هناك مسألة ذات أهمية تمسّ جانب نزول الوحي قرآناً، وارتباطه مع بدء الرسالة، حيث اقترنت البعثة - وكانت في شهر رجب- بنزول شيئ من القرآن (خمس آيات من أوّل سورة العلق) في حين تصريح القرآن بنزوله في ليلة القدر من شهر رمضان! فما وجه التوفيق؟ وهكذا تعيين المدة التي نزل القرآن خلالها تدريجياً، والسور التي نزلت قبل الهجرة لتكون مكيّة - اصطلاحاً- والتي نزلت بعدها لتكون مدنيّة. وهل هناك استثناء لآيات على خلاف السور التي ثبتت فيها؟ والأرجح أن لا استثناء، وأنّ السورة إذا كانت مكيّة فجميع آيها مكيّة، وهكذا السور المدنيّات. إذ لا دليل على الاستثناء على ما سنبيّن.. وإليك تفصيل هذه الجوانب:
1- بدء نزول الوحي (البعثة):
قال الشيخ الجليل الثقة علي بن إبراهيم القميّ: إنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لما أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله! ومضت عليه برهة من الزمان وهو على ذلك يكتمه، وإذا هو في بعض الأيام يرعى غنماً لأبي طالب في شعب الجبال، إذ رأى شخصاً يقول له: يا رسول الله! فقال له: من أنت؟ قال: أنا جبرئيل، أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولاً، فجعل يعلّمه الوضوء والصلاة. وذلك عندما تمّ له أربعون سنة. فدخل عليّ (عليه السلام) وهو يصلّي. قال: يا أبا القاسم ما هذا؟ قال: هذه الصلاة التي أمرني الله بها. فجعل يصلّي معه. وكانت خديجة ثالثتهما. فكان عليّ (عليه السلام) يصلّي إلى جناح رسول الله الأيمن، وخديجة خلفه، فأمر أبو طالب ابنه جعفراً أن يصلّي إلى جناح رسول الله الأيسر. وكان زيد بن حارثة عتيق رسول الله (1) قد أسلم عند ما نبىء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكان يصلّي معهم أيضاً. وبهذا الجمع انعقدت نطفة الإسلام (2).
وفي تفسير الإمام: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يغدو كلّ يوم إلى حراء، وينظر إلى آثار رحمة الله، متعمَّقاً في ملكوت السماوات والأرض، ويعبد الله حق عبادته، حتى استكمل سنّ الأربعين، ووجد الله قلبه الكريم أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها. فأذن لأبواب السماء ففتحت، وأذن للملائكة فنزلوا، ومحمد (صلى الله عليه وآله) ينظر إلى ذلك، فنزلت عليه الرحمة من لدن ساق العرش، ونظر إلى الروح الأمين جبرائيل مطوّقاً بالنور، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزّه، فقال: يا محمد! اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمّد! ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
ثمّ أوحى إليه ما اوحى. وصعد جبرائيل إلى ربّه، ونزل محمد (صلى الله عليه وآله) من الجبل وقد غشيه من عظمة الله وجلال ابّهته ما ركبه الحمّى (3) وقد اشتدّ عليه ما كان يخافه من تكذيب قريش ونسبته إلى الجنون وقد كان أعقل خلق الله وأكرم بريّته. وكان أبغض الأشياء إليه الشيطان وأفعال المجانين، فأراد الله أن يشجّع قلبه ويشرح صدره، فجعل كلّما يمرّ بحجر وشجر ناداه: السلام عليك يا رسول الله (4).
وفي شرح النهج: أنّ بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) سأله عن قول الله - عزّ وجلّ-: ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ (5) فقال: يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، ويؤدّون إليه تبليغهم الرسالة، ووكّل بمحمد (صلى الله عليه وآله) ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق، ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق، وهو الذي كان يناديه: السلام عليك يا محمد يا رسول الله، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد، فيظن أنّ ذلك من الحجر والأرض، فيتأمّل فلا يرى شيئاً (6).
وراجع: الخطبة القاصعة من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الشأن، وقد نقلنا فيما سبق شطراً منها. وهي الخطبة رقم: 238 في شرح النهج لابن أبي الحديد.
وفي تاريخ الطبري: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل ان يظهر له جبرئيل (عليه السلام) برسالة الله إليه، يرى ويعاين آثاراً وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله، فكان من ذلك ما مضى من خبره عن الملكين اللذين آتياه فشقّا بطنه (7) واستخرجا ما فيه من الغلّ والدنس، وهو عند امّه من الرضاعة حليمة. ومن ذلك أنّه كان إذا مرّ في طريق لا يمرّ بشجر ولا حجر إلاّ سلم عليه. وهكذا كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية. فلا يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ قال: السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً (8).
قال اليعقوبي: كان جبرائيل يظهر له ويكلّمه أو ربّما ناداه من السماء ومن الشجر ومن الجبل. ثم قال له: إنَّ ربَّك يأمرك أن تجتنب الرجس من الأوثان، فكان أوّل أمره. فكان رسول الله يأتي خديجة ابنة خويلد ويقول لها ما سمع وتكلّم به، فتقول له: استر يا ابن عم! فوالله إنّي لأرجو أن يصنع الله بك خيراً (9).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بعث قد استكمل الأربعين، لعشرين مضين من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان (10). قال اليعقوبي: كان مبعثه (صلى الله عليه وآله) في شهر ربيع الأوّل. وقيل: في رمضان.
ومن شهور العج: في شباط. قال: وأتاه جبرئيل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين (11). قال ابن سعد: نزل الملك على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان (12).
قال أبو جعفر الطبري: وهذا - أي نزول الوحي عليه بالرسالة يوم الاثنين- ممّا لا خلاف فيه بين أهل العلم وإنّما اختلفوا في أي الاثانين كان ذلك؟ فقال بعضهم: نزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لثماني عشرة خلت من رمضان. وقال آخرون: لا ربع وعشرين خلت منه. وقال آخرون. لسبع عشرة خلت من شهر رمضان: واستشهدوا لذلك بقول تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ (13) وذلك ملتقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين ببدر، وكان صبيحة سبع عشرة من رمضان (14). لكن لا دلالة في الآية على أنّ مبعثه كان مصادفاً لذلك اليوم.
أولاً: لأنّ المقصود: ما أُنزل عليه ذلك اليوم من دلائل الحقّ وآيات النصر، لا القرآن كلّه ولا مبدأ نزوله.
وثانياً: سوف نذكر: أنّ مبدأ نزول القرآن - بعنوان كونه كتاباً سماوياً- كان متأخّراً عن يوم مبعثه بالرسالة، فقد بعث (صلى الله عليه وآله) رسولاً إلى الناس في 27 رجب، وانزل عليه القرآن في شهر رمضان ليلة القدر، وربّما كان بعد فترة ثلاث سنين كما يأتي.
وثالثاً: معنى يوم الفرقان: اليوم الذي فرق فيه بين الحقّ والباطل، وغلب الحقّ على الباطل فكان زهوقاً، وكان يوماً حاسماً في حياة المسلمين، وقد أيس الشيطان فيه أن يعبد أو يطاع إلى الأبد (15).
قال المسعودي: أوّل ما نزل عليه (صلى الله عليه وآله) من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾. وأتاه جبرائيل في ليلة السبت ثم في ليلة الأحد وخاطبة بالرسالة يوم الأثنين، وذلك بحراء، وهو أوّل موضع نزل فيه القرآن، وخاطبه بأوّل السورة إلى قوله: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ونزل تمامها بعد ذلك.
وكان ذلك بعد بنيان الكعبة بخمس سنين، على رأس عشرين سنة من ملك كسر أبرويز، وعلى رأس مائتي سنة من يوم التحالف بالربذة (16). وكانت سنة ستمائة وتسع من تاريخ ميلاد المسيح (عليه السلام) (17).
والصحيح عندنا في تعيين يوم مبعثه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه اليوم السابع والعشرون من شهر رجب الأصب، على ما جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ويستحبّ صيامه والقيام بآداب وعبادات تخصّه، تلتزم بها الشيعة الإماميّة، كلّ عام تقديساً لهذا اليوم المبارك، الذي أُنزلت الرحمة فيه على الناس جميعاً، وافتتحت أبواب البركة العامّة على أهل الأرض، إذ بعث النبي (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين، فياله من يوم مبارك!
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (في اليوم السابع والعشرين من رجب نزلت النبوّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (18) وقال: (لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمد (صلى الله عليه وآله) (19).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (بعث الله - عزّ وجلّ- محمداً (صلى الله عليه وآله) رحمة للعالمين، في سبع وعشرين من رجب، فمن صام ذلك اليوك كتب له صيام ستّين شهراً (20).
والروايات بهذا الشأن من طرق أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة (21).
وهكذا وردت روايات من طرق أهل السنة، بتعيين نفس اليوم:
أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة، قال: (من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعلى له صيام ستين شهراً، وهو اليوم الذي نزل فيه جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة وأوّل يوم هبط فيه جبرئيل) (22).
وروى البيهقي في شعب الإيمان، عن سلمان الفارسي، قال: (في رجب يوم وليلة، من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله) (23).
وروى صاحب المناقب عن ابن عباس، وأنس بن مالك: أنّهما قالا: (أوحى الله إلى محمد (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين، السابع والعشرين من رجب، وله من العمر اربعون سنة) (24).
قال العلاّمة المجلسي - قّدس سرّه- اختلفوا في اليوم الذي بُعث فيه النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) على خمسة أقوال:
الأوّل: سابع عشر شهر رمضان.
الثاني: ثامن عشر شهر رمضان.
الثالث: أربع وعشرون شهر رمضان.
الرابع: ثاني عشر بيع الأوّل.
الخامس: سابع وعشرون شهر رجب.
قال: وعلى الأخير اتفاق الإماميّة (25).
أقول: وهناك قول سادس: ثامن ربيع الأوّل. وقول سابع: ثالث ربيع الأوّل. ذكرهما ابن برهان الحلبي في سيرته. ثم ذكر القول بأنّه الثاني عشر من ربيع الأوّل، يوم مولده الشريف، ليوافق القول بأنّه بعث على رأس تمام الأربعين (26).
وسنذكر: أنّ أكثريّة القائلين ببعثته (صلى الله عليه وآله) في شهر رمضان، لعلّه قد اشتبه عليهم مبدأ حادث النبوّة بمبدأ حادث نزول القرآن كتاباً فيه تبيان كلّ شيئ وهذا الاشتباه يبدو من استدلالهم على تعيين يوم البعثة بما دلّ على أنّ القرآن نزل في ليلة القدر من شهر رمضان. وسنتحقّق: أن لا صلة بين الحادثين، فقد بعث (صلى الله عليه وآله) في رجب: 27. ولكن القرآن بسمته كتاباً مفصّلا، بدأ نزوله على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في شهر رمضان: ليلة القدر. بعد ثلاث سنين من نبوّته (صلى الله عليه وآله) فكانت مدّة نبوّته (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً وعشرين سنة. ولكن فترة نزول القرآن مفرّقاً استغرقت عشرين عاماً، بدأت بدخول السنة الرابعة من البعثة، وختمت في عاشر الهجرة بوفاته (صلى الله عليه وآله).
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة.
1- قيل: اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لخديجة، فلمّا تزوّجها وهبته له، فأعتقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقيل: استوهبته خديجة من ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد، عندما قدم مكة برقيق فيهم زيد وصيف أي غلام لم يراهق. فقال لها: يا عمّة! اختاري أيّ هؤلاء الغلمان شئت: فاختارت زيداً، ثمّ وهبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعتقه رسول الله وتبنّاه.
2- بحار الأنوار: ج18 ص184 ح14 وص194 ح30.
3- وهي شديدة.
4- تفسير الإمام: ص157 وهو منسوب إلى الإمام الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) وقد طعن بعض المحقّقين في نسبته إلى الإمام (عليه السلام) لما فيه من مناكير. لكن لو كان المقصود أنّه من تأليف الإمام بقلمه وإنشائه الخاصّ، فهذا شيئ لا يمكن قبوله بتاتاً. وأمّا إذا كانت النسبة بملاحظة أنّ الراوي كان يحضر مجلس الإمام (عليه السلام) ويسأله عن أشياء ممّا يتعلّق بتفسير آي القرآن، ثم عندما يرجع إلى داره يسجّله حسب ما حفظه ووعاه، وربّما يزيد عليه أشياء أو ينقص، وفق معلوماته الخاصّة ايضاً. فهذا شيئ لا سبيل إلى إنكاره. ونحن نقول بذلك، ومن ثم نعتمد على كثير ممّا جاء في هذا التفسير، ممّا يوافق سائر الآثار الصحيحة: وراجع - أيضاً- بحار الأنوار: ج18 ص205-206 ح36.
5- الجن:27.
6- شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): ج13 ص207.
7- لم يرد بهذا التعبير حديث من طريق أهل البيت (عليهم السلام) ولعل هذه التعابير كانت كناية عن امور معنويّة بإبعاد الصفات الخسيسة عن طباعه (صلى الله عليه وآله).
8- تاريخ الطبري: ج2 ص294-295.
9- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص17 طبعة النجف الثانية.
10- الكامل في التاريخ: ج2 ص31.
11- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص18-17.
12- الطبقات: ج1 ص129.
13- الانفال: 41.
14- تاريخ الطبري: ج2 ص294.
15- راجع تفسير شبر: ص195.
16- مروج الذهب: ج2 ص282.
17- تاريخ التمدّن الإسلامي (لجرجي زيدان): ج1 ص43.
18- امالي ابن الشيخ: ص28، وبحار الأنوار: ج18 ص189 ح21.
19- الكافي: ج4 ص149 ح1 وح2.
20- راجع وسائل الشيعة: باب 15 من ابواب الصوم المندوب ج7 ص329 ح1.
21- السيرة الحلبية: ج1 ص238.
22- السيرة الحلبية: ج1 ص238.
23- منتخب كنز العمال بهامش المسند: ج3 ص362.
24- المناقب: ج1 ص150. وبحار الأنوار: ج18 ص204 ح34.
25- بحار الأنوار: ج18 ص190.
26- السيرة الحلبية: ج1 ص238