ما حدثني به العالم العامل، والعارف الكامل غواص غمرات الخوف والرجاء وسياح فيافي الزهد والتقى، صاحبنا المفيد، وصديقنا السديد، الآغا عليّ رضا ابن العالم الجليل الحاج المولى محمّد النائيني رحمهما الله، عن العالم البدل الورع التقي صاحب الكرامات، والمقامات العاليات، المولى زين العابدين بن العالم الجليل المولى محمّد السلماسي رحمه الله تلميذ آية الله السيد السند، والعالم المسدد فخر الشيعة وزينة الشريعة العلامة الطباطبائي السيد محمّد مهدي المدعو ببحر العلوم أعلى الله درجته، وكان المولى المزبور من خاصته في السر والعلانية.
قال: كنت حاضرا في مجلس السيد في المشهد الغروي إذ دخل عليه لزيارته المحقق القمي صاحب القوانين في السنة التي رجع من العجم إلى العراق زائرا لقبور الأئمة عليهم السلام وحاجا لبيت الله الحرام، فتفرق من كان في المجلس وحضر للاستفادة منه، وكانوا أزيد من مائة وبقيت ثلاثة من أصحابه أرباب الورع والسداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد. فتوجه المحقق الأيد إلى جناب السيد وقال: إنكم فزتم وحزتم مرتبة الولادة الروحانية والجسمانية، وقرب المكان الظاهري والباطني، فتصدقوا علينا بذكر مائدة من موائد تلك الخوان، وثمرة من الثمار التي جنيتم من هذه الجنان، كي ينشرح به الصدور، ويطمئن به القلوب.
فأجاب السيد من غير تأمل، وقال: إني كنت في الليلة الماضية قبل ليلتين أو أقل _ والترديد من الراوي _ في المسجد الأعظم بالكوفة، لأداء نافلة الليل عازما على الرجوع إلى النجف في أول الصبح، لئلا يتعطل أمر البحث والمذاكرة وهكذا كان دأبه في سنين عديدة.
فلما خرجت من المسجد القي في روعي الشوق إلى مسجد السهلة، فصرفت خيالي عنه، خوفا من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح، فيفوت البحث في اليوم ولكن كان الشوق يزيد في كل آن، ويميل القلب إلى ذلك المكان، فبينا اُقدم رجلا واُؤخر اُخرى، إذا بريح فيها غبار كثير، فهاجت بي وأمالتني عن الطريق فكأنها التوفيق الذي هو خير رفيق، إلى أن ألقتني إلى باب المسجد.
فدخلت فإذا به خاليا عن العباد والزوار، إلا شخصا جليلا مشغولا بالمناجاة مع الجبار، بكلمات ترق القلوب القاسية، وتسح الدموع من العيون الجامدة، فطار بالي، وتغيرت حالي، ورجفت ركبتي، وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها اذني، ولم ترها عيني، مما وصلت إليه من الأدعية المأثورة، وعرفت أن الناجي ينشئها في الحال، لا أنه ينشد ما أودعه في البال.
فوقفت في مكاني مستمعا متلذذا إلى أن فرغ من مناجاته، فالتفت إلي وصاح بلسان العجم: (مهدي بيا) أي: هلم يا مهدي، فتقدمت إليه بخطوات فوقفت، فأمرني بالتقدم فمشيت قليلا ثمّ وقفت، فأمرني بالتقدم وقال: إن الأدب في الامتثال، فتقدمت إليه بحيث تصل يدي إليه، ويده الشريفة إلي وتكلم بكلمة.
قال المولى السلماسي رحمه الله: ولما بلغ كلام السيد السند إلى هنا أضرب عنه صفحا، وطوى عنه كشحا، وشرح في الجواب عما سأله المحقق المذكور قبل ذلك عن سر قلة تصانيفه، مع طول باعه في العلوم، فذكر له وجوها فعاد المحقق القمي فسأل عن هذا الكلام الخفي فأشار بيده شبه المنكر بأن هذا سر لا يذكر.