الآية الاولى:
قوله تعالى ﴿ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم قدير﴾ البقرة: 109.
وقد روى جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم القول بانها آية منسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ التوبة 29.
فان الآية الاولى تأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب مع انهم يودون من صميم قلوبهم ان يردوا المؤمنين كفارًا. والآية الثانية تأمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولما كانت الآية الثانية متأخرة عن الآية الاولى كان الالتزام بنسخ آية السيف لآية سورة البقرة أمرًا لا مناص منه.
وقد ناقش السيد الخوئي القول بالنسخ هذا بمناقشتين:
الاولى: انه لا يمكن القول بنسخ الآية الاولى بالآية الثانية بعد ان كان الحكم في الآية المدعى نسخها له غاية ووقت. وهما وان كانا مذكورين فيها على سبيل الاجمال لا التعيين الا ان هذا المقدار يكفي في عدم الالتزام بالنسخ فيها حيث ان النسخ لا يكون في حكم الموقت الذي يرتفع بانتهاء وقته وانما يكون في الحكم الذي يكون ظاهره الاستمرار والتأييد بحسب اطلاق اللفظ دون ان يكون صريحًا في ذلك وعلى هذا الاساس يكون دور الآية الثانية هو بيان الوقت والغاية للحكم المذكور في الآية الاولى دون ان تكون ناسخة له.
الثانية: ان آية السيف لا تأمر بقتل أهل الكتاب بشكل مطلق حتى تصبح معارضة للآية الاولى وانما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفعهم للجزية.
وحينئذ فمجرد ان يكونوا من أهل الكتاب لا يكفي في جواز قتالهم وانما يشترط في قتالهم توفر أحد حالات ثلاث كما يستفاد ذلك من مجموع الآيات القرآنية وهي:
أ. مبادأة أهل الكتاب المسلمين بالقتال ﴿وقاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان اللّه لا يحب المعتدين﴾ البقرة: 191.
ب. محاولتهم لفتنة المسلمين عن دينهم ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ البقرة: 192.
ج. امتناعهم عن اعطاء الجزية للآية المتقدمة.
وفي غير هذه الحالات لا يجوز قتال أهل الكتاب وانما يكتفى بالصفح والعفو عنهم كما جاء في الآية الاولى المدعى نسخها فتكون الآية الثانية مقيدة لاطلاق الآية الاولى لا ناسخة لها.
الآية الثانية:
قوله تعالى: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلاً. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا واصلحا فاعرضوا عنهما ان اللّه كان توابًا رحيمًا﴾ النساء 15 - 16.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم ان الآية الاولى من هاتين الآيتين مختصة بزنى النساء والعقاب فيها هو الايذاء بالشتم والاهانة وضرب النعال كما جاء عن ابن عباس ذلك - وهما في كل من الموردين تشمل البكر والثيب منهما.
وقد نسخت كلتا الآيتين بحكم الجلد مائة مرة للبكر من النساء والرجال كما في قوله تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه﴾ النور: 2 وبحكم الرجم للمحصن من النساء والرجال كما ثبت ذلك في السنة النبوية.
وقد ناقش السيد الخوئي مبدأ النسخ في هذه الآية على أساس أن كل واحدة من هذه الآيات تبين حكمًا يختلف عن الحكم المبين في الآية الاخرى ولا مانع من الاخذ بهذه الاحكام كلها لاختلاف موضوعاتها.
ومن أجل ان تتضح هذه المناقشة لا بد من ان نستعرض بعض الامور التي لها ارتباط وثيق في تفسير الآيتين المدعى نسخهما لنعرف بعد ذلك مدى صحة دعوى النسخ فيهما.
1. ان للفظ الفاحشة في اللغة والقرآن الكريم معنى واسعًا شاملاً ينطوي تحته كل ما تزايد قبحه وتفاحش دون ان يكون مختصًا بعملية الزنى وحدها. فقد تكون لواطًا أو سحاقًا أو زنى. ولا ظهور ولا انصراف للفظ الفاحشة في خصوص الزنى.
2. ان المقصود بالسبيل في الآية الكريمة هو المخرج والمخلص الذي يكون في حقيقته وواقعه أقل كلفة وضررًا على المرأة من الحبس في الدار لان الآية تجعل السبيل للمرأة لا عليها. وحينئذ فلا يمكن تفسير السبيل بالعقوبة التي وضعها الاسلام الحنيف بالنسبة الى الزانية والزاني البكر منهما والثيب لان هذه العقوبة ليست سبيلاً للمرأة تخلص به من شدة الحبس وعقابه وانما هو أشد وأقسى من الحبس نفسه.
3. ان لفظ الايذاء في الآية الكريمة ليس له ظهور في الشتم والسب والاهانة وضرب النعال.. وانما هو معنى شامل لهذه الامور ولغيرها من الوان الايذاء الاخرى كالجلد والرجم وغيرهما.
وبعد ملاحظة هذه النقاط الثلاثة يمكن ان نذهب في خصوص الآية الاولى الى ان المقصود بالفاحشة: (المساحقة) وحكمها الثابت بالآية هو الحبس حتى الموت أو السبيل الذي يهيئه اللّه سبحانه لها بان تتوفر الظروف التي تجعل المرأة في مأمن من ارتكاب المنكر كأن تتزوج أو تبلغ العمر الذي تموت فيه طاقتها الجنسية أو تخمد او تتوب وتصلح.
وبهذا اللون من التفسير يمكننا ان نلتزم بعدم النسخ في هذه الآية لبقاء حكمها في الوقت الذي يلتزم به بالجلد والرجم بالنسبة الى الزاني. وبالاضافة الى ذلك يمكننا ان نذهب الى ان الحكم بالحبس ليس عقابًا وحدًّا لارتكاب الفاحشة وانما هو عمل وقائي رادع عن العودة لارتكاب المنكر مرة اخرى ويجب في كل الحالات التي يستشعر فيها الخطر من الوقوع في المنكر حتى قبل وقوعه وحينئذ فلا ضرورة للالتزام بالنسخ حتى مع الالزام بان المقصود من الفاحشة في الآية الكريمة خصوص زنى النساء لان الالتزام بالجلد والرجم يمكن ان ينسجم مع الالتزام في الوقت ذاته بثبوت الحكم الوقائي الرادع.
وفي خصوص الآية الثانية يكون المقصود بالفاحشة اللواط وحكمه الايذاء سواء فسرنا الايذاء بالشكل الذي روي عن ابن عباس ام بالشكل الآخر الواسع.. فانه في كل من الفرضين يمكن ان نلتزم بالحد الشرعي الثابت في الشريعة المقدسة عن ان تفسير مفهوم الايذاء بشكل يشمل الجلد والرجم يجعل آية الجلد وغيرها في موقف المفسر المحدد لنوعية الايذاء المتخذ ضد الزاني من الرجال والنساء دون ان يكون ناسخًا للآية الاولى. وهناك قرينة لفظية في الآية تدل على ان المراد من اسم الموصول (اللذان) هو خصوص الرجلين دون الرجل والمرأة كما هو تفسير القائل بالنسخ - وهذه القرينة هي ملاحظة سياق الآيتين الذي يقرر ان المراد من ضمير الجمع المخاطب المذكور فيهما ثلاث مرات من جنس واحد بحيث لا يختلف الثالث عن الاوليين. ولما كان المراد بالاوليين منهما خصوص الرجال لاضافة النساء في أحدهما للضمير وربط الشهادة بالرجال في الثاني. ويجب ان يكون المراد من الثالث خصوص الرجال أيضًا وهذا ينتهي بنا الى ان المراد باسم الموصول خصوص الرجال. ومع هذه القرينة لا بد من الالتزام بان المراد من الفاحشة هي اللواط بالخصوص.
الآية الثالثة:
قوله تعالى ﴿فما استمعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة﴾ النساء: 24.
ولا بد من معرفة مفاد الآية الكريمة قبل البحث عن كونها آية منسوخة الحكم. وبهذا الشأن فقد جاءت الروايات الكثيرة في طريق السنة والامامية تذكر ان المقصود من الآية الكريمة نكاح المتعة (الزواج الموقت).
ولذلك اشتهر بين علماء العامة ان الآية منسوخة.. حيث ذهب هؤلاء الى أن حلية نكاح المتعة قد نسخت بعد تشريعه لمدة من الزمان في الشريعة المقدسة وقد وقع الاختلاف بين الباحثين في امر الناسخ لهذه الآية الكريمة وبهذا الصدد ذكرت أقوال أربعة:
الاول: ان الناسخ لها قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي اذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن﴾ على اساس ان نكاح المتعة لا طلاق فيه وانما تنفسخ عقدة النكاح فيه بانتهاء المدة المضروبة في النكاح أو هبة الباقي منها. كما ان عدته تختلف عن عدة الطلاق في النكاح الدائم ولما كانت هذه الآية تذكر الطلاق كطريق لانفصال الزوجية كانت ناسخة للنكاح الذي يكون انفصال الزوجية فيه عن طريق آخر.. في الوقت الذي تختلف عدته عن عدة النكاح الذي يقع فيه الطلاق.
وهذا القول يكاد ان يكون أوهن الاقوال وابعدها عن الفهم القرآني الصحيح لان الآية الثانية لا تشير - لا من قريب ولا من بعيد - الى موارد الطلاق.
وانه لابد في كل زواج أن يقع الانفصال فيه بالطلاق وانما هي بصدد بيان ضرورة العدة في حالة وقوع الطلاق على ان نكاح المتعة تجب العدة فيه ولا تعرض في الآية الى مقدار العدة ومدتها. فهي بعيدة عن النسخ كل البعد وليس لها علاقة بآية نكاح المتعة.
الثاني: ان الناسخ هو قوله تعالى ﴿ولكم نصف ما ترك ازواجكم﴾ على اساس ان نكاح المتعة لا توارث فيه وهذه الآية تقرر باطلاقها وراثة الزوج لكل زوجة فيدور الامر بين القول بوراثة الزوج للزوجة في نكاح المتعة وقد ثبت عدمه وبين القول بنسخ نكاح المتعة ليبقى اطلاق الآية على حاله وهو المطلوب من دعوى النسخ.
وهذا القول كسابقه من حيث مجافاته للواقع والفهم العرفي. لانه يمكن الالتزام بان الدليل الذي دل على عدم التوارث بين الزوجين في نكاح المتعة يكون مخصصًا لمفاد الآية الكريمة دون اللجوء الى القول بنسخ آية المتعة. كما يلتزم بذلك المسلمون في بعض الموارد الاخرى من الارث فان الزوجة اذا كانت كافرة لا ترث زوجها أو اذا كان أحد الزوجين قاتلاً للآخر فانه لا ارث بينهما أيضًا.
الثالث: ان الناسخ هو النصوص التي تدل على ان نكاح المتعة قد نسخ بعد تشريعه في الاسلام. وقد رويت هذه النصوص بطرق مختلفة كان ينتهي بعضها الى الامام علي (ع) وبعضها الى الربيع بن سبرة وبعضها الى سلمة وغير ذلك.
ولكن تناقش هذه النصوص بالوجوه الثلاثة التالية:
اولاً - ان النسخ لا يثبت بخبر الواحد لما أشرنا اليه سابقًا من الاجماع على ذلك وان طبيعة النسخ تقتضي شيوع النسخ واشتهاره بين المسلمين.
ثانيًا - ان هناك نصوصًا كثيرة متواترة مروية عن طريق أهل البيت تعارض بمضمونها هذه النصوص وتكذبها الامر الذي يفرض علينا الاخذ بنصوص أهل البيت خاصة لانهم الثقل الثاني للكتاب الذي ثبت عن النبي (ص) انهم لا يفترقون عنه.
ثالثًا - النصوص الكثيرة التي وردت في الصحاح التي تؤكد بقاء حلية هذا النكاح حتى وفاة النبي (ص) والنسخ لا يجوز من غير النبي. وقد ذكر السيد الخوئي بعض هذه النصوص مع مناقشته للنصوص الاخرى الدالة على النسخ في كتابه (البيان).
الرابع - ان الناسخ هو اجماع الامة على حرمة نكاح المتعة.
المصدر:
كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم.