عن ابي وائل ، عن وهب قال : وجدت في بعض كتب الله عزوجل ان ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه ، فبينما هو يسير ومعه جنوده ، اذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته.
فقال له ذو القرنين : كيف لم يروّعك ما حضرك من جنودي ؟
قال : كنت اناجي من هو اكثر جنودا منك ، واعز سلطانا ، واشد قوة ، ولو صرفت وجهي اليك لم ادرك حاجتي قبله.
قال له ذو القرنين : هل لك ان تنطلق معي فاواسيك بنفسي ، واستعين بك على بعض امري ؟
قال : نعم ان ضمنت لي اربع خصال : نعيما لا يزول ، وصحة لا سقم فيها ، وشبابا لا هرم فيه ، وحياة لا موت فيها.
فقال له ذو القرنين : واي مخلوق يقدر على هذه الخصال ؟
فقال الشيخ : فاني مع من يقدر عليها ويملكها واياك.
ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين : اخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عزوجل قائمين ، وعن شيئين جاريين ، وشيئين متباغضين.
فقال له ذو القرنين : اما الشيئان القائمان فالسماوات والارض ، واما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر ، واما الشيئان المختلفان فالليل والنهار ، واما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة.
فقال : انطلق فانك عالم.
فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى ، فوقف عليه بجنوده فقال له : اخبرني ايها الشيخ لاي شيء تقلب هذه الجماجم ؟
قال : لاعرف الشريف من الوضيع ، والغني من الفقير ، فما عرفت ، واني لاقلبها منذ عشرين سنة ، فانطلق ذو القرنين وتركه وقال : ما عنيت بهذا احدا غيري.
فبينما هو يسير اذ وقع الى الامة العادلة والعالمة من قوم موسى عليه السلام الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
فلما رآهم قال لهم : ايها القوم اخبروني بخبركم ، فاني قد درت الارض شرقها وغربها وبرها وبحرها ، وسهلها وجبلها ، ونورها وظلمتها فلم الف مثلكم.
فاخبروني ما بال قبور موتاكم على ابواب بيوتكم ؟
قالوا : فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا.
قال : فما بال بيوتكم ليس عليها ابواب ؟
قالوا : ليس فينا لص ولا ظنين وليس فينا الا امين.
قال : فما بالكم ليس عليكم امراء ؟
قالوا : لا نتظالم.
قال : فما بالكم ليس بينكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم.
قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نتكاثر.
قال : فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون ؟ قالوا : من قبل انا متواسون متراحمون.
قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل الفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا.
قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتلون ؟ قالوا : من قبل انا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا انفسنا بالحلم.
قال : فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟
قالوا : من قبل انا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.
قال : فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولافقير ؟
قالوا : من قبل انا نقسم بالسوية.
قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع.
قال : فلمَ جعلكم الله عزوجل اطول الناس اعمارا ؟
قالوا : من قبل أنّا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل.
قال : فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا : من قبل أنّا لا نغفل عن الاستغفار.
قال : فما بالكم لا يصيبكم الآفات ؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتوكل على غير الله عزوجل ، ولا نستمطر بالانواع والنجوم.
قال : فحدثوني ايها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟
قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ، ويواسون فقيرهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون الى من اساء اليهم ، ويستغفرون لمسيئهم ، ويصلون ارحامهم ، ويؤدون امانتهم ، ويصدقون ولا يكذبون ، فاصلح الله لهم بذلك امرهم ، فاقام عندهم ذو القرنين حتى قبض ، وكان له خمسمائة عام. (1)
ومن الحكم التي تعلمها ذو القرنين من الله تعالى بواسطة الملائكة واوصانا بها قوله : « لا يهمّنّك رزق غد ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد ، ولا تحزن على ما فاتك ، وعليك بالرفق ، ولا تكن جبارا متكبرا ». (2)
روي انما لما التقى ذو القرنين مع النبي ابراهيم الخليل عليه السلام ، قال ابراهيم عليه السلام لذي القرنين : بمَ قطعت الدهر ؟ قال : باحدى عشر كلمة : « سبحان من هو باق لا يفنى * سبحان من هو عالم لا ينسى * سبحان من هو حافظ لا يسقط * سبحان من هو بصير لا يرتاب * سبحان من هو قيوم لا ينام * سبحان من هو ملك لا يرام (3) * سبحان من هو عزيز لا يضام (4) * سبحان من هو محتجب لا يرى * سبحان من هو واسع لا يتكلف * سبحان من هو قائم لا يلهو * سبحان من هو دائم لا يسهو ».
مثال ضربه الخضر عليه السلام الى ذي القرنين عندما ملك ما بين المشرق والمغرب واراد ان يصل الى عين الحياة ، في قصة مفصلة ذكرها صاحب البحار (5) ، لا يعلم مدى صحتها الا الله ، نذكر الموعظة التي فيها.
قال الخضر لذي القرنين : ان مثلَ ابن آدم مِثل هذا الحجر العجيب الذي اذا وضِعً في كفة الميزان ووضع مقابله الف حجر فمال بها ، ثم اذا وضع عليه التراب شَبِعَ وعاد حجرا مثله « فتساوى ».
فقال : كذلك مثلك « يا ذا القرنين » اعطاك الله من الملك ما اعطاك فلم ترضى به حتى طلبت امرا لم يطلبه ابدا من كان قبلك ، ودخلت مدخلا لم يدخله انس ولا جان.
يقول : كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.
قال : فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال : صدقت يا خضر يضرب لي هذا المثل ، لا جرم اني لاطلب اثرا في البلاد بعد مسلكي هذا.
ثم انصرف راجعا في الظلمة ، فبينما هم يسيرون اذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم ، فقالوا : ايها الملك ما هذا ؟ فقال : خذوا منه ، فمن اخذ منه ندم ، ومن تركه ندم ، فأخذ بعض وترك بعض ، فلما خرجوا من الظلمة اذا هم بالزبرجد فندم الآخذ والتارك « ندم الآخذ لانه لم يأخذ اكثر ، وندم التارك لانه لم يأخذ ».
ورجع ذو القرنين الى دومة الجندل وكان بها منزله ، فلم يزل بها حتى قبضه الله اليه.
وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عزوجل الى يوم قبض خمسمائة عام. (6)
________________________________________
1 ـ البحار : ج 12 ص 177.
2 ـ نفس المصدر : ص 188.
3 ـ لا يرام : اي لا يقصده احد بسوء.
4 ـ لا يضام : اي لا يُقهر ولا يَظلم.
5 ـ البحار : ج 12 ص 199.
6 ـ البحار : ج 12 ص 193.