« اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين » (1).
حملت مريم بعيسى المسيح عليه السلام في زوال يوم الجمعة ، وذلك عندما كانت تتعبد في محرابها هبط عليها الروح الامين جبرئيل بعد ان تمثل لها بشرا سويا ، عندما راته فزعت وارتبكت وقالت : « اني اعوذ بالرحمن منك ان كنت تقيا » قال لها جبرئيل : « انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا » قالت له : « انّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم اك بغيا » عليها جبرئيل قائلا : « كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان امرا مقضيا » (2) قضي الامر ولا مجال للتفكير وليس الامر لك يا مريم واخذ جبرئيل ردن قميصها ونفخ فيه فحملت من ساعتها ، وقال تعالى فيها : « ومريم بنت عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين » (3).
اختلف المفسرون في مدة حملها ، فقيل : حملت ساعة واحدة ، وقيل : تسع ساعات وكل ساعة بشهر ، وقيل : ستة اشهر ، وقد روي عن ابي عبد الله عليه السلام انه قال : « لم يولد مولود لستة اشهر الا الحسين بن علي عليه السلام ، وعيسى بن مريم عليه السلام ». وفي رواية اخرى : « لم يعش مولود قط ولد لستة اشهر غير الحسين عليه السلام وعيسى بن مريم عليه السلام » ، وقيل غير ذلك (4).
فاجاءها المخاض ، اي جاءها الطلق ووجع الولادة بعد ان نفخ روح الله في ردنها فالتجأت الى جذع النخلة لتستند اليها ، فلما ولدت ، قالت : « يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا » (5) قيل : كان الذي ناداها جبرئيل وقيل : ابنها عيسى ، كان جبرئيل تحت الاكمة سمع كلامها فناداها وقال لها : لا تحزني قد جعل الله تحتك سريا ، اي نهرا صافيا ، وهزي بجذع النخلة وحركيها يتساقط عليك رطبا جنيا طيبا.
واخيرا رجعت مريم من الصحراء الى المدينة تحمل طفلها على صدرها « فاتت به قومها تحمله » فلما راوا الطفل بين يديها تعجبوا وبهتوا مما راوا وقلقوا بشدة حتى وقع بعضهم في الشك والشبهة ، والبعض الآخر تعجل في القضاء والحكم واطلق عنان لسانه في توبيخها وملامتها ، وقالوا : ان من المؤسف ان ترتكبي شيئا منكرا « قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا » وقالوا : « يا اخت هارون ما كان ابوك امرا سوء وما كانت امك بغيا » (6).
فمع وجود مثل هذا الاب والام الطاهرين ما هذا الوضع الذي نراك عليه ؟ كيف انحرفتي هكذا ـ حيث كانوا يعتقدون ان مريم قد انحرفت ـ سكتت مريم ولم تجبهم بشيء بأمر من الله ، واشارت الى وليدها ان كلموه فتعجبوا من تصرفها وتالموا وظنوا انها تسخر منهم ثم غضبوا وقالوا : « كيف نكلم من كان في المهد صبيا » فتكلم الطفل وتمت الحجة ، وظهر الحق وزهق الباطل وثبتت براءة الام وقال : « اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا » وقال لهم ايضا : « وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا » طلب منهم الشفقة والرحمة لوالدته وعدم اتهامها بشيء فهي بريئة مما تتصورون ، وانا كذلك لم اكون جبارا ولا شقي ولا مستكبرا ولا طاغوتيا ، بل انا رسول لكم من قبل الله تعالى وقلبي رقيق وانا صغير في نفسي ، « واوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا » (7).
وطلب عيسى عليه السلام من الله تعالى ورجاه ان يجعل له في هذه الايام الثلاثة من حياته وهي : يوم ولادته ، ويوم موته ، واليوم الذي يبعث فيه ، ايام سعادة وسلامة وان يمن عليه بالشعور والامن والطمانينة حتى يتمكن ان يؤدي رسالته على احسن ما يرام ... فكان كذلك اعطاه الله تبارك وتعالى من العلم والقدرة والمعجزة بحيث كان يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى ويشفي المرضى باذن الله تعالى ، وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وبعثه الله تعالى الى بني اسرائيل.
________________________________________
1 ـ آل عمران : 45.
2 ـ مريم : 18 ـ 21.
3 ـ التحريم : 12.
4 ـ بحار الانوار ج 14 ص 207 ، وعلل الشرائع ص 79.
5 ـ مريم : 24.
6 ـ مريم : 28.
7 ـ مريم : 33.