يشير القرآن في هذا القسم من الآيات الى جانب آخر من حياة سليمان المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وبلقيس ملكة سبأ ، فيقول تعالى في كتابه المجيد :
« وتفقد الطير فقال ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين » (1).
كان سليمان عليه السلام دائما يتحرى اوضاع مملكته لئلا يخفى عليه شيء ، حتى لو كان طائرا واحدا.
وكان سليمان عليه السلام عندما يتحرك او يجلس للاستراحة ، تظلل الطير بانواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة وبينما هو كذلك في احد الايام ، اذ رفع رأسه ونظر الى الطيور فلم يرى الهدهد وعرف غيابه وقال : « ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين » (2). اشارة الى انه هل الهدهد لم يحضر لعذر مقبول ام دون عذر موجه ؟.
فبعد فترة عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان ، وعندما توجه نحوه احس بآثار الغضب في وجه سليمان ، ومن اجل ان يزيل ذلك الغضب ، اخبره بخبر مهم ، بحيث كان سليمان نفسه غير مطلع عليه برغم ما عنده من علم.
ولما سكن الغضب عن وجه سليمان ، اخبره الهدهد بالخبر وقال : ان غيابي لم يكن اعتباطا وعبطا ، بل جئتك بخبر يقين.
« ومما ينبغي الالتفات اليه ، ان جنود سليمان عليه السلام ـ حتى الطيور الممتثلة لاوامره ـ كانت عدالة سليمان قد اعطتهم الحرية والامن والدعة بحيث يكلمه الهدهد وغيره من الحيوانات ، دون خوف وبصراحة لا ستار عليها ».
فان الهدهد اخذ يفصل لسليمان ما حدث ، « فقال احطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين * اني وجدت امرأة تملكهم واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم » (3).
ولما سمع سليمان كلام الهدهد طأطأ برأسه وغرق في تفكيره ، الا ان الهدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد ومزعج مريب ، اذ قال : « وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون » (4).
بعد ان اصغى سليمان الى كلام الهدهد بكل اهتمام ، وفكر مليا ، رفع رأسه ، وكتب كتابا وجيزا ذا مغزى عميق ، وسلمه الى الهدهد وقال له : « اذهب بكتابي هذا فالقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون » (5).
ذهب الهدهد مسرعا الى قصر ملكة سبأ ، ودخل مخدعها والقى الكتاب اليها.
فتحت الكتاب واطلعت على مضمونه ، وحيث ان بلقيس كانت من قبل قد سمعت باخبار سليمان واسمه ، وكان الكتاب يدل على اقدامه وعزمه الشديد في شأن بلد سبأ ، وبعد ان فكرت مليا ، دعت من حولها من المستشارين والوزراء ، واخبرتهم بالكتاب ومضمونه وانه من سليمان ومختوم بخاتمه ، وطلبت منهم ان يحكموا بهذه المسألة المهمة والدقيقة وماذا يفعلون.
فالتفت اليها اشراف قومها وقالوا لها : « نحن اولو قوة واولو بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين » (6).
فقد اظهروا لها تسليمهم واذعانهم لاوامرها ، كما ابدوا رغبتهم في الاعتماد على القوة والحرب.
ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب ، مع انها لم ترغب في ذلك ولم تَمِل اليه في الباطن ، لذلك قالت لهم « ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون » (7) فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويهجرونهم و ويُخرجونهم من ديارهم ويخربونها ، وذلك ان ملكة سبأ كانت هي بنفسها ملكة ايضا وتعرف الملوك بصورة جيدة ، حيث شأنهم الافساد والتخريب ، واذلال الاعزة.
ثم قالت للاشراف من قومها : علينا ان نختبر سليمان واصحابه ، لنعرف ماهم وما يريدون ؟ وهل سليمان نبي حقا او ملك ؟ وهل هو مصلح او مفسد ، وهل يريد العزة والكرامة للناس او الاذلال والحقارة ، فينبغي ان نرسل اليه هدايا غالية ، فاذا قبلها منا فانه ملك ، وينبغي ان نواجهه بالقوة ، واذا الح على كلامه ولم يقبل هديتنا ، فهو نبي ويجب ان نتعامل معه بحكمة وتعقل.
توجه رُسُل ملكة سبأ بقافلة الهدايا ، وتركوا اليمن ورائهم قاصدين مقر سليمان ، ظنا منهم ان سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا من المجوهرات والاموال والجواري والغلمان ... ويرحب بهم.
لكن لما وصلوا سليمان وواجهوه وجها لوجه ، حتى وقفوا مدهوشين امامه لعدم استقباله لهم بالشكل المطلوب فحسب بل قال : « اتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل انتم بهديتكم تفرحون » (8) فما قيمة المال ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى ، بل انتم الذين تفرحون بالهدايا والزخارف الدنيوية الزائلة.
وبعد ذلك التفت الى رسول الملكة الذي جاء بالهدايا وقال له : « ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون » (9) وهذا التهديد كان تهديدا جديا واخذه الرسول بعين الاعتبار.
واخيرا عاد رسل ملكة سبأ مع هداياهم الى ارضهم واخبروا الملكة بما شاهدوه وسمعوه ، كما بينوا عظمة ملك سليمان وجهاز حكومته ، ولم يكن كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله ونبيا من انبياء الله العظام.
كما اتضح لهم جميعا انهم غير قادرين على مواجهته عسكريا ، لذلك قررت الملكة ان تأتي بنفسها مع اشراف قومها الى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليعرفوا اي مبدأ يحمله سليمان ؟
فلما وصل الخبر وعلم سليمان بمجيء الملكة ، اراد ان يُظهر قدرته واعجازه لها من اجل ان يدعوهم الى الاسلام وعبادة الله فالتفت الى من حوله و « قال يا ايها الملأ ايكم يأتيني بعرشها قبل ان يأتوني مسلمين » (10).
وهنا اظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمان عليه السلام ، وكان الاول عجيبا والثاني اعجب اذ « قال عفريت من الجن انا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين * قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك » (11).
فلا عجب من ذلك ، فان حياة الانبياء والائمة الاطهار عليهم السلام مملوءة بالعجائب والمعاجز الربانية.
واما الشخص الآخر الذي عنده علم من الكتاب هو « آصف بن برخيا » وزير سليمان وابن اخته ، الذي كان عارفا بالاسم الاعظم ، الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الانسان قدرة خارقة للعادة :
فلما نطق آصف بالاسم الاعظم انشقت الارض وظهر عرش بلقيس امام سليمان ومن كان معه جالسا ، فأمر سليمان ان يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل بعض علاماته ، من اجل ان يختبر عقل ملكة سبأ وذكائها ، هل تعرفه ام لا ؟
فلما جاءت الملكة قيل لها : « اهكذا عرشك قالت كأنه هو ... » (12). اجابت جوابا دقيقا ، لا انكار فيه ولا تصديق ـ كأنه هو ـ
وبعد ذلك التفتت الى سليمان وقالت له : اذا كان مرادك من هذا الاعجاز ـ او من هذه المعجزة ـ ان نؤمن بك ونصدقك ، فانا كنا مؤمنين حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة !
وهكذا فان سليمان منعها من عبادة الاصنام وعبادة غير الله تعالى ، فأسلمت ، وخطت خطوة جديدة من الحياة المملوءة بنور الايمان واليقين.
قامت الملكة لتدخل القصر الذي هيئه لها سليمان وكان قد امر ان تصنع في احدى ساحات القصر من قوارير ، وان يجري الماء من تحتها.
فلما وصلت الملكة الى ذلك المكان ، وارادت ان تدخل حَسِبته ماء ، فرفعت ثيابها وكشفت عن ساقيها ، ولكن سرعان ما قال لها سليمان : « انه صرح ممرد من قوارير » وحيثما رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع وانتبهت الى نفسها « قالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العاليمن » (13).
وقالت : لقد كنت فيما مضى اسجد للشمس واعبد الاصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجمل ، وكنت اتصور اني اعلى الناس في الدنيا.
اما الآن فانني افهم انني ضعيفة جدا ، وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الانسان ولا تبل غليل روحه !
رباه ... اتيتك مع قائدي سليمان ، نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي اليك.
« صحيح ان ملكة سبأ كانت قد اعلنت ايمانها قبل هذا ، ولكن هنا كررت ايمانها واكدت اسلامها مرة اخرى مما رأت ».
لم يشر القرآن الكريم الى اكثر من هذا ، ولم يذكر بعد هذا عن مصير ملكة سبأ ، هل رجعت الى وطنها ، او بقيت عند سليمان وتزوجت منه ؟ او تزوجت من غيره ؟
هذه الامور لم يشير اليها القرآن ، ولكن المؤرخين والمفسرين اختلفوا في ذلك ، كل منهم اختار رأيا.
وطبقا لما قاله اغلب المفسرين ، انها تزوجت من سليمان نفسه ... والله العالم.
________________________________________
1 ـ النمل : 20 ـ 44.
2 ـ النمل : 20.
3 ـ 4 ـ النمل : 22 ـ 28.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ النمل : 33 ـ 34.
7- النمل : 34 .
8 ـ 9 ـ النمل : 36 ـ 37.
10 ـ النمل : 38.
11 ـ النمل : 39 ـ 40.
12 ـ النمل : 42.
13 ـ النمل : 44.