كان الملك الذي ينزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالوحي هو جبرائيل (عليه السلام) فكان يلقيه على مسامعه الشريفة، فتارة يراه، إمّا في صورته الأصليّة - وهذا حصل مرّتين- أو في صورة دحية بن خليفة. وأُخرى لا يراه، وإنّما ينزل بالوحي على قلبه (صلى الله عليه وآله): ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ (1).
قال تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾: جبرائيل. مثال قدرته تعالى ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ أي ذو عقليّة جبارة ﴿فَاسْتَوَى﴾: استقام على صورته الأصلية. وهذا هو المرة الأُولى في بدء الوحي (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾: سدّ ما بين الشرق والمغرب﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾
جعل يقترب من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى﴾ الله بواسطة جبرائيل ﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾ محمد (صلى الله عليه وآله) ﴿مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ﴾: فؤاد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿مَا رَأَى﴾ فكان قلبه (صلى الله عليه وآله) يصدق بصره فيما يرى أنّه حق ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ مرة ثانية في مرتبة أنزل من الأُولى ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ (2) فكان الذي يراه حقيقة واقعة، ليس وهماً ولا خيالاً.
وقال: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾: جبرائيل ﴿ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَا صَاحِبُكُم﴾: محمد (صلى الله عليه وآله) ﴿بِمَجْنُونٍ. وَلَقَدْ رَآهُ﴾: رأى جبرائيل في صورته الأصليّة﴿بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ (3) إشارة الى المرة الأُولى أيضاً.
قال ابن مسعود: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ير جبرائيل في صورته إلاّ مرّتين، احداهما أنّه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسدّ الأُفق. وأما الثانية فحيث صعد به ليلة المعراج، فذلك قوله ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (4).
والصحيح أنّ المرّتين كانت إحداهما في بدء الوحي بحراء. ظهر له جبرائيل في صورته التي خلقه الله عليها، مالئاً أفق السماء من المشرق والمغرب، فتهيّبه النبيّ (صلى الله عليه وآله) تهيبّاً بالغاً، فنزل عليه جبرائيل في صورة الآدميّين فضمّه إلى صدره، فكان لا ينزل عليه بعد ذلك إلا في صورة بشر جميل.
والثانية كانت باستدعائه (صلى الله عليه وآله) الذي جاءت به الروايات: كان لا يزال يأتيه جبرئيل في صورة الآدميّين. فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يريد نفسه مرّة أُخرى على صورته التي خلقه الله، فأراه صورته فسدّ الأُفق. فقوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى﴾ كانت المرّة الأُولى. وقوله ﴿نَزْلَةً أُخْرَى﴾ كانت المرّة الثانية(5).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً، فيكلّمني فأعي ما يقول(6).وقال الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ جبرائيل كان إذا أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يدخل حتى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد(7).
هذا.. وكان جبرئيل - عندما يتمثّل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) - يبدو في صورة دحية بن خليفة الكلبي. وبتعبير أصحّ: يبدو في صورة شبيهة بدحية. كما جاء في تعبير ابن شهاب: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشبّه دحية الكلبي بجبرائيل، حينما يتصوّر بصورة بشر(8).وذلك لأنّ دحية كان أجمل إنسان في المدينة، كان إذا قدم البلد خرجت الفتيات ينظرن إليه(9).
والسبب في ذلك: أنّ جبرائيل كان حينما يتمثّل صورة إنسان خلقه الله على الفطرة الأُولى، والإنسان في أصل خلقته جميل، فكان يتمثّل جبرائيل في أجمل صورة إنسانيّة. وبما أنّ دحية كان اجمل إنسان في المدينة، كان الناس يزعمون من جبرائيل - وهو يتمثّل بشراً- أنه دحية الكلبي، ومن ثم كان العكس هو الصحيح. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي، وكان دحية رجلاً جميلاً. والظاهر أنّ الجملة الأخيرة هي من كلام أنس، راوي الحديث(10) أي على صورة تشبهها صورة دحية. وكان الصحابة يزعمونه دحية حقيقة، ومن ثم نهاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يدخلوا عليه إذا وجدوا دحية عنده. قال: إذا رأيتم دحية الكلبي عندي فلا يدخلن عليّ أحد(11).
وكان جبرئيل قد يتمثّل للصحابة أيضاً بصورة دحية، كما في غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة شاهده الصحابة بغلة بيضاء(12).وشاهدت أيضاً عليّ (عليه السلام) دفعات بمحضر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتكلّم معه، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) راقد(13).
وأمّا نزول الملك عليه بالوحي من غير أن يراه فكثير أيضاً، إما إلقاء على مسامعه وهو يصغي إليه، أو إلهاماً في قلبه فيعيه بقوّة. قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ (14).
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل نزول الملك عليه بالوحي، يخشى أن يفوته اللفظ ومن ثمَّ كان يحرّك لسانه وشفتيه ليستذكره ولا ينساه، فكان يتابع جبرائيل في كلّ حرف يلقيه عليه، فنهاه تعالى عن ذلك ووعده بالحفظ والرعاية من جانبه تعالى قال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (15) وربّما كان (صلى الله عليه وآله) يقرأ على أصحابه فور قراءة جبرائيل عليه، وقبل أن يستكمل الوحي أو تنتهي الآيات النازلة، حرصاً على ضبطه وثبته، فنهاه تعالى أيضاً وقال:﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ (16) فاطمأنه تعالى بالحفظ والرعاية الكاملة. فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك إذا أتاه جبرائيل، استمع له، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه(17) قال تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ (18).
وإشارة إلى هذا النحو من الوحي الذي هو نكت في القلب قال (صلى الله عليه وآله): (إنَّ روح القدس نفث في روعي) (19) وهو سواد القلب، كناية عن السرّ الباطن، والمقصود: روحه الكريمة.
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة
-1 الشعراء: 193 – 194.
-2 النجم: 3-17.
-3 التكوير: 19-23.
-4 الدر المنثور: ج6 ص123.
-5 مجمع البيان: ج9 ص173 و175 وج10 ص446. وتفسير الصافي: ج2 ص618.
-6 صحيح البخاري: ج1 ص3.
-7 كمال الدين: ص85.
-8 الاستيعاب بهامش الإصابة: ج1 ص474.
-9 الإصابة: ج1 ص473.
-10 الإصابة: ج1 ص473. واسد الغابة: ج2 ص130.
-11 بحار الأنوار: ج37 ص326 ح60 عن كتاب التفصيل لابن الأثير.
-12 سيرة ابن هشام: ج3 ص245.
-13 بحار الأنوار: ج20 ص210 وج22 ص331 – 332 ح43. ومجمع البيان: ج8 ص351.
-14 الشعراء: 192-195.
-15 القيامة: 16-19.
-16 طه: 114.
-17 الطبقات: ج1 ص132.
-18 الأعلى: 6.
-19 الإتقان: ج1 ص44.