وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً: ملائكة يحفظونكم ويحفظون أعمالكم، يذبّون عنكم مردة الشّياطين وهوامّ الأرض وسائر الآفات، ويكتبون ما تفعلون.
و قيل : المراد الكرام الكاتبون. والحكمة فيه أنّ العبد إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر عن المعاصي. وأنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده واعتمد على عفوه وستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه.
و سيأتي ما يقرب منه عن الصّادق- عليه السّلام- في سورة الانفطار إن شاء اللّه- تعالى-.
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا: ملك الموت وأعوانه.
و قرأ حمزة: «توفّاه» بألف ممالة.
وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ : بالتّواني والتّأخير.
و قرئ ، بالتّخفيف. والمعنى: لا يجاوزون ما حدّ لهم بزيادة ولا نقصان.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ: إلى حكمه وجزائه.
مَوْلاهُمُ: الّذي يتولّى أمرهم.الْحَقِّ: العدل الّذي لا يحكم إلّا بالحقّ.
و قرئ ، بالنّصب، على المدح.
أَلا لَهُ الْحُكْمُ: يومئذ لا حكم لغيره فيه.
وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ :
روي : أنّه- سبحانه- يحاسب جميع عباده على مقدار حلب شاة.
و روي : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه سئل، كيف يحاسب اللّه- سبحانه- والخلق ولا يرونه؟
قال: كما يرزقهم ولا يرونه.
و في الاعتقادات : أنّ اللّه- تعالى- يخاطب عباده من الأوّلين والآخرين يوم القيامة بمجمل حساب عملهم مخاطبة واحدة. فيسمع منها كلّ واحد قضيّته دون غيره، ويظنّ أنه المخاطب دون غيره لا يشغله- عزّ وجلّ- مخاطبة عن مخاطبة، ويفرغ من حساب الأوّلين والآخرين في مقدار نصف ساعة من ساعات الدّنيا.
و روي بعضهم: أنّه يحاسب الخلائق في مقدار لمح البصر.
و لا منافاة بينها، لأنّها كلّها تقريب. والمراد إسراع المحاسبة في زمان أقلّ ما يكون. والمراد بكلّ التّعبيرات واحد، وهو نصف ساعة من ساعات الدّنيا تقريبا.
و يقرب منه زمان حلب الشّاة ولمح البصر.
و في تفسير العياشيّ : عن داود بن فرقد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:
دخل مروان بن الحكم المدينة، فاستلقى على السّرير وثمّ مولى للحسين- عليه الصّلاة والسّلام-.
فقال: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ- إلى قوله- أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
قال: فقال الحسين- عليه السّلام- لمولاه: ما ذا قال هذا حين دخل؟قال: استلقى على السّرير فقرأ: رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ- إلى قوله- أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ.
قال: فقال الحسين- عليه السّلام-: نعم واللّه، رددت أنا وأصحابي إلى الجنّة وردّ هو وأصحابه إلى النّار.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: من شدائدهما. استعيرت الظّلمة للشّدّة، لمشاركتهما في الهول وإبطال الإبصار. فقيل لليوم الشّديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أو من الخسف في البرّ، والغرق في البحر.
و قرأ يعقوب: «ينجيكم» بالتّخفيف. والمعنى واحد.
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً: متضرّعين بألسنتكم، ومسرّين في أنفسكم. أو إعلانا وإسرارا.
و قرئ: «خفية» بالكسر.
لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ : على إرادة القول، أي:
يقولون: لئن أنجيتنا.
و قرأ الكوفيّون: «لئن أنجانا» ليوافق قوله: «تدعونه». وهذه إشارة إلى الظّلمة.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها:
شدّده الكوفيّون وهشام، وخفّفه الباقون.
وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ: غمّ سواها.
ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ : تعودون إلى الشّرك، ولا توفون بالعهد. وإنّما وضع «تشركون» موضع «لا تشكرون»، تنبيها على أنّ من أشرك في عبادة اللّه فكأنّه لم يعبده رأسا.
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل.
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، كما أغرق فرعون وخسف بقارون.أَوْ يَلْبِسَكُمْ: يخلطكم.
شِيَعاً: فرقا، مختلفي الأهواء. كلّ فرقة منكم شايعة لإمام، فينشب القتال بينكم.
وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ: يقاتل بعضكم بعضا.
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ: بالوعد والوعيد.
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ :
في تفسير عليّ بن إبراهيم ، وفي رواية أبي الجارود: عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ: هو الدّخان والصّيحة.
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هو الخسف. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو الاختلاف في الدّين وطعن بعضكم على بعض. وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ وهو أن يقتل بعضكم بعضا. وكلّ هذا في أهل القبلة. يقول اللّه: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
و في مجمع البيان : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: مِنْ فَوْقِكُمْ من السّلاطين الظّلمة. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ العبيد السّوء ومن لا خير فيه. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يضرب بعضكم ببعض ممّا يلقيه بينكم من العداوة والعصبيّة وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هو سوء الجوار.
و فيه : روي عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: سألت ربّي أن لا يظهر على أمّتي أهل دين غيرهم، فأعطاني. وسألته أن لا يهلكهم جوعا، فأعطاني. وسألته أن لا يجمعهم على الضّلال، فأعطاني. وسألته أن لا يلبسهم شيعا، فمنعني.
قال وفي تفسير الكلبيّ: أنّه لمّا نزلت هذه الآية، قام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فتوضّأ وأسبغ وضوءه. ثمّ قام وصلّى، فأحسن صلاته. ثمّ سأل اللّه- سبحانه- على أن لا يبعث على أمّته عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولا يلبسهم شيعا، ولايذيق بعضهم بأس بعض.
فنزل جبرئيل- عليه السّلام- فقال: يا محمّد، اللّه- تعالى- سمع مقالتك، وأنّه قد أجارهم من خصلتين ولم يجرهم من خصلتين، أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولم يجرهم من الخصلتين الأخريين .
فقال- عليه السّلام-: يا جبرئيل، ما بقاء أمّتي مع قتل بعضهم بعضا.
فقام وعاد إلى الدّعاء، فنزل الم، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا (الآيتين) فقال:
لا بدّ من فتنة تبتلى بها الأمّة بعد نبيّها، ليتبيّن لها الصّادق من الكاذب. لأنّ الوحي قد انقطع، وبقي السّيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
قال وفي الخبر: أنّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إذا وضع السّيف في امّتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة.
وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ:
قيل : أي بالعذاب. أو بالقرآن.
وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ : حفيظ وكلّ إليّ أمركم، فأمنعكم أو أجازيكم. إنّما أنا منذر واللّه الحفيظ.
لِكُلِّ نَبَإٍ: خبر. يريد أنباء العذاب، أو الإيعاد به.
مُسْتَقَرٌّ: وقت استقرار ووقوع.
وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ : عند وقوعه في الدّنيا، أو في الآخرة.
وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا: بالتّكذيب والاستهزاء بها، والطّعن فيها.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ: فلا تحاسبهم، وقم عنهم.
و في تفسير العياشي : عن ربعي بن عبد اللّه، عمّن ذكره، عن أبي جعفر- عليه
السّلام- في هذه الآية، قال: الكلام في اللّه والجدال في القرآن.
قال: ومنه القصّاص.
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ: غير ذلك.
قيل : أعاد الضّمير على معنى الآيات، لأنّها القرآن.
وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ: النّهي. بأن تشتغل بأمر يذهب النّهي عن نظرك.
و قرأ ابن عامر: «ينسينّك» بالتّشديد.
و لمّا كان أكثر مخاطبات النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في القرآن على سبيل التّعريض بالامّة، ليس في الآية دلالة على عروض النّسيان له- عليه السّلام-. مع أنّ في استعمال «إن» دون «إذا» إشعارا بأنّ عروضه له على سبيل الفرض والتّقدير.
فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى: بعد أن تذكره.
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، أي: معهم. فوضع الظّاهر موضعه، دلالة على أنّهم ظلموا، بوضع التّكذيب والاستهزاء موضع التّصديق والاستعظام.
في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال:
حدّثني عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه- عليهما السّلام- قال: قال عليّ بن الحسين- عليهما السّلام-: ليس لك أن تقعد مع من شئت. لأنّ اللّه- تبارك وتعالى- يقول: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ (الآية).
و في هذا الخبر دلالة على أنّه لو لم يقل اللّه ذلك، لجاز القعود مع من شاء المكلّف. وفيه دلالة على أنّ كلّما ليس فيه نهي، يجوز ارتكابه إذا شاء ولم يستخبثه الطّبع السّليم.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أخبرنا أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن سيف بن عميرة، عن عبد الأعلى بن أعين قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يجلس فيمجلس يسبّ فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم. إنّ اللّه يقول في كتابه: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ (الآية).
و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد ومحمّد بن يحيى جميعا، عن عليّ بن محمّد بن سعد ، عن محمّد بن مسلم، عن أحمد بن زكريّاء، عن محمّد بن خالد بن ميمون، عن عبد اللّه بن سنان، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- [قال] ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين، إلّا حضرهم عشرة أضعافهم من الشّياطين. فإن تكلّموا، تكلّم الشّياطين بنحو كلامهم. وإذا ضحكوا، ضحكوا معهم. وإذا نالوا من أولياء اللّه، نالوا معهم. فمن ابتلى من المؤمنين بهم فإذا خاضوا في ذلك، فليقم ولا يكن شرك شيطان ولا جليسه. فإنّ غضب اللّه- عزّ وجلّ- لا يقوم له شيء، ولعنة اللّه لا يردّها شيء.
ثم قال: فإن لم يستطع، فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة أو فواق ناقة.
و فيه : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد قال: حدّثنا أبو عمرو الزّبيريّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال في حديث طويل: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها. وفرض على السّمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم اللّه، وأن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللّه- عزّ وجلّ- عنه، والإصغاء إلى ما أسخط اللّه- عزّ وجلّ-. فقال في ذلك: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
ثمّ استثنى- عزّ وجلّ- موضع النّسيان فقال:وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أبي زياد النّهديّ، عن عبد اللّه بن صالح، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلسا يعصى اللّه فيه ولا يقدر على تغييره .
عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد، عن بكر بن محمّد، عن الجعفريّ قال:
سمعت أبا الحسن- عليه السّلام- يقول: ما لي رأيتك عند عبد الرّحمن بن يعقوب؟
فقال: إنّه خالي.
فقال: إنّه يقول في اللّه قولا عظيما، يصف اللّه ولا يوصف. فإمّا جلست معه وتركتنا، وإمّا جلست معنا وتركته.
فقلت: هو يقول ما شاء، أيّ شيء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول؟
فقال: أبو الحسن- عليه السّلام-: أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا.
و فيه : الحسين بن محمّد، عن عليّ بن محمّد بن سعد ، عن محمّد بن مسلم، عن إسحاق بن موسى قال: حدّثني أخي وعمّي، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ثلاثة مجالس يمقتها اللّه ويرسل نقمته على أهلها، فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم: مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه، ومجلسا ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ، ومجلسا فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم.
قال: ثمّ تلا أبو عبد اللّه- عليه السّلام- ثلاث آيات من كتاب اللّه، كأنّما كنّ في فيه، أو قال: في كفّه : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
. وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .
و في من لا يحضره الفقيه : قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- في وصيّة لابنه محمّد بن الحنفيّة: ففرض على السّمع أن لا تصغي به إلى المعاصي، فقال- عزّ وجلّ-: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. ثمّ استثنى- جلّ وعزّ- موضع النّسيان، فقال: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
و روى محمّد بن مسلم قال: مرّ بي أبو جعفر- عليه السّلام- وأنا جالس عند القاضي بالمدينة، فدخلت عليه من الغد.
فقال لي: ما مجلس رأيتك فيه أمس؟
قال: قلت له: جعلت فداك، إنّ هذا القاضي لي مكرم، فربّما جلست إليه.
فقال لي: وما يؤمنك أن تنزل اللّعنة [فتعمّ من في المجلس] فتعمّك معه.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليّ: يا ابن رسول اللّه، حدّثني بحديث آبائك- عليهم السّلام-.
قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: مجالسة الأشرار تورث سوء الظّنّ بالأخيار.
و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: وإيّاك ومصاحبة الفسّاق، فإنّ الشّرّ بالشّرّ ملحق.
و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى داود بن القاسم الجعفريّ:
عن محمّد بن عليّ الثّانيّ- عليه السّلام- قال: أقبل أمير المؤمنين- عليه السّلام- ذات يوم ومعه الحسن بن عليّ وسلمان الفارسيّ، وأمير المؤمنين- عليه السّلام- متّكئ على يدسلمان رحمه اللّه، فدخل المسجد الحرام، فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللّباس فسلّم على أمير المؤمنين- عليه السّلام-، فردّ عليه السّلام، فجلس.
ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك عن ثلاث مسائل، إن أخبرتني بهنّ علمت أنّ القوم ارتكبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم، وإن تكن الأخرى علمت أنّك وهم شرع سواء.
فقال له أمير المؤمنين- عليه السّلام-: سلني عمّا بدا لك.
قال: أخبرني عن الرّجل إذا نام، أين تذهب روحه؟ وعن الرّجل، كيف يذكر وينسى؟ وعن الرّجل، كيف يشبه [ولده] الأعمام والأخوال.
قال: فالتفت أمير المؤمنين- عليه السّلام- إلى أبي محمّد الحسن ولده، فقال:
يا أبا محمّد، أجبه.
فقال- عليه السّلام-: أمّا ما ذكرت من أمر الذّكر والنّسيان، فإنّ قلب الرّجل في حقّ وعلى الحقّ طبق. فإن صلّى الرّجل عند ذلك على محمّد وآل محمّد صلاة تامّة، انكشف ذلك الطّبق عن ذلك الحقّ فأضاء القلب وذكر الرّجل ما كان نسيه. وإن لم يصلّ على محمّد وآله أو نقص من الصّلاة عليهم، انطبق ذلك الطّبق على ذلك الحقّ فأظلم القلب ونسى الرّجل ما كان ذكر.
وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ: وما يلزم المتّقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم.
مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ: ممّا يحاسبون عليه.
وَ لكِنْ ذِكْرى: ولكن عليهم أن يذكّروهم ذكرى، ويمنعوهم عن الخوض في القبائح، ويظهروا كراهتها.
و هو يحتمل النّصب على المصدر، والرّفع على «و لكن عليهم ذكرى».
و لا يجوز عطفه على محلّ «من شيء»، لأنّ من حسابهم يأباه ولا على «شيء» لذلك. ولأنّ «من» لا تزاد في الإثبات.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ : يجتنبون ذلك حياء أو كراهة، لمساءتهم.و يحتمل أن يكون الضّمير «الّذين يتّقون». والمعنى: لعلّهم يثبتون على تقواهم، ولا تنثلم بمجالستهم.
و في مجمع البيان : عن أبي جعفر- عليه السّلام-: فلمّا نزل فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلّما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام.
فأنزل اللّه- تعالى-: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا.
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً: حيث سخروا به واستهزؤوا منه. أو بنوا أمر دينهم على التّشهّي. أو جعلوا عيدهم الّذي جعل ميقات عبادتهم زمان لعب ولهو.
و المعنى: أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم.
و يجوز أن يكون تهديدا لهم، كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.
و من حمله على الأمر بالكفّ عنهم وترك التّعرّض لهم، جعله منسوخا بآية السّيف.
وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا: فألهتهم عن الآخرة.
وَ ذَكِّرْ بِهِ، أي: بالقرآن.
أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ: مخافة أن تسلم إلى الهلاك، وترتهن بسوء عملها.
و أصل الإبسال والبسل، المنع. ومنه: أسد باسل، لأنّ فريسته لا تفلت منه.
و الباسل، الشّجاع لامتناعه من قرنه. وهذا بسل عليك، أي: حرام.
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ: يدفع عنها العذاب.
وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ: وإن تفد كلّ فداء.
و العدل، الفدية. وهاهنا الفداء.
و «كلّ» نصب على المصدر.لا يُؤْخَذْ مِنْها:
الفعل مسند إلى «منها» لا إلى ضميره، بخلاف قوله: ولا يؤخذ منها عدل.
فإنّه المفدى به.
أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا، أي: سلموا إلى العذاب، بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزّائغة.
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ : تأكيد وتفصيل لذلك.
و المعنى: هم بين ماء يغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم، بسبب كفرهم.
قُلْ أَ نَدْعُوا: أ نعبد.
مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا: ما لا يقدر على نفعنا وضرّنا.
وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا: ونرجع إلى الشّرك.
بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ: فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام.
كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: كالّذي ذهب به مردة الجنّ في المهامة.
استفعال من هوى يهوي هويا: إذا ذهب.
و قرأ حمزة: «استهواه» بألف ممالة.
و محلّ «الكاف» النّصب على الحال من مرفوع «نردّ»، أي: مشبّهين الّذي استهوته. أو على المصدر، أي: ردّا، مثل ردّ الّذي استهوته.
فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ: متحيّرا ضالّا عن الطّريق.
لَهُ أَصْحابٌ: لهذا المستهوى رفقة.
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى: إلى أن يهدوه الطّريق المستقيم، أو إلى الطّريق المستقيم. وسمّاه هدى، تسمية المفعول به بالمصدر.
ائْتِنا: يقولون له: ائتنا. وقد اعتسف التّيه تابعا للجنّ، لا يجيبهم ولا يأتيهم.و هذا مبنيّ على ما تزعمه العرب: أنّ الجنّ تستهوي الإنسان.
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ: الّذي هو الإسلام.
هُوَ الْهُدى: وحده. وما عداه ضلال.
وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ : من جملة المقول، عطف على «إنّ هدى اللّه».
و «اللام» لتعليل الأمر، أي: أمرنا بذلك لنسلم.
و قيل : بمعنى الباء.
و قيل : زائدة.
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ: عطف على «نسلم»، أي: للإسلام ولإقامة الصّلاة. أو على «لنسلم» بزيادة الّلام، كأنّه قيل: وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا.
وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ : يوم القيامة. فيجازي كلّ عامل منكم بعمله.
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ: قائما بالحقّ والحكمة. حال من الفاعل.
و يحتمل كونه من المفعول، أي: متلبّسا بالحقّ والصّواب.
وَ يَوْمَ يَقُولُ: له.
كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ: مبتدأ، وصفته وخبره «يوم» قدّم عليه، أي: قوله الحقّ نافذ في الكائنات يوم يقول.
و قيل : «يوم» منصوب بالعطف على «السّموات»، أو «الهاء» في «و اتّقوه»، أو بمحذوف دلّ عليه بالحقّ. «و قوله الحقّ» مبتدأ وخبر، أو فاعل «يكون» على معنى:
و حين يقول [لقوله الحق، أي:] لقضائه كن فيكون. «قوله الحقّ» أي: قضاؤه.
و المراد حين يكوّن الأشياء ويحدثها، أو حين تقوم القيامة فيكون التّكوين حشرالأموات وإحياءها.
وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
و «الصّور» قرن من نور التقمه إسرافيل، فينفخ فيه. كذا عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- .
و روي : أنّ فيه بعدد كلّ إنسان ثقبة فيها روحه، ووصف بالسّعة والضّيق، واختلف في أنّ أعلاه ضيّق وأسفله واسع أو بالعكس.
و في مجمع البيان : قيل فيه أنّه قرن ينفخ فيه إسرافيل- عليه السّلام- نفختين، فتفنى الخلائق كلّهم بالنّفخة الأولى ويحيون بالنّفخة الثّانية.
و قال الحسن : هو جمع صورة.
و يؤيد القول الأوّل
ما رواه أبو سعيد الخدريّ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: وكيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جنبيه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ.
قالوا: فكيف نقول، يا رسول اللّه؟
قال: قولوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي: هو عالم كلّ غيب وكلّ شهادة.
وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ : وهذا كالفذلكة للآية. لأنّ «الحكيم» جامع يجمع أفعاله الموافقة للمصلحة، و«الخبير» جامع للعلم بالغيب والشّهادة.
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ: عطف بيان «لأبيه».
في كتب التّواريخ : أنّ اسم أبيه تارخ. فقيل : هما علمان له، كإسرائيل ويعقوب. وقيل : العلم تارخ، وآزر وصف، معناه: الشّيخ [أو] المعوجّ.
و الصّحيح : أنّ تارخ أبوه، وآزر عمّه أو جدّه لأمّه. والعرب تسمّي الجدّ والعمّ:أبا. لإجماع الطّائفة على أنّ آباء النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- إلى آدم- عليه السّلام- كانوا كلّهم موحّدين، وروايتهم
عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: لم يزل ينقلني اللّه- تعالى- من أصلاب الطّاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا، لم يدنّسني بدنس الجاهليّة.
و لو كان في آبائه كافر، لم يصف جميعهم بالطّهارة مع قوله:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.
في أصول الكافي : أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد اللّه الصغير ، عن محمّد بن إبراهيم الجعفريّ، عن أحمد بن عليّ بن محمّد بن عبد اللّه بن عمر بن عليّ بن أبي طالب عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان.
و خلق نور الأنوار الّذي نوّرت منه الأنوار، وأجرى فيه من نوره الّذي نوّرت منه الأنوار.
و هو النّور الّذي خلق منه محمّدا وعليّا، ولم يزالا نورين أوّلين إذ لا شيء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهّرين في الأصلاب الطّاهرة حتّى افترقا في أطهر طاهرين، في عبد اللّه وأبي طالب- عليهما السّلام-.
أمّا
ما رواه في روضة الكافيّ : «عن عليّ بن إبراهيم [عن أبيه] ، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ آزر أبا إبراهيم- عليه السّلام- كان منجّما لنمرود ولم يكن يصدر إلّا عن أمره، فنظر ليلة في النّجوم، فأصبح وهو يقول لنمرود: لقد رأيت عجبا.
قال: وما هو؟
قال: رأيت مولودا يولد في أرضنا يكون هلاكنا على يديه، ولا يلبث إلّا قليلا حتّى يحمل به.
قال: فتعجّب من ذلك، وقال: وهل حملت به النّساء؟
قال: لا.
قال: فحجب النّساء عن الرّجال، فلم يدع امرأة إلّا جعلها في المدينة لا يخلصإليها. ووقع آزر بأهله، فعلقت بإبراهيم- عليه السّلام-. فظنّ أنّه صاحبه، فأرسل إلى نساء من القوابل في ذلك الزّمان لا يكون في الرّحم شيء إلّا علمن به. فنظرن، فألزم اللّه- عزّ وجلّ- ما في الرّحم الظّهر. فقلن: ما نرى في بطنها شيئا. وكان فيما أوتي من العلم أنّه سيحرق بالنّار، ولم يؤت علم أنّ اللّه- تبارك وتعالى- سينجّيه.
قال: فلمّا وضعت أمّ إبراهيم، أراد آزر أن يذهب به إلى نمرود ليقتله.
فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله، دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتّى يأتي عليه أجله، ولا تكون أنت الذي تقتل ابنك.
فقال لها: فامضي به.
قال: فذهبت به إلى غار، ثم أرضعته، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة، ثمّ انصرفت عنه.
قال: فجعل اللّه- تبارك وتعالى- رزقه في إبهامه، فجعل يمصّها فيشخب لبنها.
و جعل يشبّ في اليوم، كما يشبّ غيره في الجمعة. ويشبّ في الجمعة، كما يشبّ غيره في الشّهر. ويشبّ في الشّهر، كما يشبّ غيره في السّنة. فمكث ما شاء اللّه أن يمكث.
ثمّ أنّ أمّه قالت لأبيه: لو أذنت لي حتّى أذهب إلى ذلك الصَّبي فعلت.
قال: فافعلي ففعل.
فذهبت، فإذا هي بإبراهيم- صلّى اللّه عليه وآله- وإذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان.
قال: فأخذته فضمّته إلى صدرها وأرضعته، ثمّ انصرفت عنه.
فسألها آزر عنه.
فقالت: قد واريته في التّراب.
فمكثت تفعل، فتخرج في الحاجة فتذهب إلى إبراهيم- عليه السّلام- فتضمّهإلى صدرها وترضعه ثمّ تنصرف. فلمّا تحرّك أتته، كما كانت تأتيه فصنعت به، كما [كانت] تصنع. فلمّا أرادت الانصراف، أخذ بثوبها.
فقالت له: مالك؟
فقال لها: اذهبي بي معك.
فقالت له: حتّى أستأمر أباك.
فجاءت أمّ إبراهيم- عليه السّلام- إلى آزر فأعلمته القصّة.
فقال لها: ائتني به، فأقعديه على الطّريق. فإذا مرّ به إخوته، دخل معهم ولا يعرف.
قال: وكان إخوة إبراهيم- عليه السّلام- يعملون الأصنام ويذهبون بها إلى الأسواق ويبيعونها.
قال: فذهبت إليه، فجاءت به حتّى أقعدته على الطّريق. ومرّ إخوته، فدخل معهم. فلمّا رآه أبوه، وقعت عليه المحبّة منه، فمكث ما شاء اللّه. فبينا إخوته يعملون يوما من الأيّام الأصنام، إذ أخذ إبراهيم القدّوم وأخذ خشبة فنحت منها صنما لم يروا قطّ مثله.
فقال آزر لأمّه: إنّي لأرجو أن نصيب خيرا ببركة ابنك هذا.
قال: فبيناهم كذلك، إذ أخذ إبراهيم- عليه السّلام- القدّوم فكسّر الصّنم الّذي عمله. ففزع أبوه من ذلك فزعا شديدا.
فقال له: أيّ شيء عملت؟
فقال إبراهيم- عليه السّلام-: وما تصنعون به؟
فقال آزر: نعبده.
فقال إبراهيم- عليه السّلام-: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ.فقال آزر [لأمه] : هذا الّذي يكون ذهاب ملكنا على يديه.
و في تفسير العياشيّ : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل عن قوله- تعالى-:
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ.
قال: كان اسم أبيه آزر.
فوردا موافقا لمذاهب العامّة، والعلم عند اللّه.
و منع صرف «آزر» قيل : لأنّه أعجميّ حمل على موازنه، أو نعت مشتقّ من الأزر أو الوزر.
و قيل : إنّه علم أعجميّ على فاعل كغابر وشالخ .
و قيل : اسم لصنم يعبده، يلقّب به للزوم عبادته. أو أطلق عليه بحذف المضاف.
و قيل : المراد به الصّنم. ونصبه بفعل مضمر يفسّره ما بعده، أي: أتعبد آزر؟
ثمّ قال: أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً: تفسيرا وتقريرا. ويدلّ عليه أن قرئ :
«أأزر أ تتّخذ أصناما» بفتح همزة «آزر» وكسرها. وهو اسم صنم.
و قرأ يعقوب: «آزر» بالضّمّ على النّداء. وهو يدلّ على أنّه علم.
إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ : ظاهر الضّلالة.
وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ: ومثل هذا التّبصير نبصّره. وهو حكاية حال ماضية.
و قرئ : «ترى» بالتّاء، ورفع «ملكوت». ومعناه: تبصّره دلائل الرّبوبيّة.
مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: ربوبيّتها وملكها.
و قيل : عجائبها وبدائعها.
و «الملكوت» أعظم للملك. والتّاء فيه، للمبالغة.
وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، أي: ليستدلّ وليكون. أو وفعلنا ذلك ليكون.
في كتاب المناقب لابن شهر آشوب: جابر بن يزيد قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
فرفع أبو جعفر- عليه السّلام- بيده وقال: ارفع رأسك.
فرفعته، فوجدت السّقف متفرّقا. ورمق ناظري في ثلمة حتّى رأيت نورا حاز عنه بصري.
فقال: هكذا رأى إبراهيم ملكوت السّموات والأرض. وانظر إلى الأرض ثمّ ارفع رأسك.
فلمّا رفعته، رأيت السّقف كما كان. ثمّ أخذ بيدي وأخرجني من الدّار وألبسني ثوبا.
و قال: غمّض عينيك ساعة. ثمّ قال: أنت في الظّلمات الّتي رأى ذو القرنين.
ففتحت عيني، فلم أر شيئا. ثمّ تخطّا خطا فقال: أنت على رأس عين الحياة للخضر.
ثمّ خرجنا من ذلك العالم حتّى تجاوزنا خمسة فقال: هذا ملكوت الأرض.
ثمّ قال: غمّض عينيك. وأخذ بيدي، فإذا نحن بالدّار الّتي كنّا فيها. وخلع عنّي ما كان ألبسنيه.
فقلت: جعلت فداك، كم ذهب من اليوم؟ فقال: ثلاث ساعات.
و في بصائر الدّرجات : وعنه، عن محمّد المثنّى [عن أبيه] الميثميّ، عن عثمان بن يزيد ، عن جابر بن عبد اللّه [عن أبي جعفر] قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال: وكنت مطرقا إلى الأرض.
فرفع يده إلى فوق. ثمّ قال لي: ارفع رأسك.
فرفعت رأسي ونظرت إلى السّقف قد انفجر حتّى خلص بصري إلى نور ساطع حار بصري دونه.
قال: ثم قال لي : رأى إبراهيم ملكوت السّموات والأرض هكذا.
ثمّ قال لي: أطرق. فأطرقت. ثمّ قال: ارفع رأسك.
فرفعت رأسي، فإذا السّقف على حاله.
ثمّ أخذ بيدي، وقام وأخرجني من البيت الّذي كنت فيه، وأدخلني بيتا آخر.
فخلع الثّياب الّتي كانت عليه، ولبس ثيابا غيرها. ثمّ قال: غضّ بصرك.
فغضضت بصري .
و قال لي: لا تفتح عينيك. فلبثت ساعة.
ثمّ قال لي: أ تدري أين أنت؟
قلت: لا، جعلت فداك.
قال: أنت في الظّلمة الّتي سلكها ذو القرنين.
فقلت له: جعلت فداك، أ تأذن لي فأفتح عيني؟
فقال: فافتح، فإنّك لا ترى شيئا.
ففتحت [عيني] ، فإذا أنا في ظلمة لا أبصر فيها موضع قدمي.
قال: ثمّ سار قليلا ووقف، فقال: هل تدري أين أنت؟فقلت: لا.
فقال: أنت واقف على عين الحياة الّتي شرب منها الخضر.
و شرب وخرجنا من ذلك العالم إلى عالم آخر فسلكناه، فرأيناه كهيئة عالمنا في بنيانه ومساكنه وأهله. ثمّ خرجنا إلى عالم ثالث، كهيئة الأوّل والثّاني حتّى وردنا خمسة عوالم.
قال: ثمّ قال لي: هذه ملكوت الأرض ولم يرها إبراهيم، وإنّما رأي ملكوت السّموات. وهي اثنا عشر عالما، كهيئة ما رأيت. كلّما مضى منّا إمام، سكن احد هذه العوالم حتّى يكون آخرهم القائم في عالمنا الّذي نحن ساكنوه.
قال: ثم قال: غضّ بصرك.
فغضضت بصري [ثم أخذ بيدي] ، فإذا نحن بالبيت الذي خرجنا منه. فنزع تلك الثّياب ولبس الثّياب الّتي كانت عليه وعدنا إلى مجلسنا.
فقلت: جعلت فداك، كم مضى من النّهار؟
قال: ثلاث ساعات.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فإنّه
حدّثني أبي، عن إسماعيل بن مراد، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن هشام، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كشط له عن الأرض ومن عليها، وعن السماء ومن فيها، والملك الّذي يحملها، والعرش ومن عليه. وفعل ذلك كلّه برسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأمير المؤمنين- عليه السّلام-.
و حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزاز عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لمّا رأى إبراهيم ملكوت السّموات والأرض، التفت فرأىرجلا يزني، فدعا عليه فمات. ثمّ رأى آخر، فدعا عليه فمات، ثمّ رأى ثلاثة، فدعا عليهم فماتوا.
فأوحى اللّه إليه: يا إبراهيم، إنّ دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإنّي لو شئت لم أخلقهم. إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني ولا يشرك بي شيئا، فأثيبه. وصنف يعبد غيري، فليس يفوتني. وصنف يعبد غيري، فأخرج من صلبه من يعبدني.
و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-. مثله
و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد البرقيّ رفعه قال: سأل الجاثليق أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال له: أخبرني عن قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. فكيف قال ذلك، وقلت: إنّه يحمل العرش والسّموات والأرض؟
فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ العرش خلقه اللّه من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرّت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرّت الصّفرة، ونور أبيض منه [ابيضّ] البياض. وهو العلم الّذي حمّله اللّه الحملة. وذلك نور من عظمته. فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السّموات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة . فكلّ محمول يحمله اللّه بنوره وعظمته وقدرته، لا يستطيع لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فكلّ شيء محمول واللّه- تبارك وتعالى- الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما منشيء. وهو حياة كلّ شيء ونور كلّ شيء، سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.
فالّذين يحملون العرش، هم العلماء الّذين حمّلهم اللّه علمه. وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلقه اللّه في ملكوته، وهو الملكوت الّذي أراه اللّه أصفياءه وأراه خليله- عليه السّلام- فقال: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وكيف يحمل حملة العرش اللّه، وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته.
محمّد بن يحيى ، عن أحمد، عن صفوان بن يحيى، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من أطعم ثلاثة نفر من المسلمين، أطعمه اللّه من ثلاث جنان في ملكوت السّموات، الفردوس، وجنّة عدن، وطوبى وهي شجرة تخرج في جنّة عدن غرسها ربّنا بيده.
عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن النّوفليّ، عن السّكونيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: طوبى للمساكين بالصّبر، وهم الّذين يرون ملكوت السّموات والأرض.
و في كتاب الاحتجاج للطّبرسيّ- رحمه اللّه- حديث طويل، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-. يقول فيه- عليه السّلام-: يا أبا جهل، أما علمت قصّة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت؟ وذلك قول ربّي: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. قوّى اللّه بصره لما رفعه دون السّماء، حتّى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين.
و في تفسير العيّاشيّ : عن زرارة عن أبي جعفر- عليه السّلام-: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.قال: أعطي بصره من القوّة ما نفذ السّموات والأرض ، فرأى السّموات و ما فيها، ورأى العرش وما فوقه، ورأى ما في الأرض وما تحتها.
و في بصائر الدّرجات : [أحمد بن محمّد، عن محمّد بن] محمّد بن عبد اللّه بن محمّد الحجّال، عن ثعلبة، عن عبد الرّحيم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
قال: كشط اللّه عن الأرض حتّى رآها ومن فيها [و عن السّماء حتى رآها ومن فيها] ، والملك الّذي يحملها ، والعرش ومن عليه، وكذلك أرى صاحبكم.
و في الخرائج والجرائح : عن أحمد وعبد اللّه ابني محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن عبد اللّه بن مسكان قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
قال: كشط اللّه لإبراهيم السّموات حتّى نظر إلى ما فوق العرش، وكشطت له الأرض حتّى رأى ما تحت تخومها وما فوق الهواء. وفعل بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- مثل ذلك، وإنّي لأرى صاحبكم. والأئمة من بعده فعل بهم مثل ذلك.
و سأله أبو بصير: هل رأى محمّد ملكوت السّموات والأرض، كما رأى ذلك إبراهيم- عليه السّلام-؟
قال: نعم، وصاحبكم والأئمة من بعده.
و قال أبو جعفر - عليه السّلام- في ذلك: كشط له السّموات [السبع] - حتّى نظر إلى السّماء السّابعة وما فيها، والأرضون السّبع حتّى نظر إليهنّ وما فيهنّ. وفعل بمحمّد، كما فعل بإبراهيم- عليه السّلام-. وإنّي لأرى صاحبكم قد فعل به مثل ذلك والأئمّة منبعده بمثل ذلك.
و بإسناده إلى بريدة الأسلميّ، عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- [أنّه قال] يا عليّ، إنّ اللّه أشهدك معي سبع مواطن. فذكرها حتّى ذكر الموطن الثّاني، فقال: أتاني جبرئيل فأسرى بي إلى السّماء.
فقال: أين أخوك؟
قلت: ودّعته خلفي.
فقال: ادع اللّه يأتيك به.
فدعوت اللّه، فإذا أنت معي. كشط لي عن السّموات السّبع والأرضين السّبع حتّى رأيت سكانها وعمّارها وموضع كلّ ملك فيها، لم أر من ذلك شيئا إلّا وقد رأيته.
و في كتاب الخصال : عن يزداد بن إبراهيم، عمّن حدّثنا من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: واللّه لقد أعطاني اللّه- تبارك وتعالى- تسعة أشياء لم يعطها أحدا قبلي خلا النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-، لقد فتحت لي السبل، وعلّمت الأنساب ، وأجري لي السّحاب، وعلّمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب، ولقد نظرت في الملكوت بإذن ربّي- جلّ جلاله- فما غاب عنّي ما كان قبلي وما يأتي بعدي.
(الحديث).
و في عوالي اللئالي : وقال- صلّى اللّه عليه وآله-: لو لا أنّ الشّياطين يحومون حول قلب ابن آدم، لنظر إلى الملكوت.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى عليّ بن سالم: عن أبيه، عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين عليّ بن الحسين- عليه السّلام- عن اللّه- جلّ جلاله- هل يوصف بمكان؟فقال: تعالى عن ذلك.
قلت: فلم أسرى بنبيه محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- إلى السّماء؟
قال: ليريه ملكوت السماوات والأرض وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.
قلت: فقول اللّه- عزّ وجلّ-: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.
قال: ذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- دنا من حجب النّور فرأى ملكوت السّموات. ثمّ تدلّى- عليه السّلام- فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظن أنّه دنى في القرب [من الأرض] ، كقاب قوسين أو أدنى.
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي: تفصيل وبيان «كذلك».
و قيل : عطف على «قال إبراهيم».
وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ اعتراض. فإنّ أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبّههم على ضلالالتهم ويرشدهم إلى الحقّ من طريق النّظر والاستدلال.
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ستره بظلامه.
و «الكواكب» الزّهرة. وقيل المشتري.
و قوله: «هذا ربّي» على سبيل الوضع. فإنّ المستدلّ على فساد قول يحكيه على ما يقول الخصم، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد.
قيل : أو على وجه النّظر والاستدلال. وإنّما قال زمان مراهقته، أو أوّل أوان بلوغه.
فَلَمَّا أَفَلَ، أي: غاب.قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ : فضلا عن عبادتهم. فإنّ الانتقال والاحتجاب بالاستتار، يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهيّة.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً: مبتدئا في الطّلوع.
قالَ هذا رَبِّي، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ : استعجز نفسه واستعان بربّه في درك الحقّ. فإنّه لا يهتدي إليه إلّا بتوفيقه، إرشادا لقومه، وتنبيها لهم على أنّ القمر- أيضا- لتغيّر حاله لا يصلح للألوهيّة، وأنّ من أتّخذه إلها فهو ضال.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي: ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر، وصيانة للرّبّ عن شبهة التّأنيث.
هذا أَكْبَرُ: كبّره، استدلالا وإظهارا لشبهة الخصم.
فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ : من الأجرام المحدّثة المحتاجة إلى محدث يحدثها، ومخصّص يخصّصها بما يختصّ به وثمّ تبرّأ عنها، وتوجّه إلى موجدها ومبدعها الّذي دلّت عليه هذه الممكنات، وقال:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً: مسلما. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
قيل : إنّما احتجّ بالأفول دون البزوغ مع أنّه- أيضا- انتقال، لتعدّد دلالته، ولأنّه رأى الكوكب الّذي يعبدونه في وسط السّماء حين حاول الاستدلال.
و في عيون الأخبار ، في باب ذكر مجلس الرّضا- عليه السّلام- عند المأمون في عصمة الأنبياء- عليهم السّلام-: حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشيّ- رضي اللّه عنه- قال: حدّثني أبي، عن حمدان بن سليمان النيشابوريّ، عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرّضا- عليه السّلام-.
فقال له المأمون: يا ابن رسول اللّه، أليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟
قال: بلى.
قال: فأخبرني عن قول اللّه- تعالى- في حق إبراهيم:فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي.
فقال الرّضا- عليه السّلام-: إنّ إبراهيم- صلّى اللّه عليه- وقع على ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزّهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشّمس. وذلك حين خرج من السّرب الّذي أخفي فيه «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» رأى- عليه السّلام- الزّهرة «قالَ هذا رَبِّي» على الإنكار والاستخبار. «فَلَمَّا أَفَلَ» الكوكب «قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ». لأنّ الأفول من صفات المحدث، لا من صفات القديم. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي على الإنكار والاستخبار. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. يقول: لئن لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضّالّين.
فلمّا أصبح رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ من الزّهرة والقمر على الإنكار والاستخبار، لا على الإخبار والإقرار. «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ» للأصناف الثّلاثة من عبدة الزّهرة والقمر والشّمس يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وإنّما أراد إبراهيم- عليه السّلام- بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لمن كان بصفة الزّهرة والقمر والشّمس، وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السّموات والأرض. وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه اللّه وآتاه، كما قال اللّه- تعالى-: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.
فقال المأمون: للّه درّك يا أبا الحسن.
و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي عبيدة عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول إبراهيم- صلوات اللّه عليه-: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، أي: ناس للميثاق.