يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ:
قيل : أرض بيت المقدس. سمّيت بذلك، لأنّها قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين.
و قيل: الطّور وما حوله.
و قيل: دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ.
و قيل:
الشّام. وهو المرويّ في تفسير العيّاشي ، عن أبي جعفر- عليه السّلام-.
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: في اللّوح المحفوظ، أن تكون مسكنا لكم إن أطعتم وآمنتم، لقوله لهم بعد ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ.
و في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ بني إسرائيل قال [اللّه] لهم: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فلم يدخلوها حتّى حرّمها عليهم وعلى أتباعهم وعلى أبنائهم، وإنّما دخلها أبناء الأبناء.
و عن إسماعيل الجعفي ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له:
أصلحك اللّه ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أ كان كتبها لهم؟
قال: أي واللّه كتبها لهم، ثمّ بدا له لا يدخلوها.
قال: ثمّ ابتدأ هو فقال: إنّ الصّلاة كانت ركعتين عند اللّه، فجعلها للمسافر وزاد للمقيم ركعتين فجعلها أربعا.
و عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
قال: كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، واللّه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.
[و عن أبي بصير ، عن أحدهما- عليهما السّلام-: أنّ رأس المهديّ يهدى إلى موسى بن عيسى على طبق.
قلت: فقد مات هذا وهذا.
قال: فقد قال اللّه: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فلم يدخلوها ودخلها الأبناء، أو قال: أبناء الأبناء. فكان ذلك دخولهم»
.
فقلت: لو ترى أنّ الّذي قال في المهديّ و[في] ابن عيسى يكون مثل هذا؟
فقال: نعم يكون في أولادهم. فقلت: ما تنكر أن يكون [ما] قال في ابن الحسن يكون في ولده؟
قال: [نعم] ليس ذلك مثل ذاك.
و عن زرارة ، عن حمران، ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه- عليهما السّلام- عن قوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
قال: كتبها لهم ثمّ محاها.
]
وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ: ولا ترجعوا مدبرين، خوفا من الجبابرة.
قيل : لمّا سمعوا حالهم من النّقباء بكوا وقالوا: ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر أو لا ترتدّوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق على اللّه.
فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ : ثواب الدّارين.
و يجوز في «فتنقلبوا» الجزم على العطف، والنّصب على الجواب.
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ: متغلّبين، لا يتأتى لنا مقاومتهم.
و «الجبار» فعّال. من جبره على الأمر، بمعنى: أجبره. وهو الّذي يجبر النّاس على ما يريده.وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ : إذ لا طاقة لنا بهم.
قالَ رَجُلانِ:
هما يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا. وهما ابنا عمّه. كذا رواه العيّاشي ، عن الباقر- عليه السّلام-.
مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ: أي: يخافون اللّه ويتّقونه.
و قيل : كانا رجلين من الجبابرة أسلما وسارا إلى موسى- عليه السّلام-. فعلى هذا الواو لبني إسرائيل، والرّاجع إلى الموصول محذوف، أي: من الّذين يخافهم بنو إسرائيل. ويشهد له أنّه قرئ: «الّذين يخافون» بالضّمّ، أي: المخوّفين. وهو مردود بما ذكر في الخبر. وعلى المعنى الّذي ذكر في الخبر يكون هذا من الإخافة، أي: الّذين يخوّفون من اللّه، بالتّذكير. أو يخوّفهم الوعيد.
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: بالإيمان والتّثبّت. وهو صفة ثانية «لرجلين»، أو اعتراض.
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ: باب قريتهم، أي: باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من الإصحار.
فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ: لتعسّر الكرّ عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، ولأنّهم أجسام لا قلوب فيها. ويجوز أن يكون علمهما بذلك من أخبار موسى، وقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ. أو ممّا علما من عادته- تعالى- في نصرة رسله وما عهدا من صنعه لموسى في قهر أعدائه.
وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ : أي: مؤمنين به ومصدقين لوعده.
[و في مصباح الشّريعة قال الصّادق- عليه السّلام- في كلام طويل: وقال- عزّ وجلّ-: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جعل التّوكل مفتاح الإيمان، والإيمان قفل التّوكّل، وحقيقة التّوكل الإيثار، وأصل الإيثار تقديم الشّيء بحقّه.
و لا ينفك المتوكّل في توكّله من إثبات أحد الإيثارين، فإن آثر معلول التّوكّل وهو الكون حجب به، وإن آثر [معلّل] علّة التّوكّل وهو الباري- سبحانه- بقي معه] .
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها: بدل من «أبدا» بدل البعض.
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ : قالوا ذلك، استهانة باللّه ورسوله، وعدم مبالاة بهما.
و قيل : تقديره: اذهب أنت وربّك يعينك.
[و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ، وعن أبان بن تغلب، عن الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه قال: قال عليّ- عليه السّلام- لعمر بن الخطّاب في أوّل جلوس أبي بكر: يا بن صهاك الحبشيّة، لو لا كتاب من اللّه سبق وعهد من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- تقدّم لأريتك أيّنا أضعف ناصرا وأقلّ عددا. ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم اللّه. فو اللّه لا دخلت المسجد إلّا كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ واللّه لا دخلته إلّا لزيارة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أو لقضيّة أقضيها. فإنّه لا يجوز لحجّة أقامها رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن يترك النّاس في حيرة] .
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: يشكو حزنه إلى اللّه لمّا خالفه قومه وأيس منهم، ولم يبق معه موافق يثق به غير هارون- عليه السّلام- والرّجلان المذكوران. وإن كانا يوافقانه، لم يثق عليهما، لما كابد من تلوّن قومه.
و يجوز أن يريد «بأخي» من يؤاخيني في الدّين، فيدخلان فيه.و «أخي» إمّا منصوب، معطوف على «نفسي»، أو على اسم «إنّ». مرفوع، معطوف على الضّمير في «لا أملك»، أو على محلّ «إنّ» واسمها. وإمّا مجرور معطوف على الضّمير في «نفسي» عند الكوفيّين .
فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ : بأن تحكم علينا بما نستحقّه، وعليهم بما يستحقّونه. أو بالتّبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم.
قالَ فَإِنَّها، أي: الأرض المقدّسة.
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ: لا يدخلونها ولا يملكونها، بسبب عصيانهم.
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ: متعلّق «بيتيهون» لا «بمحرّمة»، لأنّه ما دخل أحد منهم الأرض المقدّسة، بل دخلها أبناء أبنائهم كما مرّ في الخبر، أي: يسيرون فيها متحيّرين لا يرون طريقا.
نقل: أنّهم لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ، يسيرون من الصّباح إلى المساء فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلّهم من الشّمس وعمود من نور يطلع باللّيل فيضيء لهم، وكان طعامهم المنّ والسّلوى وماؤهم من الحجر الّذي يحملونه .
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ : خاطب به موسى- عليه السّلام- لمّا ندم على الدّعاء عليهم، وبيّن أنّهم أحقّاء بذلك لفسقهم.
و في تفسير العيّاشي : عن حريز، عن بعض أصحابه، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنّعل، والقذّة بالقذّة، حتّى لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم سنّة بني إسرائيل.
ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام-: قال موسى لقومه: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فردّوا عليه، وكانوا ستّمائة ألف فقالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. (الآيات).قال: فعصى أربعون ألفا ، وسلم هارون وابناه ويوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فسمّاهم اللّه فاسقين فقال: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. فتاهوا أربعين سنة. لأنّهم عصوا. فكانوا حذو النّعل بالنّعل. إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لمّا قبض لم يكن على أمر اللّه إلّا عليّ والحسن والحسين وسلمان والمقداد وأبو ذرّ، فمكثوا أربعين حتّى قام عليّ فقاتل من خالفه.
و عن داود الرّقي قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- [يقول:] كان أبو جعفر- عليه السّلام- يقول: نعم الأرض الشّام. وبئس القوم أهلها. وبئس البلاد مصر. أما إنّها سجن من سخط اللّه عليه. ولم يكن دخول بني إسرائيل [مصر] إلّا [من سخطه و] معصية منهم للّه. لأنّ اللّه قال: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: الشّام. فأبوا أن يدخلوها فتاهوا في الأرض أربعين سنة في مصر وفيافيها، ثمّ دخلوها بعد أربعين سنة. قال: وما خروجهم من مصر ودخولهم الشّام، إلّا بعد توبتهم ورضا اللّه عنهم.
و في قرب الإسناد ، للحميريّ: أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرّضا- عليه السّلام- قال: قلنا له: إنّ أهل مصر يزعمون أنّ بلادهم مقدّسة.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: جعلت فداك، يزعمون أنّه يحشر من جبلهم سبعون ألفا يدخلون الجنّة بغير حساب.
قال: لا، لعمري ما ذاك كذلك، وما غضب [اللّه] على بني إسرائيل إلّا أدخلهم مصر ولا رضى عنهم إلّا أخرجهم منها إلى غيرها، ولقد أوحى اللّه- تبارك وتعالى- إلى موسى أن يخرج عظام يوسف منها، ولقد قال رسول اللّه- صلّىاللّه عليه وآله-: لا تغسلوا رؤوسكم بطينها ولا تأكلوا في فخارها. فإنّها تورث الذّلّة.
و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
[في تفسير العيّاشي :] عن الحسين بن أبي العلا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: [ذكر أهل مصر] وذكر قوم موسى وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. قال: فحرّمها اللّه عليهم أربعين سنة وتيّههم، فكان إذا كان العشاء وأخذوا في الرّحيل نادوا: الرّحيل الرّحيل، الوحا الوحا. فلم يزالوا كذلك حتّى تغيب الشّمس، حتّى إذا ارتحلوا واستوت بهم الأرض قال اللّه- تعالى- للأرض:
ديري بهم. فلم يزالوا كذلك حتّى إذا أسحروا وقارب الصّبح قالوا: إنّ هذا الماء قد أتيتموه فانزلوا. فإذا أصبحوا إذا هم في منازلهم الّتي كانوا فيها بالأمس، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم لقد ظللتم وأخطأتم الطّريق. فلم يزالوا كذلك حتّى أذن اللّه لهم فدخلوها.
و قد كان كتبها لهم.
قوله- عليه السّلام-: حتّى أذن اللّه، أي: في أبناء الأبناء. كما مرّ في الخبر السّابق.
و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن ابن فضّال، عن محمّد بن الحصين، عن محمّد بن الفضيل، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: مات داود النّبيّ- صلّى اللّه عليه- يوم السّبت [مفجوءا، فأظلّته الطّير بأجنحتها.] ومات موسى كليم اللّه في التّيه، فصاح صائح من السّماء، مات موسى. وأيّ نفس لا تموت؟
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الباقر- عليه السّلام-: مات هارون قبل موسى، وماتا جميعا في التّيه.
و فيه: لمّا أراد موسى أن يفارقهم فزعوا وقالوا: إن خرج موسى من بيننا ينزلعلينا العذاب. ففزعوا إليه وسألوه أن يقيم معهم، ويسأل اللّه أن يتوب عليهم.
[و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديثا طويلا، يقول فيه: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى، فنبوّته بدؤها»
في البرّيّة الّتي تاه فيها بنو إسرائيل.]
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ: قابيل وهابيل. وقيل : لم يرد بهما ابني آدم من صلبه ، وإنّهما رجلان من بني إسرائيل. ولذلك قال : كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ. والأوّل أصحّ وأشهر.
بِالْحَقِّ: صفة مصدر محذوف، أي: تلاوة متلبّسة بالحقّ. أو حال من الضّمير في «اتل»، أو من «نبأ»، أي: متلبّسا بالصّدق، موافقا لما في كتب الأوّلين.
إِذْ قَرَّبا قُرْباناً: ظرف «لنبأ». أو حال منه. أو بدل على حذف المضاف، أي: واتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت.
و «القربان» اسم ما يتقرّب به إلى اللّه من ذبيحة أو غيرها. كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى، أي: يعطى. وهو في الأصل مصدر، ولذلك لم يثنّ.
و قيل : تقديره: إذ قرّب كلّ واحد منهما قربانا.
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ: لأنّه سخط حكم اللّه، ولم يخلص النّية في قربانه، وقصد إلى أخسّ ما عنده. كما يجيء في الخبر.
قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ: توعّده بالقتل، لفرط حسده على تقبّل قربانه.
قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ : في جوابه، أي: أوتيت منقبل نفسك بترك التّقوى لا من قبلي، فلم تقتلني؟
و فيه إشارة، إلى أنّ الجاهل ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محفوظا لا في إزالة حظّه. فإنّ ذلك ممّا يضرّه ولا ينفعه، وإنّ الطّاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق.
و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا محمّد بن القاسم الأسترآباديّ المفسّر قال:
حدّثني يوسف بن محمّد بن زياد وعليّ بن محمّد بن سنان، عن أبويهما، عن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- قال: قال الصّادق- عليه السّلام-: إنّ من اتّبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامّة تعظّمه وتصفه ، فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني لأنظر مقداره ومحلّه، فرأيته قد أحدق به كثير خلق من غثاء العامّة، فوقفت منتبذا عنهم متغشيّا بلثام أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم وفارقهم ولم يقرّ، فتفرّقت القوم لحوائجهم وتبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مرّ بخبّاز فغفله فأخذ من دكّانه رغيفين، فتعجّبت ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معامله. ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معامله. ثمّ أقول: وما حاجته إذا إلى المسارقة؟ ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرّغيفين والرّمّانتين بين يديه ومضى، وتبعته حتّى استقرّ في بقعة من الصّحراء.
فقلت له: يا عبد اللّه، لقد سمعت بك خيرا وأحببت لقاءك فلقيتك، ولكنّي رأيت منك ما شغل قلبي، وإنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي.
قال: ما هو؟
قلت: رأيت مررت بخبّاز وسرقت منه رغيفين، ثمّ بصاحب الرّمّان وسرقت منهرمّانتين.
قال: فقال لي: قبل كلّ شيء حدّثني من أنت؟
قلت: رجل ومن ولد آدم من أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.
قال حدّثني من أنت؟
قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.
قال: أين بلدك؟
قلت: المدينة.
قال: لعلّك جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليهم-.
قلت: بلى.
فقال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به، وتركك علم جدّك وأبيك لئّلا تنكر ما يجب أن يحمّد ويمدّح عليه فاعله.
قلت: وما هو؟
قال: القرآن، كتاب اللّه.
قلت: وما الّذي جهلت منه؟
قال: قول اللّه- عزّ وجلّ-: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وإنّي لمّا سرقت الرّغيفين كانت سيّئتين ولمّا سرقت الرّمّانتين كانت سيّئتين فهذه أربع سيّئات، فلمّا تصدّقت بكلّ واحدة منها كان لي بها أربعون حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع بأربع بقي لي ستّ وثلاثون حسنة.
قلت: ثكلتك أمّك، أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت اللّه يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ إنّك لمّا سرقت الرّغيفين كانت سيّئتين ولمّا سرقت الرّمانتين كانت- أيضا- سيّئتين، فلمّا دفعتها إلى غير صاحبيهما بغير أمر صاحبيهما كنت إنّماأضفت أربع سيّئات إلى أربع سيّئات فلم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات.
فجعل يلاحظني، فانصرفت وتركته.
و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ :
قيل : كان هابيل أقوى منه، ولكن تحرّج عن قتله واستسلم له خوفا من اللّه، لأنّ الدّفع لم يبح بعد. أو تحرّيا لما هو الأفضل.
[و روي في فضل التّحرّي أنّه] قال- عليه السّلام-: كن عبد اللّه المقتول ولا تكن عبد اللّه القاتل.
و إنّما قال: ما أَنَا بِباسِطٍ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للتّبرّي عن هذا الفعل الشّنيع رأسا، والتّحرّز من أن يوصف به ويطلق عليه. ولذلك أكّد النّفي «بالباء».
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ: ترجع.
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ : تعليل ثان للامتناع عن المعارضة والمقاومة.
و قيل : والمعنى: إنّما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، وإثمك ببسطك يدك إليّ. ونحوه: المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم.
على أنّ البادئ عليه إثم سبّه ومثل إثم سبّ صاحبه، لأنّه كان سببا فيه. إلّا أنّ الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه، لأنّه مكافئ رافع عن عرضه. ألا ترى إلى قوله: «ما لم يعتد المظلوم» لأنّه إذا خرج عن حدّ المكافأة واعتدى عليه لم يسلم.
و قيل : معنى بإثمي: بإثم قتلي. وبإثمك: الّذي لم يتقبّل من أجله قربانك.
و في كتاب ثواب الأعمال : أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثني محمّد بن القاسم ، عن محمّد بن عليّ الكوفيّ، عن محمّد بن مسلم الجبليّ، عن عبد الرّحمن بن مسلم ، عن أبيه قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: من قتل مؤمنا متعمّدا أثبت اللّه على قاتله جميع الذّنوب وبريء المقتول منها، وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ.
و كلاهما متعلق بمحذوف في موضع الحال من فاعل «تبوء»، أي: متلبّسا بالإثمين، حاملا لهما.
قيل : ولعلّه لم يرد معصية أخيه وشقاوته، بل قصده بهذا الكلام إلى أنّ ذلك إن كان لا محالة واقعا، فأريد أن يكون [الإثم] لك لا لي. فالمراد بالذّات أن لا يكون له، لا أن يكون لأخيه. ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته. وإرادة عقاب العاصي جائزة.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ: فسهّلته له، ووسعته. من طاع له المرتع:
إذا اتّسع.
و قرئ: «فطاوعت» على أنّه فاعل، بمعنى: فعل. أو على أنّ قتله أخيه كأنّه دعاه إلى الإقدام عليه، فطاوعته.
و «له» لزيادة الرّبط، كقولك: حفظت لزيد ماله .
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ : دينا ودنيا. إذ بقي مدّة عمره مطرودا محزونا.
قيل: قتل هابيل، وهو ابن عشرين سنة، عند عقبة حراء.و قيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
في تفسير العيّاشي : عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: جعلت فداك، إنّ النّاس يزعمون أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه؟
فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: قد قال النّاس في ذلك. ولكن يا سليمان، أما علمت أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: لو علمت أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه لزوّج زينب من القاسم، وما كنت لأرغب عن دين آدم.
فقلت: جعلت فداك، إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنّهما تغايرا على أختهما؟
فقال له: يا سليمان، تقول هذا، أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم؟
فقلت: جعلت فداك، ففيم» قتل قابيل هابيل؟
فقال: في الوصيّة. ثمّ قال لي: يا سليمان، إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أوحى إلى آدم أن يدفع الوصيّة واسم اللّه الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه. فبلغ ذلك قابيل، فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصيّة. فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه إليه، ففعلا. فقبل اللّه قربان هابيل. فحسده قابيل. فقتله.
و أمّا
ما رواه في مجمع البيان : «عن الباقر- عليه السّلام-: أنّ حوّاء امرأة آدم كانت تلد في كلّ بطن غلاما وجارية، فولدت في أوّل بطن قابيل وقيل: قابين وتوأمته إقليما بنت آدم، والبطن الثّاني هابيل وتوأمته ليوذا، فلمّا أدركوا جميعا أمر اللّه- تعالى- آدم أن ينكح قابيل أخت هابيل وهابيل أخت قابيل، فرضي هابيل وأبى قابيل لأنّ أخته كانت أحسنهما وقال: ما أمر اللّه [- سبحانه-] بهذا ولكن هذا من رأيك. فأمرهما [آدم] أن يقرّبا قربانا فرضيا بذلك، فغدا هابيل وكان صاحب ماشية فأخذ من خير غنمه وزبدا ولبنا، وكان قابيل صاحب زرع فأخذ من شرّ زرعه، ثمّ صعدافوضعا القربان على الجبل، فأتت النّار فأكلت قربان هابيل وتجنّبت قربان قابيل، وكان آدم غائبا بمكّة خرج إليها ليزور البيت بأمر ربّه.
فقال قابيل: لا عشت يا هابيل في الدّنيا وقد تقبّل قربانك ولم يتقبّل قرباني، وتريد أن تأخذ أختي الحسناء وآخذ أختك القبيحة.
فقال له هابيل ما حكاه اللّه- تعالى- فشدخه بحجر فقتله».
فمحمول على التّقية، لأنّه موافق لمذاهب العامّة.
و [كذا ما روي] في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن الفضل ، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام- أنّه قال: لمّا أكل آدم من الشّجرة أهبط إلى الأرض فولد له هابيل وأخته توأم وولد له قابيل وأخته توأم، ثمّ أنّ آدم أمر قابيل وهابيل أن يقرّبا قربانا وكان هابيل صاحب غنم وكان قابيل صاحب زرع، فقرّب هابيل كبشا وقرّب قابيل من زرعه ما لم ينق، وكان كبش هابيل من أفضل غنمه وكان زرع قابيل غير منقى، فتقبّل قربان هابيل ولم يتقبّل قربان قابيل. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ (الآية) وكان القربان إذا قبل تأكله النّار.
فعمد قابيل [إلى النّار] فبنى لها بيتا- وهو أوّل من بنى للنّار البيوت- وقال:
لأعبدنّ هذه النّار حتّى يتقبّل قرباني. ثمّ أنّ عدوّ اللّه إبليس قال لقابيل: إنّه قد تقبّل قربان هابيل ولم يتقبّل قربانك، وإن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك. فقتله قابيل.
فلمّا رجع آدم- عليه السّلام- قال له: يا قابيل، أين هابيل؟
فقال: ما أدري، وما بعثتني راعيا له.
فانطلق آدم فوجد هابيل مقتولا فقال: لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل.
فبكى آدم- عليه السّلام- على هابيل أربعين ليلة. ثمّ أنّ آدم- عليه السّلام- سأل ربّه- عزّ وجلّ- أن يهب له ولدا، فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه. لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- وهبه له فأحبّه [آدم] حبّا شديدا. فلمّا انقضت نبوّة آدم- عليه السّلام - واستكملت أيّامه أوحى اللّه إليه، أن يا آدم إنّه قد انقضت نبوّتك واستكملت أيّامك، فاجعل العلم الّذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النّبوّة في العقب من ذرّيّتك عند ابنك هبة اللّه.
و قال- عليه السّلام- في هذا الحديث- أيضا-: ثمّ أنّ هبة اللّه لمّا دفن آدم [أباه] أتاه قابيل فقال له: يا هبة اللّه، إنّي قد رأيت آدم أبي قد خصّك من العلم بما لم أخصّ به، وهو العلم الّذي دعا به أخوك هابيل فتقبّل قربانه، وإنّما قتلته لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي، فيقولون: نحن أبناء الّذي تقبّل قربانه وأنتم أبناء الّذي لم يتقبّل قربانه، فإنّك إن أظهرت من العلم الّذي اختصّك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل. فلبث هبة اللّه والعقب منه مستخفين بما عندهم من الإيمان والعلم والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النّبوّة حتّى بعث نوح- عليه السّلام-.
و الحدث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
و في روضة الكافي ، عنه- عليه السّلام- مثله.
من غير تغيير مخلّ بالمعنى المقصود.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى محمّد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، وكرام بن عمرو عن عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:
إنّ قابيل لمّا رأى النّار قد قبلت قربان هابيل قال له إبليس: إنّ هابيل كان يعبد تلك النّار.فقال قابيل: لا أعبد النّار الّتي عبدها هابيل ولكن أعبد نارا أخرى وأقرّب قربانا لها فتقبل قرباني. فبنى بيوت النّيران، فقرّب ولم يكن له علم بربّه- عزّ وجلّ- ولم يرث منه ولده إلّا عبادة النّيران.
و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من خبر الشّاميّ وما سأل عنه أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جامع الكوفة، حديث طويل وفيه: وسأله عن أوّل من قال الشّعر؟
فقال: آدم- عليه السّلام-.
قال: وما كان شعره؟
قال: لمّا أنزل إلى الأرض من السّماء فرأى تربتها وسعتها وهواها وقتل قابيل هابيل فقال آدم- عليه السّلام-:
تغيّرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبّر قبيح
تغيّر كلّ ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه المليح
فاجابه إبليس- لعنه اللّه-:
تنحّ عن البلاد وساكنيها فبي في الخلد ضاق بك الفسيح
وكنت بها وزوجك في قرار وقلبك من أذى الدّنيا مريح
فلم تنفكّ من كيدي ومكري إلى أن فاتك الثّمن الرّبيح
فلولا رحمة الجبّار أضحى بكفّك من جنان الخلد ريح
و فيه: ثمّ قام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن يوم الأربعاء وتطيّرنا منه وثقله، وأي أربعاء هو؟
قال: آخر أربعاء في الشّهر وهو محاق. وفيه قتل قابيل هابيل أخاه.
و في كتاب الخصال : عن الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- قال: كان عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- بالكوفة في الجامع، إذ قام إليه رجل من أهل الشّام فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّي أسألك عن أشياء.
فقال: سل تفقّها ولا تسأل تعنّتا. فسأله عن أشياء، فكان فيما سأله أن قال له: أخبرني عن أوّل من قال الشّعر؟ وذكر كما في عيون الأخبار، إلّا أنّه زاد لآدم بيتا ثالثا بعد البيتين وهو:
قتل قابيل هابيل أخاه فوا أسفا على الوجه المليح
وأبدل المصراع الثّاني من البيت الأوّل لإبليس- لعنه اللّه- بهذا المصراع:
وبالفردوس ضاق بك الفسيح
و عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل، يقول في آخره: وأسلم رأس الجالوت على يد عليّ- عليه السّلام- من ساعته، ولم يزل مقيما حتّى قتل أمير المؤمنين- عليه السّلام- وأخذ ابن ملجم- لعنه اللّه- فأقبل رأس الجالوت حتّى وقف على الحسن- عليه السّلام- والنّاس حوله وابن ملجم- لعنه اللّه- بين يديه فقال له: يا أبا محمّد، اقتله- قتله اللّه-. فإنّي رأيت في الكتب الّتي أنزلت على موسى أنّ هذا أعظم عند اللّه جرما من ابن آدم قاتل أخيه، ومن القدار عاقر ناقة ثمود.
و عن جعيد همدان قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ في التّابوتالأسفل [من النّار اثني عشر] ستّة من الأوّلين وستّة من الآخرين. ثمّ سمّى السّتّة من الأوّلين ابن آدم الّذي قتل أخاه وفرعون وهامان.
(الحديث).
و في من لا يحضره الفقيه : روي عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال:
قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ أوّل ما يحكم اللّه- عزّ وجلّ- فيه يوم القيامة الدّماء، فيوقف ابنا آدم فيفصل بينهما، ثمّ الّذين يلونهما من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد من النّاس بعد ذلك حتّى يأتي المقتول بقاتله، فيشخب دمه في وجهه فيقول: أنت قتلته. فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثا.
و في علل الشّرائع ، بإسناده إلى حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كانت الوحوش والطّير والسّباع وكلّ شيء خلق اللّه- عزّ وجلّ- مختلطا بعضه ببعض، فلمّا قتل ابن آدم أخاه نفرت وفزعت، فذهب كلّ إلى شكله.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام-: أنّه لمّا طوّعت له نفسه قتل أخيه، لم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس فعلّمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثمّ أشدخه.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ:
«كيف» حال من الضّمير في «يواري». والجملة ثاني مفعولي «يرى». والمراد بسوأة أخيه، جسده الميّت. فإنّه ممّا يستقبح أن يرى.
قالَ يا وَيْلَتى: كلمة جزع وتحسّر. والألف فيها بدل من ياء المتكلّم، والمعنى: يا ويلتي أحضري فهذا أوانك.
و الويل والويلة: الهلكة.
أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي: لا أهتدي إلى ما اهتدى إليه.و قوله: «فأواري» عطف على «أكون» وليس جواب الاستفهام. إذ ليس المعنى هاهنا: لو عجزت لواريت.
و قرئ، بالسّكون، على معنى: فأنا أواري. أو على تسكين المنصوب، تخفيفا .
و في كتاب الخصال ، عن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- عليهما السّلام- أنّه قال في حديث طويل له مع ملك الرّوم، وقد سأله عن سبعة أشياء خلقها اللّه لم تخرج من رحم آدم وحوّاء: والغراب الّذي بعثه اللّه يبحث في الأرض.
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ : على قتله. لما كابد به من التّخيّر في أمره، وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، وتلمذه للغراب، واسوداد لونه، وتبرّؤ أبويه منه، وعدم الظّفر بما فعله لأجله.
في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- يحدّث رجلا من قريش، وذكر حتّى بلغ قوله: فلمّا قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتّى اقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر الّذي بقي الأرض بمخالبه ودفن فيها صاحبه. قال قابيل: يا وَيْلَتى (الآية) فحفر له حفيرة فدفنه فيها فصارت سنّة يدفنون الموتى. فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل.
فقال له آدم: أين تركت ابني؟
قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا؟
فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان. وأوجس قلب آدم بالّذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان قتله، فلعن آدم الأرض الّتي قبلت دم هابيلو أمر آدم أن يلعن قابيل، ونودي قابيل من السّماء: لعنت كما قتلت أخاك، ولذلك لا تشرب الأرض الدّم.
فانصرف آدم. فبكى على هابيل أربعين يوما وليلة. فلمّا جزع عليه شكا ذلك إلى اللّه. فأوحى اللّه إليه: إنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل. فولدت حوّاء غلاما زكيّا مباركا. فلمّا كان اليوم السّابع أوحى اللّه إليه: يا آدم، إنّ هذا الغلام هبة منّي لك. فسمّه هبة اللّه. فسمّاه هبة اللّه.
و في مجمع البيان : روت العامّة، عن الصّادق- عليه السّلام-: قتل قابيل هابيل وتركه بالعراء لا يدري ما يصنع به. فقصده السّباع فحمله في جراب على ظهره حتى أروح، وعكفت عليه الطّير والسّباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. فبعث اللّه غرابين فاقتتلا. فقتل أحدهما صاحبه. ثمّ حفر له بمنقاره وبرجليه. ثمّ ألقاه في الحفيرة. وواراه وقابيل ينظر إليه. فدفن أخاه.
و في تفسير العيّاشي : عن الباقر- عليه السّلام-: إنّ قابيل بن آدم معلّق بقرونه في عين الشّمس، تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة صيّره اللّه إلى النّار.
و عنه- عليه السّلام - وذكر ابن آدم القاتل، فقيل له: ما حاله، أمن أهل النّار هو؟
فقال: سبحان اللّه، اللّه أعدل من ذلك أن يجمع عليه عقوبة الدّنيا وعقوبة الآخرة.
و في الاحتجاج [: عن أبان بن تغلب قال:] قال طاوس اليمانيّ لأبي جعفر- عليه السّلام-: هل تعلم أيّ يوم مات ثلث الناس؟
فقال: يا أبا عبد الرّحمن، لم يمت ثلث النّاس قطّ. إنّما أردت ربع النّاس.و كيف ذلك؟
قال: كان آدم وحوّاء وقابيل وهابيل. [فقتل قابيل هابيل.] فذلك ربع النّاس.
قال: صدقت.
قال أبو جعفر- عليه السّلام-: هل تدري ما صنع بقابيل؟
قال: لا.
قال: علّق بالشّمس، ينضح بالماء الحارّ إلى أن تقوم السّاعة.
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ: بسببه قضينا عليهم.
في تفسير عليّ بن إبراهيم : لفظ الآية خاصّ في بني إسرائيل، ومعناها جار في النّاس كلّهم.
«و أجل» في الأصل، مصدر أجل شرّا: إذا جناه. استعمل في تعليل الجنايات، كقولهم: من جراك فعلته، أي: من أن جررته، أي: جنيته. ثمّ اتّسع فيه، فاستعمل في كلّ تعليل.
و «من» ابتدائيّة، متعلّقة «بكتبنا»، أي: ابتداء الكتب ونشؤه من أجل ذلك.
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ: بغير قتل يوجب الاقتصاص.
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ: أو بغير فساد فيها. كالشّرك، وقطع الطّريق.
فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً: من حيث هتك حرمة الدّماء من القتل، وجرّأ النّاس عليه. أو من حيث أنّ قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب العذاب وغضب اللّه.
في من لا يحضره الفقيه : وروى حنان بن سدير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: هو واد في جهنّم، لو قتل النّاس جميعا كان فيه، ولو قتل نفسا واحدة كان فيه.
و في الكافي : عن أبي جعفر- عليه السّلام-: يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها لو قتل النّاس جميعا [إنّما كان] يدخل ذلك المكان.
قلت: فإنّه قتل آخر؟
قال: يضاعف عليه.
و في رواية أخرى : له في النّار مقعد لو قتل النّاس جميعا لم يرد إلّا إلى ذلك المقعد.
وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً: ومن تسبّب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة، فكأنّما فعل ذلك بالنّاس جميعا.
و الغرض منه، تعظيم قتل النّفس وإحيائها في القلوب، وترهيبا عن التّعرّض لها، وترغيبا في المحاماة عليها.
في أصول الكافي : صالح بن عقبة، عن نصر بن قابوس، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لإطعام مؤمن أحبّ إليّ من عتق عشر رقاب وعشر حجج.
قال: قلت: عشر رقاب وعشر حجج؟
قال: فقال: يا نصر، إن لم تطعموه مات، أو تذلّونه فيجيء إلى ناصب فيسأله والموت خير له من مسألة النّاصب. يا نصر، من أحيا مؤمنا فكأنّما أحيا النّاس جميعا.
فإن لم تطعموه فقد أمتّموه، وإن أطعمتموه فقد أحييتموه.
عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له: قول اللّه- عزّ وجلّ-: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، ومن أخرجها من هدىإلى ضلال فقد قتلها.
عنه ، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: قول اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
قال: من حرق أو غرق.
قلت: فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟
قال: ذاك تأويلها الأعظم.
محمّد بن يحيى، عن أحمد وعبد اللّه ابني محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان مثله.
محمّد بن يحيى: عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن خالد، عن النّضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبيّ، عن أبي خالد القمّاط، عن حمران قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أخبرني عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. قال: من حرق أو غرق. ثمّ سكت. ثمّ قال: تأويلها الأعظم، إن دعاها فاستجابت له.
و الحديث طويل، أخذنا منه موضع الحاجة.
[و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: ومن استنّ بسنّة حقّ كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة [و من استنّ بسنّة باطل كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.] ولهذا القول من النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- شاهد من كتاب اللّه، وهو قول اللّه- عزّ وجلّ- في قصّة قابيل قاتل أخيه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
] .
و في من لا يحضره الفقيه وروى معاوية بن عمّار: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء، كان كمن أعتق رقبة.
و من سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء، كان كمن أحيا نفسا. ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.
و في الكافي عليّ بن إبراهيم، عن أبيه قال: أخبرني بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: أتي أمير المؤمنين- عليه السّلام- برجل وجد في خربة وبيده سكّين ملطّخ بالدّم وإذا رجل مذبوح يتشحّط في دمه.
فقال له أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ما تقول؟
قال: يا أمير المؤمنين، أنا قتلته.
قال: اذهبوا به فاقتلوه به. فلمّا ذهبوا به ليقتلوه به أقبل رجل مسرعا فقال: لا تعجلوه وردّوه إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- فردّوه.
فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته.
فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام- للأوّل: ما حملك على إقرارك على نفسك [و لم تفعل؟] .
فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أستطيع أن أقول وقد شهد عليّ أمثال هؤلاء الرّجال فأخذوني وبيدي سكّين ملطّخ بالدّم والرّجل يتشحّط في دمه وأنا قائم عليه، وخفت الضّرب، فأقررت، وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة وأخذني البول فدخلت الخربة فرأيت الرّجل يتشحّط في دمه فقمت متعجّبا. فدخل عليّ هؤلاء فأخذوني.
فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام- خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن- عليه السّلام- [و قصّوا عليه قصّتهما، وقولوا له: ما الحكم فيهما؟
قال: فذهبوا إلى الحسن- عليه السّلام- وقصّوا عليه قصّتهما.
فقال الحسن- عليه السّلام-: قولوا لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ هذا إن كان ذبح ذلك فقد أحيا هذا. وقد قال اللّه: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
يخلّى عنهما وتخرج دية المذبوح من بيت المال.
[و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفيّ قال: حدّثني الحسين بن سعيد معنعنا، عن سليمان بن دينار البارقيّ قال: سألت زيد بن عليّ- عليه السّلام- عن هذه الآية: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً.
قال: فقال لي: هذا الرّجل من آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- يخرج ويدعو إلى إقامة الكتاب والسّنّة، فمن أعانه حتّى يظهر أمره فكأنّما أحيا النّاس جميعا، ومن خذله حتّى يقتل فكأنّما قتل النّاس جميعا] .
وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ: بعد ما كتبنا عليهم هذا التّشديد العظيم، تأكيدا وتجديدا للعهد كي يتحاموا عن أمثال هذه الجنايات.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ : مجاوزون عن الحقّ، ويقتلون ولا يبالون به وبغيره من المحرّمات.
و في مجمع البيان : عن أبي جعفر- عليه السّلام-: المسرفون، هم الّذين يستحلّون المحارم ويسفكون الدّماء.
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أي: يحاربون أولياءهما. جعل محاربتهم محاربتهما، تعظيما. وأصل الحرب، السّلب.
قيل : المراد به هاهنا قطع الطّريق. وقيل : المكابرة باللّصوصيّة وإن كانت في مصر. والأخبار تدلّ على العموم.وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً، أي: مفسدين. ويجوز نصبه على العلّة، أو المصدر لأنّ سعيهم كان فسادا، فكأنّه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا.
أَنْ يُقَتَّلُوا، أي: من غير صلب قصاصا، إن أفردوا القتل.
أَوْ يُصَلَّبُوا، أي: يصلبوا مع القتل، إن قتلوا وأخذوا المال.
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ: أي: تقطّع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى، إن أخذوا ولم يقتلوا.
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: إن قطعوا الطّريق ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا. و«أو» للتّفصيل.
ففي الكافي : عليّ بن محمّد، عن عليّ بن الحسن التّميميّ، عن عليّ بن أسباط، عن داود بن أبي يزيد، عن أبي عبيدة بن بشر الخثعميّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قاطع الطّريق وقلت: إنّ النّاس يقولون: إنّ الإمام فيه مخيّر أيّ شيء شاء صنع؟ قال: ليس أيّ شيء شاء صنع ولكنّه يصنع بهم على قدر جنايتهم ، من قطع الطّريق فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله وصلب، ومن قطع الطّريق فقتل ولم يأخذ المال قتل، ومن قطع الطّريق فأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله ، ومن قطع الطّريق ولم يأخذ المال ولم يقتل نفي من الأرض.
و في حديث آخر ، أنّه سئل عن هذه الآية؟
فقال: ذلك إلى الإمام يفعل به ما شاء.
قيل : فمفوّض ذلك إليه؟
قال: لا، ولكن نحو الجناية.و في معناه أخبار أخر .
و
ما روي مطلقا من «أنّ الإمام مخيّر»
محمول على هذا المعنى. وكذا
ما روي «أنّ كلّ شيء في القرآن أو فصاحبه بالخيار »
فمعناه: أنّ الإمام فيه بالخيار على قدر جنايته. فإنّ الخيار فيه بالقياس إلى الإمام، لأنّه لم يتعيّن عليه أحدها لم يمكنه التّجاوز ولو في مادّة، وإن يجز التّجاوز بالنّظر إلى خصوص المادّة. وفيه دقّة، فتأمّل.
و عن الرّضا- عليه السّلام - ما يقرب منه، وأنّه سئل: كيف ينفى، وما حدّ نفيه؟
فقال: ينفى من المصر الّذي فعل فيه ما فعل إلى مصر آخر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك [المصر:] بأنّه منفيّ، فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه. فيفعل ذلك به سنة، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السّنة.
و في خبر آخر : فإنّه سيتوب قبل ذلك وهو صاغر.
قيل: فإن توجّه إلى أرض الشّرك ليدخلها؟
قال: إن توجّه إلى أرض الشّرك ليدخلها قوتل أهلها.
و في رواية أخرى للعيّاشي : يضرب عنقه إن أراد الدّخول في أرض الشّرك.
و في رواية، عن الجواد- عليه السّلام - في جماعة قطعوا الطّريق؟ قال: فإنكانوا أخافوا السّبيل فقط ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس. فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض.
و مراده- عليه السّلام- أنّ ذلك في معناه وقائم مقامه.
و في رواية في الكافي : أنّ معنى نفي المحارب: أن يقذف في البحر، ليكون عدلا للقتل والصّلب. ومعناه: أنّ المحارب إذا قتل وأخذ المال يقوم ذلك مقام جزائه.
و عن الباقر- عليه السّلام -: من حمل السّلاح باللّيل فهو محارب، إلّا أن يكون رجلا ليس من أهل الرّيبة.
و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، وأبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار جميعا، عن صفوان بن يحيى، عن طلحة النّهديّ ، عن سورة بن كليب قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد الحاجة، فيلقاه رجل أو يستقفيه فيضربه ويأخذ ثوبه؟
قال: أيّ شيء يقول فيه من قبلكم؟
قلت: يقولون: هذه دغارة معلنة، وإنّما المحارب في قرى مشركيّة.
فقال: أيّهما أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشّرك؟
قال: فقلت: دار الإسلام.
فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية: إِنَّما جَزاءُ (إلى آخر الآية.).
[محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن محمّد ابن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: من شهر السّلاح في مصر من الأمصار فعقر، اقتصّ منه ونفي من تلك البلدة. ومن شهر السّلاح في غير الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم يقتل، فهو محارب. فجزاؤه جزاء المحارب وأمره إلى الإمام، إن شاءقتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله.
قال: وإن ضرب وقتل وأخذ المال، فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسّرقة، ثمّ يدفعه إلى أولياء المقتول فيتبعونه بالمال ثمّ يقتلونه.
قال: فقال له أبو عبيدة: أصلحك اللّه، أ رأيت إن عفا عنه أولياء المقتول؟ قال:
فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: إن عفوا عنه فإنّ على الإمام أن يقتله، لأنّه قد حارب وقتل وسرق.
قال: فقال أبو عبيدة: أ رأيت إن [أراد] أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدّية ويدعونه، ألهم ذلك؟
قال [فقال:] لا، عليه القتل.]
و في مجمع البيان : المرويّ عن أهل البيت- عليهم السّلام-: أنّ المحارب، هو كلّ من شهر السّلاح وأخاف الطّريق، سواء كان في المصر أو خارج المصر.
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا: فضيحة.
وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ : لعظم ذنوبهم.
في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، وحميد بن زياد عن ابن سماعة، عن غير واحد من أصحابه جميعا، عن أبان بن عثمان، عن أبي صالح، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قدم على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قوم من بني ضبّة مرضى.
فقال لهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أقيموا عندي، فإذا برئتم بعثتكم في سريّة.
فقالوا: أخرجنا من المدينة. فبعث بهم إلى إبل الصّدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها، فلمّا برئوا واشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كانوا في الإبل [و ساقوا الإبل] فبلغ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- الخبر . فبعث إليهم عليّا- عليه السّلام- وهم فيواد قد تحيّروا ليسوا يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن. فأسرهم وجاء بهم إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فنزلت عليه هذه الآية. فاختار رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- القطع. فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
[محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة [بن زيد] قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: كان أبي- عليه السّلام- يقول: إنّ للحرب حكمين، إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكلّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار، إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم وتركه يتشحّط في دمه حتّى يموت. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. ألا ترى أن المخيّر الّذي خيّره اللّه الإمام على شيء واحد وهو الكفر، وليس هو على أشياء مختلفة.
فقلت لأبي عبد اللّه- صلوات اللّه عليه-: قول اللّه- تعالى-: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
قال: ذلك الطّلب أن تطلبه الخيل حتّى يهرب، فإنّ أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام الّتي وصفت لكم.
و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن حنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (إلى آخر الآية).
قال: لا يبايع ولا يؤوى ولا يتصدّق عليه]
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ:
قيل : استثناء مخصوص بما هو حقّ اللّه- تعالى- ويدلّ عليه قوله:فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : أمّا القتل قصاصا، فإلى الأولياء.
و يسقط بالتّوبة وجوبه، أي: عن الإمام. لا جوازه، أي: للأولياء.
و تقييد التّوبة بالتّقدّم على القدرة، يدلّ على أنّها بعد القدرة لا تسقط الحدّ وإن أسقطت عذاب الآخرة. وأنّ الآية في قطّاع المسلمين، لأنّ توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن عليّ بن حسّان، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: من حارب اللّه وأخذ المال وقتل، كان عليه أن يقتل ويصلب.
و من حارب وقتل ولم يأخذ المال، كان عليه أن يقتل ولا يصلب. ومن حارب فأخذ المال ولم يقتل، كان عليه أن تقطع يده ورجله من خلاف. ومن حارب ولم يأخذ المال ولم يقتل، كان عليه أن ينفى. ثمّ استثنى- عزّ وجلّ- فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، يعني: يتوب من قبل أن يأخذه الإمام.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ، أي: ما تتوسّلون به إلى ثوابه والزّلفى منه، من فعل الطّاعات وترك المعاصي، وهو معرفة الإمام واتّباعه.
من وسل إلى كذا: تقرّب إليه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم قال: تقرّبوا إليه بالإمام.
و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المجموعة، وبإسناده قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: الأئمّة من ولد الحسين من أطاعهم فقد أطاع اللّه، ومن عصاهم فقد عصى اللّه. هم العروة الوثقى. وهم الوسيلة إلى اللّه- تعالى-.
و في مجمع البيان : وروى سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ- عليه السّلام- قال: في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش، أحدهما بيضاء والأخرىصفراء، في كلّ واحدة منهما سبعون ألف غرفة أبوابهما وأكوابهما من عرق واحد، فالبيضاء الوسيلة لمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وأهل بيته، والصّفراء لإبراهيم وأهل بيته.
و في كتاب علل الشّرائع بإسناده إلى أبي سعيد الخدريّ قال: كان النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: إذا سألتم اللّه لي فاسألوه الوسيلة.
فسألنا النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- عن الوسيلة؟
فقال: هي درجتي في الجنّة. وهي ألف مرقاة. ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس فرس الجواد شهرا. وهي ما بين مرقاة جوهر إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة ياقوت إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة فضّة. فيؤتى بها يوم القيامة حتّى تنصب مع درجة النّبيّين.
فهي في درج النّبيّين كالقمر بين الكواكب. فلا يبقى يومئذ نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد إلّا قال: طوبى لمن كانت هذه الدّرجة درجته. فيأتي النّداء من عند اللّه- عزّ وجلّ- فيسمع النّبيين وجميع الخلق . هذه درجة محمّد.
[قال] رسول اللّه: فأقبل أنا يومئذ متّزرا بريطة من نور، عليّ تاج الملك وإكليل الكرامة [و الملائكة الكرام وأخي عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- أمامي وبيده لوائي وهو لواء الحمد، مكتوب عليه: لا إله إلّا اللّه محمّد وعليّ هم المفلحون الفائزون باللّه. فإذا مررنا بالنّبيّين قالوا: هذان ملكان مقرّبان [لم نعرفهما ولم
نرهما.] وإذا مررنا بالملائكة قالوا: [هذان ملكان ولم نعرفهما ولم نرهما. وإذا مررنا بالمؤمنين قالوا:] هذان نبيّان مرسلان. حتّى أعلو الدّرجة وعليّ يتبعني، حتّى إذا صرت في أعلى درجة منها وعليّ أسفل منّي بدرجة [و بيده لوائي] فلا يبقى يومئذ نبيّ [و لا صدّيق ولا شهيد إلّا قال:] طوبى لهذين العبدين ، ما أكرمهما على اللّه! فيأتي النّداء من قبل اللّه يسمع النّبيّين و[الصّدّيقين والشّهداء والصّالحين:] هذا حبيبي محمّد وهذا وليّي عليّ، طوبى لمن أحبّه. وويل لمن أبغضه وكذب عليه. ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [لعليّ: يا عليّ،] فلا يبقى يومئذ [في مشهد القيامة] أحد يحبّك ، إلّا استروح إلى هذا الكلام وابيضّ وجهه وفرح قلبه. ولا يبقى يومئذ أحد عاداك أو نصب لك حدبا أو جحد لك حقّا إلّا اسودّ وجهه واضطرب قلبه . [ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-:] فبينا أنا كذلك إذا ملكان قد أقبلا إلي ، أمّا أحدهما فرضوان خازن الجنّة وأمّا الآخر فمالك خازن النّار. فيدنو رضوان [فيسلّم عليّ] فيقول: السّلام عليك يا احمد .و أقول: وعليك السّلام أيّها الملك ، من أنت [فما أحسن وجهك وأطيب ريحك؟!] .
فيقول: أنا رضوان خازن الجنّة [و هذه مفاتيح الجنّة بعث بها ربّ العزّة،] فخذها يا أحمد.
فأقول: قد قبلت ذلك من ربّي. فله الحمد على ما فضّلني به. [فآخذها.]
فأدفعها إلى علي . ثمّ يرجع رضوان فيدنو مالك فيقول: السّلام عليك يا أحمد.
فأقول: السّلام عليك أيّها الملك. من أنت؟ فما أقبح وجهك وأنكر رؤيتك؟! فيقول: أنا مالك خازن النّار. [و هذه مقاليد النّار بعث بها اليك ربّ العزّة، فخذها يا أحمد.]
فأقول: قد قبلت ذلك من ربّي. فله الحمد على ما فضّلني به. [فآخذها فأدفعها إلى عليّ.] ثمّ يرجع مالك. فيقبل عليّ يومئذ . ومعه مفاتيح الجنّة ومقاليد النّار حتّى يقف على عجزة جهنّم وقد تطاير شرارها وعلا زفيرها واشتدّ حرّها [و عليّ آخذ بزمامها.] .
فتقول جهنّم: جزني يا عليّ. [فقد] أطفأ نورك لهبي.فيقول [لها] عليّ: قرّي، قرّي يا جهنّم. [خذي هذا واتركي هذا،] خذي هذا عدوّي واتركي هذا وليّي. فلجهنّم يومئذ أشدّ مطاوعة لعليّ من غلام أحدكم لصاحبه، فإن شاء يذهبها يمنة وإن شاء يذهبها يسرة، فهي مطاوعة لعليّ فيما يأمرها به من جميع الخلائق.
و في روضة الكافي ، خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- وهي خطبة الوسيلة، قال فيها- عليه السّلام-: أيّها النّاس، إنّ اللّه- عزّ وجلّ- وعد نبيّه محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- الوسيلة. ووعده الحقّ. ولن يخلف اللّه وعده ألا وإنّ الوسيلة أعلى درج الجنّة.
و قد مرّ تتمّة الحديث في تفسير قوله : وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ.
(الآية).
وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ: بمحاربة أعدائه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : بالوصول إلى كرامته.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ: من صنوف الأموال.
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ: ليجعلوه فدية لأنفسهم.
مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ:
و «اللّام» متعلّق بمحذوف، يستدعيه «لو» إذ التّقدير: لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض. وتوحيد الضّمير في «به» والمذكور شيئان، إمّا لإجرائه مجرى اسم الإشارة في قوله- تعالى-: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أو لأنّ الواو في مثله بمعنى: مع.
ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ: جواب «لو». ولو بما في حيّزه خبر «إنّ». والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه.
وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : تصريح بالمقصود منه.يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ:
و قرئ: «يخرجوا» من أخرج .
وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ :
في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول:
عدوّ عليّ- عليه السّلام- هم المخلّدون في النّار. قال اللّه- تعالى-: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها.
عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
قال: أعداء عليّ- عليه السّلام- هم المخلّدون في النّار، أبد الآبدين ودهر الدّاهرين.
[و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي قال: حدّثني عليّ بن يزداد القمّي معنعنا، عن حمران قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- تعالى-:
وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
قال: كأنّك تريد الآدميّين؟
قال : قلت: نعم.
قال: كانوا حوسبوا وعذّبوا، وأنتم المخلّدون في الجنّة. قال اللّه: «إنّ أعداء عليّ هم المخلّدون في النّار أبد الآبدين ودهر الدّاهرين» هكذا تنزيلها، صدق اللّه وصدق رسوله وصدق الوصيّ الولي .]
و إنّما قال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ بدل وما يخرجون للمبالغة باسميّة الجملة، والتّأكيد للنّفي بالباء.وَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما: جملتان، عند سيبويه. إذ التّقدير:
فيما يتلى عليكم السّارق والسّارقة، أي: حكمهما. وجملة، عند المبرّد.
و «الفاء» للسّببيّة، دخل الخبر لتضمّنها معنى الشّرط. إذا المعنى: والّذي سرق والّتي سرقت.
و قرئ، بالنّصب. وهو المختار في أمثاله. لأنّ الإنشاء لا يقع خبرا إلّا بإضمار وتأويل .
و السّرقة: أخذ مال الغير خفية. وإنّما توجب القطع إذا كان من حرز، والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه .
قيل : والمراد بالأيدي، الأيمان. ويؤيّده قراءة ابن مسعود: «أيمانهما» ولذلك جاز وضع الجمع موضع المثنى، كما في قوله- تعالى-: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما اكتفاء بتثنية المضاف إليه. و«اليد» اسم يطلق لتمام العضو [و لبعضه. وموضع القطع، من وسط الكفّ، ولا يقطع الإبهام.] و[لذلك] ذهب الخوارج [إلى] أنّ المقطع هو المنكب، ذهابا إلى ظاهر إطلاق اليد.
و في الكافي : [عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل عن التّيمّم؟ فتلا هذه الآية:
وَ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وقال: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ قال: فامسح على كفيّك من حيث موضع القطع. قال : وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، ومحمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد جميعا، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له: منأين يجب القطع؟ فبسط أصابعه وقال: من هاهنا، يعني: من مفصل الكفّ.] .
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: القطع من وسط الكفّ، ولا يقطع الإبهام. وإذا قطعت الرّجل، ترك العقب ولم يقطع.
محمّد بن يحيى: عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن [عليّ، عن] عبد اللّه بن هلال، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له: أخبرني عن السّارق، لم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ولا تقطع يده اليمنى ورجله اليمنى؟
فقال- عليه السّلام-: ما أحسن ما سألت! إذا قطعت يده اليمنى ورجله اليمنى سقط على جانبه الأيسر ولم يقدر على القيام، فإذا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى اعتدل واستوى قائما. قلت له: جعلت فداك، وكيف يقوم وقد قطعت رجله؟
قال: إنّ القطع ليس من حيث رأيت يقطع، إنّما يقطع الرّجل من الكعب ويترك له من قدمه ما يقوم عليه يصلّي ويعبد اللّه. قلت له: من أين تقطع اليد؟ قال:
تقطع الأربع أصابع. وتترك الإبهام يعتمد عليها في الصّلاة ويغسل بها وجهه للصّلاة.
فقلت: فهذا القطع من أوّل من قطع ؟
قال: قد كان عثمان بن عفّان حسّن ذلك لمعاوية.
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: في كم يقطع السّارق؟
قال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين؟
قال: في ربع دينار [بلغ الدّينار ما بلغ. قال: فقلت له: أ رأيت من سرق أقلّ منربع دينار] هل يقع عليه حين سرق اسم السّارق، وهل هو سارق عند اللّه في تلك الحال؟
قال: كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السّارق، وهو عند اللّه سارق. ولكن لا يقطع إلّا في ربع دينار أو أكثر. ولو قطعت أيدي السّرّاق فيما هو أقل من ربع دينار لألفيت عامّة النّاس مقطعين.
و في تفسير العيّاشي : عن أبي جعفر الثّاني- عليه السّلام- أنّه سأله المعتصم عن السّارق، من أيّ موضع يجب أن يقطع؟
فقال- عليه السّلام-: إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ.
قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: السّجود على سبعة أعضاء: الوجه، واليدين ، والرّكبتين، والرّجلين. فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق، لم يبق له يد يسجد عليها. وقال اللّه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، يعني به: هذه الأعضاء السّبعة الّتي يسجد عليها فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً وما كان للّه فلا يقطع .
و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.
و فيه : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه كان إذا قطع يد السّارق ترك له الإبهام والرّاحة. فقيل له: يا أمير المؤمنين، تركت عامّة يده.
فقال لهم: فإن تاب فبأيّ شيء يتوضّأ؟ يقول اللّه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ف إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.و في الكافي : عن الباقر- عليه السّلام- قال: قضى أمير المؤمنين- عليه السّلام- في السّارق إذا سرق قطعت يمينه، فإذا سرق مرّة أخرى قطعت رجله اليسرى، ثمّ إذا سرق مرّة أخرى سجنته وتركت رجله اليمنى يمشي عليها إلى الغائط ويده اليسرى يأكل بها ويستنجي بها.
و قال: إنّي لأستحي من اللّه أن أتركه لا ينتفع بشيء. ولكنّي أسجنه حتّى يموت في السّجن.
و قال: ما قطع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من سارق بعد يده ورجله.
و في العيّاشي ما يقرب منه.
و في عيون الأخبار ، في ما كتب به الرّضا- عليه السّلام- إلى محمّد بن سنان في جواب مسائله: وحرّم اللّه السّرقة لما فيه من فساد الأموال وقتل النّفس لو كانت مباحة، ولما يأتي في التّغاصب من القتل والتّنازع والتّحاسد، وما يدعو إلى ترك التّجارات والصّناعات في المكاسب، واقتناء الأموال إذا كان الشّيء المقتنى لا يكون أحد أحقّ به من أحد. وعلّة قطع اليمين من السّارق، لأنّه يباشر الأشياء بيمينه وهي أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نكالا وعبرة للخلق لئلّا يبتغوا أخذ الأموال من غير حلّها. ولأنّه أكثر ما يباشر السّرقة بيمينه.
و بإسناده إلى محمّد بن عيسى بن عبيد ، رفعه إلى أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: لا يزال العبد يسرق، حتّى إذا استوفى ثمن يده أظهره اللّه عليه.
جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ: منصوبان على المفعول له، أو المصدر.
دلّ على فعلهما «فاقطعوا».
وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
فَمَنْ تابَ: من السّرّاق.مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ: أي: سرقته.
وَ أَصْلَحَ: أمره، بردّ المال والتّفصّي عن التّبعات والعزم على أن لا يعود إليها.
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة ولا يقطع. إلّا إذا كانت توبته بعد أن يقع في يد الإمام، فلا يسقط حينئذ وإن عفا عنه صاحبه.
ففي الكافي ، بإسناده عن أحدهما- عليهما السّلام- في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنا، فلم يعلم ذلك منه ولم يؤخذ حتّى تاب وصلح؟
فقال: إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ.
و عن الصّادق- عليه السّلام -: من أخذ سارقا فعفا عنه فذاك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه. فإن قال الّذي سرق منه: «أنا أهب له»، لم يدعه الإمام حتّى يقطعه إذا رفعه إليه. وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام. وذلك قول اللّه- تعالى- :
وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فإذا انتهى إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه.
و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: جرت في صفوان بن أميّة الجمحيّ ثلاث من السّنن- إلى أن قال- عليه السّلام-: وكان راقدا في مسجد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وتحت رأسه رداؤه، فخرج يبول [فرجع ] وقد سرق رداؤه، فقال: من ذهب بردائي. فخرج في طلبه فوجده في يد رجل، فرفعه إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: اقطعوا يده.
فقال: أ تقطع [يده] من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ فأنا أهبه له.
فقال: ألا كان هذا قبل أن تأتيني به. فقطعت يده.
أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: الخطاب للنّبيّ- عليه السّلام- أو لكلّ أحد.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : قدّم التّعذيب على المغفرة، إيتاء على ترتيب ما سبق. أو لأنّ استحقاق التّعذيب مقدّم على المغفرة. أو لأنّ المراد به القطع، وهو في الدّنيا.