وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ:
يريد به ما رزقوا في التّيه، من المنّ والسّلوى وبوحدته أنّه لا يتبدّل، كقولهم: طعام مائدة الأمير واحد. يريدون أنّه لا يتغيّر ألوانه. ولذلك أجموا، أو ضرب واحد. لأنّهما معا طعام أهل التّلذّذ. وهم كانوا فلاحة. فنزعوا إلى عكرهم. واشتهوا إلى ما ألفوه.
و قيل : إنّه كان ينزل عليهم [المنّ وحده. فملّوه. فقالوا ذلك. فأنزل عليهم] السّلوى، من بعد ذلك.
فَادْعُ لَنا رَبَّكَ: سله، لأجلنا، بدعائك إيّاه.
يُخْرِجْ لَنا: يظهر لنا.
و جزمه، بأنّه جواب الأمر المذكور.
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ: من إسناد الفعل إلى القابل. و«من» للتّبعيض. والعائدإلى الموصول، محذوف.
مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها:
بيان وقع موقع الحال. وقيل: بدل بإعادة الجار. والبقل ممّا أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطائبه الّتي تؤكل. والفوم، الحنطة. ويقال للخبز. ومنه فوموا لنا، أي:
اخبزوا. وقيل: الثّوم. ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود: وثومها. وقرئ قثّائها. (بالضّمّ) وهو لغة فيه .
و اختلف في أنّ سؤالهم هذا، هل كان معصية؟
فقيل: لا لأنّ الأوّل كان مباحا. فسألوا مباحا آخر.
و قيل: بل كان معصية. لأنّهم لم يرضوا بما اختاره اللّه لهم. وبذلك ذمّهم على ذلك. وهو أوجه.
قالَ، أي: اللّه أو موسى.
أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى: أقرب منزلة.
و أصل الدّنوّ، القرب في المكان. فاستعير للحسنة، كالعبد في الشّرف والرّفعة.
فقيل: بعيد المحل، بعيد الهمّة.
و قرئ أدناء، من الدّناءة.
و حكى الأزهريّ، عن أبي زيد: الدنيّ (بغير همزة الخسيس).
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ:
يريد به المنّ والسّلوى. فإنّه خير في اللّذة والنّفع وعدم الحاجة إلى السّعي.
اهْبِطُوا:
و قرئ بالضّمّ، أي: انحدروا من التّيه. يقال: هبط الوادي، إذا نزل به. وهبط منه، إذا خرج منه.
مِصْراً:
أراد به مصرا من الأمصار. وهو البلد العظيم. وأصله القطع، لانقطاعه بالعمارة عمّا سواه. وقيل : أصله الحدّ بين الشّيئين.قال الشّاعر :
وجاعل الشّمس مصرا لا خفاء به بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا
أو العلم. وصرفه لسكون وسطه، أو على تأويل البلد. ويؤيّده أنّه غير منوّن في مصحف ابن مسعود. وقيل: أصله مصرائيم. فعرب. فصرفه للتّصرّف في العجميّة، بالتّعريب .
فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ:
جعلت الذّلّة والمسكنة محيطتين بهم مشتملتين عليهم. فهم كما يكون في القبّة من ضربت عليه أو الصقتا بهم، حتّى لزمتاهم ضربة لازب، كما تضرب الطّين على الحائط، فيلزمه مجازاة فهم على كفران النّعمة، فاليهود أذلّاء أهل مسكنة: إمّا على الحقيقة، وإمّا لتصاغرهم وتفاقرهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية.
و المراد بالذّلّة، الهوان بأخذ الجزية، وبالمسكنة، كونهم بزيّ الفقراء. فترى المثريّ منهم يتمسكن مخافة أن تضاعف عليهم الجزية. أو المراد بالذّلّة، ما يشمل المعنيين، وبالمسكنة فقر القلب. لأنّه لا يوجد يهوديّ غنيّ النّفس. و
قال النّبيّ - صلّى اللّه عليه وآله: الغنى، غنى النّفس.
وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ:
رجعوا به من باء إذا رجع. أو صاروا أحقّاء بغضبه، من باء فلان بفلان، إذ كان حقيقا بأن يقتل به.
و أصل البوء، المساواة.
ذلِكَ: إشارة إلى ما سبق، من ضرب الذّلّة والمسكنة والبوء بالغضب، كائن لهم.
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ بسبب كفرهم بالمعجزات، أو بالكتب المنزلة وآية الرّجم والّتي فيها نعت محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- من الكتب وقتلهم الأنبياء، كزكريّا ويحيى وغيرهما- عليهم السّلام- بغير حقّ عندهم، إذلم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم. وإنّما حملهم على ذلك اتّباع الهوى. وهذا أشنع من أن يقتلوه بشيء يعتقدونه جرما حقّا باعتقادهم الفاسد.
ذلِكَ، أي: الكفر بالآيات وقتل الأنبياء، صدر عنهم.
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم وتماديهم فيه.
فإنّ التّمادي في ضعاف الذنوب، يؤدّي إلى شدادها، كما أنّ المواظبة على صغار الطّاعات، يؤدّي إلى تحرّي كبارها.
قال صاحب الكشّاف : كرّر الإشارة، للدّلالة على أنّ ما لحقهم، كما هو بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود اللّه.
و فيه نظر . لأنّه لو كان التّكرير لذلك، لكفى فيه أن يقول وبما عصوا. وقال:
و على تقدير أن يكون ذلك إشارة إلى الكفر والقتل، يجوز أن تكون «الباء» بمعنى مع، أي: ذلك الكفر والقتل، مع ما عصوا. والأحسن ما قرّرناه، لرعاية اتّساق الكلام.
و إنّما جوّزت الإشارة بالمفرد إلى شيئين، على تأويل ما ذكر، أو ما تقدّم، للاختصار. ونظيره في الضّمير قول رؤبة:
فيه خطوط من سواد وبلق كأنّه في الجلد توليع البهق
فإن قيل كيف يجوز التّخلية بين الكفّار وقتل الأنبياء؟
أجيب بأنّه إنّما جاز ذلك، لينال أنبياء اللّه سبحانه من رفع المنازل والدّرجات، ما لا ينالونه بغير القتل. قال الشّيخ الطّبرسيّ : وليس ذلك بخذلان لهم، كما أنّ التّخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين وبين قاتليهم، ليست بخذلان لهم. (هذا كلامه.)
و الأجود التّفصيل، بأنّه ليس بخذلان، بمعنى إنزال العذاب وسوء عاقبة الدّار وغير ذلك مما ينبئ عن خذلان الآخرة وحرمان المثوبة. والمرويّ عن الحسن أنّ من قتل من الأنبياء، قد قتل بغير قتال. وأنّ اللّه لم يأمر نبيّا بالقتال، فقتل فيه.
و المذكور في مجمع البيان . «أنّ الصّحيح، أنّ النّبيّ إن كان لم يؤدّ الشّرع الّذي أمر بتأديته، لم يجز أن يمكّن اللّه سبحانه من قتله. لأنّه لو مكّن من ذلك، لأدّى إلى أن يكونالمكلّفون غير مزاحي العلّة في التّكليف وفيما لهم من الألطاف والمصالح. فأمّا إذا أدّى الشّرع، فحينئذ يجوز أن يخلّي اللّه بينه وبين قاتليه. ولم يجب عليه المنع من قتله» والملازمة الّتي ادّعاها، منع بأنّه يجوز أن يكون إزاحة العلل بإرسال النّبيّ وإظهار المعجزة على يده وقتله بسوء صنيعهم بعد ثبوت نبوّته وإعجازه ناشئ من تهاونهم في نصره وتآزرهم على دفعه. فهم مفوّتون تبليغه بسوء فعلهم. فهم غير معذورين بعدم تبليغه.
[و في أصول الكافي : يونس، عن ابن سنان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- وتلا هذه الآية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ قال: واللّه ما قتلوهم بأيديهم.
و لا ضربوهم بأسيافهم. ولكنّهم سمعوا أحاديثهم، فأذاعوها. فأخذوا عليها. فقتلوا. فصار قتلا واعتداء ومعصية.]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم. يريد به المتديّنين بدين محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- المخلصين منهم والمنافقين.
و قال صاحب الكشّاف : «يريد المنافقين»، لانخراطهم في سلك الكفرة.
و الأوّل أولى، لعموم الفائدة.
وَ الَّذِينَ هادُوا:
تهوّدوا. يقال: هاد وتهوّد، إذا دخل في اليهوديّة. و«يهود» إمّا عربيّ من هاد، إذا تاب سمّوا بذلك، لمّا تابوا من عبادة العجل، أو من هاد إذا مال، لأنّهم مالوا عن الإسلام وعن دين موسى، أو من هاد إذا تحرّك، لأنّهم كانوا يتحرّكون عند قراءة التوراة، وإمّا معرّب يهوذا. وكأنّهم سمّوا باسم أكبر أولاد يعقوب- عليه السّلام.
و اليهود اسم جمع، واحده يهوديّ، كالزّنجيّ والزّنج والرّوميّ والرّوم.
وَ النَّصارى:
قال سيبويه : جمع نصران كالنّدامى.
و قيل : جمع نصريّ، مثل مهريّ ومهارى.و «الياء» في نصرانيّ للمبالغة، كما في أحمريّ. سمّوا بذلك لأنّهم نصروا المسيح، أو لأنّهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران أو ناصرة.
و على تقدير أن يكون اسم القرية نصران، يحتمل أن يكون الياء للنّسبة.
[و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل. وفي آخره قال: فقلت له: فلم سمّي النّصارى، نصارى؟
قال: لأنّهم من قرية اسمها النّاصرة ، من بلاد الشّام. نزلتها مريم وعيسى- عليهما السّلام- بعد رجوعهما من»
مصر.
و في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى حنان بن سدير. قال: حدّثني رجل من أصحاب أبي عبد اللّه- عليه السّلام. قال: سمعته يقول: إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة، لسبعة نفر: أوّلهم ابن آدم الّذي قتل أخاه- إلى قوله- ورجلان من بني إسرائيل. هوّدا قومهما. ونصّراهما.
و بإسناده إلى إسحاق بن عمّار الصّيرفيّ ، عن أبي الحسن الماضي- عليه السّلام- حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام- بعد أن قال «إنّ في النّار لواديا يقال له سقر. وإنّ في ذلك الوادي لجبلا. وإنّ في ذلك الجبل، لشعبا. وإنّ في ذلك الشّعب، لقليبا. وإنّ في ذلك القليب، لحيّة. وذكر شدّة ما في الوادي وما بعده من العذاب. وإنّ في جوف تلك الحيّة سبع صناديق. فيها خمسة من الأمم السّالفة. واثنان من هذه الأمّة»، قلت، جعلت فداك! ومن الخمسة؟ ومن الاثنان؟
قال: أمّا الخمسة: فقابيل الّذي قتل هابيل- إلى قوله- ويهودا الّذي هوّد اليهود.
و بولس الّذي نصّر النّصارى.]
وَ الصَّابِئِينَ:قيل: قوم بين النّصارى والمجوس. لا دين لهم.
و قيل : أصل دينهم، دين نوح.
و قيل : هم عبدة الملائكة.
و قيل : عبدة الكواكب من صبأ، إذا خرج. وقرأ نافع، بالياء- وحدها. إمّا لأنّه خفّف الهمزة. أو لأنّه من صبا، إذا مال. لأنّهم مالوا من سائر الأديان، إلى دينهم، أو من الحقّ إلى الباطل.
قال الشّيخ الطّبرسيّ : والفقهاء، بأجمعهم، يجيزون أخذ الجزية [منهم.] وعندنا لا يجوز ذلك. [لأنّهم ليسوا بأهل كتاب]
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ قال: الصّابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمين. وهم يعبدون الكواكب والنّجوم.]
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً:
من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ، مصدّقا بقلبه بالمبدأ والمعاد، عاملا بمقتضى شرعه. ومن تجدّد منه الإيمان وأخلصه.
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الّذي وعدهم، على إيمانهم وعملهم.
وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يخاف الكفّار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثّواب.
و «من»، مبتدأ، خبره «فلهم أجرهم.» والجملة خبر «إنّ»، أو بدل من اسم «إنّ» وخبرها «فلهم أجرهم.»
و «الفاء» لتضمّن المسند إليه، معنى الشّرط. وقد منع سيبويه دخولها في خبر «إنّ»، من حيث أنّها لا تدخل الشّرطيّة. وردّ بقوله تعالى : إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ.
وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ:مفعال من الوثيقة. وهو ما يوثق به من يمين أو عهد أو غير ذلك. يريد به العهد، باتّباع موسى والعمل بالتّوراة.
وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ: حتّى قبلتم الميثاق.
و «الطّور» في اللّغة، الجبل.
قال العجّاج :
داني جناحيه من الطّور فمرّ تقضّي البازي إذا البازي كسر
وقيل : إنّه اسم جبل بعينه. ناجى اللّه عليه موسى- عليه السّلام.
روي أنّ موسى- عليه السّلام- لمّا جاءهم بالتّوراة، فرأوا ما فيها من التّكاليف الشّاقّة، كبرت عليهم وأبوا قبولها. فأمر جبرئيل- عليه السّلام- بقلع الطّور. فظلّله فوقهم، حتّى قبلوا.
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال الصّادق- عليه السّلام: لمّا أنزل اللّه التّورية على بني إسرائيل لم يقبلوه فرفع اللّه عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى- عليه السّلام- إن لم تقبلوه وقع عليكم الجبل. فقبلوه. وطأطئوا رؤوسهم]
خُذُوا على إرادة القول، ما آتَيْناكُمْ من الكتاب، بِقُوَّةٍ: بجدّ وعزيمة.
روى العيّاشيّ ، أنّه سئل عن الصّادق- عليه السّلام- عن قول اللّه تعالى خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ، أبقوّة بالأبدان؟ أم بقوّة بالقلوب؟
فقال: بهما، جميعا.
وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ:
قيل : معناه ادرسوه ولا تنسوه. أو تفكّروا فيه، فإنّه ذكر بالقلب . أو اعملوا به.و المرويّ عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّ معناه: اذكروا ما في تركه من العقوبة.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ :
متعلّق «بخذوا»، أي: لكي تتّقوا، أو «باذكروا»، أي: رجاء منكم أن تكونوا متّقين، أو «بقلنا المقدّر»، أي: قلنا خذوا. واذكروا إرادة أن تتّقوا.
[و في شرح الآيات الباهرة : قال الإمام- عليه السّلام: قال اللّه- عزّ وجلّ- لهم: واذكروا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وعهودكم، أن تعملوا بما في التّوراة وما في الفرقان الّذى أعطيته موسى مع الكتاب المخصوص بذكر محمّد وعليّ والطّيّبين من آلهما، أنّهم أفضل الخلق والقوّامون بالحقّ، وأخذنا ميثاقكم لهم أن تقرّوا به وأن تؤدّوه إلى أخلافكم وتأمروهم أن يؤدوه إلى أخلافهم، ليؤمننّ بمحمّد نبيّ اللّه ويسلمون له ما يأمرهم به في عليّ وليّ اللّه عن اللّه وما يخبرهم به من أحوال خلفائه بعده القوّامون بحقّ اللّه، فأبيتم قبول ذلك واستكبرتموه، «فرفعنا فوقكم الطور» الجبل. أمرنا جبرئيل أن يقطع منه قطعة، على قدر معسكر أسلافكم. فجاء بها، فرفعها فوق رؤوسهم.
فقال موسى- عليه السّلام- لهم: إمّا أن تأخذوا بما أمرتم به فيه وإلا ألقى عليكم هذا الجبل؟
فالجئوا إلى قبوله كارهين، إلّا من عصمه اللّه من العباد. فإنّه قبله طائعا مختارا.
ثمّ لمّا قبلوه سجدوا للّه عفروا. وكثير منهم عفّر خدّيه لا إرادة الخضوع للّه ولكن نظرا إلى الجبل، هل يقع أم لا؟ وآخرون سجدوا طائعين مختارين.
ثمّ قال- عليه السّلام: فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: احمدوا اللّه معاشر شيعتنا على توفيقه إيّاكم. فإنّكم تعفّرون في سجودكم، لا كما عفّره كفرة بني إسرائيل، ولكن كما عفّره خيارهم. وقال- عزّ وجلّ: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ، أي: ما آتيناكم (من) هذه الأوامر والنّواهي، من هذا الأمر الجليل، من ذكر محمّد وعليّ وآلهما الطّيّبين بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ ممّا آتيناكم. واذكروا جزيل ثوابنا على قيامكم به وشديد عقابنا على
إبائكم، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المخالفة الموجبة للعقاب ، فتستحقّوا بذلك جزيل الثّواب]
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ: أعرضتم عن الوفاء بالميثاق، بعد أخذه.
فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالتّوبة، بعد نكثكم الميثاق الّذي وواثقتموه، وَرَحْمَتُهُ بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- يدعوكم إلى الحقّ ويهديكم إليه، لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط والضّلال في فترة من الرّسل، أو بهما و«و لو» في الأصل، لامتناع الشيء، لامتناع غيره.
فإذا أدخل على لا أفاد إثباتا وهو امتناع الشيء لثبوت غيره. والاسم الواقع بعده عند سيبويه، مبتدأ، خبره واجب الحذف، لدلالة الكلام عليه وسدّ الجواب مسدّه، وعند الكوفيّين، فاعل فعل محذوف.
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ لمّا اصطادوا السّموك فيه.
و «السّبت» مصدر. سبتت اليهود، إذا عظّمت يوم السّبت. وأصله: القطع. أمروا بأن يجرّدوه للعبادة فاعتدى ناس منهم في زمن داود. واشتغلوا بالصّيد.
فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ : مبعدين عن كلّ خير.
و الخساء، هو الصّغار والطّرد.
و قرئ قردة. (بفتح القاف وكسر الرّاء) وخاسين (بغير همزة).
[و في أصول الكافي: عليّ بن محمّد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرّزاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام: وكان من السّبيل والسّنّة الّتي أمر اللّه- عزّ وجلّ- بها موسى- عليه السّلام- أن جعل عليهم السّبت فكان من أعظم السّبت. ولم يستحلّ أن يفعل فيه»
. ذلك من خشية اللّه. أدخله [اللّه] الجنّة. ومن استخفّ بحقّه واستحلّ ما حرّم اللّه عليه، من العمل الّذي نهاه اللّه عنه فيه، أدخله اللّه- عزّ وجلّ- النّار. وذلك حيث استحلّوا الحيتان، واحتبسوها، وأكلوها يوم السّبت، غضب اللّه عليهم، من غير أن يكونوا أشركوا بالرّحمن، ولا شكّوا في شيء ممّا جاء به موسى- عليه السّلام. قال اللّه- عزّ وجلّ: لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ. فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: سيكون قوم يعيشون على لهو وشرب الخمر والغناء. فبينما هم كذلك، إذ مسخوا من ليلتهم وأصبحوا قردة وخنازير. وهو قوله: واحذروا أن تعتدوا، كما اعتدى أصحاب السّبت، فقد كان أملى لهم، حتّى أشروا. وقالوا: إنّ السّبت لنا حلال. وإنّما كان حرّم على أوّلينا. وكانوا يعاقبون على استحلالهم السّبت. فأمّا نحن فليس علينا حرام. وما زلنا بخير منذ استحللناه.
و قد كثرت أموالنا. وصحّت أجسامنا. ثمّ أخذهم اللّه ليلا وهم غافلون. فهو قوله:
و احذروا أن يحلّ بكم مثل ما حلّ بمن تعدّى وعصى.
و في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن أبيه، عن جدّه- عليهم السّلام. قال: المسوخ من بني آدم، ثلاثة عشر صنفا- إلى أن قال- فأمّا القردة، فكانوا قوما [من بني إسرائيل كانوا] ينزلون على شاطى البحر اعتدوا في السّبت. فصادوا الحيتان. فمسخهم اللّه قردة.
و فيه أيضا- عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام. قال: سألت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن المسوخ.
فقال: هم ثلاثة عشر: الفيل- إلى أن قال- وأمّا القردة، فقوم اعتدوا في السّبت.
و فيه - أيضا- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل في بيان الأيّام.
و في آخره قال بعض مواليه: قلت: فالسّبت؟
قال: سبتت الملائكة لربّها يوم السّبت فوحّدته لم يزل واحدا أحدا .
و في عيون الأخبار ، عن محمّد بن سنان، عن الرّضا- عليه السّلام- حديث
طويل، يقول فيه: وكذلك حرّم القرد. لأنّه مسخ مثل الخنزير وجعل عظة وعبرة للخلق، دليلا على ما مسخ على خلقته وصورته. وجعل فيه شبه من الإنسان، ليدلّ على أنّه من الخلق المغضوب عليه.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى عليّ بن عقبة، عن رجل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام. قال: إنّ اليهود أمروا بالإمساك يوم الجمعة. فتركوا يوم الجمعة. وأمسكوا يوم السّبت. فحرّم عليهم الصّيد يوم السّبت.
و بإسناده إلى عبد اللّه بن يزيد بن سلام، أنّه قال لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقد سأله عن الأيّام الأسبوع: فالسّبت؟
قال: يوم مسبوت. وذلك قوله- عزّ وجلّ- في القرآن: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فمن الأحد إلى [يوم] الجمعة، ستّة أيّام. والسّبت معطّل.
قال: صدقت يا محمّد. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة]
فَجَعَلْناها، أي: المسخة والعقوبة.
و عن الباقر- عليه السّلام : فجعلنا الأمّة.
[و في مجمع البيان : «فجعلناها»: الضّمير يعود إلى الأمّة الّتي مسخت. وهم أهل أيلة، قرية على شاطئ البحر. وهو المرويّ عن أبي جعفر- عليه السّلام.]
نَكالًا: عبرة، تنكل المعتبر بها، أي: تمنعه. ومنه النّكل، للقيد.
لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها:
لما قبلها من الأمم وما بعدها، إذ ذكرت حالهم، في زبر الأوّلين، واشتهرت قصّتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم ومن بعدهم، أو لما يحضرها من القرى وما تباعد عنها، أو لأهلملك القرية وما حواليها، أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم وما تأخّر منها.
وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ من قومهم، أو لكلّ من سمعها.
وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً:
سمّيت بقرة، لبقرها الأرض. والهاء ليست للتّأنيث. وإنّما هي لتدلّ على الوحدة، كالبطّة والدّجاجة والإوزّة والحمامة.
و أوّل هذه القصّة، قوله تعالى : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ. وإنّما فكّت عنه وقدّمت عليه، لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم. وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السّؤال وترك المسارعة في الامتثال.
و قصّته على
ما رواه العيّاشيّ، مرفوعا إلى الرّضا- عليه السّلام: أنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له. ثمّ أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل.
ثمّ جاء يطلب بدمه. فقال لموسى- عليه السّلام: إنّ سبط آل فلان قتل. فأخبرنا من قتله.
قال: آتوني ببقرة.
و المرويّ عن الصّادق- عليه السّلام- في سبب قتله: أنّه قتله ليتزوّج بنته. وقد خطبها. فلم ينعم له. وقد خطبها غيره من خيار بني إسرائيل. فأنعم له فحسده ابن عمّه الّذي لم ينعم له. فعقد له قتله. ثمّ حمله إلى موسى- إلى آخر الحديث.
و المذكور في الكشّاف وغيره ، أنّه كان فيهم شيخ موسر. فقتل ابنه بنو أخيه، طمعا في ميراثه. وطرحوه على باب المدينة. ثمّ جاؤوا بدمه. فأمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، ليحيى فيخبّرهم بقاتله.
قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً: مكان هزء، أو أهله، أو مهزوء بنا، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء، استبعادا لما قاله، أو استخفافا به.
و قرئ هزء (بضمّتين وبسكون الزاء، بالهمزة في الصّورتين وبضمّتين والواو.)قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. :
لأنّ الهزء في مقام الإرشاد، جهل وسفه.
و العياذ واللّياذ، من واد واحد.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ:
لمّا رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه، أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته، فسألوا عنها بما المطلوبة بها الحقيقة. وإلّا، فالمقصود، بيان الحال والصّفة.
قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ: لا مسنّة ولا فتيّة.
يقال فرضت البقرة فروضا، من الفرض وهو القطع، كأنّها فرضت سنّها.
و تركيب البكر للأوّليّة. ومنه البكرة والباكورة.
عَوانٌ: نصف.
قال الطّرمّاح:
طوال مثل أعناق الهوادي نواعم بين أبكار وعون
بَيْنَ ذلِكَ، أي: ما ذكر من الفارض والبكر. ولذلك أضيف إليه البين. فإنّه لا يضاف إلّا إلى متعدّد.
و في رواية العيّاشيّ، مرفوعا إلى الرّضا- عليه السّلام: أنّهم لو ذبحوا أي بقرة أرادوا، لأجزأتهم. ولكن شدّدوا على أنفسهم، فشدّد اللّه عليهم.
و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة. فلا يلزمه تأخير البيان، عن وقت الحاجة.
قيل : ويلزمه النّسخ، قبل الفعل. فإنّ التّخصيص، أو التّقييد، إبطال للتّخيير الثّابت بالنّصّ. وفيه نظر. لأنّ كون التّخيير فيه، حكما شرعيّا ممنوع، إذ الأمر بالمطلق لا يدلّ إلّا على إيجاب ماهيّته من حيث هي بلا شرط. لكن لمّا لم تتحقّق الماهيّة من حيث هي، إلا في ضمن فرد معيّن، جاء التّخيير، عقلا من غير دلالة النّصّ عليه.
فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي: ما تؤمرونه، يعني: ما تؤمرون به. فحذف الجار.
و أوصل الفعل. ثمّ حذف العائد المنصوب من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نسب
أو أمركم بمعنى: مأموركم.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟ قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها:
الفقوع، أشدّ ما يكون من الصّفرة وأنصعه. يقال في التّأكيد: أصفر فاقع ووارس، كما يقال: أسود حالك وحانك.
و في إسناده إلى اللّون وهو صفة صفراء لملابسته بها، فضل تأكيد. كأنّه قيل:
صفراء شديدة الصّفرة صفرتها. فانتزع من الصّفرة، صفرة وأسند الفقوع إليها. فهو من قبيل جدّ جدّه وجنونك مجنون.
و عن الحسن»
: سوداء شديدة السّواد. وبه فسّر قوله تعالى : جِمالَتٌ صُفْرٌ.
و قال الأعشى :
تلك خيلي منه وتلك ركابي هنّ صفر أولادها كالزّبيب
ولعلّه عبّر بالصّفرة عن السّواد، لأنّها من مقدّماته، أو لأنّ سواد الإبل يعلوه صفرة.
و فيه أنّ الصّفرة بهذا المعنى، لا يؤكّد بالفقوع. وأنّ الإبل وإن وصفت به، فلا يوصف به البقر.
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ، أي: يوقعهم في السّرور (بالفتح) وهو لذّة في القلب، عند حصول نفع، أو توقعه من السّرّ (بالضّمّ) كأنّه يحصل لهم من رؤيتها نفع، أو توقعه.
و روي عن الصّادق- عليه السّلام - أنّه قال: من لبس نعلا صفراء، لم يزل مسرورا حتّى يبليهما، كما قال اللّه تعالى صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.»
و عن أمير المؤمنين - عليه السّلام: أنّ من لبس نعلا صفراء، قلّ همّه لقوله تعالى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟:
كرّر السّؤال الأول، لزيادة الاستكشاف. وقوله:
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا: اعتذار عنه، أي: إنّ البقر الموصوف بالتّعوين وفقوع الصّفرة، كثير. فاشتبه علينا.و قرئ الباقر. وهو اسم لجماعة البقرة، والأباقر والبواقر .
و «يتشابه» (بالياء والتّاء)، و«يشابه» (بالياء والتّاء) وتشديد الشّين، بإدغام تاء التّفاعل فيها.
و «تشابهت» (مخفّفا ومشدّدا) إمّا بزيادة الألف في باب التّفعيل، أو بإلحاق التّاء السّاكنة بالمضارع، إلحاقا له بالماضي.
و «تشبه» بحذف إحدى التّائين، من مضارع تفعل. و«يشبه» بالتّذكير، ومتشابه ومتشابهة ومشتبه ومتشبّه ومشتبهة.
وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى المراد ذبحها، أو إلى القاتل.
روي عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: وأيم اللّه! لو لم يستثنوا، ما بيّنت لهم آخر الأبد.
و احتجّ به الأشاعرة، على أنّ الحوادث، بإرادة اللّه تعالى. وأن الأمر قد ينفكّ عن الإرادة. وإلّا لم يكن للشّرط بعد الامر معنى! والكراميّة والمعتزلة على حدوث الإرادة.
و يردّ عليهم: أنّ هذا إنّما يمكن الاستدلال به، إذا كان من كلامه تعالى، لا على سبيل الحكاية. وليس كذلك. فإنّه حكاية لما يقولونه. ويحتمل أن لا يكون حقّا في نفس الأمر. وإذا قام ذلك الاحتمال، لم يمكن الاستدلال. ولو سلم، فيردّ على الأشاعرة، وجوه من النّظر:
الأوّل: أنّ الآية يحتمل أن يكون المراد بها أنّه إن شاء اللّه هدايتنا. لكنّا مهتدين على سبيل الجزم. ولو لم يشأ، يحتمل الاهتداء وعدمه.
[الثّاني: أنّه إنّما يتمّ لو كان الإرادة والمشيئة بمعنى واحد. وهو ممنوع. فلو دلّت الآية على أنّ الحوادث بمشيّة اللّه، فلم تدلّ على أنّها بإرادته.]
الثّالث: أنّ قولهم: دلّت الآية على أنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة، ممنوع.
و الملازمة الّتي ادّعوها في بيانه، ممنوعة. لأنّ معنى الشّرط بعد الأمر، أنّه تعالى لو شاء هدايتهم، لهداهم، أي: لو لم يشأ، لم يهدهم. وذلك لا ينافي أنّه شاء أمرهم، فأمرهم.و الحاصل أنّ الأمر لا ينفكّ عن الإرادة بمعنى أنّه لا يجوز أن يأمر ولا يريد. والآية لم تدلّ على الجواز بهذا المعنى، كما قرّرنا. بل التّحقيق أنّ أمره كاشف عن إرادته. وأمّا أنّ مراده هل ينفكّ عن إرادته أم لا؟ فشيء آخر يستحقّ في موضعه.
و على المعتزلة والكراميّة: أنّه يحتمل أن يكون التّعليق باعتبار التّعلّق، أو كان المعنى لو كان شاء اللّه هدايتنا الآن، لنهتدي. والحقّ أنّ الأمر لا ينفك عن الإرادة، بالمعنى الّذي حقّقته. وأنّ الإرادة حاثّة من صفات الفعل. وسنحقّق ذلك في موضع آخر- ان شاء اللّه.
قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، أي: لم تذلّل للكراب وسقي الحرث.
و «لا ذلول» صفة البقرة، بمعنى غير ذلول.
و «لا» الثّانية. مزيدة لتأكيد الأولى.
و الفعلان، صفتا «ذلول»، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.
و قرئ لا ذلول (بالفتح)، أي: هناك، أي: حيث هي: كقولك: مررت برجل لا بخيل ولا جبان، أي: هناك، أي: حيث هو.
و «تسقي» من السّقي.
مُسَلَّمَةٌ:
سلّمها اللّه من العيوب، أو أهلها من العمل، أو خلص لونها من سلم له كذا إذا خلص له، أي: لم يشب صفرتها شيء من الألوان.
لا شِيَةَ فِيها: لا لون فيها يخالف لون جلدها. فهي صفراء كلّها. حتّى قرنها وظلفها.
و هي في الأصل، مصدر وشاه وشيا وشية، إذا خلط بلونه لون آخر.
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، أي: الحقّ البيّن الّذي لا يشتبه علينا.
و قرئ الآن (بالمدّ) على الاستفهام، ولآن (بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللّام.)
فَذَبَحُوها:فيه اختصار. والتّقدير: فحصلوا البقرة المنعوتة، فذبحوها.
وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ لتطويلهم في السّؤال وكثرة مراجعاتهم.
و
روي
أنّهم كانوا يطلبون البقرة الموصوفة، أربعين سنة
، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها إذ روي أنّه كان في بني إسرائيل شيخ صالح، له عجلة. فأتى بها الغيضة. وقال: اللّهمّ إنّي أستودعكها لابني حتّى تكبر. وكان برّا بوالديه. فثبت. وكانت من أحسن البقرة وأسمنها. ووحيدة بتلك الصّفات. فساوموها اليتيم وأمّه حتّى اشتروها بملء مسكها ذهبا. وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير.
و في رواية العيّاشيّ: أنّه قال الرّضا- عليه السّلام: قال لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بعض أصحابه: إنّ هذه البقرة ما شأنها؟
فقال: إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه. وإنّه اشترى سلعة، فجاء إلى أبيه. فوجده نائما والإقليد تحت رأسه. فكره أن يوقظه. فترك ذلك. واستيقظ أبوه.
فأخبره. فقال له: أحسنت! خذ هذه البقرة. فهي لك عوض لما فاتك.
قال: فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: انظروا إلى البرّ ما بلغ بأهله.
و روي أنّ ذلك الشّابّ من بني إسرائيل، قد رأى محمّدا وعليّا في منامه وأحبّهما.
و قالا له: لأنّك تحبّنا نجزيك ببعض جزائك في الدّنيا. فإذا جاءك بنو إسرائيل يريدون شراء البقرة منك، فلا تبعها إلّا برضى من أمّك.
فلّمّا أرادوا شراءها، كلّما زادوا في ثمنها، لم ترض أمّه، حتّى شرطوا على أن يملئوا ثور بقرة عظيمة في ثمنها، فرضيت.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. والحديث بتمامه مذكور في شرح الآيات الباهرة، منقولا عن التّفسير المنسوب إلى الحسن العسكريّ- عليه السّلام. وقد ذكرته بتمامه في تفسيرنا الموسوم بالتّبيان. وعلى اللّه التّكلان.
و «كاد» من أفعال المقاربة. وضع لدنوّ الخبر، حصولا فإذا دخل عليه النّفي، قيل معناه الإثبات، مطلقا. وقيل ماضيا. والحقّ أنّه كسائر الأفعال. ولا ينافي قوله تعالىوَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ، قوله فَذَبَحُوها لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى أنّهم ما قاربوا أن يفعلوا حتّى انتهت سؤالاتهم. وانقطعت تعلّلاتهم. ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً:
خاطب الجمع، لوجود القتل فيهم.
فَادَّارَأْتُمْ فِيها: اختصمتم في شأنها، إذ الخصمان يدفع بعضهم بعضا.
و أصل الدّرء: الدّفع. ومنه الحديث ادرؤوا الحدود بالشّبهات، وقول رؤبة.
أدركتها قدّام كلّ مدرة بالدّفع عنّي درء كلّ غنجة
فعلى هذا يحتمل أن يكون المعنى تدافعتم بأن طرح قتلها كلّ عن نفسه إلى صاحبه.
و قيل : الدّرء: العوج. ومنه قول الشّاعر:
فنكّب عنهم درء الأعادي وداووا بالجنون من الجنون
وأصله: تدارأتم. فأدغمت التّاء في الدّال. واجتلبت لها همزة الوصل.
وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ :
مظهره وأعمل مخرج، لأنّه حكاية مستقبل، كما أعمل باسط ذراعيه. لأنّه حكاية حال ماضية.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
:
عطف على «ادّارأتم» وما بينهما اعتراض.
و الضّمير للنّفس. وتذكيره على تأويل الشّخص، أو القتيل.
بِبَعْضِها
، أي: بعض كان.
[و قيل : بأصغريها.
و قيل : بلسانها.
و قيل : بفخذها اليمنى.
و قيل : بالاذن.
و قيل : بالعجب. وهو اصل الذنب وفي الأحاديث الآتية: أنّ الضرب بذنبها.] نقل أنّه لما ضرب ببعضها قام حيا وأوداجه تشخب دما. قال: قتلني فلان ابن عمّي. ثم قبض.
[و فيما يأتي من الخبر، أنّه عاش بعد ذلك سبعين سنة.]
كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
: يدلّ على ما حذف، أي: فضربوه، فحيى.
و الخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو نزول الآية.
وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
: لكي بكمل عقلكم وتعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس، قدر على إحياء الأنفس.
و في الآية مع ما ذكر في بيانه من الأحاديث الدّلالة على انّ التّموّل والغنى من عند اللّه، ينبغي أن يطلب منه، لا بمخالفة أمره، كما ناله الفتى من بني إسرائيل ولم ينله القاتل ابن عمّه.
[و في عيون الأخبار : حدّثني أبي- رضي اللّه عنه. قال: حدّثني عليّ بن موسى بن جعفر بن أبي جعفر الكميدانيّ ومحمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ. قال: سمعت أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- يقول: إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له. ثمّ أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل. ثمّ جاء يطلب بدمه.
فقالوا لموسى- عليه السّلام: إنّ سبط آل فلان قتلوا فلانا. فأخبرنا من قتله؟
قال: ائتوني ببقرة.
قالُوا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً؟
قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
و لو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، أجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد اللّه عليهم.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟
قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، يعني: لا صغيرة ولا كبيرة، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ».
و لو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، أجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد اللّه عليهم.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟
قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
و لو أنّهم عمدوا إلى أيّ بقرة، لأجزأتهم. ولكن شدّدوا، فشدّد اللّه عليهم.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ.
قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها. قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ.
فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل.
فقال: لا أبيعها إلّا بملء مسكها ذهبا.
فجاءوا إلى موسى- عليه السّلام. فقالوا له ذلك. فقال: اشتروها. فاشتروها.
و جاؤوا بها. فأمر بذبحها. ثمّ أمروا بأن يضربوا الميّت، بذنبها. فلمّا فعلوا ذلك، حيي المقتول. وقال: يا رسول اللّه! إنّ ابن عمّي قتلني دون من يدّعي عليه قتلي. فعلموا بذلك قاتله.
فقال: رسول اللّه، موسى [بن عمران] - عليه السّلام- لبعض أصحابه: إنّ هذه البقرة لهابنا.
فقال: وما هو؟
فقال: إنّ فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه و[إنّه]» اشترى تبيعا . فجاء إلى أبيه. والأقاليد تحت رأسه. فكره أن يوقظه. فترك ذلك البيع. فاستيقظ أبوه. فأخبره.فقال له: أحسنت! خذ هذه البقرة. فهي لك عوضا لما فاتك.
قال: فقال له رسول اللّه، موسى [بن عمران] - عليه السّلام. انظروا إلى البرّ، ما يبلغ بأهله.
و في كتاب الخصال، مثله سواء.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام. قال: إنّ رجلا من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة منهم. فأنعمت له. وخطبها ابن عمّ لذلك الرّجل. وكان فاسقا رديئا. فلم ينعموا له.
فحسد ابن عمّه الّذي أنعموا له. فقعد له. فقتله غيلة. ثمّ حمله إلى موسى- عليه السّلام.
فقال: يا نبيّ اللّه! هذا ابن عمّى. قد قتل.
فقال موسى: من قتله؟
قال: لا أدري.
و كان القتل في بني إسرائيل، عظيما جدّا. فعظم ذلك على موسى. فاجتمع إليه بنوا إسرائيل.
فقالوا: ما ترى؟ يا نبيّ اللّه! وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة. وكان له ابن بارّ. وكان عند ابنه، سلعة.
فجاء قوم يطلبون سلعته. وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه. وكان نائما وكره ابنه أن ينبّهه وينغّص عليه نومه. فانصرف القوم: فلم يشتروا سلعته.
فلمّا انتبه أبوه قال له: يا بنيّ! ما صنعت في سلعتك؟
قال: هي قائمة. لم أبعها. لأنّ المفتاح كان تحت رأسك، فكرهت أن أنبّهك وأنغّص عليك نومك.
قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك.
و شكر اللّه لابنه ما فعل بأبيه. وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.فلمّا اجتمعوا إلى موسى وبكوا وضجّوا قال لهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.»
فتعجّبوا. وقالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً؟» إنا نأتيك بقتيل. فتقول اذبحوا بقرة! فقال لهم موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
فعلموا أنّهم قد أخطأوا. فقالوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا، ما هِيَ؟» قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ (الفارض الّتي قد ضربها الفحل. ولم تحمل. والبكر الّتي لم يضربها.)
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، أي: لونها شديد الصّفرة ، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها.
قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، أي، لم تذلّل وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، أي: لا تسقي الزّرع. مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها، أي، لا نقط فيها إلّا الصّفرة.
قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ هي بقرة فلان. فذهبوا يشتروها.
فقال: لا أبيعها إلّا بملء جلدها ذهبا.
فرجعوا إلى موسى. فأخبروه.
فقال لهم موسى: لا بدّ لكم من ذبحها بعينها. فاشتروها بملء جلدها ذهبا، فذبحوها.
ثمّ قالوا: ما تأمرنا؟ يا نبيّ اللّه! فأوحى اللّه- تبارك وتعالى- إليه: قل لهم: اضربوه ببعضها. وقولوا من قتلك.
فأخذوا الذّنب، فضربوه به. وقالوا: من قتلك؟ يا فلان! فقال: فلان بن فلان. (ابن عمّه الّذي جاء به.)
و هو قوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
و في شرح الآيات الباهرة : قال الإمام- عليه السّلام: فألزم موسى- عليه السّلام- أهل القبيلة بأمر اللّه، أن يخلف خمسون رجلا من أماثلهم باللّه القويّ الشّديد، إله بني إسرائيل مفضّل محمّد وآله الطّيّبين على البرايا أجمعين، إنّا ما قتلنا.
و لا علمنا له قاتلا. ثمّ بعد ذلك أجمع بنو إسرائيل على أنّ موسى- عليه السّلام- يسأل اللّه- عزّ وجلّ- أن يحييّ المقتول، ليسألوه من قتله. واقترحوا عليه ذلك.
قال الإمام- عليه السّلام: فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: يا موسى! أجبهم إلى ما اقترحوه. وسلني أن أبيّن لهم القاتل، ليقتل ويسلم غيره من التّهمة والغرامة. فإنّي أريد إجابتهم إلى ما اقترحوه، توسعة الرّزق على رجل من خيار أمّتك دينه الصّلاة على محمّد وآله الطّيّبين والتّفضيل لمحمّد وعليّ بعده على سائر البرايا، أن أغنيه في الدّنيا ليكون ذلك بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمّد وآله.
فقال موسى- عليه السّلام: يا ربّ! بيّن لنا قاتله.
فأوحى اللّه تعالى إليه: قل لبني إسرائيل: إنّ اللّه يبيّن لكم ذلك بأن أمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوا ببعضها المقتول، فيحيى. أ فتسلمون لربّ العالمين ذلك؟
ثمّ قال الإمام- عليه السّلام: فلمّا استقرّ الأمر، طلبوا هذه البقرة. فلم يجدوها، إلّا عند شابّ من بني إسرائيل، أراه اللّه تعالى في منامه محمّدا وعليّا، فقالا: إنّك كنت لنا محبّا ومفضّلا. ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك في الدّنيا. فإذا راموا منك شراء بقرتك، فلا تبعها، إلّا بأمر أمّك.
ثمّ قال- عليه السّلام: فما زالوا يطلبون على النّصف ممّا تقول أمّه ويرجع إلى أمّه، فتضعف الثّمن، حتّى بلغ ملء مسك ثور أكبر ما يكون دنانير. فأوجبت لهم البيع.
فذبحوها. وأخذوا قطعة منها. فضربوه بها. وقالوا: اللّهمّ بجاه محمّد وآله الطّيّبين لمّا أحييت هذا الميّت. وأنطقته ليخبرنا عن قاتله. فقام سالما سويّا.
فقال: يا نبيّ اللّه! قتلني هذان ابنا عمّي. حسداني على ابنة عمّي. فقتلاني.فقال بعض بني إسرائيل لموسى- عليه السّلام: لا ندري أيّهما أعجب: إحياء اللّه هذا وإنطاقه بما نطق، أو إغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم؟
فأوحى اللّه إليه: يا موسى! قل لبني إسرائيل: من أحبّ منكم أن أطيّب في الدّنيا عيشه وأعظّم في جناني محلّه وأجعل لمحمّد وآله الطّيّبين فيها منادمته، فليفعل كما فعل هذا الفتى: إنّه كان قد سمع من موسى ابن عمران ذكر محمّد وعليّ وآلهما الطّيّبين فكان عليهم مصلّيا، ولهم على جميع الخلائق من الملائكة والجنّ والإنس مفضّلا. فلذلك صرفت إليه هذا المال العظيم.
ثمّ قال- عليه السّلام: فقال الفتى: يا نبيّ اللّه! كيف أحفظ هذه الأموال؟ وكيف لا أحذر عداوة من يعاديني فيها وحسد من يحسدني من أجلها؟
فقال له: قل عليه من الصّلاة على محمّد وآله الطيبين ما كنت تقول، قبل أن تنالها.
فقالها الفتى. فما رامها حاسد، أو لصّ، أو غاصب، إلّا دفعه اللّه- عزّ وجلّ- بلطفه.
فلمّا قال موسى- عليه السّلام- للفتى ذلك، قال المقتول المنشور: اللّهمّ إنّي أسألك بما سألك به هذا الفتى، من الصّلاة على محمّد وآله الطيّبين والتّوسّل بهم، أن تبقيني في الدّنيا متمتّعا بابنة عمّي وتخزي أعدائي وحسّادي وترزقني منها كثيرا طيّبا.
قال: فأوحى اللّه إليه: يا موسى! إنّه كان لهذا الفتى المنشور بعد القتل، ستّون سنة. وقد وهبت له بمسألته وتوسّله بمحمّد وآله الطّيّبين، سبعين سنة تمام. مائة وثلاثين سنة صحيحه حواسّه، ثابتة فيها جنانه وقوّته وشهواته. يتمتّع بحلال هذه الدّنيا. ويعيش.
و لا يفارقها. ولا تفارقه. فإذا حان حينه، حان حينها. وماتا جميعا. فصارا إلى جناني. وكانا زوجين فيها ناعمين.
ثمّ قال- عليه السّلام: فضجّوا إلى موسى- عليه السّلام- وقالوا: افتقرت القبيلة ودفعت إلى التّلف وأسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا؟ فادع اللّه تعالى لنا بسعة الرّزق.
فقال موسى- عليه السّلام: يا ويحكم! ما أعمى قلوبكم! أما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة وما رزقه اللّه تعالى من الغنى! أو ما سمعتم دعاء المقتول المنشور وما أثمرله من العمر الطّويل والسّعادة والتّنعّم والتّمتّع بحواسّه وساير بدنه وعقله؟ لم لا تدعون اللّه تعالى بمثل دعائهما وتتوسّلون إلى اللّه تعالى بمثل وسيلتهما؟ ليسدّ فاقتكم ويجبر كسركم ويسدّ خلّتكم.
فقالوا: اللّهمّ إليك التجأنا وعلى فضلك اعتمدنا. فأزل فقرنا، وسدّ خلّتنا، بجاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطّيّبين من آلهم.
فأوحى اللّه تعالى إليه: يا موسى! قل لهم: ليذهب رؤساؤكم إلى خربة بني فلان، ويكشفوا في موضع كذا وجه الأرض قليلا، ويستخرجوا ما هناك، فإنّه عشرة آلاف ألف دينار، ليردّوا على كلّ من دفع من ثمن البقرة ما دفع، لتعود أموالهم. ثمّ ليتقاسموا بعد ذلك ما فضل، وهو خمسة آلاف ألف دينار. على قدر ما دفع كلّ واحد منهم في هذه المحنة، لتتضاعف أموالهم، جزاء على توسّلهم بمحمّد وآله الطّيّبين واعتقادهم لتفضيلهم.
ثمّ قال- عزّ وجلّ: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أي: يريكم سائر آياته، سوى هذه من الدّلالات على توحيده ونبوّة موسى- عليه السّلام- نبيّه وفضل محمّد على الخلائق سيّد إمائه وعبيده وتثبيت فضله وفضل آله الطّيّبين، على سائر خلق اللّه أجمعين، لعلّكم تعقلون وتتفكّرون أن الّذي يفعل هذه العجائب، لا يأمر الخلق إلّا بالحكمة. ولا يختار محمّدا وآله إلّا لأنّهم أفضل ذوي الألباب.] .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ:
القساوة: الغلظ مع الصّلابة، كما في الحجر.
و قساوة القلب، مثل في نبوه عن الاعتبار، وأنّ المواعظ لا تؤثّر فيه. ثمّ لاستبعاد القسوة ونحوه. ثمّ أنتم تمترون.
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، يعني: إحياء القتيل، أو جميع ما عدّد من الآيات. فإنّها ممّا توجب لين القلب.
فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في قسوتها.
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً: منها، يعني: أنّها في القساوة مثل الحجارة [أو زائدة عليها، أو أنّهامثلها، أو مثل ما هو أشدّ منها قسوة، كالحديد. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
و يعضده قراءة الحجرّ بالفتح، عطفا على الحجارة] .
و إنّما لم يقل أقسى، لما في أشدّ من المبالغة. والدّلالة على اشتداد القوتين واشتمال المفضّل على زيادة واو للتخيير أو للتّرديد، بمعنى أنّ من عرف حالها شبّهها بالحجارة، أو بما هو أقسى منها.
وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ:
تعليل للتّفضيل. فإنّ الحجارة ينفعل. فإنّ منها لما يتفجّر منه الأنهار.
و التّفجر: الفتح بسعة. ومنها ما ينبع منه الماء. ومنها ما يتردّى من أعلى الجبل انقيادا لما أراد اللّه تعالى به. وقلوب هؤلاء لا تتأثّر عن أمر اللّه تعالى.
و الخشية مجاز من الانقياد.
وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ :
وعيد على ذلك.
و قرأ ابن كثير ونافع ويعقوب وخلف وأبو بكر، بالياء والباقون، بالتّاء .
و قد ورد عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه يقسي القلب. وإنّ أبعد النّاس من اللّه، القاسي القلب.
[و في كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ: وقال أبو محمّد العسكريّ- عليه السّلام: لمّا نزلت هذه الآية ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً في حقّ اليهود والنّواصب، فغلظ ما وبّخهم به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فقال جماعة من رؤسائهم وذوي الألسن والبيان منهم. يا محمّد! إنّك لمجنون. فتدّعي على قلوبنا ما اللّه يعلم منها خلافه إنّ فيها خيرا كثيرا نصوم ونتصدّق ونواسي الفقراء.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّما الخير ما أريد به وجه اللّه وعمل على ما أمر اللّه تعالى. فأمّا ما أريد به الرّياء والسّمعة ومعاندة رسول اللّه- صلّى اللّه عليهو آله- وإظهار الغنى له والتّمالك والشّرف، فليس بخير. بل هو الشّرّ الخاصّ. ووبال على صاحبه. يعذّبه اللّه به أشدّ العذاب.
فقالوا له: يا محمّد! أنت تقول هذا ونحن نقول: بل ما ننفقه إلّا لإبطال أمرك ودفع رئاستك ولتفريق أصحابك عنك. وهو الجهاد الأعظم. نؤمل به من اللّه الثّواب الأجلّ الأجسم.»
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. وفيه إلزامهم على الوجه الأعظم.
و في الخرائج والجرائح، روي عن الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- في قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ. فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً: قال إنّه يقول: يبست قلوبكم، معاشر اليهود! كالحجارة اليابسة. لا ترشح برطوبة، أي: أنّكم لا حقّ اللّه تؤدّون، ولا بأموالكم تتصدّقون، ولا بالمعروف تتكرّمون، ولا للضّيف تقرون، ولا مكروبا تغيثون، ولا بشيء من الإنسانية تعاشرون، وتواصلون. أو أَشَدُّ قَسْوَةً: أبهم على السّامعين. ولم يبيّن لهم كما يقول القائل: أكلت خبزا أو لحما، وهو لا يريد به أنّه لا أدري ما أكلت، بل يريد أن يبهم على السّامع حتّى لا يعلم ما ذا أكل. وإن يعلم أن قد أكل أيّهما.
وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، أي: قلوبكم في القساوة بحيث لا يجيء منها خير، يا يهود! في الحجارة ما يتفجّر الأنهار، فيجيء بالخير والنّبات لبني آدم. وإِنَّ مِنْها، أي: من الحجارة لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ دون الأنهار. وقلوبكم لا يجيء منها الكثير من الخير ولا القليل. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ، أي: من الحجارة، إن أقسم عليها باسم اللّه تهبط. وليس في قلوبكم شيء منه.
فقالوا: يا محمّد! زعمت أنّ الحجارة ألين من قلوبنا؟ وهذه الجبال بحضرتنا.
فاستشهدها على تصديقك. فإن نطقت بتصديقك، فأنت المحقّ.
فخرجوا إلى أوعر جبل. فقالوا: استشهده.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أسألك يا جبل! بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم خفّف اللّه العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه.فتحرّك الجبل. وفاض الماء. ونادى: أشهد أنّك رسول اللّه. وأنّ قلوب هؤلاء اليهود، كما وصفت، أقسى من الحجارة.
فقال اليهود: علينا تلبس. أجلست أصحابك خلف هذا الجبل، ينطقون بمثل هذا؟ فإن كنت صادقا، فتنحّ من موضعك إلى ذي القرار. ومر هذا الجبل، يسير إليك.
و مره أن ينقطع بنصفين، ترتفع السّفلى وتنخفض العليا.
فأشار إلى حجر مد حرج. فتدحرج. ثمّ قال لمخاطبه: خذه. فقرّبه. فسيعيد عليك ما سمعت. فإنّ هذا جزء من ذلك الجبل.
فأخذه الرّجل. فأدناه من أذنه. فنطق الحجر بمثل ما نطق به الجبل.
قال: فإنّني بما اقترحت.
قال: فتباعد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى فضاء واسع، ثمّ نادى: أيّها الجبل! بحقّ محمّد وآله الطّيّبين، لمّا اقتلعت من مكانك بإذن اللّه وجئت إلى حضرتي.
فتزلزل الجبل. وصار مثل الفرس الهملاج. فنادى: أنا سامع لك، ومطيع أمرك.
فقال: هؤلاء اقترحوا على أن أمرك إن تنقطع من أصلك، فتصير نصفين، فينحطّ أعلاك ويرتفع أسفلك.
فانقطع نصفين. وارتفع أسفله. وانخفض أعلاه. فصار فرعه أصله.
ثمّ نادى الجبل: أ هذا الّذي ترون دون معجزات موسى الّذي تزعمون أنّكم به تؤمنون؟
فقال رجل منهم: هذا رجل تتأتّى له العجائب. فنادى الجبل: يا عدوّ اللّه! أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى حيث كان وقوف الجبل فوقهم كالظّلل فيقال هو رجل تتأتّى له العجائب. فلزمتهم الحجّة ولم يسلموا؟
و في مجمع البيان : وروى عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: إنّ حجرا كان يسلّم عليّ في الجاهليّة، وإنّي لأعرفه الآن.
و في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: كان فيما أوصى
به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا- عليه السّلام: يا عليّ! ثلاث يقسين القلب:
استماع اللّهو، وطلب الصّيد، وإتيان باب السّلطان.
و فيه ، فيما علّم أمير المؤمنين- عليه السّلام- أصحابه: ولا يطول عليكم الأمل ، فتقسو قلوبكم.
عن أبي عبد اللّه، عن أبيه - عليهما السّلام. قال: أوحى اللّه- تبارك وتعالى- إلى موسى- عليه السّلام: لا تفرح بكثرة المال- إلى قوله- وترك ذكري يقسي القلوب.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة. قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام: ما جفّت الدّموع إلّا لقسوة القلوب. وما قست القلوب إلّا لكثرة الذّنوب.
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عمرو ابن عثمان، عن عليّ بن عيسى رفعه. قال: فيما ناجى اللّه- عزّ وجلّ- به موسى- عليه السّلام: يا موسى! لا يطول في الدّنيا أملك، فيقسو قلبك. والقاسي القلب، منّي بعيد.
و في شرح الآيات الباهرة : قال الإمام- عليه السّلام- في تأويل ذلك: وقلوبهم لا يتفجّر منها الخيرات ولا تنشقّ فيخرج منها قليل من الخيرات وإن لم يكن كثيرا.
ثمّ قال- عزّ وجلّ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إذا أقسم عليها باسم اللّه وبأسماء أوليائه، محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطّيّبين من آلهم- صلّى اللّه عليهم. وليس في قلوبكم شيء من هذه الخيرات.
ثمّ قال- عليه السّلام: وهذا التّقريع من اللّه تعالى لليهود والنّواصب. واليهود جمعوا الأمرين واقترفوا الخطيئتين. فغلظ على اليهود ما وبّخهم به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. وقال جماعة من رؤسائهم: يا محمّد! إنّك مجنون. تدّعي على قلوبنا ما اللّه يعلم منها خلافه. وإن فيها خيرا كثيرا، نصوم ونتصدّق ونواسي الفقراء.
ثمّ قال- عليه السّلام: فقالوا: يا محمّد! زعمت أنّه ما في قلوبنا شيء من مواساة الفقراء ومعاونة الضّعفاء؟ وإنّ الأحجار ألين من قلوبنا. وأطوع للّه منّا. وهذه الجبالبحضرتنا، هلمّ بنا إلى بعضها فاستشهده على تصديقك وتكذيبنا؟
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: نعم. فهلمّوا بنا إلى أيّها شئتم استشهده ليشهد لي عليكم.
قال: فخرجوا إلى أوعر جبل رأوه.
فقالوا: يا محمّد! هذا الجبل. فاستشهده! فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: أيّها الجبل! إنّي أسألك بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم خفّف اللّه العرش على كواهل ثمانية من الملائكة بعد أن لم يقدروا على تحريكه وهم خلق كثير لا يعرف عددهم إلّا اللّه- عزّ وجلّ-، وبحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم تاب اللّه تعالى على آدم وغفر خطيئته وأعاده إلى مرتبته، وبحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بذكر أسمائهم وسؤال اللّه بهم رفع إدريس في الجنّة مكانا عليّا، لمّا شهدت لمحمّد بما أودعك اللّه بتصديقه على هؤلاء اليهود، في ذكر قساوة قلوبهم وتكذيبهم في جحودهم لقول محمّد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله.
قال: فتحرّك الجبل. فتزلزل. وفاض عنه الماء. ونادى: يا محمّد! أشهد أنّك رسول اللّه ربّ العالمين، وسيّد الخلائق أجمعين صلّى اللّه عليك وآلك إلى العالمين والخلائق أجمعين. وأشهد أن قلوب هؤلاء اليهود أقسى من الحجارة. لا يخرج منها خير. وقد يخرج من الحجارة الماء سيلا وتفجيرا. وأشهد أنّ هؤلاء الكاذبون عليك بما به قذفوك من الفرية على ربّ العالمين.
ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: وأسألك، أيّها الجبل! أمرك اللّه بطاعتي فيما التمسه منك بجاه محمّد وآله الطّيّبين الّذين بهم نجّى اللّه تعالى نوحا من الكرب العظيم وبهم برّد اللّه النار على إبراهيم وجعلها عليه سلاما ومكّنه في جوف النّار على سرير وفراش وبرد وأنبت مواليه من الأشجار الخضرة النّضرة الزهرة وعمّر ما حوله من انواع ما لا يوجد إلّا في الفصول الأربعة من جميع السّنة.
قال: فقال الجبل: بلى. أشهد، يا محمّد! لك بذلك. وأشهد أنّك لو اقترحت علىربّك أن يجعل رجال الدّنيا قرودا وخنازير، لفعل. وأن يجعلهم ملائكة، لفعل وأن يقلب النّيران جليدا والجليد نيرانا، لفعل. وأن يهبط السّماء إلى الأرض أو يرفع الأرض إلى السّماء، لفعل. وأن يصيّر أطراف المشارق والمغارب والوهاد كلّها ضرب طرف الكبش ، لفعل. وأنّه قد جعل الأرض والسّماء طوعك والبحار والجبال تنصرف بأمرك. وسائر ما خلق اللّه من الرّياح والصّواعق وجوارح الإنسان وأعضاء الحيوان لك مطيعة. وما أمرتها به من شيء ائتمرت.
تمّ كلامه صلوات اللّه عليه. فقالت اليهود بعد: أنت تلبس علينا واقترحوا عليه أشياء أن يفعلها الجبل المشار إليها فأجابهم إليها.
قال الإمام- عليه السّلام: فتباعد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى فضاء واسع. ثمّ نادى الجبل: يا أيّها الجبل! بحقّ محمّد وآله الطّيّبين الّذين بجاههم ومسألة عباد اللّه بهم أرسل اللّه على قوم عاد ريحا صرصرا عاتية تنزع النّاس كأنّهم أعجاز نخل خاوية، وأمر جبرئيل أن يصيح صيحة واحدة في قوم صالح حتّى صاروا كالهشيم المحتضر، لمّا انقلعت من مكانك بإذن اللّه وجئت إلى حضرتي.
قال: فتزلزل الجبل، وصار كالقدح الهملاج، حتّى دنى من إصبعه. فلصق بها.
و وقف. ونادى: ها أنا سامع لك مطيع، يا رسول اللّه! وإن رغمت أنوف هؤلاء المعاندين، فمرني بأمرك.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ هؤلاء المعاندين اقترحوا عليّ أن أمرك أن تنقلع من أصلك، فتصير نصفين، ثمّ ينحطّ أعلاك، ويرتفع أسفلك، وتصير ذروتك أصلك، وأصلك ذروتك.
فقال الجبل: أ فتأمرنى بذلك، يا رسول اللّه؟
قال: بلى.
قال: فانقطع الجبل نصفين. وانحطّ أعلاه إلى الأرض. وارتفع أسفله فوق أعلاه.فصار فرعه أصله، وأصله فرعه.
ثمّ نادى الجبل: معاشر اليهود! هذا الّذي ترون دون معجزات موسى الّذي تزعمون أنّكم به مؤمنون.
فنظر اليهود بعضهم إلى بعض. فقال بعضهم: ما عن هذا محيص. وقال آخرون منهم: هذا رجل مبخوت. ومبخوت تتأتّى له العجائب. فلا يغرّنّكم ما تشاهدون منه.
فناداهم الجبل: يا أعداء اللّه! أبطلتم بما تقولون نبوّة موسى؟ هلّا قلتم لموسى إذا قلب العصا ثعبانا وانفلق له البحر طرقا ووقف الجبل كالظّلّة فوقكم: إنّك تؤتى لك العجائب. فلا يغرّنا ما نشاهده منك؟
فألقمهم الجبل بمقالة الصّخور وألزمهم حجّة ربّ العالمين. (انتهى)]
أَ فَتَطْمَعُونَ:
الخطاب لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والمؤمنين.
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ، أي: اليهود.
وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: من أسلافهم، يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ، أي: التوراة، أو حين كلّم موسى، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ: يغيّرونه أو يأوّلونه بما يشتهون، مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ: ولم يبق لهم فيه ريبة.
وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم مبطلون.
فإذا كان أخبار هؤلاء وأسلافهم بهذه الحالة، فما طمعكم بجهّالهم وسفلتهم؟
وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا، أي: اليهود.
قالُوا: آمَنَّا، أي: قال منافقوهم: آمنّا بأنّكم على الحقّ، ورسولكم هو المبشّر به في التوراة.
وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا، أي: الّذين لم ينافقوا عاتبين على من نافق.
أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وبيّنه في التوراة، من نعت محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أو الّذين نافقوا لأعقابهم إظهارا، للتّصلّب في اليهوديّة ومنعا لهم عن إبداء ماو جدوا في كتابهم، فيتناول الفريقين.
فالاستفهام على الأوّل، تقريع، وعلى الثّاني، إنكار ونهي.
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجّوا بما فتح اللّه عليكم، حال كونه ثابتا عند ربّكم، أي: من جملة ما ثبت عند ربّكم، أي: من جملة ما أنزل اللّه في كتابه.
أَ فَلا تَعْقِلُونَ ، إمّا من كلام اللائمين، وتقديره «أفلا تعقلون أنّهم يحاجّوكم فيغلبون به عليكم»، أو متّصل بقوله أ فتطمعون.
و المعنى: أفلا تعقلون حالهم. وأن لا مطمع لكم في إيمانهم.
[و في مجمع البيان : تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. (الآية) و
روي عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام- أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين. إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التّوراة من صفة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. فنهاهم كبراؤهم عن ذلك. وقالوا: لا تخبروهم بما في التّوراة من صفة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. فيحاجّوكم به عند ربّكم. فنزلت هذه الآية.]
أَ وَلا يَعْلَمُونَ هؤلاء أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الكفر وما فتح اللّه وتحريف الكلم وغيره؟
وَ ما يُعْلِنُونَ من الإيمان وغير ما فتح اللّه وتأويلاتهم وتحريفاتهم؟
وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ، اي: التّوراة إِلَّا أَمانِيَّ:
استثناء منقطع.
و الأمانيّ، جمع أمنيّة. وهي في الأصل: ما يقدّره الإنسان في نفسه.
وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ : لا علم لهم.
روي أنّ رجلا قال للصّادق - عليه السّلام: إذا كان هؤلاء العوامّ من اليهود ، لا يعرفون الكتاب إلا ما يسمعونه من علمائهم، لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمّهمبتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلّا كعوامّنا؟ يقلّدون علماءهم. فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.
فقال- عليه السّلام: بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم، فرق من جهة وتسوية من جهة: أمّا من حيث استووا، فإنّ اللّه قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذمّ عوامّهم. وأمّا من حيث افترقوا، فلا.
قال: بيّن لي ذلك، يا بن رسول اللّه! قال- عليه السّلام: إنّ عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّراح وبأكل الحرام والرّشاء وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشّفاعات والعنايات والمضايقات.
و عرفوهم بالتّعصّب الشّديد الّذي يفارقون به أديانهم. وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم.
و عرفوهم يقارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه، فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على اللّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه. فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه. ووجب عليهم النّظر بأنفسهم، في أمر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذ كانت دلالته أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر (ص) لهم. وكذلك عوامّ أمّتنا، إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظّاهر والعصبية الشّديدة والتّكالب على حطام الدّنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه. وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا. وبالرّفق» والبر والإحسان على من تعصّبوا له. وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا. فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم اللّه تعالى بالتّقليد لفسقة فقهائهم.
و أمّا من كان من الفقهاء، صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم. فأنّ من يركب من القبائح والفواحش، مراكب فسقة فقهاء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا.
و لا كرامة لهم.
فَوَيْلٌ، أي: تحسر وهلك.
مصدر. لا فعل له.
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ، أي: المحرّف.
بِأَيْدِيهِمْ: تأكيد.
ثُمَّ يَقُولُونَ: هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، أي: يحصلوا غرضا من أغراض الدّنيا. فإنّه قليل بالنّسبة إلى عقابهم.
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرّف.
وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرّشى.
[و في كتاب الاحتجاج، للطّبرسيّ- رحمه اللّه- بإسناده إلى أبي محمّد العسكريّ- عليه السّلام- في قوله تعالى وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ: إن الأمّيّ، منسوب إلى أمّه، أي: كما هو خرج من بطن أمّه لا يقرأ ولا يكتب. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ المنزل من السّماء، ولا المتكلّم به. ولا يميّزون بينهما، إِلَّا أَمانِيَّ، أي: إلّا أن يقرأ عليهم.
و يقال لهم: إنّ هذا كتاب اللّه وكلامه. لا يعرفون إن قرئ من الكتاب، خلاف ما هم فيه. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، أي: ما يقرأ عليهم رؤساؤهم، من تكذيب محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- في نبوّته وإمامة عليّ، سيّد عترته. وهم يقلّدونهم. مع أنّه محرّم عليهم تقليدهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا.
قال- عليه السّلام: قال اللّه تعالى: هذا القوم من اليهود، كتبوا صفة، زعموا أنّها صفة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. وهي خلاف صفته. وقالوا للمستضعفين منهم: هذه صفة النّبيّ المبعوث في آخر الزّمان، أنّه طويل عظيم البدن والبطن، أهدف، أصهب الشّعر.
و محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- بخلافه. وهو يجيء بعد هذا الزّمان، بخمسمائة سنة. وإنّما أرادوا بذلك، لتبقى لهم على ضعفائهم رئاستهم. وتدوم لهم إصاباتهم. ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وخدمة عليّ- عليه السّلام- وأهل خاصّته.
فقال اللّه- عزّ وجلّ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ. وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» من هذه الصّفات المحرّمات المخالفات، لصفة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ- عليه السّلام- الشّدة لهم من العذاب، في أسوء بقاع جهنم. وويل لهم الشّدّة من العذاب، ثانية مضافةإلى الأولى، ممّا يكسبونه من الأموال الّتي يأخذونها إذا ثبتوا أعوانهم على الكفر بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- والجحد لوصيّه وأخيه عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- وليّ اللّه.
و الحديث طويل. أخذت منه ما به كفاية. وتركت الباقي، خوف الإطالة.
و في مجمع البيان : وروى الخدريّ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: أنّه واد في جهنم. يهوي فيه الكافر، أربعين خريفا، قبل أن يبلغ قعره.
و فيه : وقيل كتابتهم بأيديهم، أنّهم عمدوا إلى التّوراة. وحرّفوا صفة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ليوقعوا الشّك بذلك للمستضعفين من اليهود.
و هو المرويّ عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام.]
وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً محصورة قليلة.
روي أنّ بعضهم قالوا: نُعذّب بعدد أيّام عبادة العجل، أربعين يوما. وبعضهم قالوا: مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة. وإنّما نعذّب مكان كل ألف سنة، يوما .
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً: وعدا.
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟:
جواب شرط محذوف، أي: إن اتّخذتم عند اللّه عهدا. فلن يخلف اللّه عهده.
و قيل: لا تقدير في مثله. ولكن ضمن الاستفهام معنى الشّرط، فأجيب بالفاء.
أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ :
«أم» معادلة لهمزة الاستفهام، بمعنى: كلا الأمرين كائن على سبيل التّقرير، للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة، بمعنى: بل تقولون.
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قال :
قال بنو إسرائيل: لن تمسّنا النّار. ولن نعذّب إلّا الأيّام المعدودات الّتي عبدنا فيها العجل.
فردّ اللّه عليهم : قل يا محمّد لهم:أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟»]