قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً﴾ أي إلهاماً وقذفاً في روعه، وهو إلقاء في الباطن، يحسّ به الموحى إليه كأنّما كتب في ضميره صفحة لامعة، أو رؤياً في منام (أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ) أي يكلّمه تكليما يسمع صوته ولا يرى شخصه، كما كلّم موسى (عليه السلام) بخلق الصوت في الهواء يخرق مسامعه، ويأتيه من كلّ مكان، وكما كلّم نبينا (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج.
والتكليم من وراء حجاب كناية أو تشبيه بمن يتكلّم محتجباً، أو المراد بالحجاب الحجاب المعنوي، لبعد الفاصلة بين كمال الواجب ونقص الممكن.
﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً﴾: ملكاً من الملائكة ﴿فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ إمّا إلقاء على السمع أو نقراً في القلب (عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
(وَكَذَلِكَ) أي على هذه الأنحاء الثلاثة: إلهاماً وتكليما وإرسال ملك(1) (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً): هي الشريعة أو القرآن ﴿مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(2).
هذه أحاء الوحي بوجه عامّ وبصورة إجماليّة. أمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله) فكان يأتيه الوحي تارة في المنام، وهذا أكثرياً كان في بدء نبوّته. وأُخرى وحياً مباشريّاً من جانب الله، بلا توسيط ملك. وثالثة مع توسيط جبرائيل عليه السلام. غير أنّ الوحي القرآني كان يخصّ الأخيرين إمّا مباشرة أو على يد ملك. وإليك بعض التفصيل:
1. الرؤيا الصادقة
كان أوّل ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، كان (صلى الله عليه وآله) لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح وهو كناية عن تشعشع نورانيّ كان ينكشف لروحه المقدّسة، تمهيداً لإفاضة روح القدس عليه صلوات الله عليه وآله ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه(3)، الليالي أولات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع الى خديجة فتزوّده لمثلها(4)، حتى فجأة الحقّ، وهو في غار حراء: جاءه الملك فقال: ﴿أقرأ...﴾(5).
قال علي بن إبراهيم القميّ: (إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه، فيقول: يا رسول الله. ومضت عليه برهة من الزمن وهو على ذلك يكتمه، وإذا هو في بعض الأيّام يرعى غنما لأبي طالب في شعب الجبال إذ رأى شخصاً يقول له: يا رسول الله، فقال له: من أنت؟ قال: أنا جبرائيل أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولاً...) .(6).
قال الإمام الباقر(عليه السلام): (وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه، نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ونحو ما كان رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أسباب النبوّة قبل الوحي، حتى أتاه جبرائيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة..) (7).
قوله: (قبل الوحي) أي قبل الوحي الرسالي المأمور بتبليغه. لأنّ هذا البيان تفسير لمفهوم (النبيّ) قبل أن يكون رسولاً. وهو إنسان أُوحي إليه من غير أن يكون مأموراً بتبليغه. فهو يتصل بالملأ الأعلى اتصالا روحيّاً، وينكشف له الملكوت كما حصل لنبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) قبيل بعثته المباركة.
قال صدر الدين الشيرازي: (يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) اتصفت ذاته المقدّسة بصفة النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله، باطنا وسرّاً، قبل أن يتصف بصفة الرسالة أو ينزل عليه جبرائيل معايناً محسوساً بالكلام المنزل المسموع. وإنّما جاءه جبرائيل معاينا حين جمع له أسباب النبوّة ما جمع للأنبياء الكاملين، كإبراهيم، من الرؤيا الصادقة والإعلامات المتتالية بحقائق العلوم والإيحاءات بالمغيبات. والحاصل: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) استكمل باطنه وسرّه قبل أن يتعدّى صفة الباطن منه إلى الظاهر، فاتصف القالب بصفة القلب محاكياً له، والأوّل نهاية السفر من الخلق إلى الحقّ، والثاني نهاية السفر من الحقّ بالحقّ إلى الخلق) (8).
نعم ربّما كانت الرؤيا الصادقة سبيل الوحي إليه (صلى الله عليه وآله) فيلقى إليه العلم أحياناً في المنام، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (رؤيا الأنبياء وحي) (9).ولكن لم يكن شيء من ذلك قرآنا، إذ لم يعهد نزول قرآن عليه في المنام. نعم وإن كان بعض رواه أساباً لنزول القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ...﴾ (10) فقد رأى النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك، عام الحديبيّة(11) وصدقت عام الفتح(12).وكما في قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾ (13) فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وبان عساكر، عن سعيد بن المسيّب، قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني اُميّة على المنابر، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إّما هي دنيا أعطوها وهي قوله تعالي: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا...﴾ يعني بلاء للناس(14).
هذا... وقد ذكر بعضهم أنّ سورة الكوثر نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، لرواية أنس بن مالك، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه آله) بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّماً. فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أُنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ...﴾ الخ(15).
قال الرافعي: إنهم فهموا من ذلك أنّ السورة نزلت في تلك الإغفاءة، لكن الأشبه أنّه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة عليه قبل ذلك، فقرأها عليهم وفسّرها لهم. قال: وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي – ويقال لها: برحاء الوحي – وهي سبتة شبه النعاس كانت تعرضه من ثقل الوحي.
قال جلال الدين: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، والتأويل الأخير أصحّ من الأوّل لأنّ قوله (آنفاً) يدفع كونها نزلت قبل ذلك، بل نزلت في تلك الحالة، ولم يكن الإغفاء إغفاء نوم بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي(16) وآنف بمعنى: قبيل هذا الوقت.
أقول لا شكّ أنّ سورة الكوثر مكيّة، وهذا هو المشهور بين المفسّرين شهرة تكاد تبلغ التواتر. قالوا: نزلت بمكة عندما عابه المشركون بأنّه أبتر لا عقب له، أو أنّه مبتور من قومه منبوذ.
وهكذا لمّا مات ابنه عبد الله مشت قرّيش بعضهم إلى بعض متباشرين، فقالوا:إنّ هذا الصابي قد بتر الليلة.
قال ابن عباس: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من باب الصفا وخرج من باب المروة، فاستقبله العاص بن وائل السهمي، فرجع العاص إلى قريش، فقالت له قريش: من استقبلك يا أبا عمرو آنفاً؟ قال ذلك الأبتر - يريد به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) - فأنزل الله - جل جلاله- سورة الكوثر، تسلية لنفس نبيهّ الزكيّة(17).
هذا وأنس عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يبلغ العشرين، إذ كان عند مقدمه (صلى الله عليه وآله) المدينة طفلا لم يتجاوز التسع وقيل: ثماني سنوات(18)، فكيف نثق بحديث منه يخالف إطباق الأُمَّة على خلافه، وأنّها نزلت بمكة في قصة جازت حد التواتر؟!
الأمر الذي يرجّح الوجه الأوّل من اختيار الإمام الرافعي، أو نجعل من رواية أنس حبلها على غاربها!
نعم أخرج مسلم والبيهقي هذه الرواية من وجه آخر، ليس فيه (أُنزلت عليّ).قال أغفى النبيّ(صلى الله عليه وآله) إغفاءة ثم رفع رأسه فقرأ: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ...﴾ الخ ثمّ فسّرها بنهر في الجنة. قال البيهقي: وهذا اللفظ أولى، حيث لا يتنافى وما عليه أهل التفاسير والمغازي من نزول سورة الكوثر بمكة(19).
المصدر: كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة.
1- راجع بحار الأنوار: ج18 ص246.
2- الشورى: 51- 52.
3-التحنّث: التحنّف، وهو الميل إلى الحنيفيّة، كناية عن التعبّد الذي هو مطهرة للعبد، قال ابن هشام: تقول العرب: التحنّث.
4- والتحنّف، فيبدلون الفاء من الثاء، كما في جدث وجدف أي القبر. قال: وحدّثني أبوعبيدة أنّ العرب تقول: فمّ في موضوع ثم، راجع السيرة ج1 ص251.
5- التزوّد: استصحاب الزاد.
6- صحيح البخاري: ج1 ص3. وصحيح مسلم: ج1 ص97. وتاريخ الطبري: ج2 ص298.
7- بحار الأنوار: ج18 ص184 ح14 و194 ح30.
8- الكافي: ج1 ص176 ح3. وبحار الأنوار: ج18 ص266 ح27.
9- شرح أصول الكافي: (صدر المتألهين): كتاب الحجة ج3 ص454.
10- امالي الشيخ الطوسي: ص215 وبحار الأنوار: ج11 ص64 ح4.
11-الفتح: 27.
12- وهي سنة ست من الهجرة.
13- وهي سنة ثمان.
14- الاسراء: 60.
15- الدر المنثور: ج4 ص191. وتفسير الطبري: ج15 ص77.
16- الدر المنثور: ج6 ص401.
17- الإتقان: ج1 ص23.
18- راجع أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين: ج2 ص142. والدر المنثور: ج6 ص401
19- اسد الغابة: ج1 ص127.