وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا، كالكفرة والمنافقين، الّذين ادّعوا السّماع.
وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ : ينتفعون به، فكأنّهم لا يسمعون رأسا.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ: شرّ ما يدبّ على الأرض، أو شرّ البهائم.
الصُّمُّ: عن الحقّ.
الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ : إيّاه. عدّهم من البهائم، ثمّ جعلهم شرّها لإبطالهم ما امتازوا به وفضّلوا لأجله.
وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً: سعادة كتبت لهم، أو انتفاعا بالآيات.
لَأَسْمَعَهُمْ: سماع تفهم.
وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ: وقد علم أن لا خير فيهم.
لَتَوَلَّوْا: ولم ينتفعوا به، وارتدّوا بعد التصديق والقبول.
وَ هُمْ مُعْرِضُونَ : لعنادهم.
و قيل : كانوا يقولون للنبيّ: أحي لنا قصيا. فإنّه كان شيخا مباركا، حتى يشهد لك ونؤمن بك.
و المعنى: لأسمعهم كلام قصيّ.
و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: نزلت في بني عبد الدار. لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير، وحليف لهم يقال له: سويط .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ: بالطّاعة.إِذا دَعاكُمْ.
و حدّ الضّمير فيه لما سبق. ولأنّ دعوة اللَّه تسمع من الرّسول.
نقل : أنّه- عليه السّلام- مرّ على أبي وهو يصلي. فدعاه، فعجل في صلاته ثمّ جاء.
فقال: ما منعك عن إجابتي؟
قال: كنت أصلي.
قال: ألم تخبر فيما أوحى اللَّه إليّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ؟
لِما يُحْيِيكُمْ.
قيل : من العلوم الدّينية. فإنّها حياة القلب، والجهل موته. قال: لا تعجبنّ الجهول حلّته فذاك ميت وثوبه كفن.
أو ممّا يورثكم الحياة الأبديّة في النّعيم الدائم، من العقائد والأعمال. أو من الجهاد، فإنّه سبب بقائكم. إذ لو تركوه، لغلبهم العدوّ وقتلهم. أو الشّهادة لقوله- تعالى-: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ .
و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد جميعا، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن عبد اللَّه بن مسكان، عن زيد بن الوليد الخثعميّ، عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أبا عبد الله- عليه السّلام- عن هذه الآية.
قال: نزلت في ولاية عليّ- عليه السّلام-.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم»
: قال: «الحياة» الجنة.
حدثنا أحمد بن محمّد، عن جعفر بن عبد اللَّه، عن كثير بن عيّاش، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- يقول في هذه الآية: ولاية عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فإنّ اتباعكم إيّاه وولايته، أجمع لأمركم وأبقى للعدل فيكم.
و في شرح الآيات الباهرة ، تأويله أورد من طريق العامّة
نقله ابن مردويه، عنرجاله مرفوعا إلى الإمام محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- أنّه قال في قوله- تعالى-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ.
قال: الى ولاية عليّ بن أبي طالب.
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ.
قيل : تمثيل لغاية قربه- تعالى- من العبد، كقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . وتنبيه على أنه- تعالى- مطلع على مكنونات القلوب ما عسى يغفل عنه صاحبها. أو حثّ على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول اللَّه بينه وبين قلبه بالموت أو غيره. أو تصوير وتخييل لتملّكه على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه ويغيّر مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، أي: يحول بينه وبين ما يريد.
و فيه ، بالسّند السّابق: عن أبي جعفر- عليه السّلام- يقول: يحول بين المؤمن ومعصيته أن تقوده إلى النّار. وبين الكافر وبين طاعته أن يستكمل به الإيمان. قال واعلموا أنّ الأعمال بخواتيمها.
و في كتاب التّوحيد : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد قال: حدثنا محمّد بن الحسن الصّفار وسعد بن عبد اللَّه جميعا قالا: حدثنا أيّوب بن نوح، عن محمّد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في هذه الآية قال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حقّ.
و في مجمع البيان : وروى يونس [بن عمّار] ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- معناه: لا يستيقن القلب، أنّ الحقّ باطل أبدا. ولا يستيقن القلب، أنّ الباطل حقّ أبدا.
و في تفسير العيّاشيّ: عن حمزة بن الطّيار، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: هوأن يشتهي الشيء بسمعه وبصره ولسانه ويده. أما أنّه لا يغشى شيئا منها. وان كان غشي شيئا مما يشتهي، فانه لا يأتيه إلّا وقلبه منكر لا يقبل الذي يأتي، يعرف أنّ الحق ليس فيه.
و عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: هذا الشيء يشتبه الرّجل بقلبه وسمعه وبصره لا تتوق نفسه إلى غير ذلك، فقد حيل بينه وبين قلبه إلّا ذلك الشيء.
وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ : فيجازيكم بأعمالكم.
وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً: اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره كإقرار المنكر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة، وظهور البدع والتّكاسل في الجهاد.
على أن قوله: «لا تصيبنّ» إمّا جواب الأمر على معنى: إن أصابتكم لا تصب الظّالمين منكم. وفيه أنّ جواب الشّرط متردد، فلا يليق به النّون المؤكّدة. لكنّه لما تضمّن معنى النهي، ساغ فيه، كقوله: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ.
و إمّا صفة «لفتنة» و«لا» للنفي. وفيه شذوذ، لأن النّون لا تدخل المنفي في غير القسم. أو للنهي على إرادة القول، كقوله: حتى إذا جنّ الظّلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط.
و إمّا جواب قسم محذوف، كقراءة من قرأ: «لتصيبن»، وإن اختلفا في المعنى.
و يحتمل أن يكون نهيا بعد الأمر باتّقاء الذّنب عن التّعرض للظّلم، فإنّ وباله يصيب الظالم خاصّة ويعود عليه.
و «من» في «منكم» على الوجه الأول، للتّبعيض. وعلى الأخيرتين للتّبيين.
و فائدته التّنبيه، على أنّ الظّلم منكم أقبح من غيركم.
و في تفسير العيّاشيّ : عن عبد الرّحمن بن سالم، عن الصادق- عليه السّلام- في هذه الآية قال: أصابت الناس فتنة بعد ما قبض اللَّه نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله-، حتّى تركوا عليا وبايعوا غيره. وهي الفتنة الّتي فتنوا بها. وقد أمرهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- باتّباع عليّ والأوصياء من آل محمّد- عليهم السّلام-.عن إسماعيل السريّ ، عن النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- في هذه الآية قال أخبرت، أنهم أصحاب الجمل.
و في مجمع البيان : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- وأبي جعفر الباقر- عليه السّلام- أنّهما قرءا: «لتصيبنّ».
و عن ابن عبّاس: : أنّهما لمّا نزلت، قال [و اتقوا فتنة] ، قال النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوتي ونبوّة الأنبياء قبلي.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : نزلت في طلحة والزبير لمّا حاربوا أمير المؤمنين- عليه السّلام- وظلموه.
و في شرح الآيات الباهرة :
و ذكر أبو عليّ الطبرسيّ، عن السّيد أبي طالب الهرويّ، بإسناده: عن علقمة وعن الأسود قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصاريّ فأخبرنا، إن النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- قال لعمّار: إنّه سيكون من بعدي هنات، حتى يختلف السيف فيما بينهم، وحتّى يقتل بعضهم [بعضا، وحتّى يبرأ بعضهم] من بعض. فإذا رأيت ذلك، فعليك بهذا الأصلع عن يميني، عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فإن سلك الناس كلّهم واديا وسلك عليّ واديا، فاسلك وادي عليّ وخلّ النّاس، يا عمّار. إنّ عليّ لا يردّك عن هدى، ولا يدلّك على ردى. يا عمّار، طاعة عليّ طاعتي، وطاعتي طاعة اللَّه.
و ذكر صاحب كتاب نهج الإيمان قال: قال: ذكر أبو عبد اللَّه، محمّد بن علي [بن] السراج في كتابه في تأويل هذه الآية. حديث يرفعه، بإسناده إلى عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: يا ابن مسعود، إنه قد نزلت في عليّ آية وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. وأنا مستودعها، ومسلم لك الظّلمة فكن لما أقول واعيا، وعني مؤديا. من ظلم عليا مجلسي هذا، كان كمن جحد نبوتي ونبوة الأنبياءمن قبلي.
فقال له الرّاوي: يا أبا عبد الرّحمن، أ سمعت هذا من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-؟
قال: نعم.
فقلت له: فكنت للظّالمين [ظهيرا] ؟
قال: لا جرم، حلّت بي عقوبة على أن لم أستأذن إمامي، كما استأذن جندب وعمار وسلمان. وأنا أستغفر اللَّه وأتوب إليه.
و في أصول الكافي ، بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- حديث طويل وفيه: ثمّ قال في بعض كتابه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً في إنّا أنزلناه في ليلة القدر . ويقول: إنّ محمّدا حين يموت يقول أهل الخلاف لأمر اللَّه- عزّ وجلّ-: مضت ليلة القدر مع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فهذه فتنة أصابتهم خاصة.
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ قيل : أرض مكّة، يستضعفكم قريش. والخطاب للمهاجرين. وقيل: للعرب كافة، فإنّهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والرّوم.
تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ: كفّار قريش، أو من عداهم. فانّهم جميعا معادين مضادّين لهم.
فَآواكُمْ: إلى المدينة. أو جعل لكم مأوى تتحصّنون به عن أعدائكم.
وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ: على الكفار، أو بمظاهره الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر.
وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ: من المغانم.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ : هذه النّعم.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : نزلت في قريش خاصة.
و في كشف المحجة لابن طاوس: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: فأمّا الآيات التي في قريش، فهي قوله: «و اذكروا- إلى قوله- لعلّكم تشكرون».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ: بتعطيل الفرائض والسّنن. أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون. أو بالغلول في المغانم.
و أصل الخون: النّقص، كما أن أصل الوفاء: التّمام. واستعماله في ضد الأمانة، لتضمنه إيّاه.
وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ: فيما بينكم.
و هو مجزوم بالعطف، على الأوّل. أو منصوب على الجواب، بالواو.
وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ : أنّكم تخونون. أو أنتم علماء، تميّزون الحسن من القبيح.
و في مجمع البيان : عن الباقر والصّادق- عليهما السّلام-: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاريّ. وذلك أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة. فسألوا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- الصّلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النّضير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشّام. فأبى أن يعطيهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-. إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة.
و كان مناصحا لهم، لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فأتاهم.
فقالوا: ما ترى، يا أبا لبابة، أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنّه الذّبح، فلا تفعلوا.فأتاه جبرائيل- عليه السّلام- فأخبره بذلك.
قال أبو لبابة: فو اللَّه، ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أني قد خنت اللَّه ورسوله.
فنزلت الآية فيه. فلمّا نزلت، شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال واللَّه، لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللَّه عليّ.
فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا، حتى خرّ مغشيا عليه. ثمّ تاب اللَّه عليه.
فقيل له: يا أبا لبابة، قد تيب عليك.
فقال: لا واللَّه، لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- هو الّذي يحلّني.
فجاءه، فحلّه بيده.
ثمّ قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها الذّنب وأن أنخلع من مالي.
فقال النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: يجزيك الثّلث أن تصدّق به.
و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن رجل وقع لي عنده مال، وكابرني عليه وحلف. ثمّ وقع له عندي مال، فآخذه مكان مالي الّذي أخذ وأجحده وأحلف عليه، كما صنع؟
فقال: إن خانك، فلا تخنه، ولا تدخل فيما عبته عليه.
عليّ بن إبراهيم : عن أبيه ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم عن عبد الحميد، عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: الرّجل يكون لي عليه الحقّ، فيجحدنيه. ثمّ يستودعني مالا، ألي أن آخذ مالي عنده؟
قال: لا، هذه خيانة.عدّة من أصحابنا»، عن أحمد بن محمّد وسهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرميّ قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: رجل كان له على رجل مال، فجحده إيّاه وذهب به. ثمّ صار بعد ذلك للرّجل الّذي ذهب بماله مال قبله، أ يأخذه منه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرّجل؟
قال: نعم، ولكن لهذا كلام. يقول: اللّهمّ، إني آخذ هذا المال مكان مالي الّذي أخذه مني، وإني لم آخذها ما أخذت منه خيانة ولا ظلما.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم . وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: وأما خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما افترض اللَّه- عزّ وجلّ- عليه.
قال : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر. فلفظ الآية عام، ومعناها خاصّ.
قال: ونزلت في غزوة بني قريظة في سنة خمس من الهجرة، وقد كتبت في هذه الصورة مع أخبار بدر. وكانت على رأس ستة عشر شهرا من مقدم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- المدينة. ونزلت مع الآية التي في سورة التّوبة قوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ التي نزلت في أبي لبابة.
قال: فهذا الدّليل على أنّ التأليف على خلاف ما أنزل اللَّه على نبيّه.
ثم ذكر هذه القصة هناك، كما يأتي.
وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
: لأنّهم سبب الوقوع في الإثم والعقاب. أو محنة من اللَّه، ليبلوكم فيه. فلا يحملنّكم حبّهم على الخيانة، كأبي لبابة.
وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
: لمن آثر رضا اللَّه عليهم، وراعى حدوده فيهم. فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه.
و في مجمع البيان : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: لا يقولنّ أحدكم: اللّهم إني أعوذ بك من الفتنة. لأنه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة. ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن. فإنّ اللَّه- سبحانه- يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
.و في كتاب المناقب لابن شهر آشوب: وروى يحيى بن أبي كثير وسفيان بن عيينة، بإسنادهما، أنّه سمع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- بكاء الحسن والحسين وهم على المنبر، فقام فزعا. ثمّ قال: أيّها النّاس، ما الوليد إلّا فتنة. لقد قمت إليهم وحقّا ما معي عقلي.
و في رواية بريدة : وما أعقل.
عن عبد اللَّه بن بريدة قال: سمعت أبي يقول: كان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- يخطب على المنبر. فجاء الحسن والحسين، وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران.
فنزل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- من المنبر، فحملهما ووضعهما على يديه ثمّ قال:
صدق اللَّه: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.
(إلى آخر كلامه).
و في خبر آخر: أولادنا أكبادنا يمشون على الأرض.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: هداية في قلوبكم، تفرقون بها بين الحقّ والباطل. أو نصرا، يفرق بين المحقّ والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين. أو مخرجا من الشّبهات. أو نجاة عمّا تحذرون في الدّارين. أو ظهورا يشهر أمركم ويثبت نعتكم، من قولهم: بتّ أفعل كذا حتّى سطح الفرقان، أي: الصّبح.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، يعني: العلم الّذي تفرقون به بين الحقّ والباطل.
وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ: ويسترها.
وَ يَغْفِرْ لَكُمْ: ذنوبكم، بالتّجاوز والعفو عنها.
و قيل : «السّيّئات» الصّغائر. و«الذّنوب» الكبائر.
و قيل : المراد: ما تقدّم وما تأخّر. لأنّها في أهل بدر، وقد غفرهما اللَّه لهم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ : تنبيه على أنّ ما وعده لهم من التّقوى، تفضّل منه وإحسان. وأنّه ليس ممّا يوجبه تقواهم عليه، كالسّيد إذا وعد عبده إنعاما علىعمل.
وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا: تذكار لمّا مكر قريش به حين كان بمكّة، ليشكر نعمة اللَّه في خلاصه من مكرهم واستيلائه عليهم.
و المعنى: واذكر إذ يمكرون بك.
لِيُثْبِتُوكَ: بالوثاق والحبس. أو الإثخان بالجرح، من قولهم: ضربه حتّى أثبته، ولا حراك به ولا براح.
و قرئ : «ليثبّتوك» بالتّشديد. و«ليبيّتوك»، من البيات. و«ليقيّدوك».
أَوْ يَقْتُلُوكَ: بسيوفهم.
أَوْ يُخْرِجُوكَ: من مكّة.
وَ يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ: بردّ مكرهم عليهم. أو بمجازاتهم عليه. أو بمعاملة الماكرين معهم، بأن أخرجهم إلى بدر وقلّل المسلمين في أعينهم حتّى حملوا عليهم فقتلوا.
وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ : إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره.
و إسناد أمثال هذا، إنّما يحسن للمزاوجة. ولا يجوز إطلاقها ابتداء، لما فيه من إيهام الذّمّ.
في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه-، بإسناده إلى جابر بن عبد اللَّه بن حزام الأنصاريّ- رحمه اللَّه- قال: تمثّل إبليس- لعنه اللَّه- في أربع صور.
- إلى قوله-: وتصوّر يوم اجتماع قريش في دار النّدوة في صورة شيخ من أهل نجد. وأشار عليهم في النّبيّ- عليه السّلام- بما أشار. فأنزل اللَّه- تعالى-: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ (الآية).
و في تفسير العيّاشي : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم، عن أحدهما- عليهما السلام-: أنّ قريشا اجتمعت فخرجت من كل بطن أناسا. ثمّ انطلقوا إلى دار الندوة ليشاوروا فيما يصنعون برسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فإذا هم بشيخ قائم على الباب.
فإذا ذهبوا إليه ليدخلوا، قال: أدخلوني معكم.قالوا: ومن أنت، يا شيخ؟
قال: أنا شيخ من مصر ، ولي رأي أشير به عليكم.
فدخلوا وجلسوا وتشاوروا، وهو جالس. وأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه.
قال: ليس هذا بكم برأي. إن أخرجتموه، جلب عليكم النّاس فقاتلوكم.
قالوا: صدقت، ما هذا برأي.
ثمّ تشاوروا، وأجمعوا أمرهم على أن يوثقوه.
قال: هذا ليس برأي. إن فعلتم هذا، ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله- رجل حلو اللّسان، أفسد عليكم أبناءكم وخدمكم. وممّا ينفع أحدكم إذا فارقه أخوه وابنه وامرأته.
ثمّ تشاوروا، فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه. يخرجون من كلّ بطن منهم بشاهر، فيضربونه بأسيافهم جميعا عند الكعبة.
ثمّ قرأ هذه الآية: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ. (الآية).
عن زرارة وحمران ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- [و أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-]
قوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
قال: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- قد كان لقي من قومه بلاء شديدا. حتى أتوه ذات يوم، وهو ساجد، حتى طرحوا عليه رحم شاة. فأتته ابنته، وهو ساجد لم يرفع رأسه، فرفعته عنه ومسحته. ثمّ أراه اللَّه بعد ذلك الّذي يحبّ. إنه كان ببدر وليس معه غير فارس واحد، ثمّ كان معه يوم الفتح اثنا عشر ألفا، حتى جعل أبو سفيان والمشركون يستغيثون . ثمّ لقي أمير المؤمنين من الشّدة والبلاء والتّظاهر عليه، ولم يكن معه أحد من قومه بمنزلته. أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر فقتل يوم مؤنة.
و
في تفسير عليّ بن إبراهيم ، في هذه الآية: أنّها نزلت بمكة قبل الهجرة. وكان سبب نزولها، أنّه لما أظهر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- الدعوة بمكّة، قدمت عليهالأوس والخروج.
فقال لهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: تمنعوني وتكونون لي جارا حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم على اللَّه الجنّة؟
فقالوا: نعم، خذ لربّك ولنفسك ما شئت.
و قال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التّشريق.
فحجّوا ورجعوا إلى منى. وكان فيهم ممّن قد حجّ كثيرا.
فلمّا كان اليوم الثاني من أيّام التشريق، فقال لهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: إذا كان اللّيل، فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة. ولا تنبّهوا نائما. ولينسل واحد فواحد.
فجاء سبعون رجلا من الأوس والخزرج، فدخلوا الدّار.
فقال لهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: تمنعوني وتجيروني حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم على اللَّه الجنّة؟
فقال سعد بن زرارة والبراء من معرور وعبد اللَّه بن حزام: نعم، يا رسول اللَّه اشترط لربّك ولنفسك ما شئت.
فقال: أمّا ما أشترط لربي، فأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون أنفسكم، وتمنعوا أهلي مما تمنعون أهليكم وأولادكم.
فقالوا: فما لنا على ذلك؟
قال: الجنة في الآخرة، وتملكون العرب، وتدين لكم العجم في الدنيا. وتكونون ملوكا في الجنّة.
فقالوا: قد رضينا.
فقال: أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون شهداء عليكم بذلك، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثنى عشر نقيبا.
فأشار عليهم جبرئيل- عليه السّلام-.
فقال: هذا نقيب وهذا نقيب وهذا نقيب، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. فمن الخزرج، سعد بن زرارة والبراء بن معرور. وعبد اللَّه بن حزام،- وهوأبو جابر بن عبد اللَّه- ورافع بن مالك، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبد اللَّه بن رواحة، وسعد بن الرّبيع، وعبادة بن الصامت. ومن الأوس، أبو الهيثم بن التّيهان، وهو من اليمن، وأسد بن حصين، وسعد بن خيثمة.
فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمّد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم.
فأسمع أهل منى. وهاجت قريش، فأقبلوا بالسّلاح. وسمع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- النّداء.
فقالوا للأنصار: تفرّقوا.
فقالوا: يا رسول اللَّه، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.
فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: لم أؤمر بذلك، ولم يأذن اللَّه لي في محاربتهم.
قالوا: فتخرج معنا؟
قال: أنتظر أمر اللَّه.
فجاءت قريش على بكرة أبيها، قد أخذوا السّلاح. وخرج حمزة وأمير المؤمنين- عليهما السّلام- [و معهما السيوف] ، فوقفنا على العقبة.
فلمّا نظرت قريش إليهما، قالوا: ما هذا الّذي اجتمعتم له؟
فقال حمزة: ما اجتمعنا، وما ها هنا أحد. واللَّه، لا يجوز هذه العقبة أحد إلّا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكّة، وقالوا: لا نأمن من أن يفسد أمرنا، ويدخل واحد من مشايخ قريش في دين محمّد.
فاجتمعوا في الندوة. وكان لا يدخل دار الندوة، إلا من أتى عليه أربعون سنة.
فدخلوا أربعين رجلا من مشايخ قريش.
و جاء إبليس في صورة شيخ كبير، فقال له البواب، من أنت؟
فقال: أنا شيخ من أهل نجد، لا يعدمكم مني رأي صائب . إني حدث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرّجل، فجئت لأشير عليكم.فقال: ادخل.
فدخل إبليس.
فلمّا أخذوا مجلسهم، قال أبو جهل: يا معشر قريش: إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا. نحن أهل اللّه، وتغدوا إلينا العرب في السّنة مرّتين ويكرموننا ونحن في حرم اللّه، لا يطمع فينا طامع. فلم نزل كذلك، حتّى نشأ فينا محمّد بن عبد اللّه. فكنّا نسمّيه الأمين، لصلاحه وسكونه وصدق لهجته، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه، ادّعى أنّه رسول اللّه. وأنّ أخبار السّماء تأتيه. فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، وزعم أنّه من مات من أسلافنا ففي النّار. فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأيا. وما رأيت؟
قال: رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله. فإن طلبت بنو هاشم بدمه، أعطيناهم عشر ديات. فقال الخبيث: هذا رأي خبيث.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: لأنّ قاتل محمّد مقتول لا محالة. فمن هذا الّذي يبذل نفسه للقتل منكم؟
فإنّه إذا قتل محمّد، تعصّبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة. وأنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على الأرض، فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانوا به.
فقال آخر منهم: فعندي رأي آخر.
قال: وما هو؟
نبيّته في بيت ونلقي إليه قوته، حتّى يأتيه ريب المنون فيموت، كما مات زهير والنّابعة وامرؤ القيس.
فقال إبليس: هذا أخبث من الآخر.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: لإنّ بني هاشم لا ترضى بذلك. فإذا جاء موسم من مواسم العرب، استعانوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه.
و قال آخر منهم: لا، ولكنّا نخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا.فقال إبليس: هذا أخبث من الرّأيين المتقدّمين.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: لأنّكم تعمدون إلى أصبح النّاس وجها وأنطق النّاس لسانا وأفصحهم لهجة، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويستجرّهم»
بلسانه. فلا يفجأكم إلّا وقد ملأها عليكم خيلا ورجالا .
فبقوا حائرين. ثمّ قالوا لإبليس: فما الرأي فيه، يا شيخ؟
قال: ما فيه إلّا رأي واحد.
قالوا: وما هو؟
قال: يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش واحد، ويكون معهم من بني هاشم رجل، فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفا، فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة، حتى يتفرّق دمه في قريش كلّها. فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه، وقد شاركوا فيه.
فإن سألوكم أن تعطوا الدّية، فأعطوهم ثلاث ديات.
فقالوا: نعم، وعشر ديات.
ثمّ قالوا: الرأي، رأي الشّيخ النجديّ.
فاجتمعوا، ودخل معهم في ذلك أبو لهب، عمّ النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-.
و نزل جبرئيل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأخبره، أنّ قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك. وأنزل اللّه عليه في ذلك وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
و اجتمعت قريش أن يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه. وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفّقون، ويطوفون بالبيت. فأنزل اللّه وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً . «فالمكاء»، التصفير. و«التّصدية» صفق اليدين. وهذه الآية معطوفة على قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقد كتب بعد آيات كثيرة.
فلما أمسى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- جاءت قريش ليدخلوا عليه.
فقال أبو لهب: لا أدعكم أن تدخلوا عليه اللّيل. فإنّ في الدار صبيانا ونساء، ولا
نأمن أن تقع بهم يد خاطئة. فنحرسه اللّيلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.
فناموا حول حجرة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. وأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن يفرش له، فراش .
فقال لعليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليه-: أفدني نفسك.
قال: نعم، يا رسول اللّه.
قال: يا عليّ، نم على فراشي والتحف ببردتي.
فنام على فراش رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والتحف ببردته. وجاء جبرئيل، فأخذ بيد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأخرجه على قريش، وهم نيام. وهو يقرأ عليهم: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ .
و قال له جبرئيل: خذ على طريق ثور. وهو جبل على طريق منى، له سنام، كسنان ثور.
فدخل الغار وكان من أمره ما كان. فلما أصبحت قريش، وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش.
فوثب عليّ في وجوههم، فقال: ما شأنكم؟
قالوا له: أين محمّد؟
قال: أ جعلتموني عليه رقيبا، ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.
فأقبلوا يضربون أبا لهب ويقولون: أنت تخدعنا منذ الليلة.
فتفرّقوا في الجبال. وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز. يقفو الآثار.
فقالوا له: يا أبا كرز، اليوم اليوم.
فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: هذه قدم محمد، واللّه، إنّها لأخت القدم التي في المقام.
و كان أبو بكر استقبل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فردّه معه.
و قال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبي قحافة، أو أبيه. ثمّ قال: وها هنا عبر ابن أبي قحافة.
فما زال يقفو بهم، حتّى أوقفهم على باب الغار. ثمّ قال: ما جاوزا هذاالمكان. إمّا أن يكونوا صعدوا إلى السّماء، أو أدخلوا تحت الأرض.
فبعث اللّه العنكبوت، فنسجت على باب الغار. وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار، ثمّ قال: ما في الغار أحد .
فتفرقوا في الشّعاب، وصرفهم اللّه عن رسوله. ثمّ أذن لنبيّه في الهجرة.
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا: وهو قول النضر بن الحارث بن كلدة يوم بدر. وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنّه كان قاصّهم. أو قول الّذين ائتمروا في أمره- عليه السّلام-. وهذه غاية مكابرتهم وفرط عنادهم. إذ لو استطاعوا ذلك، فما منعهم أن يشاءوا وقد تحداهم وقرّعهم بالعجز عشر سنين ثمّ قارعهم بالسّيف. فلم يعارضوا سوره مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا، خصوصا في باب البيان.
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ : ما سطّره الأوّلون من القصص.
قيل : قاله النّضر- أيضا-. وذلك أنّه جاء بحديث رستم وإسفنديار من بلاد فارس، وزعم أنّ هذا هو مثل ذاك.
وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ .
قيل : هذا- أيضا- من كلام ذلك القائل أبلغ في الجحود.
و نقل : أنّه لمّا قال النّضر: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قال له النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: ويلك، إنّه كلام اللّه.
فقال ذلك.
و المعنى: ان كان القرآن حقّا منزلا، فأمطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره. أو ائتنا بعذاب أليم سواء.
و المراد به: التّهكّم، وإظهار اليقين، والجزم التّامّ على كونه باطلا.
و قرئ : «الحقّ» بالرفع، على أنّ «هو» مبتدأ غير فصل. وفائدة التعريف فيه،الدّلالة على أنّ المعلّق به كونه حقّا بالوجه الّذي يدّعيه النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-. وهو تنزيله لا الحقّ مطلقا، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل، كأساطير الأوّلين.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قاله أبو جهل.
و في روضة الكافي : عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي بصير قال: بينا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [ذات يوم] جالسا، وذكر كلاما طويلا في فضل عليّ- عليه السّلام-.
إلى أن قال: فغضب الحارث بن عمرو الفهريّ، فقال: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ إنّ بني هاشم يتوارثون هرقل بعد هرقل «فأرسل علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم».
فأنزل اللّه عليه مقالة الحارث.
و في تفسير مجمع البيان ، بإسناده إلى سفيان بن عيينة: عن جعفر بن محمّد الصّادق، عن آبائه- عليهم السلام- قال: لمّا نصب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليا- عليه السّلام- يوم غدير خمّ فقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» طار ذلك في البلاد.
فقدم على النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- النّعمان بن الحارث الفهريّ، فقال: أمرتنا من اللّه أن نشهد لا إله الّا اللّه وأنّك رسول اللّه، وأمرتنا بالجهاد والحجّ والصّوم والصلاة والزكاة، فقبلناها. ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه؟
فقال: واللّه الذي لا إله إلّا هو، إنّ هذا من عند اللّه.
فولّى النّعمان بن الحارث وهو يقول: «اللّهم» (الآية). فرماه اللّه بحجر على رأسه، فقتله.
وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ : بيان لما كان الموجب لإمهالهم، والتّوقّف لإجابة دعائهم.
و «اللّام» لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم عذاب استئصال والنبيّ بينأظهرهم خارج عن عادته غير مستقيم في قصائه.
و المراد بالاستغفار، إمّا استغفار من بقي فيهم من المؤمنين. أو قولهم: اللّهمّ غفرانك. أو فرضه على معنى: لو استغفروا لم يعذّبوا، كقوله: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ.
و في روضة الكافي : عليّ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمّد بن أبي حمزة وغير واحد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ لكم في حياتي خيرا وفي مماتي خيرا.
قال: فقيل: يا رسول اللّه، أما حياتك فقد علمنا فما لنا في وفاتك؟
فقال: أما في حياتي، فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ. وأمّا في مماتي، فتعرض عليّ أعمالكم فأستغفر لكم.
و في نهج البلاغة : وحكى أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- أنّه قال: كان في الأرض أمانان من عذاب الله- سبحانه-. فرفع أحداهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به. أمّا الأمان الّذى رفع، فهو رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأما الأمان الباقي، فالاستغفار. قال اللّه- عزّ وجلّ-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (الآية).
و في من لا يحضره الفقيه : وقال النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم.
فقالوا: يا رسول اللّه، وكيف ذاك؟
فقال: أمّا حياتي، فإن اللّه يقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ.
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و في كتاب ثواب الأعمال : عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: [مقامي فيكم و] الاستغفار لكم حصن حصين من العذاب. فمضى اكبر الحصنين، وبقي الاستغفار. فأكثروا منه، فانّه ممحاة للذنوب. قال اللّه- عزّ وجلّ-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (الآية).و في تفسير العيّاشيّ : عن عبد اللّه بن محمّد الجعفيّ قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: الاستغفار حصن حصين لكم من العذاب. فمضى اكبر الحصنين، وبقي الاستغفار. فأكثروا منه، فإنّه ممحاة للذّنوب. وان شئتم فاقرؤوا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (الآية).
و في كتاب علل الشرائع ، بإسناده إلى عمرو بن شمر: عن جابر بن يزيد الجعفي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام-: لأيّ شيء يحتاج إلى النبيّ والإمام؟
فقال: لبقاء العالم على صلاحه. وذلك أنّ اللّه- عزّ وجلّ- يرفع العذاب عن أهل الأرض، إذا كان فيها نبيّ أو إمام. قال اللّه- عزّ وجلّ-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ. وقال النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: النجوم أمان لأهل السّماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض. فإذا ذهبت النجوم، أتى أهل السّماء ما يكرهون. وإذا ذهب أهل بيتي، أتى أهل الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته: الأئمّة الّذين قرن اللّه- عزّ وجلّ- طاعتهم بطاعته.
و في أمالي شيخ الطائفة ، بإسناده إلى سدير: عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:
قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وهو في نفر من أصحابه: إنّ مقامي بين أظهركم خير لكم، وإنّ مفارقتي إيّاكم خير لكم.
فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، وقال: يا رسول اللّه، أمّا مقامك بين أظهرنا فهو خير لنا. فكيف يكون مفارقتك إيانا خيرا لنا؟
فقال: أمّا مقامي بين أظهركم خير لكم، لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، يعني: يعذّبهم] بالسّيف. فأمّا مفارقتي إيّاكم فهو خير لكم، لأنّ أعمالكم تعرض عليّ كلّ اثنين وخميس. فما كان من حسن، حمدت الله عليه. وما كان من سيء، استغفرت لكم.و بإسناده إلى جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- أنّه قال: أربع للمرء، لا عليه. إلى قوله: والاستغفار فإنّه قال:
وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ: وما لهم ممّا يمنع تعذيبهم متى زال ذلك، وكيف لا يعذّبون؟
وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: وحالهم ذلك. ومن صدّهم عنه إلجاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والمؤمنين إلى الهجرة، وإحصارهم عام الحديبيّة.
وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ: مستحقين ولاية أمره مع شركهم. وهو ردّ لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء.
إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ: من الشّرك. الّذين لا يعبدون فيه غيره.
و قيل : الضّميران للّه.
و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: معناه: وما أولياء المسجد الحرام إلّا المتّقون.
و في تفسير العيّاشيّ : عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، يعني: أولياء البيت، يعني: المشركين. إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ حيث ما كانوا، هم أولى به من المشركين.
وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ : أنّ لا ولاية لهم عليه، كأنّه نبّه بالأكثر على أنّ منهم من يعلم ويعاند. أو أراد به الكلّ، كما يراد بالقلّة العدم.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّها نزلت لمّا قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لقريش: إنّ اللّه بعثني أن أقتل جميع ملوك الدّنيا وأجري الملك إليكم. فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه، تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم وتكونوا ملكوا في الجنّة.
فقال أبو جهل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا الذي يقول محمّدهُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. حسدا لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.
ثمّ قال: كنّا وبنو هاشم، كفرسي رهان. نحمل، إذ احملوا. ونطعن، إذ طعنوا. ونوقد، إذا أوقدوا. فلما استوى بنا وبهم الرّكب، قال قائل منهم: منّا نبيّ. لا نرضى بذلك أن يكون في بني هاشم، ولا يكون في بني مخزوم.
ثمّ قال: غفرانك، اللّهم.
فأنزل اللّه في ذلك وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ حين قال: غفرانك، اللّهم.
فلمّا همّوا بقتل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأخرجوه من مكّة، قال اللّه:
وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، يعني:
قريشا ما كانوا أولياء مكّة. إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أنت وأصحابك، يا محمّد. فعذّبهم اللَّه بالسّيف يوم بدر، فقتلوا.
و في روضة الكافي»: عن أبي بصير قال: بينا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- [ذات يوم] جالس، إذ أقبل أمير المؤمنين- عليه السّلام-.
فقال له رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم.
و لولا أن يقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك قولا لا تمرّ بملإ من النّاس إلّا أخذوا التّراب من تحت قدميك، يلتمسون بذلك البركة.
قال: فغضب الأعرابيّان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم، فقالوا: ما رضي أن يضرب لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم.
فأنزل اللَّه على نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فقال: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ، يعني: من بني هاشم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ . قال: فغضب الحارث بن عمرو الفهريّ، فقال:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [إنّ بني هاشم يتوارثون] هرقلا بعد هرقلفأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فأنزل اللَّه عليه مقالة الحارث. ونزلت هذه الآية وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
ثمّ قال له: يا ابن عمرو، إمّا تبت وإما رحلت.
[فقال: يا محمّد، بل تجعل لسائر قريش شيئا ممّا في يديك. فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم.
فقال له النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: ليس ذلك إليّ. ذلك إلى اللَّه- تبارك وتعالى-.
فقال: يا محمّد، قلبي ما يتابعني على التوبة، ولكن أرحل عنك] .
فدعا براحلته، فركبها. فلمّا صار بظهر المدينة، أتته جندلة فرضّت هامته.
[ثمّ أتى الوحي إلى النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- فقال: «سأل سائل بعذاب واقع للكافرين بولاية عليّ ليس له دافع من اللَّه ذي المعارج» .
قال: قلت: جعلت فداك، إنّا لا نقرؤها هكذا.
فقال: هكذا- واللَّه- نزل بها جبرئيل على محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله-. وهكذا هو- واللَّه- مثبت في مصحف فاطمة- عليها السّلام-] .
فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- لمن حوله من المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم، فقد أتاه ما استفتح به. قال اللَّه: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ .
وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ، أي: دعاؤهم. أو ما يسمّونه صلاة. أو ما يضعون موضعها.
إِلَّا مُكاءً: صفيرا. فعال، من مكا يمكو: إذا صفر.
و قرئ ، بالقصر، كالبكا.
وَ تَصْدِيَةً: تصفيقا. تفعلة، من الصداء، أو من الصّدّ. على إبدال أحد حرفي التّضعيف بالياء.و قرئ : «صلاتهم» بالنّصب، على أنّه الخبر المقدّم. ومساق الكلام، لتقرير استحقاقهم العذاب. أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنّها لا تليق لمن هذه صلاته.
و في تفسير العياشي : عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال: التصفير والتصفيق.
و في عيون الأخبار : قال الرّضا- عليه السّلام-: وسميت مكّة: مكّة، لأنّ الناس كانوا يمكون فيها. وكان يقال لمن قصدها: قد مكأ. ذلك قول اللَّه- تعالى-: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً. «فالمكاء» التصفير. و«التّصدية» صفق اليدين.
و في مجمع البيان : روي أنّ النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، ورجلان عن يساره يصفّقان بأيديهما فيخلطان عليه صلاته. فقتلهم اللَّه جميعا ببدر.
قيل : إنّهم كانوا يطوفون عراة، الرّجال والنّساء، مشبّكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون.
فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني: القتل والأسر يوم البدر.
و قيل : عذاب الآخرة.
و «اللّام» يحتمل أن تكون للعهد والمعهود «ائتنا بعذاب أليم».
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ : اعتقادا وعملا.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : هذه الآية معطوفة على قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، كما نقلنا عنه هناك.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قيل : نزلت في المطعمين يوم بدر. وكان اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كلّواحد منهم كلّ يوم عشر [جزر أو] في أبي سفيان، استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقيّة.
و سيأتي عن عليّ بن إبراهيم، أنه في أصحاب العير. فإنّه لمّا أصيب قريش ببدر، قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمّد لعلّنا ندرك منه ثأرنا. ففعلوا.
و المراد بسبيل اللَّه: دينه، واتباع رسوله.
فَسَيُنْفِقُونَها: بتمامها.
قيل : لعلّ الأوّل إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال، وهو إنفاق بدر. والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل، وهو إنفاق احد. ويحتمل أن يراد بهما واحد، على أنّ مساق الأول لبيان غرض الإنفاق. ومساق الثاني لبيان عاقبته، وإنّه لم يقع بعد.
ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً: ندما وغمّا، لفواتها من غير مقصود. جعل ذاتها تصير حسرة، وهي عاقبة إنفاقها مبالغة.
ثُمَّ يُغْلَبُونَ: آخر الأمر. وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : نزلت في قريش، لمّا وافاهم ضمضم وأخبرهم بخبر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- في طلب العير. فأخرجوا أموالهم وحملوا وأنفقوا وخرجوا إلى محاربة رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ببدر، فقتلوا وصاروا إلى النّار. وكان ما أنفقوا حسرة عليهم.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي: الّذين ثبتوا على الكفر منهم، إذا أسلم بعضهم.
إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ : يساقون.
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ: الكافر من المؤمن، أو الفساد من الصّلاح.
و «اللّام» متعلّقة «بيحشرون»، أو «يغلبون».
أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ممّا أنفقه المسلمون في نصرته. و«اللام» متعلّقة بقوله: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.
و قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: «ليميّز» من التّمييز. وهو أبلغ من الميز.
وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً: فيجمعه ويضمّ بعضه إلى بعض، حتّى يتراكبوا لفرط ازدحامهم. أو يضمّ إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه، كما للكانزين.
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ: إشارة الى الخبيث، لأنّه مقدر بالفريق الخبيث. أو إلى المنفقين.
هُمُ الْخاسِرُونَ : الكاملون في الخسران، لأنّهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
و في علل الشّرائع : عن الباقر- عليه السّلام- في حديث: إنّ اللَّه- سبحانه- مزج طينة المؤمن حين أراد خلقه بطينة الكافر، فما يفعل المؤمن من سيئة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج. وكذلك مزج طينة الكافر حين أراد خلقه بطينة المؤمن، فما يفعل الكافر من حسنة فإنّما هو من أجل ذلك المزاج.
أو لفظ هذا معناه قال: فإذا كان يوم القيامة، ينزع اللَّه- تعالى- من العدوّ النّاصب سنخ المؤمن ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله الصّالحة ويرده على المؤمن. وينزع اللَّه- تعالى- من المؤمن سنخ النّاصب ومزاجه وطينته وجوهره وعنصره مع جميع أعماله السّيّئة الرّديئة، ويردّه إلى الناصب عدلا منه- جلّ جلاله- وتقدّست أسماؤه. ويقول للنّاصب: لا ظلم عليك بهذه الأعمال الخبيثة من طينك ومزاجك، وأنت أولى بها. وهذه الأعمال الصّالحة من طينة المؤمن ومزاجه وهو أولى بها. لا ظلم اليوم، إنّ اللَّه سريع الحساب.
ثم قال: أزيدك في هذا المعنى من القرآن، أليس اللَّه- عزّ وجلّ- يقول:
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ، أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وقال- عزّ وجلّ-: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ. لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: يعني: أبا سفيان وأصحابه.
و المعنى: قل لأجلهم.
إِنْ يَنْتَهُوا: عن معاداة الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله- بالدّخول في الإسلام.
يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ: من ذنوبهم.
و قرئ : بالتّاء والكاف، على أنّه خطابهم. و«يغفر» على البناء للفاعل. وهو اللَّه- تعالى-.
و في تفسير العيّاشيّ : عن عليّ بن درّاج الأسديّ قال: دخلت على أبي جعفر- عليه السّلام-.
فقلت له: إنّي كنت عاملا لبني أميّة. فأصبت مالا كثيرا، فظننت أنّ ذلك لا يحلّ لي.
قال: فسألت عن ذلك غيري؟
قال: قلت: قد سألت. فقيل لي: إنّ أهلك ومالك وكلّ شيء لك حرام.
قال: ليس كما قالوا لك.
قلت: جعلت فداك، فلي توبة؟
قال: نعم، توبتك في كتاب اللَّه قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.
وَ إِنْ يَعُودُوا: إلى قتاله.
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ : الّذين تحزّبوا على الأنبياء- عليهم السّلام- بالتّدبير، كما جرى على أهل بدر، فليتوقّعوا مثل ذلك.
وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ: لا يوجد فيهم شرك.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أي: كفر.
قال: وهي ناسخة لقوله: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. ولقوله: دَعْ أَذاهُمْ.
وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ: وتضمحلّ عنهم الأديان الباطلة.
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن
أذينة، عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: في قول اللَّه- عزّ وجلّ- وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ (الآية).
فقال: لم يجئ تأويل هذه الآية بعد. إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- رخّص [لخاصة] أصحابه . فلو قد جاء تأويلها، لم يقبل منهم. ولكنّهم يقتلون حتّى يوحّد اللَّه- عزّ وجلّ- حتّى لا يكون شرك.
و في تفسير مجمع البيان : وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ (الآية) و
روى زرارة وغيره، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال: لم يجئ تأويل هذه الآية. ولو قد قام قائمنا بعد، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية. وليبلغنّ دين محمد- صلّى اللَّه عليه وآله- ما بلغ اللّيل حتّى لا يكون شرك على ظهر الأرض، كما قال اللَّه- تعالى- يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً .
فَإِنِ انْتَهَوْا: عن الكفر.
فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم.
و عن يعقوب ، بالتّاء. على معنى: «فإن اللَّه بما تعملون» من الجهاد والدّعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام والإيمان «بصير» يجازيكم.
و يكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنّه، كما يستدعي إثابتهم المباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتّسبّب.
وَ إِنْ تَوَلَّوْا: ولم ينتهوا.
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ: ناصركم. فثقوا به، ولا تبالوا بمعاداتهم.
نِعْمَ الْمَوْلى: لا يضيّع من تولّاه.
وَ نِعْمَ النَّصِيرُ : لا يغلب من نصره.