﴿اعْلَمُوا أنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الأمْوالِ وَالأولادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور﴾.(1).
تفسير الآية:
"الكفّار": جمع الكافر بمعنى الساتر، والمراد الزارع، ويطلق على الكافر بالله لستره الحق، والمراد في المقام الزارع، لأنّه يستر حبّه تحت التراب ويغطّيها به، يقول سبحانه : ﴿كَزَرْعٍ ... يُعْجِبُ الزُّرّاعَ﴾.(2)
"هيج": يقال: هاج البقل يهيج، أي أصفرّ، والمراد في قوله: ﴿ثُمّ يهِيج﴾ أي ييبس ﴿فتراه مصفرّاً﴾ أي إذا قارب اليبس .
و"الحطام" بمعنى كسر الشيء، قال سبحانه: ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ﴾.(3)
فالآية تتضمن أمرين:
الأمر الأوّل: ترسيم الحياة الدنيا والمراحل المختلفة التي تمر على الإنسان:
أ: اللعب، ب: اللهو، ج: الزينة، د: التفاخر، هـ: التكاثر في الأموال والأولاد.
والأمر الثاني: تشبيه الدنيا بداية ونهاية بالنبات الذي يعجب الزارع طراوته ونضارته، ثمّ سرعان ما يتحول إلى عشب يابس تذروه الرياح.
ثمّ استنتج من هذا التمثيل: انّ الحياة الدنيا متاع الغرور، أي وسيلة للغرور و المتعة، يغتر بها المخلدون إلى الأرض يتصورونها غاية قصوى للحياة، ولكنّها في نظر الموَمنين قنطرة للحياة الأخرى لا يغترّون بها، بل يتزودّون منها إلى حياتهم الأخروية.
هذا هو ترسيم إجمالي لمفهوم الآية، والتمثيل إنّما هو في الشق الثاني منها، فلنرجع إلى تفسير كلّ من الأمرين.
إنّ حياة الإنسان من لدن ولادته إلى نهاية حياته تتشكل من مراحل خمس:
المرحلة الأولى: اللعب
واللعب هو محل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، وهي تقارن حياة الإنسان منذ نعومة أظفاره وطفولته، ويتخذ ألواناً مختلفة حسب تقدم عمره، وهو أمر محسوس عند الأطفال.
المرحلة الثانية: اللهو
واللهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمه، وهذه المرحلة تبتديَ حينما يبلغ ويشتد عظمه، فتجد في نفسه ميلاً و نزوعاً إلى الملاهي وغيرها.
المرحلة الثالثة: حب الزينة.
والزينة نظير ارتداء الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية، وجنوحه إلى كل جمال وحسن.
المرحلة الرابعة: التفاخر.
إذا تهيّأ للإنسان أسباب الزينة يأخذ حينها بالمفاخرة بالأحساب والأنساب، وما تحت يديه من الزينة.
المرحلة الخامسة: التكاثر في الأموال و الأولاد.
وهذه المرحلة هي المرحلة الخامسة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة من العمر يفكر في تكثير الأموال والأولاد، ويشيب على ذلك الإحساس.
ثمّ إنّ تقسيم المراحل التي تمر على الإنسان إلى خمس، لا يعني انّ كلّ هذه المراحل تمر على الإنسان بلا استثناء، بل يعني انّها تمر عليه على وجه الإجمال، غير انّ بعض الناس تتوقف شخصيتهم عند المرحلتين الأوليين إلى آخر عمره، فيكون اللعب واللهو أهم مائز في سلوكهم، كما أنّ بعضهم تمر عليه المرحلة الثالثة والرابعة فيحرص على ارتداء الملابس الفاخرة والتفاخر بما لديه من أسباب.
روي عن الشيخ البهائى انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته، فيتولّع أوّلاً باللعب وهو طفل أو مراهق، ثمّ إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللهو و الملاهي، ثمّ إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن والجمال، ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب، ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.(4)
هذا ما يرجع إلى بيان حال الدنيا من حيث المراحل التي تمر بها.
الأمر الثاني:أي التمثيل الذي يجسد حال الدنيا ويشبهها بأرض خصبة يصيبها مطر غزير، فتزدهر نباتها على وجه يعجب الزرّاع، ولكن سرعان ما تذهب طراوتها وتفارقها فيصيبها الإصفرار واليبس وتذروها الرياح في كلّ الأطراف وتصبح كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً، و عند ذلك تتجلّى الحقيقة أمام الإنسان وانّه اغتر بطراوة هذه الروضة .
وهكذا حال الدنيا فيغتر الإنسان بها ويخلد إليها، ولكن سرعان ما تسفر له عن وجهها وتكشف عن لثامها، وعلى أية حال فالآية تهدف إلى تحقير الدنيا وتعظيم الآخرة.
1- الحديد:20.
2- الفتح:29.
3- النمل:18.
4- الميزان:19|164.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني