سورة الأنفال وهي مكّيّة . وهي ستّ وسبعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: من قرأ سورة الأنفال وسورة براءة في كلّ شهر، لم يدخله نفاق أبدا. وكان من شيعة أمير المؤمنين- عليه السّلام- [حقّا] ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة مع شيعته، حتّى يفرغ النّاس من الحساب.
و في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة الأنفال وسورة براءة في كلّ شهر، لم يدخله نفاق أبدا. وكان من شيعة أمير المؤمنين- عليه السّلام-.
و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: منقرأ سورة الأنفال وبراءة، فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه بريء من النّفاق. واعطي من الأجر بعدد كلّ منافق ومنافقة في [دار] الدّنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات [و رفع له عشر درجات] . وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيّام حياته في الدّنيا.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، أي: الغنائم، يعني: حكمها.
و إنّما سمّيت الغنيمة نقلا، لأنّها عطيّة من اللّه- تعالى- وفضل، كما سمّي به ما يشرطه الإمام لمقتحم خطر: عطيّة له، وزيادة على سهمه.
و في مجمع البيان : قرأ السّجاد والباقر والصّادق- عليهم السّلام-: «يسألونك الأنفال».
يعني: أن يعطيهم.
و قرئ: «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على اللّام، وإدغام نون «عن» فيها.
قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: مختصّة بهما يضعانها حيث شاءا.
و في التّهذيب : عن الباقر- عليه السّلام-: «الفيء والأنفال» ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية. فهو كلّه من الفيء والأنفال . فهذا كلّه للّه ولرسوله. فما كان للّه، فهو لرسوله يضعه حيث شاء. وهو للإمام بعد الرّسول.
و فيه : محمّد بن الحسن الصّفّار، عن أحمد بن محمّد قال: حدّثنا بعض أصحابنا، رفع الحديث فقال: «الخمس» من خمسة أشياء: من الكنوز، والمعدن ، والغوص، والمغنم الّذي يقاتل عليه ولم يحفظ عليه الخامس، وما كان من فتح لم يقاتل عليه ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب إلّا أنّ أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه، فكيف ما عاملهم، عليه النّصف أو الثّلث أو الرّبع، أو ما كان يسهم له خاصّة وليس لأحد فيه شيء إلّا ما أعطاه هو منه. وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلّها هي له. وهو قوله- تعالى-:يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أن تعطيهم منه. قال: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. وليس هو يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ . والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: «الأنفال» ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة أو بطون الأودية.
فهو لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء.
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن رفاعة، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في الرّجل يموت ولا وارث له ولا موالي .
قال: هو من أهل هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
[عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عليّ بن أبي حمزة، عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: «الأنفال» هو النّفل. وفي سورة الأنفال يقال جدع الأنف .
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن شعيب، عن أبي الصّباح قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: نحن قوم فرض اللّه طاعتنا. لنا الأنفال ولنا صفو المال] .
و في الجوامع : عن الصّادق- عليه السّلام-: «الأنفال» كلّما أخذ من دار
الحرب بغير قتال، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال- أيضا- وسمّاها الفقهاء: فيئا- [و الأرضون الموات] ، والآجام، وبطون الأودية، وقطائع الملوك، وميراث من لا وارث له. وهي للّه وللرّسول ولمن قام مقامه بعده.
و في الكافي : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن محمّد الحلبي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
قال: من مات وليس له موالي ، فما له من الأنفال.
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من مات وليس له موالي، فما له من الأنفال.
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد جميعا، عن ابن محبوب، عن العلا، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام-.
قال: من مات وليس له وارث من قرابة ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته، فما له من الأنفال.
و في تفسير العيّاشيّ»: عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: «الأنفال» ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.
عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن الأنفال.
قال: هي القرى الّتي قد جلا أهلها وهلكوا، فخربت. فهي للّه وللرّسول.
عن أبي أسامة بن زيد ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن الأنفال.
فقال: هو كلّ أرض خربة ، وكلّ أرض لم يوجف عليها خيل ولا ركاب.عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: لنا الأنفال.
قلت: وما الأنفال؟
قال: منها المعادن، والآجام، وكلّ أرض لا ربّ لها، وكلّ أرض باد أهلها.
فهو لنا.
عن أبي حمزة الثّمالي ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سمعته يقول، في الملوك الّذين يقطعون النّاس: من الفيء والأنفال وأشباه ذلك.
و في رواية أخرى ، عن الثّماليّ قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
قال: ما كان للملوك، [فهو للإمام.
عن سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال. قال: كلّ أرض خربة وأشياء كانت تكون للملوك] فذلك خاصّ للإمام. ليس للنّاس فيه سهم. قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.
عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: الأنفال؟
قال: بطون الأودية، ورؤوس الجبال، والآجام، والمعادن، وكلّ أرض لم يوجف عليها خيل ولا ركاب، وكلّ أرض ميتة قد جلا أهلها، وقطائع الملوك.
عن أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قوله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
قال: سهم للّه وسهم للرّسول.
قال: قلت: فلمن سهم اللّه؟
فقال: للمسلمين.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن فضالة بن أيّوب، عن أبان بن
عثمان، عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الأنفال.
فقال: هي القرى الّتي قد خربت وانجلى أهلها، فهي للّه وللرّسول. وما كان للملوك، فهو للإمام. وما كان من أرض خربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكلّ أرض لا ربّ لها، والمعادن، ومن مات وليس له مولى، فماله من الأنفال.
و قال: نزلت يوم بدر لمّا انهزم النّاس. كان أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على ثلاث فرق: فصنف كانوا عند خيمة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-، وصنف أغاروا على النّهب، وفرقة طلبت العدوّ وأسروا وغنموا.
فلمّا جمعوا الغنائم والأسارى، تكلّمت الأنصار في الأسارى. فأنزل اللّه- تبارك وتعالى-: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ .
فلمّا أباح اللّه لهم الأسارى والغنائم، تكلّم سعد بن معاذ وكان ممّن أقام عند خيمة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يا رسول اللّه، ما منعنا أن نطلب العدوّ زهادة في الجهاد ولا جبنا من العدوّ، ولكنّا خفنا أن يغزى موضعك فتميل عليك خيل المشركين.
و قد أقام عند الخيمة وجوه المهاجرين والأنصار، ولم يشك أحد منهم. والنّاس كثير [يا رسول اللّه] والغنائم قليلة. ومتى تعطي هؤلاء، لم يبق لأصحابك شيء.
و خاف أن يقسّم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الغنائم وأسلاب القتلى بين من قاتل، ولا يعطي من تخلف على خيمة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- شيئا. فاختلفوا فيما بينهم حتّى سألوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فقالوا: لمن هذه الغنائم؟
فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
فرجع النّاس وليس لهم في الغنيمة شيء. ثمّ أنزل اللّه بعد ذلك وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ (الآية) . فقسّمه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بينهم.
فقال سعد بن أبي وقّاص: يا رسول اللّه، أ تعطي فارس القوم الّذي يحميهم مثل ما تعطي الضّعيف؟فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: ثكلتك أمّك، وهل تنصرون إلّا بضعفائكم؟
قال: فلم يخمّس رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ببدر، وقسّم بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر، [فأنزل اللّه قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ بعد انقضاء حرب بدر. وقد كتب ذلك في أوّل السّورة، وكتب بعده خروج النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- إلى الحرب] .
فَاتَّقُوا اللَّهَ: في الاختلاف والمشاجرة.
وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ: الحالة الّتي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم اللّه، وتسليم أمره إلى اللّه والرّسول.
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: فيه.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : فإنّ الإيمان يقتضي ذلك. أو أن كنتم كاملي الإيمان، فإنّ كمال الإيمان بهذه الثّلاثة: طاعة الأوامر، والاتّقاء عن المعاصي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ، أي: الكاملون في الإيمان.
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ: فزعت لذكره، استعظاما له، وتهيّبا من جلاله.
و قيل : هو الرّجل يهمّ بمعصية، فيقال له: اتّق اللّه. فينزع عنها خوفا من عقابه.
و قرئ : «وجلت» بالفتح. وهي لغة. و«فرقت»، أي: خافت.
وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً: لزيادة المؤمن به. أو لأطمئنان النّفس ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلّة، بناء على أنّ اليقين يقيل التّشكيك. أو بالعمل بموجبها، وهو قول من قال: الإيمان يزيد بالطّاعة وينقص، بالمعصية، بناء على أنّ العمل داخل فيه.
وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ : يفوّضون إليه أمورهم، ولا يخشون ولا يرجون إلّا إيّاه.الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: لأنّهم حقّقوا إيمانهم، بأن ضمّوا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص. والتوكّل، ومحاسن أفعال الجوارح الّتي هي العيار عليها من الصّلاة والصّدقة.
و «حقّا» صفة مصدر محذوف، أي: إيمانا حقّا. أو مصدر مؤكّد، كقوله: هو عبد اللّه حقّا.
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ: كرامة وعلوّ منزلة.
و قيل: درجات الجنّة يرتقونها بأعمالهم .
وَ مَغْفِرَةٌ: لما فرط منهم.
وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ : اعدّ لهم في الجنّة، لا ينقطع عدده ولا ينتهي أمده.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : نزلت في أمير المؤمنين- عليه السّلام-، وأبي ذرّ، وسلمان، والمقداد.
و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، وبالزّيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدّرجات عند اللّه، وبالنّقصان دخل المفرطون النّار.
و يأتي صدر الحديث في أواخر سورة التّوبة إن شاء اللّه.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الحال في كراهتهم إيّاها، كحال إخراجك للحرب في كراهتهم له.
أو صفة مصدر للفعل المقدّر في قوله: «للّه والرّسول»، أي: الأنفال ثبتت للّه والرّسول، مع كراهتهم، ثباتا، مثل ثبات إخراجك ربّك من بيتك، يعني المدينة. لأنّها مهاجره ومسكنه. أو بيّته فيها مع كراهتهم.
وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ : في موقع الحال.
قيل : يعني: حالهم هذه في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال، مثل حالهم فيكراهة خروجك من بيتك للحرب.
و في مجمع البيان : في حديث أبي حمزة: فاللّه ناصرك، كما أخرجك من بيتك.
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ: في إيثارك الجهاد، إظهارا للحقّ لإيثارهم تلقّي العير عليه.
بَعْدَ ما تَبَيَّنَ: أنّهم ينصرون أينما توجّهوا بإعلام الرّسول.
كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، أي: يكرهون القتال كراهة من يساق الى الموت وهو يشاهد أسبابه. وكان ذلك لقلّة عددهم، وعدم تأهّبهم.
إذ نقل: أنّهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلّا فارسان. وفيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم إنّما كانت لفرط فزعهم ورعبهم .
وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: على إضمار «اذكر».
و «إحدى» ثاني مفعولي «يعدكم». وقد أبدل عنهما.
أَنَّها لَكُمْ: بدل الاشتمال.
وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، يعني: العير. فإنّه لم يكن فيها إلّا أربعون فارسا. ولذلك يتمنّونها ويكرهون ملاقاة النّفير، لكثرة عددهم وعدّتهم.
و «الشّوكة» الحدّة. مستعارة من حدّة الشّوك.
و في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن يحيى الخثعميّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية: «ذات الشّوكة» الّتي فيها القتال.
وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ: أن يثبته ويغلبه.
بِكَلِماتِهِ: الموحى بها في هذه الحال. أو بأوامره للملائكة بالإمداد.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم»
: قال: «الكلمات» الأئمّة- عليهم السّلام-.
و قرئ : «بكلمته».
وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ : ويستأصلهم.
و المعنى: أنّكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها، واللّه يريد إعلاء الدّينو إظهار الحقّ وما يحصل لكم فوز الدّارين.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، أي: فعل ما فعل. وليس بتكرير. لأنّ الأوّل لبيان المراد وما بينه وبين مرادهم من التّفاوت، والثّاني لبيان الدّاعي إلى حمل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على اختيار ذات الشّوكة ونصره عليها.
وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ : ذلك.
و في تفسير العيّاشيّ : عن جابر قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن تفسير هذه الآية في قول اللّه: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.
قال أبو جعفر- عليه السّلام-: تفسيرها في الباطن يُرِيدُ اللَّهُ، فإنّه شيء يريده ولم يفعله بعد. وأمّا قوله: يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، فإنّه يعني: يحقّ حقّ آل محمّد. وأمّا قوله- سبحانه-: «بكلماته» قال: بكلماته في الباطن عليّ، هو كلمة اللّه في الباطن.
و أمّا قوله: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ فهو بنو أميّة، هم الكافرون، يقطع اللّه دابرهم.
و أمّا قوله: «ليحقّ الحقّ» فإنّه يعني حقّ آل محمّد حين يقوم القائم- عليه السّلام-. وأمّا قوله: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ، يعني القائم. فإذا قام يبطل بني أميّة . وذلك [قوله] لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ: بدل من «إذ يعدكم». أو متعلّق بقوله: «ليحقّ الحقّ». أو على إضمار «اذكر». واستغاثتهم لمّا علموا أنّ لا محيص من القتال.
و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين، استقبل القبلة وقال: اللّهمّ، أنجز لي ما وعدتني. اللّهمّ، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف به ، مادّا يديه، حتّى سقط رداؤه عن منكبه. فأنزل اللّه- تعالى- إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ (الآية).
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ: بأنّي ممدّكم. فحذف الجارّ، وسلط عليهالفعل.
و قرأ أبو عمرو، بالكسر، على إرادة القول. أو إجراء «استجاب» مجرى «قال»، لأنّ الاستجابة من القول.
بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ : متبعين المؤمنين، أو بعضهم بعضا. من أردفته: إذا جئت بعده. أو متّبعين بعضهم بعض المؤمنين، أو أنفسهم المؤمنين. من أردفته إيّاه، فردفه.
و قرأ نافع ويعقوب، بفتح الدّال، أي: متّبعين، أو متّبعين. بمعنى: أنّهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم.
و قرئ : «مردفين» بكسر الرّاء، وضمّها. وأصله، مرتدفين بمعنى: مترادفين.
فأدغمت التّاء في الدّال، فالتقى ساكنان، فحرّكت الرّاء بالكسر على الأصل أو بالضّمّ على الإتباع.
و قرئ : «بآلاف» ليوافق ما في سورة آل عمران. ووجه التّوفيق بينه وبين المشهور، أنّ المراد بالألف الّذين كانوا على المقدّمة، أو السّاقة، أو وجوههم وأعيانهم، أو من قاتل منهم.
وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ، أي: الإمداد.
إِلَّا بُشْرى، أي: إلّا بشارة لكم بالنّصر.
وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ: فيزول ما بها من الوجل، لقلّتكم وذلّتكم.
وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ : وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها وسائط لا تأثير لها. فلا تحسبوا النّصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ: بدل ثان من «إذ يعدكم»، لإظهار نعمة ثالثة. أو متعلّق «بالنّصر». أو بما في «عند اللّه» من معنى الفعل. أو «بجعل»، أو بإضمار «اذكر».و قرأ نافع، بالتّخفيف. من أغشيته الشّيء: إذا غشيته إيّاه. والفاعل على القراءتين، هو اللّه- تعالى-.
و قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يغشاكم النّعاس» بالرّفع.
أَمَنَةً مِنْهُ: أمنا من اللّه. وهو مفعول له، باعتبار المعنى. فإنّ قوله: يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ يتضمّن معنى: تنعسون. ويغشاكم بمعناه.
و «الأمنة» فعل لفاعله. ويجوز أن يراد بها الإيمان، فيكون فعل المغشيّ. وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النّعاس على المجاز. لأنّها لأصحابه، أو لأنّه كان من حقّه أن لا يغشاهم لشدّة الخوف. فلمّا غشيهم فكأنّه حصلت لهم أمنة من اللّه، لولاها لم يغشيهم، كقوله: يهاب النّوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفّار شرور.
و قرئ : «أمنة»، كرحمة. وهي لغة.
وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ: من الحدث والجنابة.
و في الكافي : عن الصّادق- عليه السّلام- [قال: قال أمير المؤمنين] اشربوا ماء السّماء، فإنّه يطهّر البدن، ويدفع الأقسام. ثمّ تلا هذه الآية.
و مثله في كتاب الخصال .
وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، يعني: الجنابة. لأنّها من تخييله، أو وسوسته وتخويفه إيّاهم من العطش.
إذ نقل : أنّهم نزلوا في كثيب أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء. وناموا، فاحتلم أكثرهم. وقد غلب المشركون على الماء. فوسوس إليهم الشّيطان، وقال: كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين، وتزعمون أنّكم أولياء اللّه، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا. فأنزل اللّه المطر، فمطروا [ليلا] حتّى جرى الوادي. واتّخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الرّكاب، واغتسلوا، وتوضّئوا. وتلبّد الرّمل الّذي بينهمو بين العدوّ، حتّى ثبتت عليه الأقدام وزالت [وسوسة الشّيطان] .
و في تفسير العيّاشيّ : عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- تعالى-: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ.
قال: لا يدخلنا ما يدخل النّاس من الشّكّ.
وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ: بالوثوق على لطف اللّه بكم.
وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ، أي: بالمطر، حتّى لا تسوخ في الرّمل. أو بالرّبط على القلوب، حتّى يثبت في المعركة.
و في تفسير العيّاشيّ : عن جابر، عن أبي [عبد اللّه] جعفر [بن محمّد] - عليه السّلام- قال: سألته عن هذه الآية في البطن [و ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام] .
قال: «فالسّماء» في الباطن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. و«الماء» عليّ.
جعل اللّه عليّا من رسول اللّه. فذلك قوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ. فذلك عليّ يطهّر اللّه به قلب من والاه. وأمّا قوله: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ من والى عليّا، يذهب الرجز عنه ويقوى عليه. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ فإنّه يعني: عليّا. من والى عليّا، يربط اللّه على قلبه بعليّ، فيثبت على ولايته.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ: بدل ثالث. أو متعلّق «بيثبّت».
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ: في إعانتهم وتثبيتهم. وهو مفعول «يوحي».
و قرئ بالكسر، على إرادة القول. أو إجراء الوحي مجراه.
فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا: بالبشارة، أو بتكثير سوادهم، أو بمحاربة أعدائهم.
فيكون قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالتفسير لقوله: «أنّي معكم فثبّتوا». وفيه دليل على أنّهم قاتلوا.
و من منع ذلك، جعل الخطاب فيه مع المؤمنين. إمّا على تغيير الخطاب، أو على أنّ قوله: «سألقي» إلى قوله: «كلّ بنان» تلقين للملائكة ما يثبّتون المؤمنين به، كأنّه
قال: قولوا لهم قولي هذا.
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ: أعاليها، الّتي هي المذابح والرّؤوس.
وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ، أي: الأصابع، أي: جزّوا رقابهم، واقطعوا أطرافهم.
ِكَ
: إشارة إلى الضّرب، أو الأمر به. والخطاب للرّسول، أو لكلّ أحد من المخاطبين.
َنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
: بسبب مشاقّتهم لهما.
و اشتقاقه من الشّقّ، لأنّ كلا من المتعاندين في شقّ خلاف شقّ الآخر، كالمعاداة، من العدوّ. والمخاصمة، من الخصم. وهو الجانب.
مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
: تقرير للتّعليل. أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدّنيا.
ذلِكُمْ: الخطاب فيه مع الكفرة، على طريقة الالتفات.
و محلّه الرّفع، أي: الأمر ذلكم، أو «ذلكم» واقع. أو نصب بفعل دلّ عليه فَذُوقُوهُ أو غيره، مثل باشروا. أو عليكم، لتكون الفاء عاطفة.
وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ : عطف على «ذلكم». أو نصب على المفعول معه.
و المعنى: ذوقوا ما عجّل لكم، مع ما أعدّ لكم في الآخرة.
و وضع الظّاهر فيه موضع المضمر، للدّلالة على أنّ الكفر سبب العذاب الآجل، أو الجمع بينهما.
و قرئ : «إنّ» بالكسر، على الاستئناف.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : كان سبب نزول ذلك، أنّ عيرا لقريش خرجت إلى الشّام فيها خزائنهم. فأمر النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أصحابه بالخروج، ليأخذوها فأخبرهم أنّ اللّه قد وعده إحدى الطّائفتين: إمّا العير، أو قريش إن ظفر بهم. فخرج في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.فلمّا قارب بدرا»، كان أبو سفيان في العير. فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قد خرج يتعرّض العير، خاف خوفا شديدا ومضى إلى الشّام.
فلمّا وافى النّقرة ، اكترى ضمضم بن عمرو الحرّاعي بعشرة دنانير، وأعطاه قلوصا ، وقال له: امض إلى قريش، وأخبرهم أنّ محمّدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، فأدركوا العير. وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع أذنها حتّى يسيل الدّم، ويشقّ ثوبه من قبل ودبر فإذا دخل مكّة ولّى وجهه إلى ذنب البعير، وصاح بأعلى صوته: يا آل غالب يا آل غالب ، اللّطيمة اللّطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا وما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم.
فخرج ضمضم يبادر إلى مكّة.
و رأت عاتكة بنت عبد المطّلب، قبل قدوم ضمضم، في منامها بثلاثة أيّام كأنّ راكبا قد دخل مكّة ينادي: يا آل عذر يا آل فهر ، أغدوا إلى مصارعكم صبح ثالث. ثمّ وافى بحمله على أبي قبيس، فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل، فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابه منه فلذة. وكأنّ وادي مكّة قد سال من أسفله دما.
فانتبهت ذعرة. فأخبرت العبّاس بذلك. فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة.
فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش.
و فشت الرّؤيا في قريش. فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: ما رأت عاتكة هذه الرّؤيا، وهذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب! واللّات والعزّى، لننظرنّ ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّا فهو، كما رأت. وإن كان غير ذلك، لنكتبنّ بيننا كتابا، أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.فلمّا مضى يوم، قال أبو جهل: هذا يوم قد مضى. فلمّا كان اليوم الثّاني، قال أبو جهل: هذان يومان قد مضيا. فلمّا كان اليوم الثّالث، وافى ضمضم ينادي في الوادي: يا آل غالب يا آل غالب، اللّطيمة اللّطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا وما أراكم تدركون، فإنّ محمّدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم الّتي فيها خزائنكم.
فتصايح النّاس بمكّة، وتهيّؤوا للخروج. وقام سهيل بن عمرو، وصفوان بن أميّة، وأبو البختريّ بن هشام، ومنبّه ونبيه، ابنا الحجّاج، ونوفل بن خويلد، فقالوا :
يا معشر قريش، واللّه ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه. أن يطمع محمّد والصّباة من أهل يثرب، أن يتعرّضوا لعيركم الّتي فيها خزائنكم. فو اللّه، ما قرشيّ ولا قرشيّة إلّا ولهما في هذا العير نشّ فصاعدا. وإنّه للذّل والصّغار أن يطمع محمّد في أموالكم، فيفرق بينكم وبين متجركم، فاخرجوا.
و أخرج صفوان بن أميّة خمسمائة دينار، وجهّز بها. وأخرج سهيل بن عمرو [خمسمائة] وما بقي أحد من عظماء قريش، إلّا أخرجوا مالا وحملوا وقودا . وخرجوا على الصّعب والذّلول لا يملكون أنفسهم، كما قال اللّه- تبارك وتعالى-: خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ .
و خرج معهم العبّاس بن عبد المطّلب، ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب.
و أخرجوا معهم المغنّيات، يشربون الخمر ويضربون بالدّفوف. وخرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها، بعث بشير بن أبي الرّغباء ومحمّد بن عمير يتجسّسان خبر العير. فأتيا ماء بدر، فأناخا راحلتيهما، واستعذبا من الماء. وسمعا جاريتين، قد تشبّثت إحداهما بالأخرى تطالبها بدرهم كان لها عليها. فقالت: عيرقريش نزلت أمس في موضع كذا، وهي تنزل غدا ها هنا وأنا أعمل لهم وأقضيك.
فرجعا، فأخبراه بما سمعا.
فأقبل أبو سفيان بالعير. فلمّا شارف بدرا، تقدّم العير وأقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر. وكان بها رجل من جهينة يقال له: كسب الجهنيّ.
فقال له: يا كسب، هل لك علم بمحمّد وأصحابه؟
قال: لا.
قال: واللّات والعزّى، لئن كتمتنا أمر محمّد، لا تزال لك قريش معادية آخر الدّهر. فإنّه ليس أحد من قريش، إلّا وله في هذه العير النش فصاعدا. فلا تكتمني.
فقال: واللّه، مالي علم بمحمّد [و ما بال محمّد] وأصحابه بالتّجّار؟ إلّا أنّي رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا، فاستعذبا من الماء، وأناخا راحلتيهما ورجعا. فلا أدري من هما.
فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما، ففتّ أبعار الإبل بيده، فوجد فيها النّوى. فقال: هذه علائف يثرب، هؤلاء- واللّه - عيون محمّد. فرجع مسرعا، وأمر بالعير، فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين.
و نزل جبرائيل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فأخبره أنّ العير قد أفلتت، وأنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها. وأمره بالقتال، ووعده النّصر. وكان نازلا ماء بالصّفراء . فأحبّ أن يبلو الأنصار، لأنّهم إنّما وعدوه أن ينصروه في الدّار. فأخبرهم أنّ العير قد جازت، وأنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها، وأنّ اللّه قد أمرني بمحاربتهم.
فجزع أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من ذلك. وخافوا خوفا شديدا. فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أشيروا عليّ.
فقام أبو بكر، فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش وخيلاؤها. ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئة الحرب.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- له: اجلس.فجلس.
فقال: أشيروا عليّ.
فقام عمر، فقال مثل مقالة أبي بكر.
فقال: اجلس.
ثمّ قام المقداد، فقال: يا رسول اللّه، إنّها قريش وخيلاؤها.
و إنّا قد آمنّا بك، وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه. ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس ، لخضنا معك. ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ . ولكنّا نقول: اذهب أنت وربّك فقاتلا، إنّا معكما مقاتلون.
فجزاه النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- خيرا. ثمّ جلس.
ثمّ قال: أشيروا عليّ.
فقام سعد بن معاذ، فقال: بأبي أنت وأمّي، يا رسول اللّه، كأنّك أردتنا؟
قال: نعم.
قال: فلعلّك خرجت على أمر قد أمرت بغيره؟ [قال: نعم] .
قال: بأبي أنت وأمّي، يا رسول اللّه، إنّنا قد آمنا بك وصدّقناك و شهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه. فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منه ما شئت. والّذي أخذت منه أحبّ إليّ من الّذي [تركت منه] . واللّه، لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. [فجزاه خيرا] .
ثمّ قال [سعد]»: بأبي أنت وأمّي، يا رسول اللّه، [و اللّه] ما خضت هذا الطّريق قطّ وما لي به علم. وقد خلّفنا بالمدينة قوما، ليس نحن بأشدّ جهادا لك منهم.و لو علموا أنّه الحرب، لما تخلّفوا. ولكن نعدّ لك الرّواحل، ونلقى عدوّنا. فإنّا صبر عند اللّقاء، أنجاد في الحرب. وإنّا لنرجو أن يقرّ اللّه عينيك بنا. فإنّ يك ما تحبّ، فهو ذاك.
و إن يكن غير ذلك، قعدت على رواحلك فلحقت بقومنا.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أو يحدث اللّه غير ذلك؟ كأنّي بمصرع فلان ها هنا، وبمصرع فلان ها هنا، وبمصرع أبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومنبّه ونبيه، ابني الحجّاج. فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطّائفتين، ولن يخلف اللّه الميعاد.
فنزل جبرئيل- عليه السّلام- على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بهذه الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ- إلى قوله-: وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بالرّحيل حتّى نزل عشاء على ماء بدر، وهي العدوة الشّامية.
و أقبلت قريش، ونزلت بالعدوة اليمانيّة. وبعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذهم أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وحبسوهم.
فقالوا لهم: من أنتم؟
قالوا: نحن عبيد قريش.
قالوا: فأين العير؟
قالوا: لا علم لنا بالعير.
فأقبلوا يضربونهم. وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يصلي.
فانفتل من صلاته فقال: إن صدقوكم، ضربتموهم. وإن كذبوكم، تركتموهم. عليّ بهم.
فأتوا بهم.
فقال لهم: من أنتم؟
قالوا: يا محمّد، نحن عبيد قريش.
قال: كم القوم؟
قالوا له: لا علم لنا بعددهم.
قال: كم ينحرون في كلّ يوم جزورا.
قالوا: تسعة إلى عشرة.فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: القوم تسعمائة إلى ألف. [ثمّ] .
قال: فمن فيهم من بني هاشم؟
فقالوا : العباس بن عبد المطّلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب.
فأمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بهم فحبسوا . وبلغ قريشا ذلك، فخافوا خوفا شديدا.
و لقي عتبة بن ربيعة أبا البختريّ بن هشام، فقال له: أما ترى هذا البغي، واللّه، ما أبصر موضع قدمي. خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت، فجئنا بغيا وعدوانا. واللّه، ما أفلح قوم قطّ بغوا. ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كلّه، ولم نسر هذا المسير.
فقال له أبو البختريّ: إنّك سيّد من سادات قريش. [فسر في الناس و] نحمل العير الّتي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة، ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك.
فقال عتبة: أنت تشير عليّ بذلك . وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة ، يعني: أبا جهل. فسر إليه، وأعلمه أنّي قد تحمّلت العير الّتي [قد] أصابها محمّد بنخلة ودم ابن الحضرميّ.
فقال أبو البختري: فقصدت خباءه فإذا هو قد أخرج درعا له.
فقلت له: إنّ أبا الوليد بعثني إليك برسالة.
فغضب، ثمّ قال: أما وجد عتبة رسولا غيرك؟
فقلت: أما، واللّه، لو غيره أرسلني ما جئت. ولكن أبا الوليد سيّد العشيرة.
فغضب [أشدّ من الأولى] غضبة أخرى، فقال: تقول: سيّد العشيرة!فقلت: أنا أقوله، وقريش كلّها تقوله. إنّه قد تحمّل العير ودم ابن الحضرميّ.
فقال: إنّ عتبة أطول النّاس لسانا، وأبلغهم في الكلام، ويتعصّب لمحمّد. فإنّه من بني عبد مناف، وابنه معه، ويريد أن يخذله بين النّاس. لا، واللّات والعزّى، حتّى نقتحم عليهم بيثرب، ونأخذهم أسارى. فندخلهم مكّة، وتتسامع العرب بذلك، ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه.
و بلغ أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كثرة قريش، ففزعوا فزعا شديدا وشكوا وبكوا واستغاثوا. فأنزل اللّه على رسوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فلمّا أمسى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وجنّه اللّيل، ألقى اللّه على أصحابه النّعاس حتّى ناموا. وأنزل اللّه- تبارك وتعالى- عليهم السّماء ، وكان نزول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في موضع لا يثبت فيه القدم، فأنزل اللّه عليهم السّماء [و لبّد الأرض] حتى تثبت الأقدام. وهو قول اللّه- تبارك وتعالى-: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ. وذلك أنّ بعض أصحاب النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- احتلم. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
و كان المطر على قريش، مثل العزالي . وكان على أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- رذاذا بقدر ما يلبّد الأرض. وخافت قريش خوفا شديدا، فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات.
فبعث رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عمّار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود، فقال:
ادخلا في القوم واتياني بأخبارهم.فكانا يجولان في عسكرهم. لا يرون إلّا خائفا ذعرا، إذا سمعوا سهل الفرس وثبوا على جحفلته. فسمعوا منبّه بن الحجّاج يقول: لا يترك الجوع لنا مبيتا لا بدّ أن نموت أو نميتا.
قال: قد واللّه، كانوا شباعا، ولكنّهم من الخوف قالوا هذا.
و ألقى اللّه في قلوبهم الرّعب، كما قال اللّه- تعالى-: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ .
فلمّا أصبح رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. عبّأ أصحابه. وكان في عسكر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فرسان: فرس للزّبير بن العوّام، وفرس للمقداد بن أسود.
و كان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها. وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ على جمل يتعاقبون عليه، والجمل لمرثد. وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس. فعبّأ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أصحابه بين يديه، وقال: غضّوا أبصاركم، ولا تبدأوهم بالقتال، ولا يتكلّمنّ أحد.
فلمّا نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، قال أبو جهل: ما هم إلّا أكلة رأس. ولو بعثنا إليهم عبيدنا، لأخذوهم أخذا باليد.
فقال عتبة بن ربيعة: أ ترى لهم كمينا ومددا؟
فبعثوا عمرو بن وهب الجمحيّ. وكان فارسا شجاعا. فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. ثمّ صعد في الوادي، وصوّت. ثمّ رجع إلى قريش، فقال: ما لهم كمين ولا مدد، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت النّاقع. أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون؟ يتلمّظون تلمّظ الأفاعي. ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم. وما أراهم يولّون حتّى يقتلوا ، ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم. فارتئوا رأيكم.
فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت، وانتفخ سحرك» حين نظرت إلى سيوفأهل يثرب.
و فزع أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حين نظروا إلى كثرة قريش وقوّتهم. فأنزل اللّه على رسوله وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ . وقد علم اللّه أنّهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السّلم، وإنّما أراد بذلك ليطيّب قلوب أصحاب النّبيّ.
فبعث رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، ما أحد من العرب أبغض إليّ من أن أبدأ بكم. فخلّوني والعرب. فإن أك صادقا، فأنتم أعلى بي عينا. وإن أك كاذبا، كفتكم ذؤبان العرب أمري. فارجعوا.
فقال عتبة: واللّه، ما أفلح قوم قطّ ردّوا هذا.
ثمّ ركب جملا له أحمر.
فنظر إليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال: إن يكن عند أحد خير، فعند صاحب الجمل الأحمر. إن يطيعوه، يرشدوا.
فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش، اجتمعوا واسمعوا . ثمّ خطبهم، فقال: يمن مع رحب، ورحب مع يمن. يا معشر قريش، أطيعوني اليوم وأعصوني الدّهر. وارجعوا إلى مكّة، واشربوا الخمور وعانقوا الحور. فإنّ محمّدا له إلّ وذمّة. وهو ابن عمّكم. فارجعوا، ولا تردّوا رأيي. وإنّما تطالبون بالعير الّتي أخذها محمّد بنخلة ، ودم ابن الحضرميّ، وهو حليفي وعليّ عقله.
فلمّا سمع أبو جهل ذلك، غاظه وقال: إنّ عتبة أطول النّاس لسانا، وأبلغهم في الكلام. ولئن رجعت قريش بقوله، ليكوننّ سيّد قريش آخر الدّهر.
ثمّ قال: يا عتبة، نظرت إلى سيوف بني عبد المطّلب وجبنت وانتفخ سحرك وتأمر النّاس بالرّجوع، وقد رأينا [ثأرنا] بأعيننا.
فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل، وكان على فرس، فأخذ بشعره.
فقال النّاس: يقتله.
فعرقب فرسه وقال: أ مثلي يجبن؟ وستعلم قريش اليوم أيّنا الأم وأجبن ، وأيّنا المفسد لقومه. لا يمشي إلّا أنا وأنت إلى الموت عيانا. ثمّ قال: هذا جناي وخياره فيه وكلّ جان يده إلى فيه.
ثمّ أخذ بشعره يجرّه.
فاجتمع إليه النّاس، فقالوا: يا أبا الوليد، اللّه اللّه، لا تفتّ في أعضاد النّاس.
تنهى عن شيء وتكون أوّله.
فخلّصوا أبا جهل من يده.
فنظر عتبة إلى أخيه شيبه ونظر إلى ابنه الوليد، فقال: قم، يا بنيّ.
فقام. ثمّ لبس درعه. وطلبوا له بيضة يتسع رأسه، فلم يجدوها لعظم هامته.
فاعتمّ بعمامتين. ثمّ أخذ سيفه، وتقدّم هو وأخوه وابنه ونادى: يا محمّد، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش.
فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار، عوذ ومعوّذ وعوف من بني عفراء.
فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم.
فقالوا: نحن بنو عفراء، أنصار اللّه وأنصار رسوله.
فقالوا: ارجعوا، فإنّا لسنا إيّاكم نريد. إنّما نريد الأكفاء من قريش.
فبعث إليهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن ارجعوا، فرجعوا. وكره أن يكون أوّل الكرّة بالأنصار، فرجعوا ووقفوا موقفهم.
ثمّ نظر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكان له سبعون سنة، فقال له: قم يا عبيدة.
فقام بين يديه بالسّيف.
ثمّ نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب، فقال له: قم، يا عمّ.ثم نظر إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال له: قم، يا عليّ- وكان أصغر القوم - فاطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم. فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها، تريد أن تطفى نور اللّه ويأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره.
ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: يا عبيدة، عليك بعتبة. وقال لحمزة:
عليك بشيبة. وقال لعليّ: عليك بالوليد بن عتبة.
فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم.
فقال عتبة: من أنتم؟ انتسبوا لنعرفكم.
فقال [عبيدة] : أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب.
فقال: كفو كريم. فمن هذان؟
فقال: حمزة بن عبد المطّلب، وعليّ بن أبي طالب.
فقال: كفوان كريمان. لعن اللّه من أوقفنا وإيّاكم هذا الموقف.
فقال شيبة لحمزة: من أنت؟
فقال: أنا حمزة بن عبد المطّلب، أسد اللّه وأسد رسوله.
فقال له شيبة: لقد لقيت أسد الحلفاء. فانظر كيف تكون صولتك، يا أسد اللّه.
فحمل عبيدة على عتبة، فضربه على رأسه ضربة فلق هامته.
و ضرب عتبة عبيدة على ساقه، فقطعها وسقطا جميعا. وحمل حمزة على شيبة، فتضاربا بالسّيفين حتى انثلما. وكلّ واحد منهما يتّقي بدرقته. وحمل أمير المؤمنين- عليه السّلام- على الوليد بن عتبة، فضربه على حبل عاتقه، فأخرج السّيف من إبطه. فقال عليّ- عليه السّلام-: فأخذ يمينه المقطوعة بيساره، فضرب بها هامتي، فظننت أنّ السّماء وقعت على الأرض.
ثمّ اعتنق حمزة وشيبة، فقال المسلمون: يا عليّ، أما ترى الكلب قد بهر عمّك.
فحمل إليه عليّ- عليه السّلام-. ثمّ قال: يا عمّ، طأطئ رأسك. وكان حمزة أطول من شيبة. فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه أمير المؤمنين- عليه السّلام- على رأسه فطير نصفه. ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق، فأجهز عليه. وحمل عبيدة بين حمزة وعليّ حتّىأتيا به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فنظر إليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فاستعبر.
فقال: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمّي، أ لست شهيدا؟
قال: بلى، أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.
فقال: أمّا لو كان عمك حيّا، لعلم أني أولى بما قال منه.
قال: وأيّ أعمامي تعني؟
قال: أبو طالب، حيث يقول:
كذبتم وبيت اللّه نبرى محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرّع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله: أما ترى ابنه: كاللّيث العادي بين يدي اللّه ورسوله، وابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة؟
فقال: يا رسول اللّه، أسخطت عليّ في هذه الحالة؟
فقال: ما سخطت عليك، ولكن ذكرت عمي فانقبضت لذلك.
و قال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا، كما عجل وبطر أبناء ربيعة.
عليكم بأهل يثرب، فاجزروهم جزرا. وعليكم بقريش، فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها.
و كان فئة من قريش أسلموا بمكّة فأجلسهم آباؤهم. فخرجوا مع قريش إلى بدر وهم على الشّكّ والارتياب والنّفاق، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكهة، والحارث بن ربيعة، وعليّ بن أمية بن خلف، والعاص بن المنبّه. فلمّا نظروا إلى قلة أصحاب محمّد- صلى اللّه عليه وآله- قالوا: مساكين هؤلاء، نحرهم دينهم فيقتلون الساعة. فأنزل الله على رسوله إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
و جاء إبليس- عليه اللّعنة- إلى قريش في صورة سراقة بن مالك، فقال لهم:
«إني جار لكم» ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه. وجاء بشياطينه يهول بهم علىأصحاب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- ويخيل إليهم ويفزعهم. وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الرّاية.
فنظر إليه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- فقال: غضّوا أبصاركم، وعضّوا على النّواجذ، ولا تسلّوا سيفا حتّى آذن لكم. ثمّ رفع يده إلى السّماء، فقال: يا ربّ، إن تهلك هذه العصابة لم تعبد. وان شئت أن لا تعبد، لا تعبد.
ثمّ أصابه الغشي، فسرى عنه وهو يسكب العرق عن وجهه وهو يقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين.
قال: فنظرنا، فإذا سحابة سوداء فيها برق لائح وقد وقعت على عسكر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-. وقائل يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم . وسمعنا قعقعة السّلاح من الجوّ.
و نظر إبليس إلى جبرئيل- عليه السّلام- فراجع ورمى باللّواء. فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه، ثمّ قال: ويلك، يا سراقة، تفتّ في أعضاد النّاس.
فركله إبليس ركلة في صدره، وقال: إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف اللّه. وهو قول اللّه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ . ثمّ قال- عزّ وجلّ-: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ .
و حمل جبرئيل على إبليس، فطلبه حتّى غاص في البحر. وقال: ربّ، أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم القيامة .
روي في خبر: أنّ إبليس التفت إلى جبرئيل وهو في الهزيمة، فقال: يا هذا، بدا لكم فيما أعطيتمونا؟فقيل لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أ ترى كان يخاف أن يقتله؟
فقال: لا ولكنّه كان يضربه ضربة يشينه منها إلى يوم القيامة.
و أنزل الله على نبيّه إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ . قال: أطراف الأصابع. فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور اللّه، ويأبى اللّه إلا أن يتمّ نوره.
و خرج أبو جهل من بين الصّفين، فقال: اللّهم ، إن محمّدا قطعنا الرّحم وأتانا بما لا نعرفه، فأهنه الغداة.
فأنزل اللّه على رسوله إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .
ثم أخذ رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله- كفا من حصاة، فرمى به في وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه. فبعث اللّه رياحا تضرب في وجوه قريش، فكانت الهزيمة. ثمّ قال رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-: اللّهم، لا يغلبنّك» فرعون هذه الأمة، أبو جهل بن هشام.
فقتل منهم سبعين وأسر منهم سبعين.
و التقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل، فضرب عمرو أبا جهل على فخذه، وضرب أبو جهل عمروا على يده فأبانها من العضد فتعلّقت بجلدة. فاتكأ عمرو على يده برجله، ثمّ تراخى في السّماء حتّى انقطعت الجلدة ورمى بيده.
و قال عبد اللَّه بن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحّط بدمه، فقلت: الحمد للّه الّذي أخزاك.
فرفع رأسه، فقال: إنّما أخزى اللّه عبد بن أمّ عبد. لمن الدين ، ويلك؟
قلت: للّه وللرّسول، وإنّي قاتلك، ووضعت رجلي على عنقه.فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا، يا رويعي الغنم. أما إنّه ليس شيء أشدّ من قتلك إيّاي في هذا اليوم. ألّا تولّي قتلي رجلا من المطلبيين، أو رجلا من الأحلاف؟
فانقلعت بيضة كانت على رأسه، فقتلته. وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وآله-. فقلت: يا رسول اللّه، البشرى. هذا رأس أبي جهل بن هشام.
فسجد للّه شكرا.
و أسر أبو بشير الأنصاريّ العبّاس بن عبد المطّلب وعقيل بن أبي طالب، وجاء بهما إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.
فقال له: هل أعانك عليهما أحد؟
قال: نعم، رجل عليه ثياب بيض.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ذاك من الملائكة.
ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- للعبّاس: أفد نفسك وابن أخيك.
فقال: يا رسول اللّه، قد كنت أسلمت ولكن القوم استكرهوني.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقّا، فإنّ اللّه يجزيك عليه. فأمّا ظاهر أمرك، فقد كنت علينا.
ثمّ قال: يا عبّاس، إنكم خاصمتم اللَّه، فخصمكم.
ثمّ قال: أفد نفسك وابن أخيك.
و قد كان العبّاس أخذ معه أربعين أوقيّة من ذهب.
فغنمها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فلمّا قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- للعبّاس: «أفد نفسك» قال: يا رسول اللَّه، أحسبها من فدائي.
فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: لا، ذاك شيء أعطانا اللَّه منك. فأفد نفسك وابن أخيك.
فقال العبّاس: ليس لي مال غير الّذي ذهب منّي.
قال: بلى، المال الّذي خلّفته عند أمّ الفضل بمكّة. وقلت لها: إن حدث عليّ حدث، فاقسموه بينكم.فقال له: تتركني وأنا أسأل النّاس بكفي.
فأنزل اللَّه على رسوله في ذلك يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثمّ قال اللَّه: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ [في علي] فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .
ثمّ قال رسول اللَّه لعقيل: قد قتل اللَّه، يا أبا يزيد، أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبّه ونبيه، ابني الحجّاج ونوفل بن خويلد. وأسر سهيل بن عمرو والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط وفلان وفلان.
فقال عقيل: إذا لا تنازعوا في تهامة. فإن كنت قد أثخنت القوم، وإلّا فاركب أكتافهم.
فتبسم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- من قوله.
و كان القتلى ببدر سبعين، والأسرى سبعين. قتل منهم أمير المؤمنين- عليه السّلام- سبعة وعشرين، ولم يؤسر أحدا. فجمعوا الأسارى، وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم، وجمعوا الغنائم. وقتل من أصحاب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- تسعة رجال، فيهم سعد بن خيثمة، وكان من النّقباء. فرحل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ونزل الأثيل عند غروب الشّمس، وهو من بدر على ستّة أميال. فنظر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إلى عقبة بن أبي معيط وإلى النضر بن الحارث بن كلدة، وهما في قرآن واحد.
فقال النّضر لعقبة: يا عقبة أنا وأنت مقتولان.
قال عقبة: من بني قريش؟
قال: نعم. لأنّ محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله- قد نظر إلينا نظرة، رأيت فيها القتل.
فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: يا عليّ، عليّ بالنّضر وعقبة.و كان النّضر رجلا جميلا، عليه شعر. فجاء عليّ- عليه السّلام- فأخذ بشعره فجرّه إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.
فقال النضر: يا محمد، أسألك بالرّحم الّذي بيني وبينك إلا أجريتني، كرجل من قريش. إن قتلتهم، قتلتني. وإن فاديتهم، فاديتني. وإن أطلقتهم، أطلقتني. فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: لا رحم بيني وبينك، قطع اللَّه الرحم بالإسلام. قدّمه، يا عليّ، فاضرب عنقه.
فقال عقبة: يا محمّد، ألم تقل: لا تصبر قريش، أي: لا يقتلون صبرا؟
قال: وأنت من قريش؟ إنّما أنت علج من أهل صفوريّة. لا أنت في الميلاد أكبر من أبيك الّذي تدعى له، ليس منها. قدّمه، يا عليّ، فاضرب عنقه.
فقدّمه، فضرب عنقه. فلمّا قتل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- النضر وعقبة، خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلّهم. فقاموا إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وقالوا: يا رسول اللَّه، قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين. وهم قومك وأساراك. هبهم لنا، يا رسول اللَّه، وخذ منهم الفداء وأطلقهم. فأنزل اللَّه عليه ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً . فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم، وشرط أنّه يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء. فرضوا منه بذلك. وتمام الحديث مضى في سورة آل عمران.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً: كثيرا. بحيث يرى لكثرتهم كأنّهم يزحفون، أي: يدبّون.
و هو مصدر زحف الصبيّ: إذا دبّ على مقعده قليلا. سمّي به. وجمع على زحوف. وانتصابه على الحال.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، أي: يدنوا بعضهم من بعض.
فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ : بالانهزام، فضلا أن يكونوا مثلكم أو أقلّمنكم.
و الأظهر أنّها محكمة، مخصوصة بقوله: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ (الآية).
و يجوز أن ينتصب «زحفا» على الحال من الفاعل والمفعول، أي: إذا لقيتموهم متزاحفين يدبّون إليكم وتدبون إليهم، فلا تنهزموا. أو من الفاعل وحده، ويكون أشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولّوا، وهم اثنا عشر ألفا.
وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ: يريد الكر بعد الفرّ وتغرير العدوّ، فانّه من مكائد الحرب.
أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، أي: منحازا إلى طائفة أخرى من المسلمين على القرب، ليستعين بهم.
و منهم من لم يعتبر القرب،
لما نقل ابن عمر أنّه كان في سريّة بعثهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-. ففرّوا إلى المدينة.
فقلت: يا رسول اللَّه، نحن الفرّارون؟
فقال: بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم.
و انتصاب «متحرّفا» و«متحيزا» على الحال، وإلّا لغو لا عمل لها. أو الاستثناء من المولين، أي: إلّا رجلا متحرفا أو متحيزا.
و وزن «متحيّز» «متفيعل» لا «متفعّل»، وإلا لكان متحوزا، من حاز يحوز.
فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
قيل: هذا إذا لم يزد العدوّ على الضعف، لقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ (الآية).
و قيل : الآية مخصوصة بأهل بيته ، والحاضرين معه في الحرب.
و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي أسامة، زيد الشّحام قال: قلت لأبي الحسن- عليه السّلام-: جعلت فداك، إنّهم يقولون: ما منع عليا، ان كان له حقّ، أن يقوم بحقّه؟
فقال: إنّ اللَّه لم يكلّف هذا أحدا إلّا نبيّه- عليه وآله السّلام- قال له:فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ . وقال لغيره: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ . فعليّ لم يجد فئة. ولو وجد فئة، لقاتل.
ثمّ قال: لو كان جعفر وحمزة حيّين، إنّما هما رجلان . قال: مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ. قال: متطرّفا يريد الكرة عليهم. «أو متحيزا»، يعني: متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة. فمن انهزم حتى يخوض صفّ أصحابه، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
عن زرارة ، عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: قلت: الزّبير شهد بدرا؟
قال: نعم، ولكنّه فرّ يوم الجمل. فإن كان قاتل المؤمنين، فقد هلك بقتاله إياهم. وان كان قاتل كفّارا، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، حين ولّاهم دبره.
[سئل] عن أبي جعفر - عليه السّلام- ما شأن أمير المؤمنين حين ركب منه ما ركب، [لم يقاتل] .
فقال: للّذي سبق في علمه أن يكون. ما كان لأمير المؤمنين- عليه السّلام- أن يقاتل وليس معه إلّا ثلاثة رهط ، فكيف يقاتل؟ ألم تسمع قول اللَّه- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً- إلى- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. فكيف يقاتل أمير المؤمنين بعدها، وإنّما هو يومئذ ليس معه [مؤمن] غير ثلاثة رهط.
و في كتاب الخصال ، في مناقب أمير المؤمنين- عليه السّلام- وتعدادها: وقال- عليه السّلام-: وأمّا الثّالثة والسّتّون، فاني لم أفرّ من الزّحف قطّ، ولم يبارزني أحد إلّا سقيت الأرض من دمه.
و في عيون الأخبار1»، في باب ما كتب به الرضا- عليه السّلام- إلى محمد بن سنان
في جواب مسائله في العلل: وحرّم اللَّه- تعالى- الفرار من الزّحف لما فيه من الوهن في الدّين، والاستخفاف بالرّسل والائمّة العادلة- عليهم السّلام- وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على انكار ما دعوا إليه من الإقرار بالرّبوبيّة وإظهار العدل، وترك الجور، وإماتته والفساد ، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون من السّبي والقتل وإبطال من دين اللَّه- عزّ وجلّ- وغيره من الفساد.
و في الكافي : علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي حمزة، عن عقيل الخزاعيّ، أنّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- كان إذا حضر الحرب، يوصي المسلمين بكلمات يقول: تعاهدوا الصّلاة- إلى أن قال عليه السّلام-: ثمّ أنّ الرعب والخوف من جهاد المستحق للجهاد والمؤازرين على الضّلال ضلال في الدين، وسلب للدّنيا مع الذّلّ والصّغار، وفيه استيجاب النّار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال. يقول اللَّه- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ
أحمد بن محمّد الكوفيّ ، عن ابن جمهور، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن مفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- وعن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأصمّ، عن حريز، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- لأصحابه: إذا لقيتم عدوكم في الحرب، فأقلّوا الكلام واذكروا اللَّه- عزّ وجلّ- فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ فتسخطوا اللَّه- تبارك وتعالى- وتستوجبوا غضبه.
محمّد بن يحيى ، عن احمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن الحسن بن صالح، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان يقول: من فرّ من رجلين في القتال من الزحف، فقد فرّ. ومن فرّ من ثلاثة في القتال من الزّحف، فلم يفرّ.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ: بقوّتكم.
وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ: بنصركم وتسليطكم عليهم، وإلقاء الرّعب في قلوبهم.
نقل : انّه لمّا طلعت قريش من العقنقل، قال- عليه السّلام-: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك. اللّهم، انّي أسألك ما وعدتني.فأتاه جبرئيل- عليه السّلام- وقال له: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها.
فلمّا التقى الجمعان، تناول كفّا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال:
شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك الّا شغل بعينيه. فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. ثمّ لمّا انصرفوا، أقبلوا على التّفاخر. فيقول الرجل: قتلت وأسرت.
فنزلت.
و «الفاء» جواب شرط محذوف، تقديره: إن فخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، ولكن اللَّه قتلهم.
وَ ما رَمَيْتَ: يا محمّد، رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه.
إِذْ رَمَيْتَ: أي: أتيت بصورة الرّمي.
وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى، أي: أتى بما هو غاية الرّمي، فأوصلها إلى أعينهم حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم.
و قد عرفت أنّ اللّفظ يطلق على المسمّى، وعلى ما هو كماله، والمقصود منه.
و قيل : معناه: ما رميت بالرّعب إذ رميت بالحصباء، ولكنّ اللَّه رمى بالرّعب في قلوبهم.
و قيل : انّه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد، ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتّى مات. أو رمية سهم رماه يوم حنين نحو الحصن، فأصاب لبابة بن الحقيق على فراشه.
و في تفسير علي بن ابراهيم، يعني: الحصى الّذي حمله رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ورمى به في وجوه قريش، وقال: شاهت الوجوه.
و في كتاب الاحتجاج : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في حديث طويل. وفيه قال في هذه الآية: سمّي فعل النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- فعلا له. ألا ترى تأويله على غير تنزيله.و في تفسير العياشيّ : عن محمّد بن كليب الأسديّ، عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
قال: عليّ ناول رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- القبضة التي رمى بها.
و في خبر آخر عنه: أنّ عليّا- عليه السّلام- ناوله قبضة من تراب، رمى بها.
عن عمرو بن أبي المقدام ، عن عليّ بن الحسين- عليه السّلام- قال: ناول رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- عليّ بن أبي طالب قبضة من تراب [القبضة] التي رمى بها في وجوه المشركين. فقال [اللَّه] : وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
و في كتاب الخصال ، في مناقب أمير المؤمنين- عليه السّلام- وتعدادها. قال- عليه السّلام-: وأمّا الخامسة والثّلاثون، فإن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وجهني يوم بدر فقال: ائتني بكف حصيات مجموعة في مكان واحد. فأخذتها ثمّ شممتها، فإذا هي طيّبة تفوح منها رائحة المسك. فأتيته بها، فرمى بها وجوه المشركين. وتلك الحصيات أربع منها كن من الفردوس وحصاة من المشرق، وحصاة من المغرب، وحصاة من تحت العرش. مع كلّ حصاة مائة ألف ملك مداد لنا. لم يكرم اللَّه- عزّ وجلّ- بهذه الفضيلة أحدا قبلنا ولا بعدنا.
وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً: ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة، ومشاهدة الآيات.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ: لاستغاثتهم ودعائهم.
عَلِيمٌ : بنيّاتهم وأحوالهم.
ذلِكُمْ: إشارة إلى البلاء الحسن أو القتل، أو الرّمي.
و محلّه الرّفع، أي: المقصود، أو الأمر «ذلكم».
وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ : معطوف عليه، أي: المقصود إيلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.و قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو: «موهن» بالتّشديد. وحفص: «موهن كيد الكافرين» بالإضافة والتّخفيف.
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ قيل : خطاب لأهل مكّة على سبيل التّهكم. وذلك أنّهم حين أرادوا الخروج، تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ، انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين.
و في مجمع البيان ، في حديث أبي حمزة: قال أبو جهل: اللّهم ربّنا، ديننا القديم ودين محمّد الحديث. فأي الدّينين كان أحبّ إليك وأرضى عندك، فانصر أهله اليوم.
و روي أنّه قال: أيّنا أهجر وأقطع للرّحم، فأهنه اليوم فأهلكه.
و قيل : خطاب للمؤمنين، وكذا القولان فيما بعده.
وَ إِنْ تَنْتَهُوا: عن الكفر، ومعاداة الرسول.
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: لتضمنه سلامة الدّارين وخير المنزلين.
وَ إِنْ تَعُودُوا: لمحاربته.
نَعُدْ: لنصره.
وَ لَنْ تُغْنِيَ: ولن تدفع.
عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ: جماعتكم.
شَيْئاً: من الإغناء، أو المضارّ.
وَ لَوْ كَثُرَتْ: فئتكم.
وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ : بالنّصر والمعونة.
و قرأ نافع وابن عامر وحفص: «و أنّ» بالفتح. على تقدير: ولأنّ اللَّه مع المؤمنين كان ذلك.
و قيل : الآية خطاب للمؤمنين. والمعنى: إن تستنصروا، فقد جاءكم النصر.
و إن تنتهوا عن التّكاسل في القتال والرغبة عمّا يستأثره الرّسول، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. «و إن تعودوا إليه، نعد» عليكم بالإنكار أو تهييج العدوّ. «و لن تغني» حينئذ كثرتكم، إذا لميكن اللَّه معكم بالنّصر. فإنه مع الكاملين في إيمانهم. ويؤيّد ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ: ولا تتولوا عن الرّسول. فإنّ المراد من الآية: الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه.
و ذكر طاعة اللَّه، للتّوطئة، والتّنبيه على أنّ طاعة اللَّه هي طاعة الرّسول لقوله:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
و قيل: الضّمير للجهاد، أو للأمر الّذي دلّ عليه الطّاعة.
وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ : القرآن والمواعظ، سماع فهم وتصديق.