وَ لِلْمُطَلَّقاتِ، سواء المفوّضة وغيرها، سوى المختلعة، كما مرّ إلّا أنّ للمفوّضة على سبيل الوجوب ولغيرها على الاستحباب.
مَتاعٌ: متعة، بِالْمَعْرُوفِ: بما يعرفه الشّرع،حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ : الكاملين الّذين يتّقون في ترك الواجبات والمندوبات. وقال قوم: المراد بالمتاع، نفقة العدّة.
و في الكافي : أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطيّ، عن عبد الكريم، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ قال: متاعها بعد ما تنقضي عدّتها عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ. وكيف يمتّعها وهي في عدّتها ترجوه ويرجوها؟ ويحدث اللّه- عزّ وجلّ- بينهما ما يشاء.
و قال: إذا كان الرّجل موسعا، عليه متّع امرأته بالعبد والأمة. والمقتر يمتّع بالحنطة والزّبيب والثّوب والدّراهم. وإنّ الحسن بن عليّ- عليه السّلام- متّع امرأة له بأمة. ولم يطلّق امرأة إلّا متّعها.
حميد بن زياد ، عن ابن سماعة، عن محمّد بن زياد، عن عبد اللّه بن سنان، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى ، عن سماعة، جميعا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ قال: متاعا بعد ما تنقضي عدّتها عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ.
قال: فكيف يمتّعها في عدّتها؟ وهي ترجوه. ويرجوها. ويحدث اللّه ما يشاء. أما إنّ الرّجل الموسر يمتّع المرأة بالعبد والأمة. ويمتّع الفقير بالحنطة والزّبيب والثّوب والدّراهم، وإنّ الحسن بن عليّ- عليهما السّلام- متّع امرأة طلقها بأمة. ولم يكن يطلّق امرأة إلّا متّعها.
حميد بن زياد، عن ابن سماعة، عن محمّد بن زياد، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله، إلّا أنّه قال: وكان الحسن بن عليّ- عليهما السّلام- يمتّع نساءه، بالأمة.
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن عبد الكريم، عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام: أخبرني عن قول اللّه- عزّ وجلّ:وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، ما أدنى ذلك، المتاع إذا كان معسرا لا يجد؟
قال: خمار وشبهه.
كَذلِكَ: إشارة إلى ما سبق من أحكام الطّلاق والعدد.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ:
وعد بأنّه سيبيّن لعباده ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، أي: تستعملون العقل في فهمها.
أَ لَمْ تَرَ:
تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التّواريخ. وقد يخاطب به من لم ير ولم يسمع، فإنّه صار مثلا في التّعجيب.
إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ:
قيل : يريد أهل داوردان قرية قبل واسط.
و سيجيء في الحديث: أنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشّام.
وَ هُمْ أُلُوفٌ، أي: ألوف كثيرة. أعني سبعين ألف بيت.
و قيل : متآلفون جمع ألف وألف، كقاعد وقعود.
و الأوّل هو الصّحيح.
و «الواو»، للحال.
حَذَرَ الْمَوْتِ: مفعول له.
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا:
قال لهم: موتوا. فماتوا، كقوله: كن فيكون.
و المعنى: أنّهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علّة بمشيئة اللّه وأمره.
ثُمَّ أَحْياهُمْ حين مرّ عليهم حزقيل.
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحياهم للاعتبار والفوز بالسّعادات.
وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ، اي: لا يشكرونه كما ينبغي، أو لا يعتبرون.
و في عيون الأخبار ، في باب مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع أهل الأديانو المقالات في التّوحيد، في كلام للرّضا- عليه السّلام- مع النّصارى. قال- عليه السّلام:
فمتى اتّخذتم عيسى ربّا، لجاز لكم أن تتّخذوا اليسع وحزقيل. لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم- عليهما السّلام- من إحياء الموتى وغيره. إنّ قوما من بني إسرائيل أخرجوا من بلادهم من الطّاعون وهم ألوف حذر الموت. فأماتهم اللّه في ساعة واحدة. فعمد أهل تلك القرية. فحظروا عليهم حظيرة. ولم يزالوا فيها حتّى نخرت عظامهم. وصاروا رميما.
فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل. فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية.
فأوحى اللّه إليه: أ تحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟
قال: نعم. يا ربّ! فأوحى اللّه إليه أن نادهم.
فقال: أيّتها العظام البالية! قومي بإذن اللّه تعالى.
فقاموا أحياء أجمعون. ينفضون التّراب عن رؤوسهم.
و في هذا المجلس، يقول الرّضا- عليه السّلام: ولقد صنع حزقيل النّبي- عليه السّلام- مثل ما صنع عيسى بن مريم: فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل بعد موتهم، بستّين سنة. ثمّ التفت إلى رأس الجالوت. فقال له: يا رأس الجالوت! أ تجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم بخت نصر من بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس؟
ثمّ انصرف بهم إلى بابل. فأرسله اللّه- عزّ وجلّ- إليهم. فأحياهم. هذا في التوراة.
لا يدفعه إلّا كافر منكم.
و في روضة الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد وغيره، عن بعضهم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- وبعضهم عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ فقال: إنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشّام.
و كانوا سبعين ألف بيت. وكان الطّاعون يقع فيهم في كلّ أوان. فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم. فكان الموت يكثر في الّذين أقاموا ويقلّ في الّذين خرجوا.فيقول الّذين خرجوا: لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت.
و يقول الّذين أقاموا: لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت.
قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنّه إذا وقع الطّاعون فيهم وأحسّوا به، خرجوا كلّهم من المدينة. فلمّا أحسّوا بالطّاعون خرجوا جميعا. وتنحّوا عن الطّاعون حذر الموت. فساروا في البلاد ما شاء اللّه. ثمّ أنّهم مرّوا بمدينة خربة قد خلا أهلها عنها وأفناهم الطّاعون. فنزلوا بها.
فلمّا حطّوا رحالهم فاطمأنّوا [بها] قال لهم اللّه- عزّ وجلّ: موتوا جميعا.
فماتوا من ساعتهم. وصاروا رميما يلوح إذ ماتوا على طريق المارّة. فكنستهم المارّة.
فنحّوهم وجمعوهم في موضع. فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، يقال له حزقيل.
فلمّا رأى تلك العظام، بكى واستعبر. وقال: يا ربّ! لو شئت لأحييتهم السّاعة، كما أمتّهم. فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك.
فأوحى اللّه تعالى إليه: أ فتحبّ ذلك؟
قال: نعم، يا ربّ! فأحياهم اللّه.
قال: فأوحى اللّه أن: قل كذا وكذا.» فقال الّذي أمر اللّه- عزّ وجلّ- أن يقوله.
فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: وهو الاسم الأعظم، فلمّا قال حزقيل ذلك الكلام، نظر إلى العظام: يطير بعضها إلى بعض. فعادوا أحياء. ينظر بعضهم إلى بعض.
يسبّحون اللّه عزّ ذكره. ويكبّرونه. ويهلّلونه. فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير.
قال عمر بن يزيد: فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: فيهم نزلت هذه الآية .
و في مجمع البيان وسأل زرارة بن أعين أبا جعفر- عليه السّلام- عن هؤلاء القوم الّذين قال لهم اللّه موتوا ثمّ أحياهم. فقال: أحياهم حتّى نظر النّاس إليهم، ثمّ أماتهم، أم ردّهم إلى الدّنيا حتّى سكنوا الدّور وأكلوا الطّعام؟
قال: لا. بل ردّهم اللّه حتّى سكنوا الدّور وأكلوا الطّعام ونكحوا النّساء ومكثوابذلك ما شاء اللّه ثمّ ماتوا بآجالهم.
و في غوالي اللّئالئ ، عن الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل، يذكر فيه نيروز الفرس. وفيه: ثمّ أنّ نبيّا من أنبياء بني إسرائيل، سأل ربّه أن يحيي القوم الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت. فأماتهم اللّه. فأوحى إليه أن صبّ الماء في مضاجعهم. فصبّ عليهم الماء في هذا اليوم. فعاشوا. وهم ثلاثون ألفا. فصار صبّ الماء في اليوم النّيروز سنّة ماضية. لا يعرف سببها إلّا الرّاسخون في العلم.
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ:
لمّا بيّن أنّ الفرار من الموت غير منج، أمرهم بالقتال، إذ لو جاء أجلهم ففي سبيل اللّه، وإلّا فبالنّصر والثّواب.
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقول المتخلّف والسّابق، عَلِيمٌ بما يضمرانه ومجاز عليهما.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ:
«من»، استفهاميّة مرفوعة المحلّ بالابتداء. و«ذا»، خبره و«الّذي» صفة «ذا»، أو بدله. و«إقراض اللّه» مثل لتقديم العمل الّذي يطلب به ثوابه.
قَرْضاً حَسَناً: مقرونا بالإخلاص وطيب النّفس، أو مقرضا حلالا طيّبا.
و قيل : القرض الحسن، المجاهدة والإنفاق في سبيل اللّه. [و
في الخبر أنّه صلة الإمام
،]
و في من لا يحضره الفقيه : سئل الصّادق- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال: نزلت في صلة الإمام- عليه السّلام.
فَيُضاعِفَهُ لَهُ: فيضاعف جزاءه له أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة.
و قرأ عاصم بالنّصب، على جواب الاستفهام، حملا على المعنى. فإنّ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ في معنى «أ يقرض اللّه أحد.» وقرأ ابن كثير يضعفه (بالرّفع.) وابن عامر ويعقوب، بالنّصب.أَضْعافاً كَثِيرَةً:
أضعاف، جمع ضعف. ونصبه على الحال من الضّمير المنصوب، أو المفعول الثّاني لتضمّن المضاعفة معنى التّصيير، أو المصدر على أنّ الضّعف اسم المصدر وجمع للتّنويع.
و الكثرة من اللّه. لا يقدّرها إلّا اللّه.
في كتاب معاني الأخبار حدّثنا [محمد بن] موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى، عن أيّوب الخزّاز قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: لمّا نزلت هذه [الآية] على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها. قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: اللّهمّ زدني.
فأنزل اللّه- عزّ وجل . مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.
فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: اللّهمّ زدني.
فأنزل اللّه- عزّ وجلّ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. فعلم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أنّ الكثير من اللّه لا يحصى وليس له منتهى.
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الوشّاء، عن عيسى بن سليمان النّخّاس، عن المفضّل بن عمر، عن الخيبريّ ويونس بن ظبيان قالا:
سمعنا أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: ما من شيء أحبّ إلى اللّه من إخراج الدّراهم إلى الإمام. وأنّ اللّه ليجعل له الدّرهم في الجنّة مثل جبل أحد. ثمّ قال: إنّ اللّه يقول في كتابه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. قال: هو واللّه في صلة الإمام، خاصّة.
عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، جميعا، عن ابن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام-
قال: قلت: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟
فقال: لا. هما يجريان في ذلك مجرى واحد. ولكنّ للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى اللّه- عزّ وجلّ.
قلت: أليس اللّه- عزّ وجلّ- يقول: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها؟
و زعمت أنّهم مجتمعون على الصّلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمن.
قال: أليس قد قال اللّه- عزّ وجلّ: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؟ فالمؤمنون هم الّذين يضاعف اللّه- عزّ وجلّ- لهم حسناتهم، لكلّ حسنة سبعون ضعفا. فهذا فضل المؤمن. ويزيده اللّه في حسناته على قدر صحّة إيمانه، أضعافا كثيرة. ويفعل اللّه بالمؤمنين ما يشاء من الخير.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
و المسلم والمؤمن ، كلاهما من أهل الولاية. لكنّ المؤمن أعلى مرتبة. وهو من دخل الإيمان في قلبه بالبرهان. واعتقاده أكمل. وإخلاصه أوفر.
و في كتاب ثواب الأعمال : أبي- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن يعقوب بن يزيد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن إسحاق بن عمّار قال: قلت للصّادق- عليه السّلام: ما معنى قول اللّه- تبارك وتعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً؟
قال: صلة الإمام.
أبي- رحمه اللّه- قال : حدّثنا محمّد بن أحمد، عن عليّ بن الفضل، عن أبي طالب عبد اللّه بن الصّلت، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله.
وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، أي: يقتر على بعض ويوسع على بعض، حسب ما اقتضته حكمته.
و قرئ «يبسط»، بالصّاد.وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على ما قدّمتم.
في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى سليمان بن مهران، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل، يقول- عليه السّلام: والقبض من اللّه تعالى، في موضع آخر المنع. والبسط منه، الإعطاء والتّوسّع ، كما قال- عزّ وجلّ: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، يعني: يعطي. ويوسّع. ويمنع. ويقبض .
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ: «الملأ»: جماعة يجتمعون للتّشاور، لا واحد له، كالقوم.
و «من»، للتّبعيض.
مِنْ بَعْدِ مُوسى، أي: من بعد وفاته.
و «من»، للابتداء.
إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ:
قيل : هو يوشع. وقيل : شمعون.
و في مجمع البيان : اختلف فيه فقيل: إشمويل. وهو بالعربيّة: إسماعيل. (عن أكثر المفسّرين. وهو المرويّ عن أبي جعفر- عليه السّلام.)
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أقم لنا أميرا لننهض معه للقتال.
و «نقاتل» مجزوم على الجواب.
و قرئ بالرّفع، على أنّه حال، أي: مقدّرين القتال. ويقاتل (بالياء) مجزوما على الجواب، ومرفوعا على الوصف لملكا.
قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا:
و قرأ نافع: عسيتم. (بالكسر) و«ألّا تقاتلوا» خبر «عسى.» فصل بينه وبين خبره بالشّرط.
و إدخال «هل» على الفعل المتوقّع، للتّقرير والتّثبيت.
قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا، أي: أيّ
غرض لنا في التّخلف عن القتال وقد عرض ما يوجبه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد؟ وذلك أنّ جالوت ومن معه من العمالقة، كانوا يسكنون ساحل بحر الرّوم، بين مصر وفلسطين. فظهروا على بني إسرائيل. فأخذوا ديارهم. وسبوا أولادهم.
قيل : وأسروا من أبناء الملوك، أربعمائة وأربعين.
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ:
في كتاب معاني الأخبار : أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عليّ بن النّعمان، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قال: كان القليل ستّين ألفا.
وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ : وعيد لهم بترك الجهاد.
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً:
«طالوت» علم عبريّ، كداود. وجعله فعلوتا من الطّول، يدفعه منع صرفه.
نقل أنّ نبيّهم- عليه السّلام- لمّا دعى اللّه أن يملّكهم، أتى بعصى يقاس بها من يملك عليهم. فلم يساوها إلّا طالوت.
قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا. [و كانت النّبوّة في ولد لاوي ابن يعقوب والملك في ولد يوسف. وكان طالوت] من ولد بنيامين ، أخي يوسف لأمّه لم يكن من بيت النبوّة ولا من بيت المملكة.
وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ: وراثة.
وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ لأنّ طالوت كان فقيرا. فنحن أحقّ بالملك منه.
قالَ: النّبيّ- عليه السّلام: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ :
الأوّل أنّ المعتبر اصطفاء اللّه. وقد اصطفاه عليكم، الثّاني- أنّ الشّرط فيه وفور العلم، ليتمكّن من السّياسة وجسامة البدن، ليكونله خطر في القلوب وقوّة على مقاومة العدوّ. وقد زاده اللّه فيهما.
الثّالث- أنّ اللّه مالك الملك، يؤتي ملكه من يشاء.
الرّابع- أنّه واسع الفضل. فيغني الفقير عليم بمن يليق بالملك.
و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- ره- من كلام لأمير المؤمنين- عليه السّلام: اسمعوا ما أتلو عليكم من كتابه المنزل على نبيّه المرسل، لتتّعظوا. فإنّه، واللّه! [أبلغ] عظة لكم. فانتفعوا بمواعظ اللّه. وانزجروا عن معاصي اللّه. فقد وعظكم اللّه بغيركم، فقال لنبيّه- عليه السّلام: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ- إلى قوله- وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. أيّها النّاس! إنّ لكم في هذه الآيات عبرة، لتعلموا أنّ اللّه جعل الخلافة والأمر من بعد الأنبياء في أعقابهم. وأنّه فضّل طالوت، وقدّمه على الجماعة باصطفائه إيّاه وزيادة بسطة في العلم والجسم. فهل تجدون [أنّ] اللّه اصطفى بني أميّة على بني هاشم وزاد معاوية عليّ بسطة في العلم والجسم؟
و في أمالي شيخ الطّائفة - قدس سره- بإسناده إلى عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- قال: قلت أربع أنزل اللّه تعالى تصديقي بها في كتابه- إلى قوله عليه السّلام- وقلت: قدرا. وقال: قيمة كلّ امرئ ما يحسن. فأنزل اللّه تعالى في قصّة طالوت: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ.
و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- في وصف الإمامة والإمام: أنّ الأنبياء والأئمّة- صلوات اللّه عليهم- يوفّقهم اللّه ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم. فيكون علمهم فوق كلّ علم أهل زمانهم، في قوله عزّ وجلّ :
أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، وقوله- عزّ وجلّ - في طالوت: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام: أنّ بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي وغيّروا دين اللّه وعتوا عن أمر ربّهم. وكان فيهم نبيّ يأمرهم وينهاهم. فلم يطيعوه. وروى أنّه إرميا النّبيّ فسلّط اللّه عليهم جالوت. وهو من القبط.
فاذلّهم. وقتل رجالهم. وأخرجهم من ديارهم وأموالهم. واستعبد نساءهم. ففزعوا إلى نبيّهم. وقالوا: سل أن اللّه يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه.
و كانت النّبوّة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسّلطان في بيت آخر. لم يجمع اللّه لهم (النّبوّة والملك) في بيت واحد. فمن ذلك قالوا: ابْعَثْ لَنا [مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فقال لهم نبيّهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا. قالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا.
و كان كما قال اللّه- تبارك وتعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.]
فقال لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً. فغضبوا من ذلك.
و قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا. وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ. وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ.
و كانت النّبوّة في ولد لاوي والملك في ولد يوسف. وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمّه. لم يكن من بيت النّبوّة ولا من بيت المملكة.
فقال لهم نبيّهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. وكان أعظمهم جسما. وكان شجاعا قويّا. وكان أعلمهم. إلّا أنّه كان فقيرا. فعابوه بالفقر. فقالوا: لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ.
فقال لهم نبيّهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ. وكان التّابوت الذي أنزل على موسى،فوضعته فيه أمّه، فألقته في اليمّ. فكان في بني إسرائيل [معظّما.] يتبرّكون به. فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النّبوّة. وأودعه يوشع، وصيّه. فلم يزل التّابوت بينهم استخفّوا . وكان الصّبيان يلعبون به في الطّرقات. فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التّابوت عندهم. فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتّابوت، رفعه اللّه عنهم.
فلمّا سألوا النّبيّ بعث اللّه طالوت إليهم ملكا يقاتل معهم، ردّ اللّه عليهم التّابوت، كما قال اللّه: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قال: البقيّة ذرّيّة الأنبياء قوله فيه سكينة من ربّكم. فإنّ التّابوت كان يوضع بين يدي العدوّ وبين المسلمين، فيخرج منه ريح طيّبة، لها وجه كوجه الإنسان.
و ما في هذا الخبر من أنّ ذلك النّبيّ إرميا، ينافي ما نقل
في مجمع البيان ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه اسمويل. ويمكن الجمع بأنّهما واحد. والاختلاف من النّقلة، أو من اختلاف التّسمية، بأن عبّر عنه باسمين عند أهل زمانه. وقوله في آخر الخبر «البقيّة ذرّيّة الأنبياء» معناه أنّ البقيّة ممّا تركه ذرّيّة الأنبياء
، كما يشرح في خبر آخر سيجيء.
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ:
الصّندوق، فعلوت من التّوب. فإنّه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه،
و في تفسير العيّاشيّ : عن العبّاس بن هلال، قال: سأل عليّ بن أسباط أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- فقال: أي شيء التّابوت الّذي كان في بني إسرائيل؟
قال: كان فيه ألواح موسى التي تكسّرت والطست الّتي تغسل فيها قلوب الأنبياء.
و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصّفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن أبي الحسن- عليه السّلام قال: سألته ما كان تابوت موسى؟ وكم كان سعته؟قال: ثلاثة أذرع في ذراعين.
قلت: ما كان فيه؟
قال: عصى موسى والسّكينة.
قلت: وما السّكينة؟
قال: روح اللّه يتكلم. كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون.
و لا ينافيه ما يأتي في الخبر من أنّه ريح كذا، لاحتمال أن يكون الرّيح والرّوح واحدا.
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن معاوية بن وهب، عن سعيد السّمّان قال: سمعت عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه يقول: إنّما مثل السّلاح فينا، مثل التّابوت في بني إسرائيل. كانت بنو إسرائيل أيّ أهل بيت وجد التّابوت على بابهم أوتوا النّبوّة. فمن صار إليه السّلاح منّا أوتي الإمامة.
و بهذا المعنى من الأخبار، كثيرة .
فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ:
قيل : أي في إيتاء التّابوت، أو في التّابوت ما تسكنون إليه. وهو التّوراة. وكان موسى إذا قاتل، قدّمه، فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون.
و قيل : صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت. لها رأس وذنب كرأس الهرّة.
و ذنبها وجناحان فتئن. فيزفّ التّابوت نحو العدوّ. وهم يتبعونه. فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النّصر.
قال في مجمع البيان : روى ذلك في أخبارنا.
و قيل : صور الأنبياء من آدم إلى محمّد- صلّى اللّه عليه وآله.
و قيل : «التّابوت»: القلب. والسّكينة ما فيه من العلم والإخلاص. وإتيانهتصيير قلبه مقرّ العلم والوقار، بعد أن لم يكن.
و الصّحيح ما ذكر في الخبر السّالف، من أنّه ريح طيّبة تخرج من التّابوت له وجه كوجه الإنسان.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم»: حدّثني أبي، عن الحسن بن خالد، عن الرّضا- عليه السّلام- أنّه قال: السّكينة ريح من الجنّة. لها وجه كوجه الإنسان.
وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ، أي: ذرّيّة الأنبياء. وهما موسى وهارون والآل لتفخيم مفخّم، أو أنبياء بني إسرائيل لأنّهم أبناء عمّهما.
في تفسير العيّاشي : عن حريز، عن رجل، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللّه: يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ، فقال: رضاض الألواح. فيها العلم والحكمة. العلم جاء من السّماء. فكتب في الألواح. وجعل في التّابوت.
تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ:
قيل : رفعه اللّه بعد موسى، فنزلت به الملائكة وهم ينظرون.
و قيل : كان مع أنبيائهم، يستفتحون به حتّى أفسدوا. فغلبهم الكفّار عليه. وكان في أرض جالوت إلى أن ملّك اللّه طالوت. فأصابهم ببلاء حتّى هلكت خمس مدائن.
فتشاءموا بالتّابوت. فوضعوه على ثورين. فساقهما الملائكة إلى طالوت.
و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب: وفي حديث جابر بن يزيد الجعفيّ: أنّه لمّا شكت الشّيعة إلى زين العابدين- عليه السّلام- ممّا يلقونه من بني أميّة. دعا الباقر- عليه السّلام. وأمر أن يأخذ الخيط الّذي نزل به جبرئيل إلى النّبيّ- عليه السّلام.
و يحركه تحريكا خفيفا .
قال: فمضى إلى المسجد، فصلّى فيه ركعتين. ثمّ وضع خدّه على الثّرى . وتكلّم بكلمات. ثمّ رفع رأسه. فأخرج من كمّه خيطا رقيقا يفوح منه رائحة المسك. وأعطانيطرفا منه. فمشيت رويدا.
فقال: قف، يا جابر! فحرّك الخيط تحريكا ليّنا خفيفا.
ثمّ قال: اخرج! فانظر ما حال النّاس؟
فخرجت من المسجد. فإذا صياح وصراخ وولولة من كلّ ناحية. وإذا زلزلة شديدة وهدّة ورجفة قد أخربت عامّة دور المدينة وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف إنسان- إلى قوله- سألته عن الخيط.
قال: هذا من البقيّة.
قلت: وما البقيّة؟ يا ابن رسول اللّه! قال: يا جابر «بقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة» ويضعه جبرئيل الدنيا .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ :
يحتمل أن يكون من تمام كلام النّبيّ، وأن يكون ابتداء خطاب من اللّه تعالى.
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ: [انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة. وأصله فصل نفسه عنه. ولكن لمّا كثر حذف مفعوله صار كاللازم.
قيل : إنّه قال لهم: «لا يخرج معي إلّا الشّابّ النّشيط الفارغ.» فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفا.
و الأظهر أنّه اجتمع إليه ستّون ألفا وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. لما سيأتي من أنّ من شرب ستّون ألفا، ومن لم يشرب ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وكان الوقت قيظا.
فسلكوا مفازة. وسألوا أن يجري اللّه لهم نهرا.
قالَ، أي: نبيّهم.
إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ: يعاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه.
فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي: فليس من أشياعي، أو بمتّحد معي.
وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي، أي: من لم يذقه من طعم الشيء إذا أذاقه ، مأكولا أو مشروبا.إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ:
استثناء من قوله «فشرب.» وقدّم عليه الجملة الثّانية، للعناية بها.
و المعنى: الرّخصة في القليل، دون الكثير.
و قرئ بفتح الغين.
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، أي: فكرعوا فيه إذا الأصل في الشّرب منه أن لا يكون بوسط، أو أفرطوا في الشّرب إلّا قليلا منهم.
و قرئ بالرّفع، حملا على المعنى، أي: لم يطيعوه.
و روى أنّ الّذين شربوا منه كانوا ستّين ألفا .
و روى عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام - أنّه قال: القليل الّذي لم يشربوا ولم يغترفوا، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا.
فَلَمَّا جاوَزَهُ، أي: طالوت النّهر إلى جنود جالوت، هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، أي: القليل الّذين لم يخالفوه، قالُوا، أي: الّذين شربوا منه، لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لكثرتهم وقوّتهم. هذا اعتذار منهم في التّخلّف وتحذير للقليل.
قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ، أي: الخلّص منهم الّذين تيقّنوا لقاء اللّه وثوابه بالموت. وسمّاه ظنّا لشبه اليقين بالموت بالظّنّ والشّكّ، كما ورد في الخبر: أنّه ما من يقين لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت.
و هم القليل الّذين لم يشربوا.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ: بتيسيره وتوفيقه.
و «كم»، يحتمل الخبر والاستفهام.
و «من»، مبنيّة، أو مزيدة.
و «الفئة»: الفرقة من النّاس، من فأوت رأسه، أي: شققته، أو من فاء إذا رجع فوزنها فعة، أو فلة. ولا ينافي إطلاق الفئة هنا على أقلّ من عشرة آلاف
، ما رواه العيّاشيّ
«عن حمّاد بن عثمان قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: لا يخرج القائم- عليه السّلام- في أقلّ من الفئة. ولا تكون الفئة أقلّ من عشرة آلاف.» من وجهين:
الأوّل: أنّ الإطلاق على الأقلّ هنا للفئة الموصوفة بالقلّة، لا الفئة المطلق. وفي الخبر، مطلقة.
و الثّاني: أنّ المراد بالفئة في الخبر المعهودة المذكورة سابقا، بأنّها يكون مع القائم- عليه السّلام- لا مطلق الفئة.
وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ : بالنّصر والإثابة.
وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ، أي: ظهروا لهم، ودنوا منهم، قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ : سألوا- أوّلا- إفراغ الصّبر في قلوبهم. وهو الّذي ملاك الأمر. وثانيا: ثبات القدم في مداحض الحرب المسبّب عنه.
و ثالثا: النّصر على العدوّ المترتّب عليهما.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ: فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إيّاهم إجابة لدعائهم.
روى في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن الرّضا- عليه السّلام: لمّا تأذّى بنو إسرائيل من جالوت، أوحى اللّه إلى نبيّهم: أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى- عليه السّلام. وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب- عليه السّلام- اسمه داود بن أسى.
و كان أسى راعيا. وكان له عشر بنين، أصغرهم داود. فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت، بعث إلى أسى أن احضر ولدك فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه درع موسى- عليه السّلام- فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه.
فقال لأسى: هل خلّفت من ولدك أحدا؟
قال: نعم. أصغرهم. تركته في الغنم راعيا .
فبعث إليه [ابنه.] فجاء به فلمّا دعي أقبل ومعه مقلاع. فناداه ثلاث صخرات في طريقه. فقالت : «خذنا.» فأخذها في مخلاته. وكان شديد البطش، قويّا فيبدنه، شجاعا، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى. فاستوت عليه. ففصل طالوت بالجنود حتّى برزوا لجالوت وجنوده. فجاء داود ووقف بحذاء جالوت. وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التّاج وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها وجنوده من بين يديه. فأخذ داود من تلك الأحجار حجرا. فرمى به ميمنة جالوت فمر في الهواء. ووقع عليهم. فانهزموا. وأخذ حجرا آخر. فرمى به في ميسرة جالوت. فوقع عليهم. فانهزموا. ورمى جالوت بحجر. فصكّ الياقوتة في جبهته. ووصلت إلى دماغه. ووقع إلى الأرض ميّتا. وهو قوله: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ.
وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ بالوجه الّذى روي.
وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، أي ملك: بني إسرائيل.
قيل : ولم يجتمعوا قبل داود على ملك.
وَ الْحِكْمَةَ: النّبوّة. وأنزل عليه الزّبور.
وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ: وعلمه صنعة الحديد وليّنه له.
في كتاب الخصال ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يبعث أنبياء ملوكا إلّا أربعة بعد نوح: ذا القرنين واسمه عياش، وداود وسليمان ويوسف- عليهم السّلام. فأمّا عياش فملك ما بين المشرق والمغرب. وأمّا داود فملك ما بين الشّامات إلى بلاد إصطخر. وكذلك كان ملك سليمان. وأمّا يوسف فملك مصر وبراريها ولم يتجاوزها إلى غيرها.
و عن أبي الحسن الأوّل- عليه السّلام - قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- اختار من كلّ شيء أربعة. اختار من الأنبياء للسّيف، إبراهيم وداود وموسى وأنا.
و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى جعفر بن محمّد، عن أبيه،
عن جدّه، عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: عاش داود- عليه السّلام- مائة سنة. منها أربعين سنة في ملكه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: وكان بين موسى وبين داود، خمسمائة سنة، وبين داود وعيسى ألف سنة وخمسمائة سنة.
وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ:
و قرأ نافع هنا وفي الحجّ دفاع اللّه.
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ :
قيل : أي: لو لا أنّه تعالى يدفع بعض النّاس ببعض وينصر المسلمين على الكفّار، لغلبوا وأفسدوا في الأرض، أو فسدت الأرض بشؤمتهم.
و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن سعيد ، عن عبد اللّه بن القسم، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: انّ اللّه ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا. ولو اجتمعوا»
على ترك الصلاة لهلكوا. وإنّ اللّه ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي. ولو اجتمعوا»
على ترك الزّكاة لهلكوا. وانّ اللّه ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ. ولو اجتمعوا»
على ترك الحجّ لهلكوا. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ: وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. فو اللّه ما نزلت إلّا فيكم. ولا عنى بها غيركم.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: إنّ اللّه ليدفع- وذكر مثله إلّا قوله: فو اللّه ما أنزلت (الخ.)
و في مجمع البيان : وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ (الآية) فيه ثلاثة أقوال. الثّاني: أنّ معناه يدفع اللّه بالبرّ عن الفاجر الهلاك- عن عليّ- عليه السّلام. وقريب منه ما روىعن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال: لو لا عباد ركّع وصبيان رضّع وبهائم رتّع، لصبّ عليهم العذاب صبّا.
و روى جابر بن عبد اللّه ، قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: إنّ اللّه يصلح بصلاح الرّجل السلم ولده وولد ولده وأهل دويرته. ودويرات حوله لا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم.
تِلْكَ إشارة إلى ما قصّ من القصص السّالفة.
آياتُ اللَّهِ: دلائله على قدرته وإرسالك رسولا.
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ: بالوجه المطابق الّذي لا يشكّ فيه أهل الكتاب وأرباب التّواريخ.
وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لما أخبرت بها من غير تعرّف واستماع.
تِلْكَ الرُّسُلُ، أي: الجماعة المذكورة قصصهم، أو المعلومة لك أيّها النّبيّ، أو جماعة الرّسل.
و «اللّام»، للاستغراق.
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصّصناه بما ليس لغيره.
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ:
قيل : هو موسى.
و قيل : موسى ليلة الخيرة في الطّور، ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- ليلة المعراج.
و قرئ: كلّم اللّه وكالم اللّه. (بنصب لفظ الجلالة.)
وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ، يعني: محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله.
دَرَجاتٍ [بأن فضّله على غيره. قيل : وهو محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. فإنّه فضّل] بأن فضّله على غيره من وجوه متعدّدة: فإنّه خصّ بالدّعوة العامّة والحجج المتكاثرة والمعجزات المستمرّة والفضائل العمليّة والعمليّة الفائتة للحصر.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى عليّ بن موسى، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: ما خلق اللّه خلقاأفضل منّي. ولا أكرم عليه منّي.
قال عليّ- عليه السّلام: فقلت: يا رسول اللّه! أ فأنت أفضل أم جبرئيل؟
فقال- عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين.
و فضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين. والفضل بعدي لك يا عليّ وللائمّة من بعدك. وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
و قيل : إبراهيم خصّصه بالخلّة الّتي هي أعلى المراتب.
و قيل : إدريس لقوله تعالى : وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا وقيل : أولو العزم من الرّسل.
و الإبهام في جميع تلك الاحتمالات، للتّفخيم. ويحتمل الحمل على الكلّ. والإبهام لعدم التّعيين. يدلّ عليه
ما رواه العيّاشيّ في تفسيره ، عن أبي عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام. قال: بالزّيادة بالإيمان يفضّل المؤمنون بالدّرجات عند اللّه.
قلت: وإنّ للإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند اللّه؟
فقال: نعم.
قلت: صف لي ذلك- رحمك اللّه- حتّى أفهمه.
فقال: ما فضّل اللّه أولياءه بعضهم على بعض. فقال: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ. (إلى آخر الآية.) وقال :
وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ. وقال : انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ. وقال : هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ. فهذا ذكر اللّه درجات الإيمان ومنازله عند اللّه.
[و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم
بن يزيد قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- وذكر حديثا طويلا. وفيه يقول- عليه السّلام: ثمّ ذكر ما فضّل اللّه- عزّ وجلّ- به أولياءه بعضهم على بعض. فقال- عزّ وجلّ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فوق بعض درجات. (إلى آخر الآية.)]
وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ: المعجزات. أفرده لإفراط اليهود والنّصارى في تحقيره وتعظيمه. وجعل معجزاته مخصوصة بالذّكر. لأنّها آيات واضحة، أو معجزات عظيمة. لم يستجمعها غيره.
وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ:
في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه رفعه، عن محمّد بن داود الغنويّ، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام: فأمّا ما ذكر من أمر السّابقين، فإنّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين. جعل اللّه فيهم خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح القوّة وروح الشّهوة وروح البدن. فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين. وبها علّموا الأشياء. وبروح الإيمان عبدوا اللّه ولم يشركوا به شيئا. وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم وعالجوا معاشهم. وبروح الشّهوة أصابوا لذيذ الطّعام ونكحوا الحلال من شباب النّساء.
و بروح البدن دبّوا ودرجوا. فهؤلاء مغفور مصفوح عن ذنوبهم.
ثمّ قال: قال اللّه- عزّ وجلّ: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ. وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
ثمّ قال في جماعتهم : وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ. يقول: أكرمهم ففضّلهم على من سواهم.
فهؤلاء مغفور لهم. مصفوح عن ذنوبهم.
وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ إلزام النّاس على طريقة واحدة، مشيئة حتم، مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ: من بعد الرّسل، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ: المعجزات.وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا. لأنّه لم يجبرهم على الاهتداء للابتلاء.
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بتوفيقه.
وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ لإعراضه عنه بخذلانه.
وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا: التّكرار للتّوكيد.
وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ : فيوفّق من يشاء فضلا ويخذل من يشاء عدلا.
و في هذه الآية دلالة على أنّ المختلفين بعد الرّسل، بين مؤمن وكافر، لا ثالث لهما.
و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسي- رحمه اللّه: وعن الأصبع بن نباتة قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين- عليه السّلام- يوم الجمل. فجاء رجل حتّى توقّف بين يديه. فقال:
يا أمير المؤمنين! كبّر القوم وكبّرنا. وهلّل القوم وهلّلنا. وصلّى القوم وصلّينا. فعلام نقاتلهم؟
فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام: على ما أنزل اللّه- عزّ وجلّ- في كتابه.
فقال: يا امير المؤمنين! ليس كلّ ما أنزل اللّه في كتابه أعلمه فعلّمنيه؟
فقال عليّ- عليه السّلام: لمّا أنزل اللّه في سورة البقرة.
فقال: يا أمير المؤمنين! ليس كلّ ما أنزل اللّه في سورة البقرة أعلمه فعلّمنيه؟
فقال عليّ- عليه السّلام: هذه الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ.- وقرأ الى يَفْعَلُ ما يُرِيدُ- فنحن الّذين آمنا. وهم الّذين كفروا.
فقال الرّجل: كفر القوم وربّ الكعبة! ثمّ حمل، فقاتل حتّى قتل- رحمه اللّه.
و في أمالي شيخ الطّائفة ، شبهه مع تغيير غير مغيّر للمعنى.
و في آخره بعد قوله: ومنهم من كفر. فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى باللّه- عزّ وجلّ- وبالنّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- وبالكتاب وبالحقّ. فنحن الّذين آمنوا. وهم الّذين كفروا. وشاء اللّه قتالهم بمشيئته وإرادته.
و في روضة الكافي : ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام: انّ العامّة يزعمون أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع النّاس كانترضا للّه- عزّ ذكره. وما كان اللّه ليفتن أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- من بعده.
فقال أبو جعفر- عليه السّلام: او ما يقرءون كتاب اللّه؟ أو ليس اللّه يقول : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ؟
قال: قلت: إنّهم يفسّرون على وجه آخر.
قال: أو ليس من أخبر اللّه- عزّ وجلّ- عن الّذين من قبلهم من الأمم، أنّهم قد اختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات، [حيث قال: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ.] وَلكِنِ اخْتَلَفُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا. وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ؟ في هذا يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- قد اختلفوا من بعده. فمنهم من آمن. ومنهم من كفر.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ: ما أوجب عليكم إنفاقه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ: وهو يوم القيامة الّذي لا بيع فيه، فيحصل ما ينفق بالبيع، أو يفتدى النّفس ويخلص من العذاب، بإعطاء شيء وشرائها، ولا خلّة حتّى يستغنى بالأخلّاء، ولا شفاعة إلا لمن رضى له قولا حتّى يتّكل على الشّفعاء.
وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ : يريد التّاركون للزكاة الّذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غير موضعه وصرفوه على غير وجهه. فوضع الكافرون موضعه تغليظا وتهديدا، كقوله: «وَ مَنْ كَفَرَ، مكان من لم يحجّ، وإيذانا بأن ترك الزّكاة من صفات الكفّار لقوله: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ.
و في من لا يحضره الفقيه : وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم. وهو قوله- عزّ وجلّ»
. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.
و اعلم! أنّ الأخبار في فضل آية الكرسيّ كثيرة. فمنها ما مرّ في صدر الكتاب. ومنهاما رواه في الخرايج والجرائح ، عن عبد اللّه بن يحيى الكاهليّ قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: إذا لقيت السّبع ما ذا تقول؟
قلت: لا أدري.
قال: إذا لقيته فاقرأ في وجهه آية الكرسيّ وقل: «عزمت عليك بعزيمة اللّه وعزيمة رسوله وعزيمة سليمان بن داود وعزيمة عليّ أمير المؤمنين والأئمّة من بعده.» فإنّه ينصرف عنك.
قال عبد اللّه: فقدمت الكوفة. فخرجت مع ابن عمّ لي إلى قرية. فإذا سبع قد اعترض لنا في الطّريق. فقرأت في وجهه آية الكرسيّ وقلت: عزمت عليك بعزيمة اللّه (إلى آخرها) إلّا تنحّيت عن طريقنا. ولم تؤذنا. فإنّا لا نؤذيك.
و منها ما رواه في الكافي ، عن عليّ بن إبراهيم [عن محمّد بن عيسى] وعدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللّه وسهل بن زياد، جميعا، عن محمّد بن عيسى، عن أبي محمّد الأنصاريّ، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: شكا إليه رجل عبث أهل الأرض بأهل بيته وبعياله. فقال: كم سقف بيتك؟
قال : عشرة أذرع.
فقال اذرع ثمانية أذرع ثمّ اكتب آية الكرسيّ فيما بين الثمانية إلى العشرة كما تدور. فإنّ كلّ بيت سمكه أكثر من ثمانية أذرع، فهو محتضر تحضره الجنّ، يكون فيه مسكنه
و عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، وأحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه، جميعا، عن يونس، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال في سمك البيت: إذا رفع ثمانية أذرع، كان مسكونا. فإذا زاد على ثمان فليكتب على رأس (الثّمانية) آية الكرسيّ.
و بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا كانالبيت فوق ثمانية أذرع، فاكتب في أعلاه آية الكرسيّ.
و منها ما رواه في من لا يحضره الفقيه ، في وصيّة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام: يا عليّ! ومن كان في بطنه ماء أصفر فليكتب على بطنه آية الكرسيّ ويشربه. فإنّه يبرأ بإذن اللّه- عزّ وجلّ.
و منها ما رواه في كتاب الخصال ، عن عتبة بن عمير الليثي، عن أبي ذرّ- ره- قال: دخلت على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وهو في المسجد جالس وحده (إلى أن قال) قلت له: فأي آية أنزلها اللّه عليك أعظم؟
قال: آية الكرسيّ. ثمّ قال: يا أبا ذرّ! ما السّموات السّبع في الكرسيّ إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة.
و فيه ، فيما علّم أمير المؤمنين- عليه السّلام- أصحابه: وإذا اشتكى أحدكم عينه فليقرأ آية الكرسيّ. وليضمر في نفسه أنّها تبرء. فإنّه يعافى- إن شاء اللّه تعالى.
و منها ما رواه في أصول الكافي ، عن محمّد بن يحيى، عن عبد اللّه بن جعفر، عن السّيّاريّ، عن محمّد بن بكر، عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنّ في بطني ماء أصفر. فهل من شفاء؟
فقال: نعم بلا درهم ولا دينار. ولكن اكتب على بطنك آية الكرسيّ.
و تغسلها. وتشربها. وتجعلها ذخيرة في بطنك. فتبرأ بإذن اللّه- عزّ وجلّ.
ففعل الرّجل. فبرئ بإذن اللّه- عزّ وجلّ.
و منها ما رواه في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده عن رجل سمع أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- يقول: من قرأ آية الكرسيّ عند منامه، لم يخف الفالج- إن شاء اللّه. ومن قرأها بعد كلّ صلاة لم يضرّه ذو حمّة.
و منها ما رواه في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المجموعة، بإسناده عن عليّ- عليه السّلام. قال: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله:
من قرأ آية الكرسيّ مائة مرّة، كان كمن عبد اللّه طول حياته.
[و في مجمع البيان : روى جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: لمّا أراد اللّه- عزّ وجلّ- أن ينزل «فاتحة الكتاب» و«آية الكرسيّ» و«شهد اللّه» وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ (إلى قوله) بِغَيْرِ حِسابٍ، تعلّقن بالعرش. وليس بينهنّ وبين اللّه حجاب. وقلن: يا ربّ! تهبطنا دار الذّنوب وإلى من يعصينّك. ونحن معلّقات بالطّهور وبالقدس.
فقال: وعزّتي وجلالي! ما من عبد قرأ كنّ في دبر كلّ صلاة إلّا أسكنته حضيرة القدس، على ما كان فيه، وإلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة، وإلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناه المغفرة، وإلّا أعذته من كلّ عدوّ ونصرته عليه ولا يمنعه دخول الجنّة إلّا أن يموت. وقد مرّ في أوّل الفاتحة]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: مبتدا وخبر. وللنّحاة خلاف في أنّه هل يضمر للأخير مثل في الوجود، أو يصحّ، أو يوجد؟ وإلّا صحّ أنّ إلّا هو خبره.
و المعنى: أنّ اللّه انتفى مستحقّ للعبادة غيره بحسب الإمكان والوجود، يعني:
لا يمكن ولا يوجد مستحقّ للعبادة غيره.
الْحَيُّ:
قيل : الحيّ الّذي له صفة يقتضي الحسّ والحركة الإراديّة ويقتضي صحّة العلم والقدرة. والمراد به في صفة اللّه تعالى أنّه غير مرتبط الوجود بغيره، بطريق المعلوليّة، مع كونه قديرا عالما.
و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في حديث طويل يذكر فيه صفة الرّبّ- عزّ وجلّ- وفيه يقول: لم يزل حيّا بلا حياة. [كان حيّا بلا حياة حادثة.
و بإسناده إلى عبد الأعلى، عن العبد الصّالح، يعني: موسى بن جعفر
- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: كان حيّا بلا كيف ولا أين. حيّا بلا حياة حادثة.
بل حيّ لنفسه.
و بإسناده إلى جابر الجعفيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: إنّه نور لا ظلمة فيه، وعلم لا جهل فيه، وحياة لا موت فيه.]
الْقَيُّومُ: الدّائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. فيعول من قام الأمر، إذا حفظه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم . حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللّه قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، عن عليّ بن العبّاس، عن جعفر بن محمّد، عن الحسين بن أسد، عن يعقوب بن جعفر قال سمعت موسى بن جعفر- عليهم السّلام- يقول: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أنزل على عبده محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم. ويسمّى بهذه الأسماء الرّحمن الرّحيم العزيز الجبّار العليّ العظيم. فتاهت هنا لك عقولهم. واستخفّت أحلامهم. فضربوا له الأمثال. وجعلوا له أندادا. وشبّهوه بالأمثال. ومثّلوه أشباها. وجعلوه يزول ويحول. فتاهوا في بحر عميق لا يدرون ما غوره، ولا يدركون بكيفيّته بعده.
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ:
«السّنة»: فتور يتقدّم النّوم.
و «النّوم»: حال يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدّماغ، من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواسّ الظّاهرة عن الإحساس، رأسا. وهنا إشكال مشهور. وهو تقديم السّنة عليه. وقياس المبالغة عكسه. وأجيب بأنّه قدّمه على ترتيب الوجود، وبأنّه على القياس. وهو التّرقّي من الأدنى إلى الأعلى. [لأنّ عدم الأخذ من النّوم، أعلى لقوّته من عدم أخذ السّنة الضعيفة. ففي ترتيبهما التّرقّي من الأدنى إلى الأعلى.
و في أصول الكافي : أبو عبد اللّه الأشعريّ، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن حمّاد بن عثمان قال: جلس أبو عبد اللّه- عليه السّلام- متورّكا رجله اليمنى على فخذه اليسرى. فقال له رجل: جعلت فداك! هذه جلسة مكروهة.
فقال: لا. إنّما هو شيء قالته اليهود: لمّا أن فرغ اللّه- عزّ وجلّ- من خلق السّماوات والأرض واستوى على العرش، جلس هذه الجلسة، ليستريح. فأنزل اللّه عزّ
و جلّ: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ.
و بقي أبو عبد اللّه- عليه السّلام- متورّكا كما هو.]
و الجملة تأكيد لما قبله. ولذلك ترك العاطف. فإنّ عدم أخذ السّنة والنّوم يؤكّد كونه قيّوما. وكذا في قوله:
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. لأنّه تقرير لقيّوميّته واحتجاج على تفرّده في الإلهيّة. وما فيهما أعمّ من أن يكون داخلا في حقيقتهما، أو خارجا عنهما، متمكّنا فيهما.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ: «من»، استفهاميّة. مبتدأ. و«ذا» موصول خبره. والموصول صفته. والاستفهام على سبيل الإنكار. وهو بيان لكبرياء شأنه، أي: لا أحد يساويه، أو يداينه. يستقلّ بدفع ما يريد شفاعة فضلا عن أن يقاومه عنادا.
و من يشفع، يشفع بإذنه. وله مكانه عنده.
و في محاسن البرقيّ ، بإسناده، قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام:
قوله مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. [أي من هم؟] قال: نحن أولئك الشّافعون.
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وأمّا آية الكرسيّ، فإنّه حدّثني أبي، عن الحسن بن خالد أنّه قرأ أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام- الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، أي: نعاس له ما في السّموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثّرى. عالم الغيب والشّهادة. هو الرّحمن الرّحيم. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه»
، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن سنان، عن أبي جرير القميّ، وهو محمّد بن عبيد اللّه، وفي نسخة: عبد اللّه، عن أبي الحسن- عليه السّلام: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وما بينهما وما تحت الثّرى.
عالم الغيب والشّهادة . هو الرّحمن الرّحيم. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. ]يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ: ما قبلهم وما بعدهم، أو بالعكس. لأنّك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي، أو أمور الدّنيا وأمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسّونه وما يعقلونه، أو ما يدركونه وما لا يدركونه.
و الضّمير لما في السّموات والأرض. لأنّ فيهم العقلاء، أو لما دلّ عليه.
«من ذا» من الملائكة والأنبياء والأئمّة.
وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ: من معلوماته، إِلَّا بِما شاءَ: أن يعلموا.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:
«الكرسيّ» في الأصل، اسم لما يقعد عليه. ولا يفضل عن مقعد القاعد. وكأنّه منسوب إلى الكرس. وهو الملبد. مجاز عن علمه تعالى.
في كتاب التّوحيد ، قال: حدّثنا أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن القسم بن محمّد، عن سليمان بن داود ، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قال: علمه.
حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد- رحمه اللّه - قال: حدّثنا محمّد بن الحسن قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي، عن فضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، فقال: يا فضيل! السّموات والأرض وكلّ شيء في الكرسيّ.
و في الكافي ، مثله، سواء.
و كذا «العرش» مجاز عن علم له تعالى أعلى من الأوّل، كما
رواه في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى حنان بن سدير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل يقول فيه: ثمّ العرش في الوصل منفرد من الكرسيّ. لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب.و هما جميعا غيبان. وهما في الغيب مقرونان. لأنّ «الكرسيّ» هو الباب الظّاهر من الغيب الّذي منه مطلع البدع ومنه الأشياء كلّها. و«العرش» هو الباب الباطن الّذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والأين والمشيئة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والتّرك وعلم العود والبداء . فهما في العلم بابان مقرونان. لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسيّ. وعلمه أغيب من علم الكرسيّ. فمن ذلك قال : رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أي:
صفته أعظم من صفة الكرسيّ. وهما في ذلك مقرونان.
و قيل : «الكرسيّ جسم بين يدي العرش. ولذلك سمّي كرسيّا. محيط بالسّموات السّبع»، لما
رواه في كتاب التّوحيد ، بإسناده عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في حديث طويل، يذكر فيه عظمة اللّه- جلّ جلاله- يقول فيه- عليه السّلام- بعد أن ذكر الأرضين السّبع ثمّ السّموات السّبع والبحر المكفوف وجبال البرد: وهذه السّبع والبحر المكفوف والحجب عند الهواء الّذي تحار فيه القلوب، كحلقة في فلاة قيّ. والسّبع والبحر المكفوف وجبال البرد (و الهواء والحجب) في الكرسيّ، كحلقة في فلاة قيّ. ثمّ تلا هذه الآية: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
و في روضة الكافي ، بإسناده إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- مثله.
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن بن سويد، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، أيّما أوسع، الكرسيّ أو السّموات؟
قال: لا بل الكرسيّ وسع السّموات والأرض والعرش. وكلّ شيء خلق اللّه في الكرسيّ.
حدّثني أبي ، عن إسحاق بن الهيثم، عن سعد بن طريف، عن] الأصبغ بن
نباتة: أنّ عليّا- صلوات اللّه عليه- سئل عن قول اللّه- تبارك وتعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، قال: السّموات والأرض وما بينهما من مخلوق في جوف الكرسيّ: وله أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه.
فأمّا ملك منهم في صورة الآدميّين. وهي أكبر الصّور على اللّه. وهو يدعو اللّه.
و يتضرّع إليه. ويطلب السّعة في الرّزق لبني آدم:
و الملك الثّاني في صورة الثّور. وهو سيّد البهائم. ويطلب إلى اللّه. ويتضرّع إليه.
و يطلب السّعة والرّزق للبهائم.
و الملك الثّالث في صورة النّسر. وهو سيّد الطيّور. وهو يطلب إلى اللّه- تبارك وتعالى. ويتضرّع إليه. ويطلب السّعة والرّزق لجميع الطّيور.
و الملك الرّابع في صورة الأسد. وهو سيّد السّباع. وهو يرغب إلى اللّه. ويتضرّع إليه. ويطلب السّعة والرّزق لجميع السباع.
و لم يكن في هذه الصّور، أحسن من الثّور . ولا أشدّ انتصابا منه حتّى اتّخذ الملأ من بني إسرائيل العجل. فلمّا عكفوا عليه وعبدوه من دون اللّه، خفض الملك الّذي في صورة الثّور رأسه، استحياء من اللّه أن عبد من دون اللّه شيء يشبهه. وتخوّف أن ينزل به العذاب.
و على هذا العرش جسم- أيضا.
روى في كتاب التّوحيد ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل وفيه: قال السّائل: فقوله : الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: بذلك وصف نفسه. وكذلك هو مستول على العرش، بائن من خلقه من [غير] أن يكون العرش حاملا، ولا أن يكون العرش حاويا له، ولا أن يكون العرش مختارا له. ولكنّا نقول: هو حامل العرش، وممسك العرش.
و نقول: من ذلك ما قال: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. فثبتّنا من العرش والكرسيّ، ما ثبّته. ونفينا أن يكون العرش والكرسيّ حاويا له، أو أن يكون- عزّ وجلّ-محتاجا إلى مكان، أو إلى شيء ممّا خلق. بل خلقه محتاجون إليه.
[و فيه - أيضا: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن حجّال عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وسعن الكرسيّ؟ أم الكرسيّ وسع السّماوات والأرض؟
فقال: بل الكرسيّ وسع السّماوات والأرض والعرش. وكلّ شيء في الكرسي.
و فيه ، بإسناده إلى عاصم بن حميد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: الكرسيّ جزء من سبعين جزء من نور العرش.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.]
و قيل : إنّه الفلك المشهور بفلك البروج. كما أنّ العرش الفلك المشهور بالفلك الأطلس والأعظم.
و قيل : تصوير لعظمته. وتمثيل مجرّد. ولا كرسيّ في الحقيقة.
وَ لا يَؤُدُهُ: لا يثقله. من الأود. وهو الاعوجاج.
حِفْظُهُما، أي: حفظه السّموات والأرض.
فحذف الفاعل. وهو أحد المواضع الأربعة الّتي حذف الفاعل. فيه قياس.
[و أضيف المصدر إلى المفعول.
وَ هُوَ الْعَلِيُّ: المتعالي عن الأنداد والأشباه، الْعَظِيمُ : المستحقر بالإضافة إليه كلّ ما سواه.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى محمّد بن سفيان قال: سألت أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام: هل كان اللّه عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟
قال: نعم.
قلت: يراها ويسمعها؟
قال: ما كان يحتاج إلى ذلك. لأنّه لم يكن يسألها ولا يطلب منها. هو نفسه.و نفسه هو. قدرة نافذة. فليس يحتاج إلى أن يسمّى نفسه. ولكنّه اختار لنفسه اسما لغيره يدعوه بها. لأنّه إذا لم يدع باسمه، لم يعرف. فأوّل ما اختار لنفسه الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. لأنّه أعلى الأشياء كلّها. فمعناه، اللّه. واسمه العليّ العظيم. هو أوّل أسمائه. لأنّه علا كلّ شيء.
و اعلم! أنّ المشهور أنّ آية الكرسيّ هي هذه. وما رواه في أصول الكافي»
، مثله،
و في روضة الكافي ، عن محمّد بن خالد، عن حمزة بن عبيد ، عن إسماعيل بن عباد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وآخرها: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، والحمد للّه ربّ العالمين،
و آيتين بعدها، بظاهره يدلّ عليه. لأنّ الظّاهر رجوع الضّمير في آخرها، إلى آية الكرسيّ.
و روى عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن الحسين بن خالد: أنّه قرأ عليّ بن موسى- صلوات اللّه عليهما- على التّنزيل: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
و ذكر محمّد بن يعقوب الكلينيّ- رضي اللّه عنه - بإسناده أنّه يقرأ بعدها:
«و الحمد للّه ربّ العالمين.» وفي الرّواية الأولى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى. لَا انْفِصامَ لَها. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ هم الظّالمون لآل محمّد يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. والحمد للّه ربّ العالمين. كذا نزلت.
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. إذ الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا. ولكن:
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ: تميّز كلّ ما هو رشد، عن كلّ ما هو غيّ، إذ يجبحمل اللام على الاستغراق، لعدم قرينة التّخصيص، في المقام الخطابيّ. وتبيّن الرّشد من الغيّ، لا تخصيص فيه بزمان دون زمان، وبأحد دون أحد. فيفيد تبيّن الرّشد، في كلّ زمان، لكلّ أحد. فيدلّ على وجود معصوم في كلّ زمان اتّباعه هو الرّشد وعدم اتّباعه هو الغيّ.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ: فعلوة من الطّغيان.
قلب عينه ولامه. وهم ظالمو حقّ آل محمّد.
روى الشّيخ أبو جعفر الطّوسيّ ، بإسناده إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام: أنتم الصلاة في كتاب اللّه- عزّ وجلّ؟ وأنتم الزكاة؟ وأنتم الحجّ؟
فقال: يا داود! نحن الصّلاة في كتاب اللّه- عزّ وجلّ. ونحن الزكاة. ونحن الصّيام.
و نحن الحجّ. [و نحن الشّهر الحرام.] ونحن البلد الحرام. ونحن كعبة اللّه. ونحن قبلة اللّه.
و نحن وجه اللّه. قال اللّه تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. ونحن الآيات ونحن البيّنات.
و عدوّنا في كتاب اللّه- عزّ وجلّ- الفحشاء والمنكر والبغي والخمر والميسر والأنصاب والأزلام والأصنام والأوثان والجبت والطّاغوت والميتة والدّم ولحم الخنزير.
يا داود! إنّ اللّه خلقنا. فأكرم خلقنا. وجعلنا أمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السّموات وما في الأرض. وجعل لنا أضدادا وأعداء. فسمّانا في كتابه. وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبّها اليه تكنية عن العدد. وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه. وكنّى عن أسمائهم. وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه وإلى عباده المتّقين.
و في مجمع البيان : في «الطّاغوت» خمسة أقوال: أحدها- أنّه الشّيطان. وهو المرويّ عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام.
وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ: بالتّوحيد والتّصديق للرّسل، في كلّ ما جاءوا به. ومن جملتها بل عمدتها ولاية الائمّة من آل محمّد- عليهم السّلام.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى: طلب الإمساك من نفسه بالعروة الوثقى، منالحبل الوثيق وهي مستعارة لمستمسك المحقّ من الرّأي القويم. أطلق هنا على الإيمان باللّه.
و هو يلازم ولاية الأئمّة- عليهم السّلام.
في أصول الكافي : حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد ، عن غير واحد، عن أبان، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما- عليهما السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، قال: هي الإيمان.
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، جميعا، عن بن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في قوله- عزّ وجلّ:
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. قال: هي الإيمان باللّه، وحده لا شريك له.
و الحديثان طويلان. أخذنا منهما موضع الحاجة.
و في محاسن البرقيّ ، عنه، عن محسن بن أحمد، عن أبان الأحمر، عن أبي جعفر الأحول، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: عروة اللّه الوثقى، التّوحيد. والصبغة، الإسلام.
و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب: موسى بن جعفر، عن آبائه- عليهما السّلام- وأبو الجارود عن الباقر- عليه السّلام- في قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، قال: مودّتنا أهل البيت.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن يركب سفينة النّجاة ويستمسك بالعروة الوثقى ويعتصم بحبل اللّه المتين، فليوال عليّا بعدي، وليعادي عدوّه، وليأتمّ بالأئمّة الهداة من ولده.
و فيه ، فيما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المجموعة، بإسناده قال:
قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: [من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى، فليستمسك بحبّ عليّ وأهل بيتي.و بإسناده قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله:] والأئمّة من ولد الحسين- عليهم السّلام. من أطاعهم فقد أطاع اللّه. ومن عصاهم فقد عصى اللّه. هم العروة الوثقى. وهم الوسيلة إلى اللّه تعالى.
و في باب ما كتبه الرّضا- عليه السّلام- للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدّين : أنّ الأرض لا تخلوا من حجّة اللّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان. وأنّهم العروة الوثقى وأئمّة الهدى والحجّة على أهل الدّنيا، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.
و في كتاب الخصال ، عن عبد اللّه بن العبّاس قال: قام رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فينا خطيبا. فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التّقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى والحجّة العظمى والعروة الوثقى.
و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في خطبته: أنا حبل اللّه المتين. وأنا عروة اللّه الوثقى.
و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود، عن الرّضا- عليه السّلام- في حديث طويل: نحن حجج اللّه في أرضه وكلمة التّقوى والعروة الوثقى.
و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى عبد اللّه بن عبّاس قال: قال رسول- صلّى اللّه عليه وآله- من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصام لها، فليستمسك بولاية أخي ووصيّي عليّ بن أبي طالب. فإنّه لا يهلك من أحبّه وتولاه.
و لا ينجو من أبغضه وعاداه.
في شرح الآيات الباهرة : ذكر صاحب نهج الإيمان في معنى هذه الآية، ما هذا لفظه: روى أبو عبد اللّه الحسين بن جبير- رحمه اللّه- في كتاب نخب المناقب لآل
أبي طالب، حديثا مسندا إلى الرّضا- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى، فليستمسك بحبّ عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.
و اعلم! أنّ ما ذكر من الأخبار من تفسير العروة الوثقى، تارة بحبّ أهل البيت، وتارة بالأئمّة، وتارة بولاية الأئمّة، وتارة بالنّبيّ، وتارة بأمير المؤمنين، مؤدّاه واحد. وكذا
ما رواه في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الرّضا- عليه السّلام- أنّه ذكر القرآن يوما، وعظّم الحجّة فيه والآية المعجزة في نظمه، فقال: «هو حبل اللّه المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى»
، لا ينافي ما سبق من الأخبار. لأنّ كلا منها يستلزم الآخر. إذ المراد بالمحبّة والولاية ما هو بالطّريق المقرّر من اللّه في القرآن.
لَا انْفِصامَ لَها: لا انقطاع لها. يقال: فصمته، فانفصم، إذا كسرته.
وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال، عَلِيمٌ بالنّيّات وسائر الأعمال. وهو وعد للكافر بالطّاغوت، وتهديد لغيره.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا: محبّهم أو متولّي أمرهم.
و المراد بالّذين آمنوا، الّذين كفروا بالطّاغوت وآمنوا باللّه، بمعنى ذكرناه.
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ، أي: ظلمات الذّنوب.
إِلَى النُّورِ، إلى نور التّوبة والمغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل كما يأتي في الخبر، أو يخرجهم بالإيمان من الظّلمات الّتي فيه غيرهم إلى نور الإيمان، أي: يجعل لهم نورا ليس لغيرهم.
و في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- قال: المؤمن يتقلّب في خمسة من النّور: مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، وكلامه نور، ومنظره يوم القيامة إلى النّور.
أو يخرجهم من ظلمات الجهل واتّباع الهوى والوساوس والشّبهة المؤدّية إلى الكفر، إلى النّور، إلى الهدى الموصل إلى الإيمان.
و الجملة خبر بعد خبر، أو حال من المستكنّ في الخبر، أو من الموصول، أو منهما، أو
استئناف مبيّن، أو مقرّر للولاية.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ:
في روضة الكافي : سهل، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام: والّذين كفروا أولياؤهم الطّواغيت.
قيل : الشّياطين، أو المضلات من الهوى والشّياطين وغيرهما.
و على الخبر الّذي سبق: الظّالمون لآل محمّد حقّهم، والّذين كفروا: أشياعهم.
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ: من النّور الّذي منحوه بالفطرة، إلى الكفر وفساد الاستعداد، أو من نور البيّنات، إلى ظلمات الشّكوك والشّبهات.
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ : وعيد وتحذير.
و في تفسير العيّاشيّ : عن مسعدة بن صدقة قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: قصّة الفريقين جميعا في الميثاق، حتّى بلغ الاستثناء من اللّه في الفريقين.
فقال: إنّ الخير والشّرّ خلقان من خلق اللّه. له فيهما المشيئة، في تحويل ما شاء اللّه، فيما قدّر فيهما ، حال عن حال. والمشيئة فيما خلق (لهما) من خلقه، في منتهى ما قسم لهم من الخير والشّرّ. وذلك أنّ اللّه قال في كتابه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. فالنّور هم آل محمّد- عليهم السّلام. والظّلمات، عدوّهم.
عن مهزم الأسديّ» قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: قال اللّه- تبارك وتعالى: لأعذّبنّ كلّ رعيّة دانت بإمام ليس من اللّه، وإن كانت الرّعية في أعمالها برّة تقيّة. ولأغفرنّ عن كلّ رعيّة دانت بكلّ إمام من اللّه، وإن كانت الرّعيّة في أعمالها سيئة.
قلت: فيعفو عن هؤلاء، ويعذّب هؤلاء؟
قال: نعم. إنّ اللّه تعالى يقول: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.
ثمّ ذكر حديث ابن أبي يعفور، رواية محمّد بن الحسين. ويزاد فيه: «فأعداء عليّ أمير المؤمنين هم الخالدون في النّار، وإن كانوا في أديانهم على غاية الورع والزّهد والعبادة.»
و في أصول الكافي ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، في طينة المؤمن والكافر. وفيه: أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر. فكان حياته حين فرّق اللّه بينهما بكلمته. كذلك يخرج اللّه- جلّ وعزّ- المؤمن في الميلاد من الظّلمة، بعد دخوله فيها إلى النّور. ويخرج الكافر من النّور إلى الظّلمة، بعد دخوله إلى النّور.
و بإسناده إلى الباقر- عليه السّلام- في حديث طويل، في شأن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يقول فيه- عليه السّلام- وقد ذكر نزول الملائكة بالعلم: فإن قالوا: من سماء إلى سماء. فليس في السّماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية. وإن قالوا: من سماء إلى أرض، وأهل الأرض أحوج الخلق إلى ذلك، فقل لهم: فهل بدّ من سيّد يتحاكمون إليه؟
فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم.
فقل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (إلى قوله) هُمْ فِيها خالِدُونَ. لعمري ما في الأرض ولا في السّماء وليّ للّه- عزّ ذكره- إلّا وهو مؤيّد. ومن أيّده للّه لم يخط . وما في الأرض عدوّ للّه عزّ ذكره- إلّا وهو مخذول. ومن خذل لم يصب. كما أنّ الأمر لا بدّ من تنزيله من السّماء، يحكم به أهل الأرض. كذلك لا بدّ من وال.
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن عبد العزيز العبديّ، عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام: إنّي أخالط النّاس. فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ويتولّون فلانا وفلانا، لهم أمانة وصدق ووفاء.
و أقوام يتولّونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصّدق.قال: فاستوى أبو عبد اللّه- عليه السّلام- جالسا. فأقبل عليّ كالغضبان. ثمّ قال: لا دين لمن دان اللّه بولاية إمام جائر. ليس من اللّه. ولا عتب على من دان اللّه بولاية إمام عادل من اللّه.
قلت: لا دين لأولئك؟ ولا عتب على هؤلاء؟
قال: نعم. لا دين لأولئك. ولا عتب على هؤلاء.
ثمّ قال: ألا تسمع لقول اللّه- عزّ وجلّ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، يعني: ظلمات الذّنوب إلى نور التّوبة والمغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل من اللّه- عزّ وجلّ. وقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ. يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا.
قال: فقال: وأي نور للكافر وهو كافر فأخرج من الظّلمات؟ إنّما عنى الحجج :
(كذا في تفسير العيّاشيّ) إنّما عنى [اللّه] بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام. فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر. ليس من اللّه، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام، إلى ظلمات الكفر.
فأوجب اللّه لهم النّار، مع الكفّار. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. ]
[و في شرح الآيات الباهرة، مثلة، سواء .]
و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه - بإسناده إلى عليّ- عليه السّلام- عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه تلا هذه الآية: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قيل: يا رسول اللّه! من أصحاب النّار؟
قال: من قاتل عليّا بعدي. فأولئك أصحاب النّار مع الكفّار. فقد كفروا بالحقّ لمّا جاءهم.
[و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، متّصلا بما سبق.يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال: ما بين أيديهم من أمور الأنبياء وما كان وما خلفهم لم يكن بعد.
إِلَّا بِما شاءَ، أي: بما يوحى إليهم.
وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما، أي: لا يثقل عليه حفظهما في السّماوات وما في الأرض.
قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، أي: لا يكره أحد على دينه إلّا بعد أن تبيّن له وتبيّن له الرّشد من الغيّ.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم.
قوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، يعني: الولاية.
لَا انْفِصامَ لَها، أي: حبل لا انقطاع له.
قوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: أمير المؤمنين والأئمّة- عليهم السّلام.
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم الظّالمون آل محمّد.
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ. وهم الّذين تبعوا من غصبهم.
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
و الحمد للّه ربّ العالمين. كذا نزلت.]
أَ لَمْ تَرَ: تعجيب.
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، وهو نمرود.
أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ: لأن أتاه، أي: أبطره إيتاء الملك وحمله على المحاجّة، أو حاجّ لأجله شكرا له على طريق العكس، كقولك: عاديتني لأن أحسنت إليك، أو وقت أن أتاه الملك.
قيل : وهو حجّة على من منع إيتاء اللّه الملك الكافر.
و فيه احتمال كون معنى الإيتاء التّخلية، فلا يكون حجّة عليه.
و في كتاب الخصال ، عن محمّد بن خالد، بإسناده رفعه قال: ملك الأرض كلّها أربعة مؤمنان وكافران. فأمّا المؤمنان: فسليمان بن داود، وذو القرنين. وأمّا الكافران: نمرود وبخت نصر.و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي بصير قال: لمّا دخل يوسف على الملك قال له:
كيف أنت يا إبراهيم؟
قال: إنّي لست بإبراهيم. أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
قال: وهو صاحب إبراهيم الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه.
قال: وكان أربعة مائة سنة شابّا.
و في مجمع البيان : واختلف في وقت المحاجّة. قيل: بعد إلقائه في النّار، وجعلها بردا وسلاما- عن الصّادق عليه السّلام.
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ:
ظرف لحاجّ، أو بدل من أتاه على الوجه الثّاني.
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ: يخلق الحياة والموت في الأجساد. وقرأ حمزة: ربّ.
(بحذف الياء).
قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ: بالعفو عن القتل والقتل.
و قرأ نافع: انا (بالألف.)
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ:
أعرض إبراهيم عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه، على نحو هذا التّمويه، دفعا للمشاغبة. فهو في الحقيقة عدول عن مثال خفيّ إلى مثال جليّ، من مقدوراته الّتي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا من حجّة إلى أخرى. ولعلّ نمرود زعم أنّه يقدر أن يفعل كلّ جنس يفعله اللّه. فنقضه إبراهيم- عليه السّلام- بذلك. وإنّما حمله عليه بطر الملك وحماقته.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ: فصار مبهوتا.
و قرئ فبهت، أي: فغلب إبراهيم الكافر.
وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ : الّذين ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية.
و قيل : لا يهديهم محجّة الاحتجاج، أو سبيل النّجاة، أو طريق النّجاة يوم القيمة.في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حجر، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: خالف إبراهيم- صلّى اللّه عليه وآله- قومه، وعاب آلهتهم حتّى أدخل على نمرود. فخاصمهم. فقال إبراهيم: «ربّي الّذي (إلى آخر الآية.)
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
و في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى حنان بن سدير قال: حدّثني رجل من أصحاب أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر: أوّلهم ابن آدم الّذي قتل أخاه، ونمرود الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه.
الحديث يأتي بقيّته.
و فيه بإسناده إلى إسحاق بن عمّار الصّيرفيّ، عن أبي الحسن الماضي، في حديث طويل يقول في آخره: وإنّ في جوف تلك الحيّة، لسبع صناديق، فيها خمسة من الأمم السّالفة واثنان من هذه الأمّة.
قال: قلت: جعلت فداك! ومن الخمسة؟ ومن الاثنان؟
قال: أمّا الخمسة: فقابيل الّذي قتل هابيل، ونمرود الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه، قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.، وفرعون الّذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى.، ويهود الّذي هوّد اليهود، وبولس الّذي نصر النّصارى. ومن هذه الأمة، أعرابيّان.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ: تقديره: «أو رأيت.» فحذف لدلالة «ألم تر عليه. وتخصيصه بحرف التّشبيه، لأنّ المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيّته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الرّبوبيّة.
و قيل : الكاف مزيدة. وتقدير الكلام: «ألم تر إلى الّذي مرّ.»
و قيل : إنّه عطف محمول على المعنى. كأنّه قيل: أ لم تر كالّذي حاجّ، أو كالّذي مرّ.
و قيل : إنّه من كلام إبراهيم ذكره جواب المعارضة ، تقديره: «أو إن كنتتحيى فأحي كإحياء اللّه.»
و يؤيّده
ما روى عن الصّادق- عليه السّلام : أنّ إبراهيم قال له: أحي من قتلته، إن كنت صادقا.
قال البيضاويّ»
: الّذي مرّ، عزيز بن شرحيا، أو الخضر، أو كافر بالبعث. ويؤيّده نظمه مع نمرود.
و في مجمع البيان : «أو كالّذي مرّ» هو عزير. وهو المرويّ عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام.
و قيل : هو إرميا. وهو المرويّ عن أبي جعفر- عليه السّلام.
أقول: أمّا ما يدلّ على أنّه عزير:
فما روى- أيضا- عن عليّ- عليه السّلام . أنّ عزيرا خرج من أهله وامرأته حبلى. وله خمسون سنة. فأماته اللّه مائة سنة. ثمّ بعثه. فرجع إلى أهله ابن خمسين. وله ابن. له مائة سنة. فكان ابنه أكبر منه. فذلك من آيات اللّه.
و ما رواه في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل القرشيّ، عمّن حدّثه، عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في حديث طويل، وقد ذكر بخت نصر، وأنّه قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريا - عليهما السّلام- وخرّب بيت المقدس، وتفرّقت اليهود في البلدان، وفي سبع وأربعين سنة من ملكه، بعث اللّه- عزّ وجلّ- العزير نبيّا إلى أهل القرى الّتي أمات اللّه- عزّ وجلّ- أهلها، ثمّ بعثهم له وكانوا من قرى شتّى، فهربوا فرقا من الموت، فنزلوا في جوار عزير وكانوا مؤمنين، وكان عزير يختلف إليهم، ويسمع كلامهم وإيمانهم، وأحبّهم على ذلك، وآخاهم عليه، فغاب عنهم يوما واحدا، ثمّ أتاهم فوجدهم موتى صرعى، فحزن عليهم، وقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها تعجّبا منه حيث أصابهم، وقد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه- عزّ وجلّ- عند ذلك مائة عام، وهي مائة سنة،ثمّ بعثه اللّه وايّاهم، وكانوا مائة ألف مقاتل، ثمّ قتلهم اللّه أجمعين، لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر.
و ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره : قال: حدّثني أبي، عن إسماعيل بن أبان، عن عمر بن عبد اللّه الثّقفيّ قال: أخرج هشام بن عبد الملك أبا جعفر- عليه السّلام- من المدينة إلى الشّام، وكان ينزله معه، وكان يقعد مع النّاس في مجالسهم. فبينا هو قاعد، وعنده جماعة من النّاس، يسألونه إذ نظر إلى النّصارى يدخلون في جبل هناك. فقال: ما لهؤلاء؟ ألهم عيد اليوم؟
فقالوا: لا يا ابن رسول اللّه! لكنّهم يأتون عالما في هذا الجبل، في كلّ سنة في [مثل] هذا اليوم. فيخرجونه. فيسألونه عمّا يريدون، وعمّا يكون في عامهم.
فقال أبو جعفر- عليه السّلام: وله علم؟
فقالوا: هو من أعلم النّاس. قد أدرك أصحاب الحواريّين من أصحاب عيسى- عليه السّلام.
قال: فهل نذهب إليه؟
قالوا: ذاك إليك، يا ابن رسول اللّه! قال: فقنّع أبو جعفر- عليه السّلام- رأسه بثوبه. ومضى هو وأصحابه. فاختلطوا بالنّاس حتّى أتوا الجبل. فقعد أبو جعفر- عليه السّلام- وسط النصارى هو وأصحابه.
و أخرج النّصارى بساطا. ثمّ وضعوا الوسائد. ثمّ دخلوا. فأخرجوه. ثمّ ربطوا عينيه. فقلب عينيه. كأنّهما عينا افعى. ثمّ قصد أبا جعفر- عليه السّلام.
فقال: يا شيخ ! أمنّا أنت أم من الأمّة المرحومة؟
فقال: أبو جعفر- عليه السّلام: بل من الأمّة المرحومة.
فقال: أ فمن علمائهم أنت أم من جهّالهم؟
قال: لست من جهّالهم.فقال النّصرانيّ: أسألك أم تسألني؟
فقال أبو جعفر- عليه السّلام: سلني.
فقال النّصراني: يا معشر النّصارى! رجل من أمّة محمّد يقول سلني . إنّ هذا لعالم بالمسائل.
ثمّ قال: يا عبد اللّه! أخبرني عن ساعة ما هي من اللّيل ولا هي من النّهار، أي ساعة هي؟
فقال أبو جعفر- عليه السّلام: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس.
(إلى أن قال النّصرانيّ:) فأسالك أو تسألني؟
قال أبو جعفر- عليه السّلام: سلني.
فقال: يا معشر النّصارى! واللّه لأسألنّه مسألة يرتطم فيها كما يرتطم الحمار في الوحل.
فقال له: سل.
فقال: أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت باثنين ، حملتهما جميعا في ساعة واحدة، وولدتهما في ساعة واحدة، وماتا في ساعة واحدة، ودفنا في قبر واحد، عاش أحدهما خمسين ومائة سنة، وعاش الآخر خمسين سنة، من هما؟
فقال أبو جعفر- عليه السّلام: هما عزير وعزرة: كانا حملت أمّهما على ما وصفت، ووضعتهما على ما وصفت. وعاش عزير وعزرة كذا وكذا سنة. ثمّ أمات اللّه- تبارك وتعالى- عزيرا مائة سنة . ثمّ بعث اللّه عزيرا فعاش مع عزرة هذه الخمسين سنة . وماتا كلاهما في ساعة واحدة .
فقال النّصرانيّ: يا معشر النّصارى! ما رأيت بعيني قط أعلم من هذا الرّجل.
لا تسألوني عن حرف وهذا بالشّام. ردّوني [إلى كهفي] .فقال : فردّوه إلى كهفه. ورجع النّصارى مع أبي جعفر- صلوات اللّه عليه.
و ما رواه العيّاشيّ في تفسيره: [أبو طاهر العلويّ،] عن عليّ بن محمّد العلويّ، عن عليّ بن مرزوق، عن إبراهيم بن محمّد قال: ذكر جماعة من أهل العلم: أنّ ابن الكوّاء قال لعليّ- عليه السّلام: يا أمير المؤمنين! ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدّنيا؟
قال [نعم.] أولئك ولد عزير، حين مرّ على قرية خربة، وقد جاء من ضيعة له تحته حمار ومعه سلّة ، فيها تين وكوز، فيه عصير. فمرّ على قرية خربة. فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فأماته اللّه مائة عام. فتوالد ولده. وتناسلوا. ثمّ بعث اللّه إليه. فأحياه في المولد الّذي أماته فيه. فأولئك ولد أكبر من أبيه.
و أمّا ما يدلّ على أنّه إرميا:
فما رواه العيّاشيّ، أيضا، في تفسيره : عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، قالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها، فقال: إنّ اللّه بعث على بني إسرائيل نبيّا، يقال له: إرميا.
فقال1» لهم: ما بلد تنقيته من كرائم البلدان، وغرس فيه من كرائم الغرس. وتنقيته من كلّ غرس. فأخلف. فأنبت خرنوبا.
قال: فضحكوا. واستهزؤا به. فشكاهم إلى اللّه.
قال: فأوحى اللّه إليه أن: قل لهم: إنّ البلد بيت المقدس، والغرس بنو إسرائيل، تنقيته من كلّ غرس . ونحيّت عنهم كلّ جبّار. فأخلفوا. فعملوا المعاصي. فلا سلّطنّ عليهم في بلدهم من يسفك دماءهم، ويأخذ أموالهم. فإن بكوا لي، لم أرحم بكاءهم.
و إن دعوا، لم أستجب دعاءهم. فشلتهم. وفشلت. ثمّ لأخرّبنّها مائة عام. ثمّ لأعمّرنّها.
فلمّا حدّثهم، جزعت العلماء. فقالوا: يا رسول اللّه! ما ذنبنا نحن؟ ولم نكن نعمل بعملهم. فعاود لنا ربّك.
فصام سبعا. فلم يوح إليه شيء. فأكل أكلة. ثمّ صام سبعا. فلم يوح إليه شيء.
فأكل أكلة. ثمّ صام سبعا. فلمّا أن كان اليوم الواحد والعشرين، أوحى اللّه إليه:
لترجعنّ عمّا تصنع. أ تراجعني في أمر قضيته، أو لأردّنّ وجهك على دبرك.
ثمّ أوحى اللّه إليه: قل لهم: لأنّكم رأيتكم المنكر. فلم تنكروه.
فسلّط اللّه عليهم. بخت نصر. فصنع بهم ما قد بلغك. ثمّ بعث بخت نصر إلى النبيّ. فقال: إنّك قد نبّئت عن ربّك. وحدّثتهم بما أصنع بهم. فإن شئت فأقم عندي فيمن شئت. وإن شئت فاخرج.
فقال: لا بل أخرج.
فتزوّد عصيرا وتينا. وخرج. فلمّا أن غاب مدّ البصر، التفت إليها. فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ.
أماته غدوة. وبعثه عشيّة قبل أن تغيب الشّمس. وكان أوّل شيء خلق منه عيناه في مثل غرقئ البيض.
ثمّ قيل له: كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً.
فلمّا نظر إلى الشّمس، لم تغب، قال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ، لَمْ يَتَسَنَّهْ. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً؟
قال: فجعل ينظر إلى عظامه، كيف يصل بعضها إلى بعض. ويرى العروق كيف تجري. فلمّا استوى قائما قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
و في رواية هارون: فتزوّد عصيرا ولبنا.
عن جابر ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- هكذا: ألم تر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما. فلمّا تبيّن له.قال: ما تبيّن لرسول اللّه أنّها في السّموات، قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله:
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سلم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- للرّب. وآمن بقول اللّه فلمّا تبيّن له. قال: أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير.
و ما رواه الشّيخ الطبرسيّ، في احتجاجه ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام: وأمات اللّه إرمياء النّبيّ- عليه السّلام- الّذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاه بخت نصر، فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ أحياه. ونظر إلى أعضائه [كيف يلتئم وكيف يلبس اللّحم، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل. فلمّا استوى قاعدا قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
و ما رواه عليّ بن إبراهيم، في تفسيره : قال حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا عملت بنو إسرائيل المعاصي وعتوا عن أمر ربّهم، أراد اللّه أن يسلّط عليهم من يذلّهم ويقتلهم. فأوحى اللّه إلى إرميا: يا إرميا! ما بلد انتخبته من بين البلدان، وغرست فيه من كرائم الشّجر؟ فأخلف. فأنبت خرنوبا.
فأخبر إرميا أخيار بني إسرائيل. فقالوا له: راجع ربّك ليخبرنا ما معنى هذا المثل.
فصام إرميا سبعا. فأوحى اللّه إليه: يا إرميا! أمّا البلد، فبيت المقدس. [و أمّا الغرس، فإسرائيل وكرام ولده.] وأمّا ما أنبت فيها، فبنو إسرائيل الّذين أسكنتهم فيه.
فعملوا بالمعاصي. وغيّروا ديني. وبدّلوا نعمتي كفرا. فبي حلفت لأمتحنّهم بفتنة يضلّ الحكيم منها حيرانا. ولأسلّطنّ عليهم شرّ عبادي ولادة. وشرّهم مطعما . وليتسلّطنّ عليهم بالجبريّة. فيقتل مقاتليهم. ويسبي حريمهم. ويخرّب بيتهم الّذي يعتزّون به. ويلقى حجرهم الّذي يفتخرون به على النّاس في المزابل مائة سنة.
و أخبر إرميا أخيار بني إسرائيل. فقالوا له: راجع ربّك فقل له: ما ذنب الفقراءو المساكين والضّعفاء؟
فصام إرميا سبعا. ثمّ أكل أكلة. فلم يوح إليه شيء. ثمّ صام سبعا. فأوحى اللّه إليه: يا إرميا! لتكفّنّ عن هذا أو لأردّنّ وجهك إلى قفاك.
قال: ثمّ أوحى اللّه إليه: قل لهم: لأنّكم رأيتم المنكر، فلم تنكروه.
فقال إرميا: ربّ! أعلمني من هو حتّى آتيه. وأخذ لنفسي وأهل بيتي منه أمانا.
فقال: ائت موضع كذا وكذا. فانظر إلى غلام أشدّهم زمنا ، وأخبثهم ولادة، وأضعفهم جسما، وأشرّهم غذاء. فهو ذاك.
فأتى إرميا ذلك البلد. فإذا هو بغلام في خان زمن ملقى على مزبلة وسط الخان.
و إذا له أمّ تزبي بالكسر. وتفتّ الكسر بالقصعة. وتحلب عليه لبن خنزيرة لها. ثمّ تدنيه من ذلك الغلام. فيأكله.
فقال إرميا: إن كان في الدّنيا الّذي وصفه اللّه، فهو هذا.
فدنا منه. فقال له: ما اسمك؟
فقال: بخت نصر.
فعرف أنّه هو. فعالجه حتّى برئ. ثمّ قال له: أ تعرفني؟
قال: لا. أنت رجل صالح.
قال: أنا إرميا، نبيّ بني إسرائيل. أخبرني اللّه أنّه سيسلّطك على بني إسرائيل.
فتقتل رجالهم. وتفعل بهم كذا وكذا.
فتاه الغلام في نفسه في ذلك الوقت.
ثمّ قال إرميا: اكتب لي كتابا بأمان منك.
فكتب له كتابا. وكان يخرج إلى الجبل. ويحتطب. ويدخل المدينة. ويبيعه.
فدعا إلى حرب بني إسرائيل . وكان مسكنهم في بيت المقدس. فأجابوه . وأقبل بخت نصرفيمن أجابه نحو بيت المقدس، وقد اجتمع إليه بشر كثير. فلمّا بلغ إرميا إقباله نحو بيت المقدس استقبله على حمار له، ومعه الأمان الّذي كتبه له بخت نصر. فلم يصل إليه إرميا من كثرة جنوده وأصحابه. فصير الأمان على خشبة . ورفعها.
فقال: من أنت؟
فقال: أنا إرميا النّبيّ الّذي بشّرتك بأنّك سيسلّطك اللّه على بني إسرائيل. وهذا أمانك لي.
قال: أمّا أنت فقد آمنتك. وأمّا أهل بيتك فإنّي أرمي من هاهنا إلى بيت المقدس.
فإن وصلت رميتي إلى بيت المقدس، فلا أمان لهم عندي. وإن لم تصل، فهم آمنون.
و انتزع قوسه. ورمى نحو بيت المقدس. فحملت الرّيح النّشابة حتّى علقتها في بيت المقدس.
فقال: لا أمان لهم عندي.
فلمّا وافى نظر إلى جبل من تراب وسط المدينة، وإذا دم يغلي وسطه. كلّما ألقي عليه التّراب خرج وهو يغلي.
فقال: ما هذا؟
فقالوا: هذا دم نبيّ كان للّه. فقتله ملوك بني إسرائيل. ودمه يغلي. كلّما ألقينا عليه التّراب، خرج يغلي.
فقال بخت نصر: لأقتلنّ بني إسرائيل أبدا حتّى يسكن هذا الدّم.
و كان ذلك الدّم، دم يحيى بن زكريا- عليهما السّلام. وكان في زمانه ملك جبّار يزني بنساء بني إسرائيل. وكان يمرّ بيحيى بن زكريا، فقال له يحيى: اتّق اللّه، أيّها الملك! لا يحلّ لك هذا.
فقالت له امرأة من اللّواتي كان يزنى بهنّ حين سكر: أيّها الملك! اقتل يحيى.
فأمر أن يؤتى برأسه. فأتي رأس يحيى- عليه السّلام- في طشت. وكان الرّأس يكلّمه. ويقول: «يا هذا! اتّق اللّه. لا يحلّ لك هذا.» ثمّ غلا الدّم في الطّشت، حتّى فاض إلى الأرض. فخرج يغلي. ولا يسكن. وكان بين قتل يحيى وبين خروج بخت نصر، مائة سنة. فلم يزل بخت نصر يقتلهم. وكان يدخل قرية قرية، فيقتل الرّجال والنّساءو الصّبيان وكلّ حيوان. والدّم يغلي. ولا يسكن. حتّى أفنى من بقي منهم.
ثمّ قال: بقي أحد في هذه البلاد؟
قالوا: عجوز في موضع كذا وكذا.
فبعث إليها. فضرب عنقها على الدّم. فسكن. وكانت آخر من بقي. ثمّ أتى بابل فبنى بها مدينة. وأقام. وحفر بئرا. فألقى فيها دانيال. وألقى معه اللّبوة. فجعلت اللّبوة تأكل طين البئر ويشرب دانيال لبنها. فلبث بذلك زمانا. فأوحى اللّه إلى النّبيّ الّذي كان في بيت المقدس أن: اذهب بهذا الطّعام والشّراب إلى دانيال. واقرأه منّي السّلام.
قال: وأين هو يا ربّ؟
قال: هو في بئر بابل. في موضع كذا وكذا.
قال: فأتاه. فاطّلع في البئر.
فقال: يا دانيال! قال: لبّيك صوت غريب.
قال: إنّ ربّك يقرئك السّلام. وقد بعث إليك بالطّعام والشّراب.
فدلّاه إليه.
قال: فقال دانيال: [الحمد للّه الّذي لا ينسى من ذكره.] الحمد للّه الّذي لا يخيب من دعاه. الحمد للّه الّذي من توكّل عليه كفاه . الحمد للّه الّذي من وثق به لم يكله إلى غيره. الحمد للّه الّذي يجزي بالإحسان إحسانا. الحمد للّه الّذي يجزي بالصّبر نجاة. الحمد للّه الّذي يكشف ضرّنا عند كربتنا. (و) الحمد للّه الّذي هو ثقتنا حين تنقطع الحيل منّا.
الحمد للّه الّذي هو رجاؤنا حين ساء ظنّنا بأعمالنا.
قال: فأري بخت نصر في نومه كانّ رأسه من حديد، ورجليه من نحاس، وصدره من ذهب.
قال: فدعا المنجّمين. فقال لهم: ما رأيت في المنام ؟قالوا: لا ندري . ولكن قصّ علينا ما رأيت.
فقال: وأنا أجري عليكم الأرزاق منذ كذا وكذا ولا تدرون ما رأيت في المنام.
فأمر بهم. فقتلوا.
قال: فقال له بعض من كان عنده: إن كان عند احد شيء، فعند صاحب الجبّ.
فإنّ اللّبوة لم تعرض له. وهي تأكل الطّين. وترضعه.
فبعث إلى دانيال. [و أحضره عنده.]
فقال: ما رأيت في المنام؟
فقال: رأيت كأنّ رأسك من كذا ، ورجليك من كذا ، وصدرك من كذا»
.
قال: هكذا رأيت. فما ذاك؟
قال: قد ذهب ملكك. وأنت مقتول إلى ثلاثة أيّام. يقتلك رجل من ولد فارس.
قال: فقال له: إنّ عليّ لسبع مدائن، على باب كلّ مدينة حرس. وما رضيت بذلك حتّى وضعت بطّة من نحاس على باب كلّ مدينة. لا يدخل عليه غريب إلّا صاحت عليه، حتّى يؤخذ.
قال: فقال له: إنّ الأمر كما قلت لك.
قال: فبثّ الخيل. وقال: لا تلقون أحدا من الخلق إلّا قتلتموه، كائنا ما كان.
و كان دانيال جالسا عنده. وقال: لا تفارقني هذه الثّلاثة الأيّام فإن مضت قتلتك.
فلمّا كان في اليوم الثّالث ممسيّا أخذه الغمّ. فخرج. فتلقّاه] غلام كان يخدم ابنا له من أهل فارس. وهو لا يعلم أنّه من أهل فارس. فرفع إليه سيفه. وقال له: يا غلام! لا تلق أحدا من الخلق إلّا وقتلته وإن لقيتني.
فأخذ الغلام سيفه، فضرب به بخت نصر. فقتله. وخرج إرميا على حماره. ومعه تين قد تزوّده وشيء من عصير. فنظر إلى سباع البرّ، وسباع البحر، وسباع الجوّ تأكل تلكالجيف. ففكّر في نفسه ساعة. ثمّ قال: أنّى يحيى اللّه هؤلاء. وقد أكلتهم السّباع.
فأماته اللّه مكانه. وهو قول اللّه تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، أي: أحياه.
فلمّا رحم اللّه بني إسرائيل وأهلك بخت نصر، ردّ بني إسرائيل إلى الدّنيا. وكان عزير لمّا سلّط اللّه بخت نصر على بني إسرائيل، هرب ودخل في عين. وغاب فيها. وبقي إرميا ميّتا مائة سنة. ثمّ أحياه اللّه. فأوّل ما أحيى منه عينيه في مثل غرقئ البيض. فنظر.
فأوحى اللّه إليه: كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً.
ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت. فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
فقال اللّه تبارك وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، أي: لم يتغيّر. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً.
فجعل ينظر إلى العظام البالية المنفطرة تجتمع إليه، وإلى اللّحم الّذي قد أكلته السّباع يتآلف إلى العظام، من هاهنا وهاهنا، ويلتزق بها حتّى قام وقام بها حماره.
فقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فقد ظهر لك من تلك الأخبار، أنّ تلك الحكاية وقعت بالنّظر إلى عزير وإرميا، كليهما. ويمكن أن يكون قوله: «أو كالّذي مرّ على قرية إشارة إلى كليهما على سبيل البدل.
و القرية بيت المقدس حين خرّبه بخت نصر.
و قيل : القرية التي خرج منها الألوف.
و قيل : غيرهما.
و اشتقاقها من القرى. وهو الجمع.
وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها: خالية ساقطة حيطانها على سقوفها.
قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: اعتراف بالقصور عن معرفة طريق الإحياء واستعظام، لقدرة المحيي.
و «أنّى» في موضع نصب، على الظّرف، بمعنى متى، أو على الحال، بمعنى كيف.فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ: فألبثه ميّتا مائة عام.
ثُمَّ بَعَثَهُ بالإحياء.
قالَ، أي: اللّه.
و قيل : ملك أو نبىّ آخر.
كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ:
قال: قبل النّظر إلى الشّمس: «يوما.» ثمّ التفت فرأى بقيّة منها، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، على الإضراب.
قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ. فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغيّر بمرور الزّمان.
و اشتقاقه من «السّنه» و«الهاء»، أصليّة إن قدّر «لام» السّنه «هاء»، و«هاء» سكت إن قدّرت «واوا.»
و قيل : أصله لم يتسنّن، من الحمأ المسنون. فأبدل النّون الثّالثة حرف علّة، كتقضّى البازي. وإنّما أفرد الضّمير، لأنّ الطّعام والشّراب كالجنس الواحد. وقد سبق في الخبر أنّ طعامه كان تينا، وشرابه عصيرا ولبنا. وكان الكلّ على حاله.
و قرأ حمزة والكسائيّ : لم يتسنّ (بغير الهاء في الوصل.)
وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرّقت عظامه، أو انظر إليه سالما في مكانه، كما ربطته.
وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، أي: وفعلنا ذلك لنجعلك آية.
وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ، يعني: عظام الحمار، أو عظام الموتى التي تعجّب من إحيائها، أو عظامه.
كَيْفَ نُنْشِزُها: كيف نحييها، أو نرفع بعضها إلى بعض.
و «كيف» منصوب «بننشزها.» والجملة حال من العظام، أي: انظر إليها محياة.و قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: ننشزها، من انشز اللّه الموتى.
و قرئ: ننشزها، من نشزهم، بمعنى: أنشزهم.
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ:
فاعل «تبيّن» مضمر. يفسّره ما بعده. تقديره: فلمّا تبيّن له أنّ اللّه على كلّ شيء قدير.
قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ :
فحذف الأوّل، لدلالة الثّاني عليه، أو ما قبله، أي: فلمّا تبيّن له ما أشكل عليه.
و قرأ حمزة والكسائيّ: قال اعلم على الأمر.
و الأمر مخاطبه، أو هو نفسه خاطبها به، على طريقة التّبكيت.
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى:
قيل : إنّما سأل ذلك ليصير علمه عيانا.
و قيل : لمّا قال نمرود: «انا احي وأميت»، قال له: «إنّ إحياء اللّه تعالى برد الرّوح إلى بدنها»، فقال نمرود: «هل عاينته؟» فلم يقدر أن يقول «نعم.» وانتقل إلى تقدير آخر. ثمّ سأل ربّه أن يريه ليطمئنّ قلبه، على الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.
قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ بأنّي قادر على الإحياء.
قال ذلك له. وقد علم أنّه آمن ليجيب بما أجاب به. فيعلم السّامعون غرضه.
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أي: بلى آمنت. ولكن سألته لأزيد بصيرة بمضامّة العيان إلى الوحي.
و في محاسن البرقيّ : عنه، عن محمّد بن عبد الحميد، عن صفوان بن يحيى قال: سألت أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- عن قول اللّه لإبراهيم: أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، أ كان في قلبه شكّ؟
قال: لا. كان على يقين. ولكنّه أراد من اللّه الزّيادة في يقينه.
و في تفسير العيّاشيّ عن عليّ بن أسباط: أنّ أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- سئل عن قول اللّه- عزّ وجلّ: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أ كان في قلبه شكّ؟
قال: لا ولكنّه أراد من اللّه الزّيادة في يقينه.قال: والجزء واحد من عشرة.
و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا رأى إبراهيم- عليه السّلام- ملكوت السّماوات والأرض، التفت. فرأى جيفة على ساحل البحر، نصفها في الماء ونصفها في البرّ. تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء. ثمّ ترجع. فيشدّ بعضها على بعض. فيأكل بعضها بعضا. وتجيء سباع البرّ، فتأكل منها. فيشدّ بعضها على بعض. فيأكل بعضها بعضا. فعند ذلك تعجّب إبراهيم- عليه السّلام- ممّا رأى: فقال: رَبِّ! أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قال: كيف تخرج ما تناسل الّتي أكل بعضها بعضا؟
قالَ: أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، يعنى: حتّى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها.
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً.
فقطّعهنّ. وأخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السّباع الّتي أكل بعضها بعضا. فخلط ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً.
فلمّا دعاهنّ أجبنه. وكانت الجبال عشرة.
[و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبيه، عن نصر بن قابوس قال: قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام: إذا أحببت أحدا من إخوانك فاعلمه ذلك. فإنّ إبراهيم- عليه السّلام- قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ: أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.]
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ: نسرا وبطّا وطاوسا وديكا.
و روي : الطّاووس والحمامة والدّيك والهدهد.
و روى : الدّيك والحمامة والطّاووس والغراب.
و خصّ الطّير لأنّه أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواصّ الحيوان. والطير سمّى به، أو جمع، كصحب.
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ: واضممهنّ إليك لتتأمّلها وتتعرّف شأنها، لئلا يلتبس عليك بعد الإحياء.
و قرأ حمزة ويعقوب: فصرهنّ (بالكسر.) وهما لغتان.
و قرئ: فصرّهنّ (بضمّ الصّاد وكسرها، مشدّدة الرّاء) من صرّه يصرّه، إذا جمعه.
و فصرهنّ من التّصرية. وهي الجمع، أيضا.
ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً:
و قرأ أبو بكر: جزءا (بضمّ الزّاي) حيث وقع، أي: ثمّ جزئهنّ.
و فرّق أجزاءهنّ على الجبال الّتي بحضرتك.
ثُمَّ ادْعُهُنَّ: بأسمائهن.
يَأْتِينَكَ سَعْياً: مسرعات طيرانا.
وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجز عمّا يريد.
حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في كلّ ما يفعله ويذره.
و في عيون الأخبار : حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ- رض- قال:
حدّثني أبي، عن حمدان بن سليمان النّيسابوريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا- عليه السّلام. فقال له المأمون: يا بن رسول اللّه! أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟
قال: بلى.
قال: فما معنى قول اللّه- عزّ وجلّ: وعَصى آدَمُ رَبَّهُ (إلى أن قال) فأخبرني عن قول إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ: أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.
قال الرّضا- عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى كان أوحى إلى إبراهيم- عليه السّلام:
«إنّي متّخذ من عبادي خليلا. إن سألني إحياء الموتى، أجبته.» فوقع في نفس إبراهيم- عليه السّلام- أنّه ذلك الخليل. فقال:رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ: أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي على الخلّة.
قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً. ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
فأخذ إبراهيم- عليه السّلام- نسرا وبطّا وطاوسا وديكا. فقطّعهنّ. وخلطهنّ.
ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال الّتي حوله. وكانت عشرة منهنّ جزء. وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه. ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ. ووضع عنده حبّا وماء. فتطايرت تلك الأجزاء، بعضها إلى بعض، حتّى استوت الأبدان. وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه.
فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ. فطرن. ثمّ وقعن. فشربن من ذلك الماء. والتقطن من ذلك الحبّ. وقلن: يا نبيّ اللّه! أحييتنا، أحياك اللّه.
فقال إبراهيم- عليه السّلام: بل اللّه يحيي ويميت. وهو على كلّ شيء قدير.
قال المأمون: بارك اللّه فيك، يا أبا الحسن!
و فيه
، في باب استسقاء المأمون بالرّضا- عليه السّلام- بعد جرى كلام بين الرّضا- عليه السّلام- وبعض أهل النّصب، من حجّاب المأمون- لعنهم اللّه:
فغضب الحاجب عند ذلك فقال: يا ابن موسى! لقد عدوت طورك وتجاوزت قدرك. إن بعث اللّه تعالى بمطر يقدر وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، جعلته آية تستطيل بها، وصولة تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية الخليل إبراهيم- عليه السّلام- لمّا أخذ رؤوس الطّير بيده، ودعا أعضاءها الّتي كان فرّقها على الجبال، فأتينه سعيا، وتركبن على الرّؤوس، وخفقن وطرن بإذن اللّه- عزّ وجلّ. فإن كنت صادقا فيما توهّم، فأحي هذين وسلّطهما عليّ. فإنّ ذلك يكون حينئذ آية معجزة. فأمّا ماء المطر المعتاد، فلست أنت أحقّ بأن يكون جاء بدعائك من غيرك الّذى دعا كما دعوت.
و كان الحاجب أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند المأمون الذي كان مستندا إليه. وكانا متقابلين على المسند.
فغضب عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام. وصاح بالصّورتين: دونكما الفاجر.فافترساه. ولا تبقيا له عينا ولا أثرا.
فوثبت الصّورتان. وقد عادت أسدين. فتناولا الحاجب. ورضّاه. وهشّماه.
و أكلاه. ولحسا دمه. والقوم ينظرون متحيّرين ممّا يبصرون. فلمّا فرغا أقبلا على الرّضا- عليه السّلام- وقالا له: يا وليّ اللّه في أرضه! ما ذا تأمرنا أن نفعل بهذا. أ نفعل به ما فعلنا بهذا؟- يشير ان إلى المأمون.
فغشي على المأمون ممّا سمع منهما. فقال الرّضا- عليه السّلام: قفا.
فوقفا. ثمّ قال الرّضا- عليه السّلام: صبّوا عليه ماء ورد. وطيّبوه.
ففعل ذلك به. وعاد الأسدان يقولان: أ تأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الّذي أفنيناه؟
قال: الى مقرّكما . فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- فيه تدبيرا هو ممضيه.
فقالا: ما ذا تأمرنا؟
فقال: عودا إلى مقرّكما، كما كنتما.
فعادا الى المسند. وصارا صورتين كما كانتا.
فقال المأمون: الحمد للّه الّذي كفاني شرّ حميد بن مهران، يعني: الرّجل المفترس.
ثمّ قال للرّضا- عليه السّلام: يا بن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- هذا الأمر لجدّكم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ثمّ لكم. ولو شئت لنزلت عنه لك.
فقال الرّضا- عليه السّلام: لو شئت لما ناظرتك ولم أسألك. فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد أعطاني من طاعة سائر خلقه مثل ما رأيت من طاعة هاتين الصّورتين، إلّا جهّال بني آدم. فإنّهم وإن خسروا حظوظهم فللّه- عزّ وجلّ- فيه تدبير. وقد أمرني يترك الاعتراض عليك وإظهار ما أظهر من العمل من تحت يدك، كما أمر يوسف من تحت يد فرعون مصر.
قال: فما زال المأمون ضئيلا إلى أن قضى في عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- ما قضى.
و في كتاب الخصال ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً (الآية) قال: أخذالهدهد والصّرد والطّاووس والغراب. فذبحهنّ. وعزل رؤوسهنّ. ثمّ نحز أبدانهنّ في المنحاز بريشهنّ ولحومهنّ وعظامهنّ حتّى اختلطت. ثمّ جزّأهنّ عشرة أجزاء، على عشرة أجبل.
ثمّ وضع عنده حبّا وماء. ثمّ جعل مناقيرهنّ بين أصابعه.
ثمّ قال: ائتين سعيا بإذن اللّه.
فتطاير بعضها إلى بعض اللّحوم والرّيش والعظام، حتّى استوت الأبدان، كما كانت. وجاء كلّ بدن حتّى التزق برقبته الّتي فيها رأسه والمنقار. فخلّى إبراهيم عن مناقيرهنّ. فوقفن. فشربن من ذلك الماء. والتقطن من ذلك الحبّ.
ثمّ قلن: يا نبيّ اللّه! أحييتنا أحياك اللّه.
فقال إبراهيم: بل اللّه يحيي ويميت.
فهذا تفسيره الظّاهر .
قال عليّ- عليه السّلام: وتفسيره في الباطن: خذ أربعة ممّن يحتمل الكلام.
فاستودعهن علمك. ثمّ ابعثهن في أطراف الأرضين حججا لك على النّاس. وإذا أردت أن يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر، يأتوك سعيا بإذن اللّه تعالى.
و في هذا الكتاب : وروى أنّ الطيّور الّتي أمر بأخذها: الطاووس والنّسر والدّيك والبطّ.
و في تفسير العيّاشيّ : عن عبد الصّمد قال: جمع لأبي جعفر المنصور القضاة. فقال لهم: رجل أوصى بجزء من ماله. فكم الجزء؟ فلم يعلموا كم الجزء. وشكّوا فيه. فأبرد بريدا إلى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمّد- عليهما السّلام: رجل أوصى بجزء من ماله. فكم الجزء؟ فقد أشكل ذلك على القضاة، فلم يعلموا كم الجزء. فإن هو أخبرك به.
و إلّا فاحمله على البريد. ووجّهه إليّ.
فأتى صاحب المدينة أبا عبد اللّه- عليه السّلام. فقال له: إنّ أبا جعفر بعث إليّ أن أسألك عن رجل أوصى بجزء من ماله. وسأل من قبله من القضاة. فلم يخبروه ما هو.
و قد كتب إليّ إن فسّرت ذلك له وإلّا حملتك على البريد إليه.فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام: هذا في كتاب اللّه بيّن. إنّ اللّه يقول ممّا قال ابراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى (إلى قوله) عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً. وكانت الطيّر أربعة والجبال عشرة. يخرج الرّجل من كلّ عشرة أجزاء جزءا واحدا. وإنّ إبراهيم دعي بمهراس. فدقّ فيه الطّير جميعا. وحبس الرّؤوس عنده. ثمّ أنّه دعا بالّذي أمر به. فجعل ينظر إلى الرّيش كيف يخرج وإلى العروق عرقا عرقا حتّى ثمّ جناحه مستويا فأهوى نحو إبراهيم. فقال ابراهيم ببعض الرؤوس. فاستقبله به. فلم يكن الرّأس الّذي استقبله لذلك البدن حتّى انتقل إليه غيره، فكان موافقا للرّأس. فتمّت العدّة. وتمّت الأبدان.
و في الخرايج والجرائح : وروى عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند الصّادق- عليه السّلام- مع جماعة. فقلت: قول اللّه لإبراهيم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، أ كانت»
أربعة من أجناس مختلفة؟ أو من جنس واحد؟
قال: أ تحبّون أن أريكم مثله؟
قلنا: بلى.
قال: يا طاوس! فإذا طاوس طار إلى حضرته.
ثمّ قال: يا غراب! فإذا غراب بين يديه.
ثمّ قال: يا بازي! فإذا بازي بين يديه .
ثمّ قال: يا حمامة! فإذا حمامة بين يديه. ثمّ أمر بذبحها، كلّها، وتقطيعها، ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كلّه بعضه ببعض.
ثم أخذ رأس الطاووس. فقال: يا طاوس! فرأيت لحمه وعظامه وريشه تتميّز عن غيرها، حتّى التصق ذلك كلّه برأسه، وقامالطاووس بين يديه حيّا.
ثمّ صاح بالغراب كذلك. وبالبازي والحمامة كذلك. فقامت كلّها أحياء بين يديه.