﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أصْلُها ثابِتٌ ؤفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإذْنِ رِبّهَا ؤيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون﴾.(1)
تفسير الآيات:
انّه سبحانه تبارك و تعالى مثل للحق و الباطل، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية:
أ: انّها طيبة: أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة، فانّ الشجر على قسمين: منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.
ب: أصلها ثابت، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.
ج: فرعها في السماء، أي لها أغصان مرتفعة، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء و تنتفع من نور الشمس والهواء والماء.
وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.
د: ﴿تعطى أُكلها كل حين﴾ أي في كلّ فصل وزمان، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهر حتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.
وبعبارة أُخرى: إن مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته الله لإثمارها.
هذا حال المشبه به، وأمّا حال المشبه، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.
فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.
والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية، قوله: ﴿يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وفِي الآخِرَةِ﴾(2)، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما، قال السيد الطباطبائي: "القول بالوحدانية والاستقامة عليه، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق عمارته، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح."(3)
ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: ﴿ويَضْرِبُ اللهُ الأمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون﴾، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.
وبذلك يعلم إن ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه: ﴿إنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون﴾( 4) تلا يراد منه التحقّق بقوله ﴿ربّنا الله﴾ لا التلفظ بها، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة، بقوله: ﴿إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ والْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾(5)
فالكلم الطيّب هو العقيدة، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.
وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحة لها جذور في القلوب، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.
إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.
وربما يقال: الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيبة، وحياتهم أصل البركة، ودعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.
ولكن سياق الآيات لا يؤيده، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت، أعني قوله: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾.
والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.
1- إبراهيم:24ـ 25.
2- إبراهيم:27.
3- الميزان:12|52.
4- الأحقاف:13.
5-فاطر:10.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني