة. وهو الكلمة الّتي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها. وينقطع الكلام الّذي يقولونه في الدّنيا ما خلا «الحمد [للّه] وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-:
دَعْواهُمْ- إلى قوله- أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
و في تفسير العيّاشي : عن زيد الشّحّام، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:
سألته عن التّسبيح.
فقال: هو اسم من أسماء اللَّه، ودعوى أهل الجنّة.
و في روضة الكافي ، بإسناده إلى أبي حمزة الثّماليّ: عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- وقد ذكر الشّيعة وقربهم من اللَّه
- عزّ وجلّ-: أنتم أهل تحيّة اللَّه بسلامه.
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمّد بن إسحاق المدنيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سئل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-. ونقل عنه حديثا طويلا. يقول فيه حاكيا حال أهل الجنّة: وإذا أراد المؤمن شيئا [أو اشتهى] ، إنّما دعواه فيها إذا أراد، أن يقول: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. فإذا قالها، تبادرت إليه الخدم بما اشتهى من غير أن يكون طلبه منهم أو أمر به. وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، يعني: الخدّام.
قال: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يعني بذلك: عند ما يقضون من لذّاتهم من الجماع والطّعام والشّراب، يحمدون اللَّه- عزّ وجلّ- عند فراغهم.
و فيها خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- مسندة. وفي آخرها: والجنّة لأهلها مأوى، دعواهم فيها أحسن الدّعاء سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ دعاؤهم المولى على ما آتاهم.
وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
و في مصباح الشّريعة : وقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ أطيب شيء في الجنّة وألذّه حبّ اللَّه والحبّ في اللَّه والحمد للّه. قال اللَّه- عزّ وجلّ-: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وذلك أنّهم إذا عاينوا لما في الجنّة من النّعيم، هاجت المحبّة في قلوبهم. فينادون عند ذلك: الحمد للّه ربّ العالمين.
و في مجمع البيان : وقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: إنّ اللَّه- تعالى- منّ عليّ بفاتحة الكتاب- إلى قوله-: والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ دعوى أهل الجنّة حين شكروا منه حسن الثّواب.
وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ: ولو يسرع إليهم.
اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ.
قيل : وضع موضع تعجيلهم لهم بالخير، إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير، حتّىكأنّ استعجالهم به تعجيله لهم. أو بأنّ المراد: شر استعجلوه، كقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. وتقدير الكلام: ولو يعجّل اللَّه للنّاس الشّرّ تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا، كاستعجالهم بالخير. فحذف منه ما حذف، لدلالة الباقي عليه.
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ: لأميتوا واهلكوا.
و قرأ ابن عامر ويعقوب: «لقضي» على البناء للفاعل، وهو اللَّه- تعالى-.
و قرئ : «لقضينا».
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: لو عجّل اللَّه الشّرّ، كما يستعجلون الخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، أي: فرغ من أجلهم.
فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ : عطف على فعل محذوف دلّت عليه الشّرطيّة، كأنّه قيل: ولكن لا نعجّل ولا نقضي، فنذرهم إمهالا لهم واستدراجا.
وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا: لإزالته مخلصا فيه.
لِجَنْبِهِ: ملقى لجنبه، أي: مضطجعا.
أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً.
و فائدة التّرديد تعميم الدّعاء لجميع الأحوال، أو الأصناف المضارّ.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ: مضى على طريقه واستمرّ على كفره. أو مرّ عن موقف الدّعاء لا يرجع إليه.
كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا»، كأنّه لم يدعنا. فخفّف وحذف ضمير الشّأن، كما قال:
و نحر مشرق اللّون كانّ ثدياه حقّان.
إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ: إلى كشف ضرّ.
كَذلِكَ، أي: مثل ذلك التّزيين.
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ : من الانهماك في الشّهوات والإعراض عن العبادات.
وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ: يا أهل مكّة.لَمَّا ظَلَمُوا: حين ظلموا بالتّكذيب.
وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالحجج الدّالة على صدقهم. وهو حال من الواو بإضمار «قد»، أو عطف على «ظلموا».
وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا: وما استقام لهم أن يؤمنوا، لفساد استعدادهم وخذلان اللَّه لهم وعلمه بأنّهم يموتون على كفرهم.
و «اللّام» لتأكيد النّفي.
كَذلِكَ، مثل ذلك الجزاء. وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرّسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقّق أنّه لا فائدة في إمهالهم.
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ : كلّ مجرم، أو مجزيكم. فوضع المظهر موضع المضمر، للدّلالة على كمال جرمهم وأنّهم أعلام فيه.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ: استخلفناكم فيها بعد القرون الّتي أهلكناها استخلاف من يختبر.
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ : أ تعملون خيرا أو شرّا، فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
و «كيف» معمول «تعملون» فإنّ معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله. وفائدته الدّلالة على أنّ المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفيّاتها، لا هي من حديث ذاتها، ولذلك يحسن الفعل تارة ويقبح أخرى. وفيه دلالة على أنّ للفعل جهة محسّنة وجهة مقبّحة يؤمر به أو ينهى عنه لها.
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا، يعني:
المشركين.
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا: بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والثّواب والعقاب بعد الموت، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا.
أَوْ بَدِّلْهُ: بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى. ولعلّهم سألوا ذلك، كي يسعفهم إليه فيلزموه.
قُلْ ما يَكُونُ لِي: ما يصحّ لي.
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي: من قبل نفسي. وهو مصدر استعمل ظرفا. وإنّما اكتفى بالجواب عن التّبديل، لإستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر.
و في تفسير العيّاشي : عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللَّه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ- إلى قوله- مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي: قالوا: بدّل مكان عليّ- عليه السّلام- أبو بكر أو عمر، اتّبعناه.
و في أصول الكافيّ : عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن الحسين، عن عمر بن يزيد، عن محمّد بن جمهور، عن محمّد بن سنان، عن مفضّل بن عمر قال:
سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه- تعالى-: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ.
قال: قالوا: أو بدّل عليّا.
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي السّفاتج، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله اللَّه- عزّ وجلّ-: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، يعني: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- صلوات اللَّه عليه-.
و قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لما يكون، فإنّ المتّبع لغيره في أمر لا يستبدّ بالتّصرّف فيه بوجه، وجواب للنّقض بنسخ بعض الآيات ببعض، وردّ لما عرّضوا له بهذا السّؤال من أنّ القرآن كلامه واختراعه. ولذلك قيّد التّبديل في الجواب وسمّاه عصيانا، فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، أي: بالتّبديل.
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ : وفيه إيماء بأنّهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
و في تفسير العيّاشي : عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:
ما ترك رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله -: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ حتّى نزلت سورة الفتح، فلم يعد إلى ذلك الكلام.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ: غير ذلك.
ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ: ولا أعلمكم به على لساني.و عن ابن كثير : «و لأدراكم» بلام التّأكيد، أي: لو شاء اللَّه ما تلوته عليكم، ولأعلمكم به على لسان غيري. والمعنى: أنّه الحقّ الّذي لا محيص عنه، لو لم أرسل به لأرسل به غيري.
و قرئ : «و لا أدرأتكم» بالهمزة فيهما، على لغة من يقلب المبدّلة من الياء همزة. أو على أنّه من الدّرء، بمعنى: الدّفع، أي: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال. والمعنى: أنّ الأمر بمشيئة اللَّه لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه. ثمّ قرّر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً: مقدار عمر أربعين سنة.
مِنْ قَبْلِهِ: من قبل القرآن، لا أتلوه ولا أعلمه. فإنّه إشارة إلى أنّ القرآن معجز خارق للعادة. فإنّ من عاش بين أظهرهم أربعين سنة، ولم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشئ قريضا ولا خطبة، ثمّ قرأ عليهم كتابا بزّت فصاحته كلّ منطيق وعلا كلّ منثور ومنظوم واحتوى على قواعد علمي الأصول والفروع وأعرب عن أقاصيص الأوّلين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، علم أنّه معلّم من اللَّه.
أَ فَلا تَعْقِلُونَ »، أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتّدبّر والتّفكّر، لتعلموا أنّه ليس إلّا من اللَّه.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً: تفاد ممّا أضافوه إليه كناية أو تظليم للمشركين بافترائهم على اللَّه في قولهم: إنّه لذو شريك وذو ولد.
أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ: فكفر بها.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ: لأنّه جماد لا يقدر على نفع ولا ضرّ. والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا، حتّى يعود عليه بجلب نفع أو دفع ضرر.
وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ: الأوثان.
شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ: تشفع لنا فيما يهمّنا من أمر الدّنيا أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنّهم كانوا شاكّين فيه.
و هذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضّار النّافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنّه لا يضرّ ولا ينفع، على توهّم أنّه ربّما يشفع لهم عنده.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ- إلى قوله- عِنْدَ اللَّهِ.
قال: كانت قريش يعبدون الأصنام، ويقولون: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى اللَّه زلفى، فإنّا لا نقدر على عبادة اللَّه.
فردّ اللَّه عليهم، فقال: قل لهم، يا محمّد: أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ، أي:
ليس. فوضع حرفا مكان حرف، أي: ليس له شريك يعبد.
و في تفسير العيّاشي : عن الزّهريّ قال: أتى رجل أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- فسأله عن شيء، فلم يجبه.
فقال له الرّجل: فإن كنت ابن أبيك، فأنت من أبناء عبدة الأصنام.
فقال له: كذبت. إنّ اللَّه أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكّة، ففعل. فقال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما قطّ، لكنّ العرب عبدة الأصنام. وقالت بنو إسماعيل: «هؤلاء شفعاؤنا [عند اللَّه] » وكفرت ولم تعبد الأصنام.
قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ: أ تخبرونه.
بِما لا يَعْلَمُ: وهو أنّ له شريكا، وفيه تقريع وتهكّم بهم. أو هؤلاء شفعاؤنا عنده. وما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات، لا يكون له تحقّق ما.
فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ: حال من العائد المحذوف، مؤكّدة للنّفي، منبّهه على أنّ ما يعبدونه من اللَّه إمّا سماويّ أو أرضيّ. ولا شيء من الموجودات فيهما إلّا وهو حادث مقهور مثلهم، لا يليق أن يشرك به.
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ : عن إشراكهم، أو عن الشّركاء الّذين يشركونهم به.
و قرأ حمزة والكسائيّ هنا وفي الموضعين في أوّل النّحل والرّوم، بالتاء.
وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً، يعني: قبل بعث نوح- عليه السّلام- كانواعلى الفطرة لا مهتدين ولا ضلّالا، كما مضي بيانه.
فَاخْتَلَفُوا: باتّباع الهوى والأباطيل أو ببعثة الرّسل، فتبعتهم طائفة وأصرّت أخرى.
وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ: بتأخير الحكم بينهم. أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنّه يوم الفصل والجزاء.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: عاجلا.
فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : بإهلاك المبطل وإبقاء المحقّ. ولكنّ الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدّار للتّكليف والاجتناب، وتلك للثّواب والعقاب.
وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ: أي: من الآيات الّتي اقترحوها.
فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ: هو المختصّ بعلمه. فلعلّه يعلم في إنزال الآيات المقترحة مفاسد تصرف عن إنزالها.
فَانْتَظِرُوا: لنزول ما اقترحتموه.
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ : لما يفعل اللَّه بكم، بجحودكم ما نزل من الآيات العظام واقتراحكم غيره.
و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: سألته عن شيء من الفرج.
قال: أليس انتظار الفرج من الفرج . إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- قال : فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
و بإسناده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قال الرّضا- عليه السّلام-:
ما أحسن الصّبر وانتظار الفرج. أما سمعت قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. وقوله- عزّ وجلّ-: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. فعليكم بالصّبر، فإنّه إنّما يجيء الفرج على اليأس. فقد كان الّذي من قبلكم أصبر منكم.