بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: من إضافة الصّفة المشبّهة إلى فاعلها. أو إلى الظّرف، كقولهم: ثبت الغدر. بمعنى: أنّه عديم النّظير فيهما.
و قيل : معناه: المبدع. وقد سبق الكلام فيه.
و ما رواه
في مجمع البيان : عن أبي جعفر- عليه السّلام-: «أنّ معناه: أنّهمبدعهما ومنشئهما [بعلمه] ابتداء. لا من شيء ولا على مثال سبق»
فمحمول على أنّه حاصل المعنى.
و رفعه على الخبر، والمبتدأ محذوف. أو على الابتداء وخبره أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، أي: من أين، أو كيف يكون له ولد؟
وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ: يكون منها الولد.
و قرئ ، بالياء، للفصل. أو لأنّ الاسم ضمير اللّه، أو ضمير الشّأن.
وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : لا تخفى عليه خافية.
و إنّما لم يقل: به، لتطرّق التّخصيص إلى الأوّل.
و قيل : في الآية استدلال على نفي الولد من وجوه:
الأوّل، اللّه من مبدعاته السّموات والأرضون. وهي مع أنّها من جنس ما يوصف بالولادة، مبرّأة عنها لاستمرارها وطول مدّتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها [أو أن ولد] الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد.
و الثّاني، أنّ المعقول من الولد ما يتولّد من ذكر وأنثى متجانسين. واللّه تعالى منزّه عن المجانسة.
و الثّالث، أنّ الولد كفؤ الوالد. ولا كفؤ له لوجهين:
الأوّل، أنّ كلّ ما عداه مخلوق فلا يكافئه.
و الثّاني، أنّه [سبحانه وتعالى] لذاته عالم بكلّ المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع.
ذلِكُمُ: إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصّفات. وهو مبتدأ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: أخبار مترادفة.و يجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة، والبعض خبرا.
و في كتاب الخصال : عن أبي جعفر»
- عليه السّلام-. وفي العيون : عن الرّضا- عليه السّلام-: أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين. واللّه خالق كلّ شيء.
و لا نقول بالجبر والتّفويض.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الحسين بن خالد: عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- أنّه قال: اعلم، علّمك اللّه الخير، أنّ اللّه- تبارك وتعالى- قديم. والقدم صفة دلّت العاقل على أنّه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميّته. فقد بان لنا بإقرار العامّة مع معجزة الصّفة، أنّه لا شيء قبل اللّه ولا شيء مع اللّه [في بقائه] . وبطل قول من زعم، أنّه كان قبله أو كان معه شيء. وذلك أنّه لو كان معه شيء في بقائه، لم يجز أن يكون خالقا له. لأنّه لم يزل معه، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه. ولو كان قبله شيء، كان الأوّل ذلك الشّيء لا هذا. وكان الأوّل أولى بأن يكون خالقا للثّاني .
و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد مرسلا، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- مثله سواء.
فَاعْبُدُوهُ: حكم مسبّب عن مضمونها. فإنّ من استجمع هذه الصّفات، استحقّ العبادة.
وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ، أي: هو مع تلك الصّفات متولّي أموركم. فكلوها إليه وتوسّلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم.و [قيل: أي: حفيظ مدبّر] ، [رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها]
لا تُدْرِكُهُ: لا تحيط به.
الْأَبْصارُ: جمع، بصر. وهي حاسّة النّظر. وقد يقال للعين، من حيث أنّها محلّها.
وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ: يحيط بها علمه.
وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : فيدرك ما لا تدركه الأبصار، كالأبصار.
و يجوز أن يكون من باب اللّفّ، أي: لا تدركه الأبصار لأنّه اللّطيف، وهو يدرك الأبصار لأنّه الخبير. فيكون «اللّطيف» مستعارا من مقابل «الكثيف» لما لا يدرك بالحاسّة ولا ينطبع فيها.
و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام-. فاستأذنته في ذلك، فأذن لي، فدخل عليه. فسأله عن الحلال والحرام والأحكام، حتّى بلغ سؤاله التّوحيد.
فقال أبو قرّة: إنّا روينا، أنّ اللّه- عزّ وجلّ- قسّم الرّؤية والكلام بين نبيّين .
فقسم لموسى- عليه السّلام- الكلام، ولمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- الرّؤية.
فقال أبو الحسن- عليه السّلام-: فمن المبلغ عن اللّه- عزّ وجلّ- إلى الثّقلين، الإنس والجنّ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أليس محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-؟
قال: بلى.
[قال- ظ] فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا، فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّهو أنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه ويقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علما، وهو على صورة البشر. أما تستحيون ما قدرت الزّنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون يأتي عن اللّه بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر؟
و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.
و بإسناده إلى [عبد اللّه بن سنان عن] أبي عبد اللّه- عليه السّلام- لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ.
قال: إحاطة الوهم. ألا ترى إلى قوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ليس يعني: بصر العيون. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ليس يعني: من أبصر بعينه. وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها لم يعن: عمى العيون. إنّما عنى إحاطة الوهم، كما يقال: فلان بصير بالشّعر، وفلان بصير بالفقه، وفلان بصير بالدّراهم، وفلان بصير بالثّياب. اللّه أعظم من أن يرى بالعين.
و بإسناده إلى أبي هاشم الجعفريّ: عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال:
سألته عن اللّه- عزّ وجلّ- هل يوصف؟
فقال: أمّا تقرأ القرآن؟
قلت: بلى.
قال: أما تقرأ قوله- عزّ وجلّ-: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ؟
قلت: بلى.
قال: فتعرفون الأبصار؟
قلت: نعم .
قال: وما هي؟
قلت: أبصار العيون.
فقال: إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون. فهو لا تدركه الأوهام، وهو يدرك الأوهام.
و بإسناده إلى أبي هاشم [الجعفري، قال: قلت لأبي جعفر ابن الرضا- عليه السّلام-: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.
فقال: يا أبا هاشم] : أوهام القلوب أدق من أبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السّند والهند والبلدان الّتي لم تدخلها، ولم تدركها ببصرك. فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون؟!
و في أصول الكافي ، هذه الأحاديث الأربعة إسنادا ومتنا سواء.
و في أمالي الصدّوق - رحمه اللّه-، بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل بن بزيغ قال:
قال أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.
قال: لا تدركه أوهام القلوب، فكيف تدركه أبصار العيون؟!
و بإسناده إلى إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق- عليه السّلام- عن اللّه- تبارك وتعالى- هل يرى في المعاد؟
فقال: سبحان اللّه وتعالى [عن ذلك] علوّا كبيرا. يا ابن الفضل، إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ما [له] لون وكيفيّة. واللّه تعالى خالق الألوان والكيفيّة.و بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إيّاكم والتّفكّر في اللّه [و النّظر في اللّه] ، فإنّ التّفكّر في اللّه لا يزيد إلّا تيها. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- لا تدركه الأبصار، ولا يوصف بمقدار.
و في كتاب التّوحيد ، خطبة لعليّ- عليه السّلام-. يقول فيها: ولم تدركه الأبصار، فيكون بعد انتقالها حائلا.
و خطبة أخرى له- عليه السّلام-. وفيها: وانحسرت الأبصار عن أن تناله، فيكون بالعيان موصوفا، وبالذّات الّتي لا يعلمها إلّا هو عند خلقه معروفا.
و فيه حديث طويل، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-. يقول فيه- وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات-: وأما قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فهو، كما قال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعني : لا تحيط به الأوهام. وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، يعني: يحيط بها.
و في مجمع البيان : روى العيّاشيّ، بإسناده المتّصل: أن المفضّل بن سهل ذا الرّئاستين سأل أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- فقال: أخبرني عمّا اختلف فيه النّاس من الرّؤية.
فقال: من وصف اللّه- سبحانه- بخلاف ما وصف به نفسه، فقد أعظم الفرية على اللّه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. وهذه الأبصار ليست هذه الأعين، إنّما هي الأبصار الّتي في القلوب. ولا يقع عليه الأوهام ولا يدرك كيف هو.
و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار في التّوحيد. حديث طويل عنه- عليه السّلام-. وفيه قال: قال السّائل: رحمك اللّه،فأوجدني كيف هو وأين هو؟
قال: ويلك، إنّ الّذي ذهبت إليه غلط. وهو أين الأين، وكان ولا أين. هو كيّف الكيف، وكان ولا كيف. فلا يعرف بكيفوفيّة، ولا بأينونيّة، ولا [يدرك] بحاسّة، ولا يقاس بشيء.
قال الرّجل: فإذا أنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ.
فقال أبو الحسن- عليه السّلام-: ويلك، لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه، أنكرت ربوبيّته. ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنا أنّه ربّنا، وأنّه [شيء] بخلاف الأشياء.
و فيه بعد سطور قال الرّجل: فلم احتجب؟
فقال أبو الحسن- عليه السّلام-: إنّ الحجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم. فأمّا هو، فلا تخفى عليه خافية في آناء اللّيل والنّهار.
قال: فلم لا تدركه حاسّة البصر ؟
قال: للفرق بينه وبين خلقه الّذين تدركهم حاسّة الأبصار منهم ومن غيرهم.
[ثم] هو أجلّ من أن يدركه بصر ، أو يحيط به وهم.
و في أصول الكافي : أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن سيف، عن محمّد بن عبيد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- أسأله عن الرّؤية، وما ترويه العامّة والخاصّة. وسألته أن يشرح لي ذلك.فكتب بخطّه: اتّفق الجميع لا تمانع بينهم، أنّ المعرفة من جهة الرّؤية ضرورة.
فإذا جاز أن يرى اللّه بالعين، وقعت المعرفة ضرورة. ثمّ لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا، أو ليست بإيمان.
فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرّؤية إيمانا، فالمعرفة الّتي في دار الدّنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان، لأنّها ضدّه. فلا يكون في الدّنيا مؤمن، لأنّهم لم يروا اللّه- عزّ ذكره-.
و إن لم تكن تلك المعرفة الّتي من جهة الرّؤية إيمانا، لم تخل هذه المعرفة الّتي من جهة الاكتساب أن تزول، ولا تزول في المعاد. فهذا دليل على أنّ اللّه- تعالى عزّ ذكره- لا يرى بالعين، إذ العين تؤدّي إلى ما وصفناه.
عليّ بن إبراهيم : عن المختار [بن محمد بن المختار] الهمدانيّ ومحمّد بن الحسن، عن عبد اللّه بن الحسن العلويّ جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ، عن أبي الحسن- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه فقولك: اللّطيف الخبير. فسّره لي، كما فسّرت الواحد. فإنّي أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل ، غير أنّي أحبّ أن تشرح لي ذلك.
فقال: يا فتح، إنّما قلنا: «اللّطيف» للخلق اللّطيف، [و] لعلمه بالشّيء اللّطيف. أو لا ترى- وفّقك اللّه وثبّتك- إلى أثر صنعه في النّبات اللّطيف وغير اللّطيف، ومن الخلق اللّطيف، ومن الحيوان الصّغار، ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها، ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره الذّكر من الأنثى، والحدث المولود من القديم. فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه واهتدائه للسّفاد والهرب من الموت والجمع لمايصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وافهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثمّ تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة [و أنّه] ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا، علمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سمّيناه بلا علاج ولا أداة ولا آلة. وأنّ كلّ صانع [شيء] فمن شيء صنع، واللّه الخالق اللّطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء.
عليّ بن محمّد مرسلا، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل.
و فيه: وأمّا اللّطيف، فليس على قلّة وقضافة وصغر . ولكنّ ذلك على النّفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك للرّجل: لطف عنّي هذا الأمر، ولطف فلان في مذهبه.
و قوله يخبرك: أنّه غمض فيه العقل، وفات الطلب ، وعاد متعمّقا متلطّفا لا يدركه الوهم. فكذلك لطف اللّه- تبارك وتعالى- عن أن يدرك بحدّ أو يحدّ بوصف. واللّطافة منّا الصّغر والقلّة، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
محمّد بن أبي عبد اللّه ، رفعه إلى أبي هاشم الجعفريّ: عن أبي جعفر الثّاني- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه قال- عليه السّلام-: [و كذلك] سمّيناه لطيفا، لعلمه بالشّيء اللّطيف، مثل البعوضة وأخفى من ذلك، وموضع النشوء منها، والعقل، والشّهوة للسّفاد ، والحدب على نسلها، وإقام بعضها على بعض، ونقلها الطّعامو الشّراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار. فعلمنا أنّ خالقها لطيف بلا كيف. وإنّما الكيفيّة للمخلوق المكيف.
و في كتاب الإهليلجة : قال الصّادق- عليه السّلام-: إنّما سمّيناه لطيفا للخلق اللّطيف ولعلمه بالشّيء اللّطيف، ممّا خلق من البعوض للبعوضة والذّرّة وما أصغر منها.
و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد مرسلا، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: وأمّا الخبير، فالّذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته. ليس للتّجربة ولا للاعتبار بالأشياء، فعند التّجربة والاعتبار علمان ولولاهما ما علم. لأنّ من كان كذلك، كان جاهلا. واللّه لم يزل خبيرا بما يخلق. والخبير من النّاس، المستخبر عن جهل المتعلّم. فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ:
«البصائر» جمع، بصيرة. وهي للنّفس، كالبصر للبدن. سمّيت بها الدّلالة، لأنّها تجلي لها الحقّ وتبصرها به.
فَمَنْ أَبْصَرَ، أي: أبصر الحقّ وآمن به.
فَلِنَفْسِهِ: أبصر. لأنّ نفعه لها.
وَ مَنْ عَمِيَ: عن الحقّ وضلّ.
فَعَلَيْها: وباله.
وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ : وإنّما أنا منذر. واللّه هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها. وهذا كلام ورد على لسان الرّسول- عليه السّلام-.
وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ: ومثل ذلك التّصريف نصرّف الآيات. وهو إجراءالمعنى الدّائر في المعاني المتعاقبة. من الصّرف: وهو نقل الشّيء من حال إلى حال.
وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ، أي: وليقولوا: درست صرفنا. و«الّلام» لام العاقبة.
و الدّرس: القراءة والتّعلّم.
و قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «دارست»، أي: دارست أهل الكتاب وذاكرتهم.
و ابن عامر ويعقوب: «درست» من الدّروس، أي: قدّمت هذه الآيات وعفت، كقولهم:
أساطير الأوّلين.
و قرئ : «درست» بضمّ الرّاء، مبالغة في «درست» و«درست» على البناء للمفعول. بمعنى: قرئت، أو عفيت. ودارست بمعنى: درست، أو دارست اليهود محمّدا- عليه السّلام-. ودارسات، أي: قديمات، أو ذوات درس، كقوله: «عيشة راضية».
و في تفسير علي بن إبراهيم : كانت قريش تقول لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: [إنّ] الّذي تخبرنا به من الأخبار تتعلّمه من علماء اليهود وتدرسه .
وَ لِنُبَيِّنَهُ.
«الّلام» على أصله، لأنّ التّبيين مقصود التّصريف.
و الضّمير للآيات، باعتبار المعنى. أو للقرآن، وإن لم يذكر لكونه معلوما. أو للمصدر.
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ : فإنّهم المنتفعون به.
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: بالتّديّن به.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: اعتراض، أكّد به إيجاب الاتّباع. أو حال مؤكّدة، بمعنى:
منفردا في الألوهيّة.
وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ : ولا تحتفل بأقوالهم، ولا تلتفت إلى رأيهم. ومن جعله منسوخا بآية السّيف، حمل الإعراض على ما يعمّ الكفّ عنهم.
وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ: توحيدهم وعدم إشراكهم.ما أَشْرَكُوا.
و في مجمع البيان : في تفسير أهل البيت- عليهم السّلام-: ولو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد، لما كان يحتاج إلى جنّة ولا إلى نار.
و لكنّه أمرهم ونهاهم وامتحنهم وأعطاهم ما له عليهم به الحجّة [من] الآلة والاستطاعة، ليستحقّوا الثّواب والعقاب.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، ما يقرب منه.
وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً: رقيبا.
وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ : تقوم بأمورهم.
وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: ولا تذكروا آلهتهم الّتي يعبدونها بما فيها من القبائح.
فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً: تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل.
بِغَيْرِ عِلْمٍ: جهالة باللّه، وبما يجب أن يذكر به.
و قرأ يعقوب: «عدوّا». يقال: عدا فلان عدوا وعدوّا وعداء وعدوانا.
نقل أنّه- عليه السّلام- كان يطعن في آلهتهم، فقالوا: لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. فنزلت.
و قيل : كان المسلمون يسبّونها، فنهوا. لئلّا يكون سبّهم سببا لسبّ اللّه.
قيل : وفيه دليل على، أن الطّاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها.
فإنّ ما يؤدّي إلى الشّرّ، شرّ.
و في أصول الكافي : الحسن بن محمّد، عن عليّ بن محمّد بن سعد، عن محمّد بن مسلم، عن إسحاق بن موسى قال: حدّثني أخي وعمّي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-
قال: ثلاثة مجالس يمقتها اللّه ويرسل نقمته على أهلها، فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم:
مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه، ومجلسا ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ، ومجلسا فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم.
قال: ثمّ تلا أبو عبد اللّه- عليه السّلام- ثلاث آيات من كتاب اللّه كأنّما كنّ [في] فيه، أو قال [في] كفّه: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ . وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن حبيب السّجستانيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: في التّوراة مكتوب فيما ناجى اللّه- عزّ وجلّ- به موسى بن عمران- عليه السّلام-: يا موسى، أكتم مكتوم سري في سريرتك، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّي وعدوّك من خلقي، ولا تستسبّ لي عندهم بإظهار مكتوم سرّي فتشرك عدوّي وعدوّك في سبّي.
و في تفسير العيّاشي : عن عمر الطّيالسي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:
سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
قال: فقال: يا عمر، أ رأيت أحدا يسبّ اللّه؟
قال: فقلت: جعلني اللّه فداك، فكيف؟
قال: من سبّ ولي اللّه، فقد سبّ اللّه.و في الاعتقادات : عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قيل له: إنّا نرى في المسجد رجلا يعلن يسبّ أعدائكم ويسبهم .
فقال: ما له، لعنه اللّه، تعرّض بنا. قال اللّه- تعالى-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ (الآية).
قال: وقال الصّادق- عليه السّلام- في تفسير هذه الآية: لا تسبّوهم، فإنّهم يسبّون عليكم.
و قال: من سبّ ولي اللّه، فقد سبّ اللّه.
و قال: النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام-: من سبّك، فقد سبّني.
و من سبّني، فقد سبّ اللّه. ومن سبّ اللّه، فقد كبّه اللّه على منخريه في نار جهنّم.
و في روضة الكافي ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل.
يقول فيه- عليه السّلام-: وإيّاكم وسبّ أعداء اللّه حيث يسمعونكم فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: [إنّه] سئل عن قول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ الشّرك أخفى من دبيب النّمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء.
فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، وكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون. فنهى اللّه عن سب آلهتهم، لكي لا يسبّ الكفّار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا باللّه من حيث لا يعلمون. فقال: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المتفرّقة. حديث طويل. وفي آخره قال- عليه السّلام-: إنّ مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التّقصير [في أمرنا] ، وثالثها التّصريح بمثالب أعدائنا. فإذا سمع النّاس الغلوّ [فينا] ، كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا. وإذا سمعوا التّقصير، اعتقدوه فينا. وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم، سبّونا بأسمائنا. وقد قال اللّه- تعالى-: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ.
كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ: من الخير والشّرّ بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه، توفيقا وتخذيلا.
قيل : ويجوز تخصيص العمل بالشّر. و«كلّ أمّة» بالكفرة، لأنّ الكلام فيهم.
و المشبّه به تزيين سبّ اللّه لهم.
ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ : بالمحاسبة والمجازاة عليه.
وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: مصدر في موقع الحال. والدّاعي لهم إلى هذا القسم والتّأكيد فيه، التّحكم على رسول اللّه في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، يعني: قريشا.
لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ: من مقترحاتهم.
لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ: هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء، وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي.
وَ ما يُشْعِرُكُمْ: ما يدريكم. استفهام إنكار.
أَنَّها: الآية المقترحة.إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، أي: لا تدرون أنّهم لا يؤمنون. وأنا أعلم أنّها إذا جاءت، لا يؤمنون بها. أنكر السّبب، مبالغة في المسبّب.
قيل : وذلك أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجيء الآية ويتمنّون مجيئها، فأخبرهم اللّه- سبحانه- أنّهم ما يدرون ما سبق علمه به من أنّهم لا يؤمنون.
و قيل : «لا» مزيدة.
و قيل : «إنّ» بمعنى: لعلّ. إذ قرئ: لعلّها.
و قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: «إنّها» بالكسر. كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم. ثمّ أخبرهم بما علم منهم.
و قرأ ابن عامر وحمزة: «لا تؤمنون» بالتّاء، على أنّ الخطاب للمشركين.
و قرئ : «و ما يشعرهم أنّها إذا جاءتهم» فيكون إنكارا لهم على حلفهم، أي:
و ما يشعرهم أنّ قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة، كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات، فيؤمنون بها.
وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ قيل : عطف على «لا يؤمنون»، أي: وما يشعركم إنّا حينئذ نقلّب أفئدتهم عن الحقّ فلا يفقهونه، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها.
كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ: بما أنزل من الآيات أَوَّلَ مَرَّةٍ.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، يعني: في الذّرّ والميثاق.
وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ : وندعهم متحيّرين، لا نهديهم هدايةالمؤمنين.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية يقول: ننكّس قلوبهم، فيكون أسفل قلوبهم أعلاها. ونعمي أبصارهم، فلا يبصرون الهدى .
و قال عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-: إنّ أوّل ما يقلبون عليه من الجهاد [الجهاد] بأيديكم، ثمّ الجهاد بألسنتكم، ثمّ الجهاد بقلوبكم. فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا، نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا.
و قرئ: «و يقلّب» و«يذرهم» على الغيبة، و«تقلّب» على البناء للمفعول، والإسناد إلى الأفئدة.
وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، كما اقترحوه، فقالوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ . فَأْتُوا بِآبائِنا . أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا .
و «قبلا» جمع، قبيل، بمعنى: كفيل، أي: كفلاء بما بشّروا به وأنذروا. أو جمع، قبيل، الّذي هو جمع، قبيلة، بمعنى: جماعات. أو مصدر، بمعنى: مقابلة، كقبلا.
و هو قراءة نافع وابن عامر، أي: عيانا. وهو على الوجوه حال من «كلّ». وإنّما جاز ذلك لعمومه.
ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا: إخبار بعدم إيمانهم، لعلمه- تعالى- بعدم إيمانهم، وهو لا يوجب امتناع إيمانهم.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ:
إيمانهم مشيئة حتم، ويجبرهم على الإيمان.و في مجمع البيان : أنّه المرويّ عن أهل البيت- عليهم السّلام-.
و هو استثناء من أعمّ الأحوال.
و قيل : منقطع.
وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ : أنّهم لو أتوا بكلّ آية لم يؤمنوا، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون. ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم، مع أنّ مطلق الجهل يعمّهم. أو لكنّ أكثر المسلمين يجهلون أنّهم لا يؤمنون، فيتمنّون نزول الآية طمعا في إيمانهم.
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، أي: كما جعلنا لك عدوّا، جعلنا لكلّ نبيّ سبقك عدوّا، بمعنى: التّخلية بينهم وبين أعدائهم للامتحان.
في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسين بن سعيد، عن [عليّ بن أبي حمزة] عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ما بعث اللّه نبيّا، إلّا وفي أمّته شيطانان يؤذيانه ويضلان النّاس بعده. فأمّا صاحبا نوح فقنطيقوس وخزامة ، وأمّا صاحبا إبراهيم فمكثل ورزام، وأمّا صاحبا موسى فالسّامريّ ومر عقيبا، وأمّا صاحبا عيسى فبولس ومرسون ، وأمّا صاحبا محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فحبتر وزريق.
بتقديم الزّاء على الرّاء، مصغر أزرق. و«الحبتر» بالمهملة ثمّ الموحدة ثمّ المثنّاة من فوق ثمّ الرّاء، على وزن جعفر، الثّعلب. وإنّما كنّى عنهما بهما، لزرقة عين أحدهما وتشبّه الآخر بالثّعلب في الحيلة.
و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفيّ: [فرات] قال: حدّثني الحسين بن الحكممعنعنا، عن ابن عبّاس [- رضي اللّه عنه- في قوله- تعالى- في كتابه] : وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
قال: نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب وحمزة وزيد. وفي قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا نزلت في النّبيّ وأبي جهل.
شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: مردة الفريقين.
و هو بدل من «عدوّا». أو أوّل مفعولي «جعلنا»، و«عدوّا» مفعوله الثّاني.
و «لكلّ» متعلّق به، أو حال منه.
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ: يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس. أو بعض الجنّ إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض.
زُخْرُفَ الْقَوْلِ: الأباطيل المموّهة. من زخرفه: إذا زيّنه.
غُرُوراً: مفعول له. أو مصدر في موضع الحال.
و في روضة الكافي ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل.
يقول فيه- عليه السّلام- فإنّ من لم يجعله اللّه من أهل صفة الحقّ، فأولئك هم شياطين الإنس والجن.
و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: الإنس على ثلاثة أجزاء: فجزء تحت ظلّ العرش يوم لا ظل إلّا ظله، وجزء عليهم الحساب والعذاب، وجزء وجوههم وجوه الآدميّين وقلوبهم قلوب الشّياطين.
و في كتاب الاحتجاج للطّبرسيّ- رحمه اللّه-، بإسناده إلى الباقر- عليه السّلام- عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل. وفيه خطبة الغدير. وفيها: ألا إنّ أعداءعليّ هم [أهل] الشّقاق [و النفاق، والحادون و] هم العادون وإخوان الشّياطين الّذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
و في مجمع البيان : وروي عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال: إنّ الشّياطين يأتي بعضهم بعضا، فيلقي إليه ما يغوي به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض.
وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ: إيمانهم.
ما فَعَلُوهُ، أي: ما فعلوا ذلك، يعني: معاداة الأنبياء وإيحاء الزّخارف.
و يجوز أن يكون الضّمير للإيخاء، أو الزّخرف، أو الغرور.
و في كتاب الخصال ، مرفوعا إلى علي- عليه السّلام- قال: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض وفضائل ومعاصي- إلى قوله عليه السّلام-: وأمّا المعاصي فليست بأمر اللّه، ولكن بقضاء اللّه وبقدره وبمشيئته وعلمه، ثمّ يعاقب عليها.
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ : من كفرهم.
وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قيل : عطف على «غرورا» إن جعل علّة. أو متعلّق بمحذوف، أي: وليكون ذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوا.
و الأظهر أنّ «اللام» لام العاقبة، أو لام القسم كسرت لمّا لم يؤكد الفعل بالنّون، أو لام الأمر.
و الصّغو: الميل. والضّمير لماله الضّمير في «فعلوه».
وَ لِيَرْضَوْهُ: لأنفسهم.
وَ لِيَقْتَرِفُوا: وليكتسبوا.
ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ : من الآثام.أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً: على إرادة القول، أي: قل لهم يا محمّد: أ فغير اللّه أطلب من يحكم بيني وبينكم، ويفصل وبينهم ونفصل المحقّ منّا من المبطل.
و «غير» مفعول «أبتغي»، و«حكما» حال منه ويحتمل عكسه. و«حكما» أبلغ من «حاكم»، ولذلك لا يوصف به غير العادل.
وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ: القرآن المعجز.
مُفَصَّلًا: مبيّنا فيه الحقّ والباطل، بحيث ينفي التّخليط والالتباس.
و فيه تنبيه على أنّ القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات.
وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: تأكيد لدلالة الإعجاز على أنّ القرآن حقّ منزّل من عند اللّه- تعالى- يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم، مع أنّه- عليه السّلام- لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم. وإنّما وصف جميعهم بالعلم، لأنّ أكثرهم يعلمونه. ومن لم يعلم، فهو متمكّن منه بأدنى تأمّل.
و قيل : المراد، مؤمنو أهل الكتاب.
و قرأ ابن عامر وحفص [عن عاصم] : «منزّل» بالتشديد .
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ : في أنّهم يعلمون ذلك. أو في أنّه منزّل بجحود أكثرهم وكفرهم به. فيكون من باب التّهييج، كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ومن قبيل: إيّاك أعني واسمعي يا جارة. أو خطاب الرّسول كخطاب الأمّة.
و قيل : الخطاب لكلّ أحد، على معنى: أنّ الأدلّة لمّا تعاضدت على صحّته، فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه.
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ: بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده.صِدْقاً: في الأخبار والمواعيد.
وَ عَدْلًا: في الأقضية والأحكام. ونصبهما يحتمل التّمييز والحال والمفعول له.
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: لا أحد يبدّل شيئا منها بما هو أصدق أو أعدل، ولا أحد يقدر أن يحرّفها تحريفا شائعا ذائعا، كما فعل بالتّوراة. على أنّ المراد بها القرآن، فيكون ضمانا من اللّه بالحفظ، كقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. أو لا نبيّ ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدّل أحكامها.
و قرأ الكوفيّون ويعقوب: «كلمة ربّك»، أي: ما تكلم به، أو القرآن.
وَ هُوَ السَّمِيعُ: لما يقولون.
الْعَلِيمُ : بما يضمرون، فلا يهملهم.
و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن عبد اللّه بن إسحاق العلوي، عن محمّد بن زيد الرّزامي ، عن محمّد بن سليمان الدّيلميّ، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل. يذكر فيه- عليه السّلام- مواليد الأئمة ومبدأ النّطفة الّتي يكونون منها وأحوالهم. وفيه يقول- عليه السّلام-: و إنّ نطفة الإمام ممّا أخبرتك. وإذا سكنت النّطفة في الرّحم أربعة أشهر وأنشئ فيها الرّوح، بعث اللّه- تبارك وتعالى- ملكا يقال له: حيوان، فكتب على عضده الأيمن: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين، عن موسى بن سعدان عن عبد اللّه بن القاسم، عن الحسن بن راشد قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- إذا أحبّ أن يخلق الإمام، أمر ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش فيسقيها أباه، فمن ذلك يخلق الإمام. فيمكث أربعين يوما وليلة في بطن أمّه لا يسمعالصّوت، ثمّ يسمع بعد ذلك الكلام. فإذا ولد، بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه:
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فإذا مضى الإمام الّذي كان قبله، رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق. فبهذا يحتجّ اللّه على خلقه.
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن حديد، عن منصور بن يونس، عن يونس بن ظبيان قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إن اللّه- عزّ وجلّ- إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكا، فأخذ شربة ماء من تحت العرش ثمّ أوقعها أو دفعها إلى الإمام فشربها. فتمكث في الرّحم أربعين يوما لا يسمع الكلام، ثمّ يسمع الكلام بعد ذلك. فإذا وضعته أمّه، بعث [اللّه] إليه ذلك الملك الّذي أخذ الشّربة فكتب على عضده الأيمن: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فإذا قام بهذا الأمر، رفع اللّه [له] في كلّ بلدة منارا ينظر به إلى العباد.
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن الرّبيع بن محمّد المسلمي ، عن محمّد بن مروان قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ الإمام يسمع في بطن أمّه. فإذا ولد، خطّ بين كتفيه وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فإذا صار الأمر إليه، جعل اللّه له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة.
و يمكن حمل الأخبار على تعدّد الكتب، وعلى عدم التّعيّن بوقت وموضع.
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ، عن
أبيه، عن محمّد بن سنان، عن محمّد بن مروان قال: تلا أبو عبد اللّه- عليه السّلام-:
«و تمّت كلمة ربّك الحسنى صدقا وعدلا».
فقلت: جعلت فداك، إنا نقرأها: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.
فقال: إنّ فيها «الحسنى».
وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، أي: أكثر النّاس. يريد الكفّار، أو الجهال، أو أتباع الهوى.
و قيل : الأرض، مكّة.
يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: عن الطّريق الموصل إليه. لأنّ الضّالّ في غالب الأمر لا يأمر إلّا بما فيه ضلال.
و في أصول الكافي : [أبو عبد اللّه الاشعري عن] بعض أصحابنا رفعه، عن هشام بن الحكم قال: قال [لي] موسى بن جعفر أبو الحسن- عليه السّلام-: يا هشام، ثمّ ذمّ الكثرة فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ: وهو ظنّهم أنّ آباءهم كانوا على الحقّ، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة. فإنّ الظّنّ يطلق على ما يقابل العلم.
وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ : يكذبون على اللّه فيما ينسبون إليه، كاتّخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان وسيلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر. أو يقدّرون أنّهم على شيء، وحقيقته ما يقال عن ظنّ وتخمين.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ، أي:
أعلم بالفريقين.
و «من» موصولة، أو موصوفة، في محلّ النّصب بفعل دلّ عليه «أعلم» لا به. فإنّ «أفعل» لا ينصب الظّاهر في مثل ذلك. أو استفهامية مرفوعة بالابتداء، والخبر يضلّ.و الجملة معلّق عنها الفعل المقدّر.
و قرئ : «من يضلّه»، أي: يضلّه اللّه. فيكون «من» منصوبة- أيضا- بالفعل المقدّر، أو مجرورة بإضافة «أعلم» إليه، أي: اعلم المضلّين. من قوله: «من يضلل اللّه».
أو من أضللته: إذا وجدته ضالّا. والتّفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه الّتي يمكن تعلّق العلم بها ولزومه، وكونه بالذّات لا بالغير.
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مسبّب عن إنكار اتّباع المضلّين الّذين يحرّمون الحلال ويحلّون الحرام.
و المعنى: كلوا ممّا ذكر اسم اللّه على ذبحه، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه.
إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ : فإنّ الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحلّ اللّه واجتناب ما حرّمه.
وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ: وأيّ غرض لكم في أن تتحرّجوا عن أكله، وما يمنعكم عنه؟
وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: ممّا لم يحرم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
و قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «فصّل» على البناء للمفعول، ونافع ويعقوب وحفص: على البناء للفاعل.
إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ: ممّا حرّم عليكم. فإنّه- أيضا- حلال حال الضّرورة.
وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ: بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
و قرأه الكوفيّون، بضمّ الياء. والباقون، بالفتح.
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ: بتشهّيهم من غير تعلّق بدليل يفيد العلم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ : المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.
وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ: ما يعلن وما يسرّ. أو ما بالجوارح وما بالقلب.
و قيل : الزّنا في الحوانيت، واتخاذ الأخدان.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: الظّاهر من الإثم، المعاصي. والباطن، الشّرك والشّك في القلب.
و في روضة الكافي ، رسالة طويلة لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-. يقول- عليه السّلام- فيها: واعلموا أنّ اللّه لم يذكره أحد من عباده المؤمنين، إلّا ذكره بخير. فأعطوا اللّه من أنفسكم الاجتهاد في طاعته. فإنّ اللّه لا يدرك شيء من الخير عنده، إلّا بطاعته واجتناب محارمه الّتي حرّم اللّه في ظاهر القرآن وباطنه. فإنّ اللّه- تبارك وتعالى- قال في كتابه وقوله الحقّ: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ : يكسبون.