﴿إنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أتاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون * واللهُ يَدعُو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.(1)
تفسير الآيات:
قوله: ﴿فاخَتلَطَ بهِ نَبات الأرض﴾ فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.
قوله: ﴿ازّيّنت﴾ أصله تزينت، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.
فقوله: ﴿أخذت الأرْضُ زُخرفها وازَّيّنت﴾ تعبير رائع حيث جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.
قوله: ﴿قادرون عليها﴾، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.
قوله: ﴿أتاها أمرنا﴾ كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها "حصيداً" شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.
قوله: ﴿كأن لم تغن﴾ بمنزلة قوله: كأن لم ينبت زرعها.
قوله: ﴿دار السلام﴾ فهو من أوصاف الجنة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.
هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.
وأمّا تفسيرها الجملي، فنقول:
نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.
هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها، وعدم ثباتها واستقرارها.
يقول مؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم:
ترجو البقاء بدار لا ثبات لهافهل سمعت بظل غير منتقل وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية، وقال: ﴿الله يدعو إلى دار السلام﴾.
ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد، فذكر أقوالاً:
أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.
وثانيها : إنّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.
وثالثها: إنّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الأوصاف.(2)
والحقّ أنّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه.
وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام، بقوله: ﴿عند ربّهم﴾ للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.
ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف، أعني :قوله:
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَىْءٍ مُقْتَدراً﴾.(3)
وسيوافيك بيانها في محلها.
ويقرب من هذا ما في سورة الحديد، قال سبحانه:
﴿اعْلَمُوا أنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الأمْوالِ وَالأولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور﴾.(4)
1- يونس:24ـ 25.
2- مجمع البيان:3|102.
3- الكهف:45.
4- الحديد:20.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني