... ولكن الله سبحانه يختبر عباده بانواع الشدائد ، ويتعبدهم بالوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، واسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك ابوابا فتحا الى فضله ، واسبابا ذللا لعفوه.
فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكِبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، ... اما ابليس فتعصب على آدم عليه السلام لاصله ، وطعن عليه في خلقته فقال : انا ناريّ وانت طينيّ.
واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ، « وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين » (1).
فاذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الامور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ....
واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من العقوبات بسوء الافعال ، وذميم الاعمال ، فتذكروا في الخير والشر احوالهم ، واحذروا ان تكونوا امثالهم ، فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل امر لزمت العزة به شأنهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، « اي تباعدت الاعداء وزالت ».
وتدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، الم يكونوا اثقل الخلائق اعباء ؟ واجهد العباد بلاء ، واضيق اهل الدنيا حالا ؟ اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا الى دفاع.
حتى اذا رأى الله جد الصبر منهم على الاذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا ، فابدلهم العز مكان الذل ، والامن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وائمة اعلاما ، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال اليه بهم.
فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء متفقة ، والقلوب معتدلة ، والايدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم وحدة ، الم يكونوا اربابا من اقطار الارضين ؟ وملوكا على رقاب العالمين ؟
فانظروا الى ما صاروا اليه في آخر امورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والافئدة ، وتشعبوا مختلفين , وتفرقوا متحازبين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم ....
فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل عليهم السلام ، فما اشد اعتدال الاحوال ، واقرب اشتباه الامثال ، تاملوا امرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الاكاسرة والقياصرة اربابا لهم يجتازونهم (2) عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، الى منابت الشيح (3) ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ....
فانظروا الى مواقع نعم الله عليهم حين بعث اليهم رسولا (4) فعقد بملته طاعتهم ، وجمع على دعوته الفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ؟ واسالت لهم جداول نعيمها ؟ والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فاصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عشيها فكهين ... (5)
________________________________________
1 ـ سبا : 35.
2 ـ اي يبعدونهم عن دجلة والفرات.
3 ـ اي ارض العرب.
4 ـ المراد به نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
5 ـ الخطبة مختصرة من نهج البلاغة : 1/372 ـ 395.