يا صاحِبَيِ السِّجْنِ، أي: يا ساكنيه. أو: يا صاحبي فيه. فأضافهما إليه على الاتّساع، كقوله:
يا سارق اللّيلة أهل الدّار
أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ، أي: شتّى متعدّدة متساوية الأقدام أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ: المتوحّد في الألوهيّة الْقَهَّارُ : الغالب الّذي لا يعادله ولا يقاومه غيره.ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ:
خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر.
إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ: إلّا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها، من غير حجّة تدلّ على تحقّق مسمّياتها فيها. فكأنّكم لا تعبدون إلّا الأسماء المجرّدة. والمعنى: أنّكم سمّيتم ما لم يدلّ على استحقاقه الألوهيّة عقل ولا نقل آلهة، ثمّ أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها.
إِنِ الْحُكْمُ في أمر العبادة إِلَّا لِلَّهِ:
لأنّه المستحقّ لها بالذّات، من حيث إنّه الواجب لذاته الموجد للكلّ والمالك لأمره.
أَمَرَ على لسان نبيّه أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ: الّذي دلّت عليه الحجج.
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ: الحقّ، وأنتم لا تميّزون المعوجّ من القويم.
و هذا من التّدرّج في الدّعوة وإلزام الحجّة. بيّن لهم أوّلا رجحان التّوحيد على اتّخاذ الآلهة، على طريق الخطابة. ثمّ برهن على أنّ ما يسمّونها آلهة ويعبدونها، لا تستحقّ الإلهيّة. فإنّ استحقاق العبادة إمّا بالذّات، وإمّا بالغير، وكلا القسمين منتف عنها. ثمّ نصّ على ما هو الحقّ القويم والدّين المستقيم الّذي لا يقتضي العقل غيره، ولا يرتضي العلم دونه.
وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيخبطون في جهالاتهم.
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما، يعني: صاحب الشّراب.
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً، كما كان يسقيه قبل، ويعود إلى ما كان عليه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال له يوسف: تخرج [من السّجن] وتصير على شراب الملك، وترتفع منزلتك عنده.
و في مجمع البيان : أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً (الآية). فروي أنّه قال: أمّا العناقيد الثّلاثة ، فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السّجن. ثمّ يخرجك الملك اليوم الرّابع، وتعودإلى ما كنت عليه.
وَ أَمَّا الْآخَرُ- يريد الخبّاز- فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ:
في تفسير عليّ بن إبراهيم : ولم يكن رأى ذلك وكذب. فقال له يوسف: أنت يقتلك الملك، ويصلبك، وتأكل الطّير من دماغك. فجحد الرّجل فقال: إنّي لم أر ذلك.
فقال يوسف:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ :
أي: قطع الأمر الّذي تستفتيان فيه، وهو ما يؤول إليه أمركما. ولذلك وحّده، فإنّهما، وإن استفتيا في الأمرين، لكنّهما أرادا استبانة غاية ما نزل بهما.
وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ: اذكر حالي عند الملك، كي يخلّصني.
فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ:
قيل : فأنسى صاحب الشّراب أن يذكره لربّه. فأضاف إليه المصدر، لملابسته له. أو: أنسى يوسف ذكر اللَّه، حتّى استعان بغيره. ويؤيّده
قوله- عليه السّلام-: رحم اللَّه أخي يوسف! لو لم يقل: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، لما لبث في السّجن سبعا بعد الخمس.
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ :
البضع ما بين الثّلاث إلى التّسع. من البضع، وهو: القطع.
و في تفسير العيّاشيّ ، عن الصادق- عليه السّلام- قال: سبع سنين.
و فيه : وفي رواية عليّ بن إبراهيم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا أمر الملك بحبس يوسف- إلى قوله:- ثمّ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ.
قال: ولم يفزع يوسف في حاله إلى اللَّه فيدعوه. فلذلك قال اللَّه: فَأَنْساهُ- إلى قوله:- سِنِينَ. قال: فأوحى اللَّه إلى يوسف في ساعته تلك:يا يوسف! من أراك الرّؤيا الّتي رأيتها !؟ فقال: أنت يا ربّي.
قال: فمن حبّبك إلى أبيك!؟ قال: أنت يا ربّي.
قال: فمّن وجّه السّيّارة إليك!؟ قال: أنت يا ربّي.
قال: فمن علّمك الدّعاء الّذي دعوت به، حتّى جعل لك من الجبّ فرجا!؟
قال: أنت يا ربّي.
قال: فمن جعل لك من كيد المرأة مخرجا!؟ قال: أنت يا ربّي.
قال: فمن أنطق لسان الصّبيّ بعذرك!؟ قال: أنت يا ربّي.
قال: فمن صرف كيد امرأة العزيز والنّسوة!؟ قال: أنت يا ربّي.
قال: فمن ألهمك تأويل الرّؤيا!؟ قال: أنت يا ربّي .
قال: فكيف استغثت بغيري، ولم تستغث بي!؟ ولم تسألني أن أخرجك من السّجن، واستغثت وأملت عبدا من عبادي، ليذكرك إلى مخلوق من خلقي في قبضتي، ولم تفزع إليّ! البث في السّجن بذنبك بضع سنين، بإرسالك عبدا إلى عبد.
عن يعقوب بن شعيب ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال اللَّه ليوسف:
أ لست [الّذي] حبّبتك إلى أبيك، وفضّلتك على النّاس بالحسن!؟ أو لست الّذي بعثت إليك السّيّارة، وأنقذتك وأخرجتك من الجبّ!؟ أو لست الّذي صرفت عنك كيد النّسوة!؟ فما حملك على أن ترفع رغبتك عنّي ، أو تدعو مخلوقا دوني!؟ فالبث لما قلت في السّجن بضع سنين.
عن عبد اللَّه بن عبد الرّحمن ، عمّن ذكره عنه قال: قال: لمّا قال للفتى:
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، أتاه جبرئيل. فضربه برجله، حتّى كشط له عن الأرض السّابعة.
قال له: يا يوسف، انظر! ما ذا ترى؟ فقال: أرى حجرا صغيرا. ففلق الحجر فقال: ما ذاترى؟ قال: أرى دودة صغيرة. قال: فمن رازقها؟ قال: ربّي.
قال: فإنّ ربّك يقول: لم أنس هذه الدّودة في ذلك الحجر في قعر الأرض السّابعة، أظننت أنّي أنساك، حتّى تقول للفتى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ!؟ لتلبثنّ في السّجن بمقالتك هذه بضع سنين.
قال: فبكى يوسف عند ذلك، حتّى بكى لبكائه الحيطان. قال : فتأذّى به أهل السّجن. فصالحهم على أن يبكي يوما، ويسكت يوما. فكان في اليوم الّذي يسكت أسوأ حالا.
و في مجمع البيان : وقد روي عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّه قال: عجبت من أخي يوسف، كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق!
و روي أنّه قال: لو لا كلمته، ما لبث في السّجن طول ما لبث.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أخبرنا الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن إسماعيل بن عمر، عن شعيب العقرقوفيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:
إنّ يوسف أتاه جبرئيل- عليه السّلام- فقال له: يا يوسف! إنّ ربّ العالمين يقرئك السّلام ويقول لك: من جعلك [أحسن خلقه!؟ قال: فصاح ووضع خدّه على الأرض.
ثمّ قال: أنت يا ربّ.
ثمّ قال له: ويقول لك: من حبّبك] إلى أبيك دون إخوتك!؟ قال: فصاح ووضع خدّه على الأرض، وقال: أنت يا ربّ.
قال: ويقول لك من أخرجك من الجبّ، بعد أن طرحت فيها وأيقنت بالهلكة!؟
قال: فصاح ووضع خدّه على الأرض. ثمّ قال: أنت يا ربّ.
قال: فإنّ ربّك قد جعل لك عقوبة في استغاثتك بغيره. فالبث» في السّجن بضع سنين.
قال: فلمّا انقضت المدّة، وأذن اللَّه له في دعاء الفرج، وضع خدّه علىالأرض. ثمّ قال: «اللّهمّ، إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك، فإنّي أتوجّه إليك بوجه آبائي الصّالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب». ففرّج اللَّه عنه.
قلت: جعلت فداك، أ ندعوا نحن بهذا الدّعاء؟ فقال: ادع بمثله: «اللّهمّ، إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك، فإنّي أتوجّه إليك بنبيّك، نبيّ الرّحمة، محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة- عليهم السّلام-».
و فيه : قال: ولمّا أمر الملك بحبس يوسف في السّجن، ألهمه اللَّه تأويل الرّويا، [فكان] يعبّر لأهل السّجن. فلمّا سألاه الفتيان الرّؤيا، وعبّر لهما وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ولم يفزع في تلك الحالة إلى اللَّه، فأوحى اللَّه إليه: من أراك الرّؤيا الّتي رأيتها!؟ فقال يوسف: أنت يا ربّ.
قال: فمن حبّبك إلى أبيك!؟ قال: أنت يا ربّ.
قال: فمن وجّه إليك السّيّارة الّتي رأيتها!؟ فقال: أنت يا ربّ.
قال: فمن علّمك الدّعاء الّذي دعوت به، حتّى جعلت لك من الجبّ فرجا!؟
قال: أنت يا ربّ.
قال: فمن أنطق لسان الصّبيّ بعذرك؟ قال: أنت يا ربّ.
قال: فمن ألهمك تأويل الرّؤيا!؟ قال: أنت يا ربّ.
قال: فكيف استعنت بغيري، ولم تستعن بي!؟ وأملت عبدا من عبيدي، ليذكرك إلى مخلوق من خلقي وفي قبضتي، ولم تفزع إليّ! البث في السّجن بضع سنين.
فقال يوسف: أسألك بحقّ آبائي [و أجدادي] عليك، إلّا فرّجت عنّي. فأوحى اللَّه إليه: يا يوسف! وأيّ حقّ لآبائك وأجدادك عليّ!؟
إن كان أبوك آدم، خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي. وأسكنته جنّتي، وأمرته أن لا يقرب شجرة منها. فعصاني. فسألني، فتبت عليه.
و إن كان أبوك نوح، انتجبته من بين خلقي، وجعلته رسولا إليهم. فلمّا عصوا، دعاني. فاستجبت له، وغرّقتهم . وأنجيته ومن معه في الفلك.و إن كان أبوك إبراهيم، اتّخذته خليلا. وأنجيته من النّار، وجعلتها عليه بردا وسلاما.
و إن كان أبوك يعقوب، وهبت له اثني عشر ولدا. فغيّبت عنه واحدا. فما زال يبكي، حتّى ذهب بصره. وقعد إلى الطّريق يشكوني إلى خلقي. فأيّ حقّ لآبائك [و أجدادك] عليّ!؟
قال: فقال له جبرئيل: قل يا يوسف: «أسألك بمنّك العظيم وإحسانك القديم». فقالها. فرأى الملك الرّؤيا، وكان فرجه فيها.
وَ قالَ الْمَلِكُ:
في مجمع البيان : هو الوليد بن ريّان، والعزيز وزيره فيما رواه الأكثرون.
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ وسبع بقرات مهازيل. فابتلع المهازيل السّمان.
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبّها.
و في مجمع البيان : [عن] جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- أنّه قرأ: «و سبع سنابل».
و في تفسير العيّاشيّ ، عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقرأ: «سبع سنابل خضر ».
وَ أُخَرَ يابِساتٍ: وسبع أخر يابسات قد أدركت. فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها.
و إنّما استغنى عن بيان حالها، بما قصّ من حال البقرات.
و أجرى السّمان على المميّز دون المميّز، لأنّ التّمييز بها. ووصف السّبع الثاني بالعجاف لتعذّر التّمييز بها، مجرّدا عن الموصوف، فإنّه لبيان الجنس. وقياسه: «عجف» لأنّه جمع عجفاء، لكنّه حملت على «سمان» لأنّه نقيضه.يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ: عبّروها.
إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ :
إن كنتم عالمين بعبارة الرّؤيا. فهي الانتقال من الصّور الخياليّة إلى المعاني النّفسانيّة الّتي هي مثالها. من العبور، وهو: المجاوزة. وعبرت الرّؤيا عبارة أثبت من عبّرتها تعبيرا.
و اللّام للبيان. أو لتقوية العامل. فإنّ الفعل لمّا تأخّر عن مفعوله، ضعف، فقوي باللّام، كاسم الفاعل. أو لتضمّن «تعبرون» معنى فعل يعدّى باللّام. كأنّه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرّؤيا.
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ:
أي: هذه أضغاث أحلام. وهي تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من وسوسة وحديث نفس. جمع ضغث، وأصله: ما جمع من أخلاط النّبات وحزم، فاستعير للرّؤيا الكاذبة.
و إنّما جمعوا، للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان- كقولهم: فلان يركب الخيل- أو لتضمّنه أشياء مختلفة .
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: الرّؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من اللَّه للمؤمن، وتحذير من الشّيطان، وأضغاث أحلام.
و في أمالي الصّدوق ، بإسناده إلى النّوفليّ قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: الرّجل يرى الرّؤيا، فتكون كما رآها . وربّما رأى الرّؤيا، فلا تكون شيئا.
فقال:
إنّ المؤمن إذا نام، خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السّماء. فكلما رآه المؤمن في ملكوت السّماوات، في موضع التّقدير والتّدبير، فهو الحقّ. وكلّما رآه فيالأرض، فهو أضغاث أحلام.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
و بإسناده إلى عليّ- عليه السّلام- قال: سألت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- عن الرّجل ينام فيرى الرّؤيا، فربّما كانت حقّا، وربّما كانت باطلا. فقال رسول اللَّه - صلّى اللَّه عليه وآله-: [يا عليّ،] إنّه ما من عبد ينام، إلّا عرج بروحه إلى ربّ العالمين. فما رأى عند ربّ العالمين، فهو حقّ. ثمّ إذا أمر العزيز الجبّار بردّ روحه إلى جسده، فصارت الرّوح بين السّماء والأرض، فما رأته، فهو أضغاث أحلام.
و في تفسير العيّاشيّ ، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: رأت فاطمة في النّوم كأنّ الحسن والحسين ذبحا، أو قتلا. فأحزنها ذلك فأخبرت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فقال: يا رؤيا! فتمثّلت بين يديه. قال: أ رأيت فاطمة هذا البلاء؟
قالت: لا. قال: يا أضغاث! أ رأيت فاطمة هذا البلاء؟ قالت: نعم، يا رسول اللَّه.
قال: فما أردت بذلك؟ قالت : أردت أن أحزنها. فقال لفاطمة : اسمعي، ليس هذا بشيء.
وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ :
يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصّة. أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنّما التّأويل للمنامات الصّادقة. اعتذار لجهلهم بتأويله.
وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما: من صاحبي السّجن، وهو صاحب الشّراب وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ: وتذكّر بعد جماعة من الزّمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة.
و قرئ : «إمّة»- بكسر الهمزة- وهي: النّعمة. أي: بعد ما أنعم اللَّه عليه بالنّجاة. و«أمه»، أي: نسيان. يقال: أمه يأمه أمها: إذا نسي.
و الجملة اعتراض ومقول القول:أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ، أي: إلى من عنده علمه. أو: إلى السّجن.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ:
أي: فأرسل إلى يوسف. فجاء وقال: يا يوسف. وإنّما وصفه بالصّدّيق- وهو المبالغ في الصّدق- لأنّه جرّب أحواله، وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه.
أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، أي: في تأويل رؤيا ذلك.
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ: أعود إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد. إذ قيل : إنّ السّجن لم يكن فيه.
لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها. أو: فضلك ومكانك.
و إنّما لم يبتّ الكلام فيهما، لأنّه لم يكن جازما بالرّجوع، فربّما اخترم دونه، ولا يعلمهم.
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً:
أي: على عادتكم المستمرّة. وانتصابه على الحال بمعنى: دائبين. أو المصدر، بإضمار فعله. أي: تدأبون دأبا. وتكون الجملة حالا.
و قرأ حفص: «دأبا» بفتح الهمزة. وكلاهما مصدر دأب في العمل.
و قيل : «تزرعون» أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة، لقوله:
فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ كيلا يأكله السّوس.
و هو على هذا نصيحة خارجة عن العبارة.
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السّنين.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ، أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ. فأسند إليهنّ على المجاز، تطبيقا بين المعبّر والمعبّر به.
و في مجمع البيان ، عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قرأ: «ما قرّبتم لهنّ».
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عنه- عليه السّلام-: إنّما أنزل: «ما قرّبتم لهنّ».
إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ : تحرزون لبذور الزّراعة.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ: يُمطرون، من الغيث. أو:
يغاثون من القحط، من الغوث.
وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ما يعصر- كالعنب والزّيتون- لكثرة الثّمار.
و قيل : يحلبون الضّروع.
و قرأ حمزة والكسائي بالتّاء، على تغليب المستفتي.
و قرئ على بناء المفعول، من عصره: إذا أنجاه. ويحتمل أن يكون المبنيّ للفاعل منه. أي: يغيثهم اللَّه، ويغيث بعضهم بعضا. أو من: أعصرت السّحابة عليهم. فعدّي بنزع الخافض، أو بتضمينه معنى المطر.
و هذه بشارة بشّرهم بها، بعد أن أوّل البقرات السّمان والسّنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف اليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السّمان بأكل ما جمع في السّنين المخصبة في السّنين المجدبة.
قيل : ولعلّه علم ذلك بالوحي. أو بأنّ انتهاء الجدب بالخصب. أو بأنّ السّنّة الإلهيّة على أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم.
و في مجمع البيان : وقرأ جعفر بن محمّد- عليهما السّلام-: «يعصرون» بياء مضمومة وصاد مفتوحة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: قرأ رجل على أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يعني: على البناء للفاعل] . فقال: ويحك! وأيّ شيء يعصرون؟ يعصرون الخمر!؟
قال الرّجل: يا أمير المؤمنين، كيف أقرأها؟ قال: إنّما أنزلت: «عام فيه يغاث النّاس وفيه يعصرون»، يمطرون بعد المجاعة . والدّليل على ذلك قوله :وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.
و في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن عليّ الصّيرفيّ، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- «عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [بالبناء للمفعول] : يمطرون. ثمّ قال: أما سمعت قوله: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً!؟
وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، بعد ما جاءه الرّسول.
فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه، قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ:
في تفسير العيّاشيّ : يعني العزيز.
فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ:
إنّما تأنّى في الخروج، وقدّم سؤال النّسوة وفحص حالهنّ، ليظهر براءة ساحته، ويعلم أنّه سجن ظلما، فلا يقدر الحاسد أن يتوسّل به إلى تقبيح أمره. وإنّما لم يتعرّض لسيّدته [مع ما صنعت به] ، كرما ومراعاة للأدب.
و في مجمع البيان : وروي عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّه قال: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره! واللَّه يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسّمان. ولو كنت مكانه، ما أخبرتهم ، حتّى أشترط أن يخرجوني.
و
في تفسير العيّاشيّ : عن أبان عن محمّد بن مسلم، عنهما قالا: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عن رؤياه ، ما حدّثته، حتّى أشترط عليه أن يخرجني من السّجن. وتعجّبت لصبره عن شأن امرأة الملك حتّى أظهر اللَّه عذره.
و في مجمع البيان ، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- متّصلا بما سبق- يعني قوله:يخرجوني-:
و لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه! واللَّه يغفر له حين أتاه الرّسول فقال:
ارجع إلى ربّك. ولو كنت مكانه، ولبثت في السّجن ما لبث، لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، وما ابتغيت العذر. إن كان لحليما ذا أناة.
و روي أنّ يوسف لمّا خرج من السّجن، دعا [لأهله] وقال: «اللّهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار، ولا تعمّ عليهم الأخبار». فلذلك يكون أصحاب السّجن أعرف النّاس بالأخبار في كلّ بلدة. وكتب على باب السّجن: هذا قبور الأحياء، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء.
و قرئ : «النّسوة» بضمّ النّون.
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك.
و فيه تعظيم كيدهنّ، والاستشهاد بعلم اللَّه- تعالى- عليه، وعلى أنّه برئ ممّا قذف به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ.
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ: قال الملك لهنّ: ما شأنكنّ.
و الخطب: أمر يحقّ أن يخاطب فيه صاحبه.
قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ:
تنزيه له وتعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله.
ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ: من ذنب.
قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ: ثبت واستقرّ. من: حصحص البعير: إذا ألقى مباركة ليناخ. أو: ظهر. من حصّ شعره: إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه.
و قرئ على البناء للمفعول.
أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ : في قوله:هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
و لا مزيد على شهادة الخصم بأنّ صاحبه على الحقّ، وهو على الباطل.
ذلِكَ لِيَعْلَمَ:
قال يوسف لمّا عاد إليه الرّسول، وأخبر بكلامهنّ. أي: ذلك التّثبّت ليعلم العزيز:
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ: بظهر الغيب.
و هو حال من الفاعل أو المفعول. أي: لم أخنه، وأنا غائب عنه، أو هو غائب عنّي. أو ظرف. أي: بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة.
وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ، أي: لا ينفذه. أي: لا يهدي الخائنين بكيدهم. فأوقع الفعل على الكيد، مبالغة.
و فيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها، وتوكيد لأمانته.
و لذلك عقّبه بقوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي- أي: لا أنزّهها- تنبيها على أنّه لم يرد بذلك تزكية نفسه، والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم اللَّه عليه من العصمة والتّوفيق.
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ:
من حيث إنّها بالطّبع مائلة إلى الشّهوات، آمرة بها.
إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي: إلّا وقت رحمة ربّي. أو: إلّا ما رحمه اللَّه من النّفوس، فعصمه عن ذلك.
و قيل : الاستثناء منقطع. أي: ولكن رحمة ربّي هي الّتي تصرف الإساءة.
و قيل : الآية حكاية قول امرأة العزيز، والمستثنى نفس يوسف وأضرابه. أي:
ذلك الّذي قلته، ليعلم يوسف أنّي لم أكذب عليه في حال الغيب، وصدقت فيما سئلت عنه. وما أبرئ مع ذلك من الخيانة، فإنّي خنته حين قذفته وسجنته. تريد الاعتذار عمّا كان فيها.
و هذا التّفسير هو المستفاد من كلام
عليّ بن إبراهيم ، حيث قال في قوله:
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ: أي لا أكذب عليه الآن، كما كذبت عليه من قبل.و قرأ قالون والبزيّ: «بالسّوّ» على قلب الهمزة واوا، ثمّ الإدغام.
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ : يغفر ميل النّفس، ويرحم من يشاء بالعصمة.
أو: يغفر المستغفر لذنبه، المعترف على نفسه، ويرحم من استرحمه ما أستغفره ممّا ارتكبه.
وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي: أجعله خالصا لنفسي.
فَلَمَّا كَلَّمَهُ، أي: فلمّا أتوا به، فكلّمه وشاهد منه الرّشد والذّكاء، واستدلّ بكلامه على عقله، وبعفّته على أمانته.
قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ: ذو مكانة ومنزلة أَمِينٌ مؤتمن على كلّ شيء. نقل أنّه لمّا خرج من السّجن، اغتسل وتنظّف، ولبس ثيابا جددا. فلمّا دخل على الملك قال: «اللّهمّ إنّي أسألك من خيره، وأعوذ بك بعزّتك وقدرتك من شرّه». ثمّ سلّم عليه، ودعا له بالعبريّة. فقال: ما هذا اللّسان؟ فقال: لسان آبائي.
و كان الملك يعرف سبعين لسانا. فكلّمه بها، فأجابه بجميعها. فتعجّب منه، فقال:
إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك. فحكاها، ونعت له البقرات والسّنابل وأماكنها، على ما رآها. فأجلسه على السّرير، وفوّض إليه أمره.
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ: ولّني أمرها. والأرض أرض مصر.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : يعني على الكناريج والأنابير .
إِنِّي حَفِيظٌ لها ممّن لا يستحقّها عَلِيمٌ بوجوه التّصرّف فيها.
و قيل : لعلّه - عليه السّلام- لمّا رأى أنّه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعمّ فوائده وتجلّ عوائده.
و في عيون الأخبار : حدّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمدانيّ- رضي اللَّه عنه-
قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الرّيان بن الصّلت الهرويّ قال:
دخلت على عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- فقلت: له يا ابن رسول اللَّه، إنّ النّاس يقولون إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزّهد في الدّنيا! فقال- عليه السّلام-:
قد علم اللَّه كراهتي لذلك. فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل.
ويحهم! أما علموا أنّ يوسف- عليه السّلام- كان نبيّا ورسولا، فلمّا دفعته الضّرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ!؟ ودفعتني الضّرورة إلى قبول ذلك، على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك. على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه. فإلى اللَّه المشتكى.
و هو المستعان.
حدّثنا المظّفر بن جعفر بن المظّفر العلويّ السّمرقندي - رضي اللَّه عنه- قال:
حدّثنا جعفر بن محمّد بن مسعود العيّاشيّ، عن أبيه قال: حدّثنا محمّد بن نصير، عن الحسن بن موسى قال:
روى أصحابنا عن الرّضا- عليه السّلام- أنّه قال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ وكأنّه أنكر ذلك عليه.
فقال أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام-: يا هذا، أيّهما أفضل، النّبيّ أو الوصيّ؟
فقال: لا، بل النّبيّ.
قال: فأيّهما أفضل، مسلم أو مشرك؟ قال: لا، بل مسلم.
قال: فإنّ العزيز- عزيز مصر- كان مشركا، وكان يوسف- عليه السّلام- نبيّا.
و إنّ المأمون مسلم، وأنا وصيّ. ويوسف سأل العزيز أن يولّيه، حين قال: اجْعَلْنِي- إلى قوله-: حَفِيظٌ. وأنا أجبرت على ذلك.
و قال- عليه السّلام- في قوله: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قال: حافظ لما في يدي، عالم بكلّ لسان.و في الخرائج والجرائح : روي عن محمّد بن زيد الرّزامي قال: كنت في خدمة الرّضا- عليه السّلام- لمّا جعله المأمون وليّ عهده. فأتاه رجل [من الخوارج] في كمّه مدية مسمومة. وقد قال لأصحابه: واللَّه، لآتينّ هذا الّذي يزعم أنّه ابن رسول اللَّه- وقد دخل لهذا الطّاغية فيما دخل- فأسأله عن حجّته. فإن كان له حجّة، وإلّا أرحت النّاس منه.
فأتاه، واستأذن عليه- عليه السّلام- فأذن له. فقال له أبو الحسن- عليه السّلام-.
أجيبك عن مسألتك على شريطة تفي لي بها. فقال: وما هذه الشّريطة؟ قال: إن أجبتك بجواب يقنعك وترضاه، تكسر الّتي في كمّك وترمي بها .
فبقي الخارجيّ متحيّرا، وأخرج المدية وكسرها. ثمّ قال له: أخبرني عن دعواك مع هذا الطّاغية فيما دخلت له- وهم عندك كفّار، وأنت ابن رسول اللَّه- ما حملك على هذا؟
فقال أبو الحسن- عليه السّلام-: أ رأيت هؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته!؟ أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحّدون، وأولئك لم يوحّدوا اللَّه ولم يعرفوه!؟ وأنّ يوسف بن يعقوب نبيّ ابن نبيّ، وقال لعزيز مصر- وهو كافر- :
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وكان يجالس الفراعنة . وأنا رجل من ولد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- أجبرني على هذا الأمر، وأكرهني عليه. فما الّذي أنكرت ونقمت عليّ!؟
فقال: لا عتب عليك. أشهد أنّك ابن نبيّ اللَّه، وأنّك صادق.و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى الفضل بن أبي قرّة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول يوسف- عليه السّلام-: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قال: حفيظ بما تحت يدي عليم بكلّ لسان.
و في تفسير العيّاشيّ : وقال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: يجوز أن يزكّي الرّجل نفسه؟ قال: نعم، إذا اضطرّ إليه. أما سمعت قول يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ!؟ وقول العبد الصالح : وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ!؟.
و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام- لأقوام يظهرون الزّهد ويدعون النّاس أن يكونوا معهم، على مثل الّذي هم عليه من التّقشّف:
و أخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود- عليه السّلام-؟ ثمّ يوسف النّبيّ- عليه السّلام- حيث قال لملك مصر: اجْعَلْنِي- إلى قوله:- عَلِيمٌ؟ فكان من أمره الّذي كان [أن] أختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن. وكانوا يمتارون الطّعام من عنده لمجاعة أصابتهم. وكان يقول الحقّ ويعمل به. فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عبد الرّحمن بن حمّاد، عن يونس بن يعقوب، عن سعد، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:
لمّا صارت الأشياء ليوسف بن يعقوب- عليهما السّلام- جعل الطّعام في بيوت، وأمر بعض وكلائه، وكان يقول: بع كذا وكذا. والسّعر قائم. فلمّا علم أنّه يزيد في ذلك اليوم، كره أن يجري الغلاء على لسانه. فقال له: اذهب وبع. ولم يسمّ له سعرا.
فذهب الوكيل غير بعيد. ثمّ رجع إليه. فقال له: اذهب فبع. وكره أن يجري الغلاء على لسانه. فذهب الوكيل. فجاء أوّل من اكتال. فلمّا بلغ دون ما كان بالأمس بمكيال، قال المشتري: حسبك، إنّما أردت بكذا وكذا. فعلم الوكيل أنّه قد غلابمكيال.
ثمّ جاءه آخر، فقال له: كل لي. فكال. فلمّا بلغ دون الّذي كال للأوّل بمكيال، قال له المشتري: حسبك، إنّما أردت بكذا وكذا. فعلم الوكيل أنّه قد غلا بمكيال. حتّى صار إلى واحد واحد.
و في تفسير العيّاشيّ : عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال:
كان سبق يوسف الغلاء الّذي أصاب النّاس، ولم يثمّن الغلاء لأحد قطّ.
قال: فأتاه التّجّار، فقالوا: بعنا. قال: اشتروا. فقالوا نأخذ كذا وبكذا. فقال: خذوا.
و أمر فكالوهم فحملوا ومضوا، حتّى دخلوا المدينة. فلقيهم قوم تجّار فقالوا لهم: كيف أخذتم؟ فقالوا: كذا بكذا. وأضعفوا الثّمن.
قال: وقدموا أولئك على يوسف، فقالوا: بعنا. فقال: اشتروا، كيف تأخذون؟
قالوا: بعنا، كما بعت كذا بكذا. فقال: ما هو كما تقولون، ولكن خذوا. فأخذوا. ثمّ مضوا، حتّى دخلوا المدينة. فلقيهم آخرون، فقالوا: كيف أخذتم؟ فقالوا: كذا بكذا.
و أضعفوا الثّمن. قال: فعظّم النّاس ذلك الغلاء، وقالوا: اذهبوا بنا حتّى نشتري.
قال: فذهبوا إلى يوسف، فقالوا: بعنا. فقال: اشتروا. فقالوا : بعنا، كما بعت. فقال: وكيف بعت؟ قالوا: كذا بكذا. فقال: ما هو كذلك، ولكن خذوا.
قال: فأخذوا ورجعوا إلى المدينة، وأخبروا النّاس. فقالوا فيما بينهم: تعالوا حتّى نكذب في الرّخص، كما كذبنا في الغلاء.
قال: فذهبوا إلى يوسف، فقالوا له: بعنا. فقال: اشتروا. فقالوا: بعنا، كما بعت. قال: وكيف بعت؟ قالوا: كذا بكذا- بالحطّ من السّعر الأوّل . فقال: ما هو هكذا، ولكن خذوا. فأخذوا، وذهبوا إلى المدينة. فلقيهم النّاس فسألوهم: بكم اشتريتم؟ فقالوا: كذا بكذا- بنصف الحطّ الأوّل. فقال الآخرون: اذهبوا بنا حتّىنشتري.
فذهبوا إلى يوسف، فقالوا: بعنا. فقال: اشتروا. فقالوا: بعنا، كما بعت.
فقال: وكيف بعت؟ فقالوا: بكذا وكذا- بالحطّ من النّصف. فقال: ما هو كما تقولون، ولكن خذوا. فلم يزالوا يتكاذبون، حتّى رجع السّعر إلى الأمر الأوّل، كما أراد اللَّه.
و في مجمع البيان : وفي كتاب النّبوّة، بالإسناد عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس قال: سمعت الرّضا- عليه السّلام- يقول: وأقبل يوسف على جمع الطّعام. فجمع في السّبع السّنين المخصبة، فكبسه في الخزائن. فلمّا مضت تلك السّنون، وأقبلت السّنون المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطّعام.
فباعهم في السّنة الأولى بالدّراهم والدّنانير. حتّى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم، إلّا صار في ملكيّة يوسف.
و باعهم في السّنة الثّانية بالحليّ والجواهر. حتّى لم يبق بمصر وما حولها حليّ ولا جوهر، إلّا صار في ملكيّة يوسف .
و باعهم في السّنة الثّالثة بالدّوابّ والمواشي. حتّى لم يبق بمصر وما حولها دابّة ولا ماشية، إلّا صارت في ملكيّة يوسف .
و باعهم في السّنّة الرّابعة بالعبيد والإماء. حتّى لم يبق بمصر [و ما حولها] عبد ولا أمة، إلّا صار في ملكيّة يوسف .
و باعهم في السّنة الخامسة بالدّور والعقار. حتّى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار، إلّا صار في ملكيّة يوسف .
و باعهم في السّنة السّادسة بالمزارع والأنهار. حتّى لم يبق بمصر [و ما حولها] نهر ولا مزرعة، إلّا صار في ملكيّة يوسف .
و باعهم في السّنة السّابعة برقابهم. حتّى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ، إلّا صار عبد يوسف.
فملك أحرارهم، وعبيدهم، وأموالهم . وقال النّاس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه اللَّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا! ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك، ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها؟ أشر علينا برأيك. فإني لم أصلحهم، لأفسدهم. ولم أنجهم من البلاء، لأكون بلاء عليهم. ولكنّ اللَّه نجّاهم على يدي. قال له الملك: الرّأي رأيك.
قال يوسف: إنّي أشهد اللَّه وأشهدك- أيّها الملك- أنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم. ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم. ورددت عليك- أيّها الملك- خاتمك وسريرك وتاجك، على أن لا تسير إلّا بسيرتي ولا تحكم إلّا بحكمي.
قال له الملك: إنّ ذلك لشرفي وفخري أن لا أسير إلّا بسيرتك، ولا أحكم إلّا بحكمك. ولولاك، ما قويت عليه، ولا اهتديت له. ولقد جعلت سلطاني عزيزا لا يرام. وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، وحده لا شريك له، وأنّك رسوله. فأقم على ما ولّيتك. فإنّك لدينا مكين أمين.
وَ كَذلِكَ: مثل ذلك التّمكين الظّاهر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ: أرض مصر.
في تفسير العيّاشيّ : [عن الثمالي] ، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: ملك يوسف مصر وبراريها، ولم يجاوزها إلى غيرها.يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ: ينزل من بلادها حيث يهوى.
و قرأ ابن كثير: «نشاء» بالنّون.
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدّنيا والآخرة.
وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، بل نوفي أجورهم، عاجلا وآجلا.
وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الشّرك والفواحش، لعظمه ودوامه.
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن عليّ بن النّعمان، عن عبد اللَّه بن سنان ، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله. إن نابته نائبة، صبر لها. وإن تداكّت عليه المصائب، لم تكسره . وإن أسر وقهر، استبدل بالعسر يسرا .
كما كان يوسف الصّدّيق الأمين، لم يضرر حرّيته أن استعبد ، وقهر، وأسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته، وما ناله، أن منّ اللَّه عليه، فجعل الجبّار العاتي له عبدا، بعد أن كان مالكا. فأرسله، ورحم به امّة . وكذلك الصّبر يعقب خيرا. فاصبروا، ووطّنوا أنفسكم على الصّبر، تؤجروا.
وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ للميرة.
و ذلك لأنّه أصاب كنعان، ما أصاب سائر البلاد، من الجدب. فأرسل يعقوب بنيه- غير بنيامين- إليه.
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أي: عرفهم يوسف، ولم يعرفوه، لطول العهد ومفارقتهم إيّاه في سنّ الحداثة، ونسيانهم إيّاه، وتوهّمهم أنّه هلك، وبعد حاله إلى ما رأوه عليها من حاله حين فارقوه، وقلّة تأمّلهم في حلاه من التّهيّبو الاستعظام.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أمر يوسف أن يبنى له كناديج من صخر، وطيّنها بالكلس. ثمّ أمر بزروع مصر. فحصدت، ودفع إلى كلّ إنسان حصّة، وترك الباقي في سنبله، لم يدسّه. فوضعها في الكناديج . ففعل ذلك سبع سنين.
فلمّا جاءت سنوات الجدب، كان يخرج السّنبل، فيبيع بما شاء. وكان بينه وبين أبيه ثمانية عشر يوما، وكان في بادية. وكان النّاس من الآفاق يخرجون إلى مصر، ليمتاروا طعاما.
و كان يعقوب وولده نزولا في بادية فيها مقل . فأخذ إخوة يوسف من ذلك المقل، وحملوه إلى مصر ليمتاروا به. وكان يوسف يتولّى البيع بنفسه. فلمّا دخل إخوته عليه، عرفهم ولم يعرفوه، كما حكى اللَّه- عزّ وجلّ-.
و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يحدّث قال: لمّا فقد يعقوب يوسف، اشتدّ حزنه عليه وبكاؤه. حتّى ابيضّت عيناه من الحزن، واحتاج حاجة شديدة، وتغيّرت حاله. [قال:] وكان يمتار القمح من مصر [لعياله] في السّنة مرّتين للشّتاء والصّيف. وإنّه بعث عدّة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر، مع رفقة خرجت.
فلمّا دخلوا على يوسف- وذلك بعد ما ولّاه العزيز مصر- فعرفهم يوسف- عليه السّلام- ولم يعرفه إخوته، لهيبة الملك وعزّته . فقال لهم: عجّلوا بضاعتكم قبل الرّفاق .
و قال لفتيانه: عجّلوا لهؤلاء الكيل، وأوفوهم. فإذا فرغتم، فاجعلوا بضاعتهم هذه فيرحالهم، ولا تعلموهم بذلك. (الحديث).
وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ: أصلحهم بعدّتهم، وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله.
و الجهاز: ما يعدّ من الأمتعة للنّقلة، كعدد السّفر، وما يحمل من بلدة إلى أخرى، وما تزفّ للمرأة إلى زوجها.
و قرئ : «بجهازهم» بالكسر.
قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ:
في تفسير عليّ بن إبراهيم : [و أعطاهم، و] أحسن إليهم في الكيل، وقال لهم:
من أنتم؟ قالوا: نحن بنو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللَّه، الّذي ألقاه نمرود في النّار، فلم يحترق، وجعلها اللَّه عليه بردا وسلاما. قال: فما فعل أبوكم؟ قالوا: شيخ ضعيف. قال: فلكم أخ [غيركم] ؟ قالوا: لنا أخ من أبينا، لا من أمّنا. قال: فإذا رجعتم إليَّ فائتوني به.
و في تفسير العيّاشيّ ، عن الباقر- عليه السّلام-: قال لهم يوسف: قد بلغني أنّ لكم أخوين لأبيكم. فما فعلا؟ قالوا: أمّا الكبير منهما، فإنّ الذّئب أكله. وأمّا الصّغير فخلّفناه عند أبيه، وهو به ضنين ، وعليه شفيق. قال: فإنّي أحبّ أن تأتوني به معكم، إذا جئتم لتمتارون.
أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ: أتمّه، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للضّيف والمضيفين لهم. وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم.
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ، أي: لا تقربوني، ولا تدخلوا دياري. وهو إمّا نفي، وإمّا نهي معطوف على الجزاء.