أ. جواز النسخ عقلاً:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم جواز النسخ عقلاً وقد خالف في هذا الرأي بعض اليهود والنصارى. وذلك في محاولة للطعن في الاسلام والتمسك ببقاء الديانتين اليهودية والمسيحية واستمرارهما. وقد استندوا في هذا الموقف الى بعض الشبهات التي حاولوا صياغتها بأساليب مختلفة كما قام بعضهم بمحاولة تعضيد ذلك ببعض النصوص الواردة المتداولة اليوم. وسوف نعرض الصياغة الرئيسية للشبهة في هذا الموضوع مع الاجابة عليها بالشكل الذي يتضح به الموقف تجاه الصياغات الاخرى لها.
وخلاصة هذه الشبهة ان النسخ يستلزم أحد أمرين باطلين. البداء أو العبث لان النسخ اما أن يكون بسبب حكمة ظهرت للناسخ بعد أن كانت خفية لديه أو أن يكون لغير مصلحة وحكمة. وكلا هذين الامرين باطل بالنسبة الى اللّه سبحانه ذلك ان تشريع الحكم من الحكيم المطلق وهو اللّه سبحانه لا بد وأن يكون بسبب مصلحة يستهدفها ذلك الحكم فتقتضي تشريعه حيث ان تشريع الحكم بشكل جزافي يتنافى وحكمة الشارع وحينئذ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه بسبب المصلحة اما أن يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة. وعلم ناسخه بها. وهذا ينافي حكمه الجاعل وهو العبث نفسه. واما أن يكون من جهة البداء وجهله بواقع المصلحة والحكمة وانكشاف الخلاف لديه على ما هو الغالب في الاحكام والقوانين الوضعية. وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النسخ في الشريعة محالاً لانه يستلزم المحال. أما البداء أو العبث وهما محال على اللّه لانهما نقص لا يتصف بهما. ومن أجل أن يتضح الجواب عن هذه الشبهة نقسم الحكم المجعول من قبل الشارع الى قسمين رئيسيين:
الاول: الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه بعث وزجر حقيقيّان كالاوامر والنواهي التي تجعل ويقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة. وهذا ما نسميه بالحكم الامتحاني.
الثاني: الحكم المجعول الذي يكون بداع حقيقي من البعث والزجر حيث يقصد منه تحقيق متعلقة بحسب الخارج. وهذا ما نسميه بالحكم الحقيقي.
ونجد من السهل الالتزام بالنسخ في القسم الاول من الحكم اذ لا مانع من رفع هذا الحكم بعد اثباته بعد ان كانت الحكمة في نفس اثباته ورفعه لان دوره ينتهي بالامتحان نفسه فيرتفع حين ينتهي الامتحان ولحصول فائدته وغرضه. والنسخ في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه العبث ولا ينشأ منه البداء الذي يستحيل في حقه تعالى.
وأما القسم الثاني من المحكم فاننا يمكن أن نلتزم بالنسخ فيه دون ان يستلزم ذلك شيئًا من البداء أو العبث حيث يمكن ان نضيف فرضًا ثالثًا الى الفرضين اللذين ذكرتهما الشبهة.
وهذا الفرض هو ان يكون النسخ لحكمة كانت معلومة للّه سبحانه من أول الامر ولم تكن خافية عليه وان كانت مجهولة عند الناس غير معلومة لديهم فلا يكون هناك بداء لانه ليس في النسخ من جديد على اللّه لعلمه سبحانه بالحكمة مسبقًا كما انه لا يكون عينًا لوجود الحكمة في متعلق الحكم الناسخ وزوالها في متعلق الحكم المنسوخ وليس هناك ما يشكل عقبة في طريق تعقل النسخ هذا... الا الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده. والا الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعين عن الناس جهلاً من اللّه بذلك الزمان.
وهذا الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعية التي نرى فيها شيئًا اعتياديًا ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والبداء.
فالطبيب حين يعالج مريضًا ويرى ان مرحلة من مراحل المرض التي يجتازها المريض يصلح لها دواء معين فيصف له هذا الدواء لمدة معينة ثم يستبدله بدواء آخر يصلح لمرحلة اخرى.. لا يوصف عمله بالعبث والجهل. مع انه قام بوضع أحكام معينة لهذا المريض في زمان محدود ثم رفعها عنه بعد مدة من الزمن. وحين وضع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضيه كما انه حين رفع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضي هذا الرفع وهو في كل من الحالين كان يعلم المدة التي يستمر بها الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه. ونظير هذا يمكن ان نتصوره في النسخ فان اللّه سبحانه حين وضع الحكم المنسوخ وضعه من أجل مصلحة تقتضيه وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف ينتهي فيه الحكم وتتحقق المصلحة التي من أجلها شرع. كما انه حين يستبدل الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ استبدله من أجل مصلحة معينة تقتضيه فكل من وضع الحكم ورفعه كان من أجل حكمة هي معلومة عند جعل الحكم المنسوخ.
فليس هناك جهل وبداء كما انه ليس هناك عبث لتوفر عنصر العلم والحكمة في الجعل والرفع نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ حيث كان يبدو استمرار الحكم نتيجة للاطلاق في البيان الذي وضع الحكم فيه ولكن النسخ انما يكون كشفًا عن هذا الواقع الذي كان معلومًا للّه سبحانه من أول الامر.
ب. وقوعه خارجًا:
والى جانب ما ذكرناه من تصوير النسخ بالشكل الذي لا يستلزم البداء أو العبث منه سبحانه وتعالى يمكن ان نضيف شيئًا آخر في احباط شبهة القائلين باستحالة النسخ من اليهود والنصارى وغيرهم وذلك بملاحظة الموارد التي تحقق فيها النسخ سواء في الشريعة الموسوية أو الشريعة المسيحية أو الشريعة الاسلامية. حيث جاءت نصوص في التوراة والانجيل وفي الشريعة الاسلامية تتضمن النسخ ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع السابقة.
أ. تحريم اليهود العمل الدنيوي في يوم السبت مع الاعتراف بان هذا الحكم لم يكن ثابتًا في الشرائع السابقة وانما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيام الاسبوع(1).
ب. أمر اللّه سبحانه بني اسرائيل قتل انفسهم بعد عبادتهم للعجل ثم رفعه لهذا الحكم عنهم بعد ذلك(2).
ج. الامر ببدء الخدمة في خيمة الاجتماع في سن الثلاثين ثم رفع هذا الحكم وابداله بسن خمسة وعشرين سنة ثم رفعه بعد ذلك وابداله بسنِّ العشرين(3).
د. النهي عن الحلف باللّه في الشريعة المسيحية مع ثبوته في الشريعة الموسوية والالزام بما التزم به في النذر أو اليمين(4).
5هـ. الامر بالقصاص في الشريعة الموسوية. ثم نسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية ونهى عن القصاص.
و. تحليل الطلاق في الشريعة الموسوية. ونسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية.
المصدر:
كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم.
1- انظر سفر الخروج 16/ 25 - 26و20/ 8 - 12 و23/12 و31/ 16 - 7 و35/ 1 - 3 وسفر اللاويين 23/ 1 - 3 وسفر التثنية 5/ 12-15.
2- سفر الخروج 32/ 21 - 29.
3- سفر العدد 4/ 2 - 3 و8/ 23 - 24 وسفر أخبار الايام الاول 23/ 24 و32.
4- سفر العدد 30/2. انجيل متى 5/ 33 - 34.