واستعمله القرآن في أربعة معانٍ:
1. نفس المعنى اللغوي: الإيماءة الخفيّة. وقد مرّ في آية مريم.
2. تركيز غريزيّ فطريّ، وهو تكوين طبيعيّ مجعول في جبلّة الأشياء، استعارة من إعلام قوليّ لإعلام ذاتي، بجامع الخفاء في كيفيّة الإلقاء والتلقّي، فبما أن الوحي إعلام سرّي، ناسب استعارته لكلّ شعور باطنيّ فطريّ. ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً﴾(1) فهي تنتهج وفق فطرتها، وتستوحي من باطن غريزتها، مذلّلة لما اُودع فيها من غريزة العمل المنتظم، ومن ثم فهي لا تحيد عن تلك السبيل.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(2) أي قدّر. وقد استوحى العجاج هذا المعنى من القرآن في قوله:
أوحى لها القرار فاستقرّت وشدّها بالراسيات الثبت (3)
3. إلهام نفسيّ، وهو شعور في الباطن، يحسّ به الإنسان إحساساً يخفى عليه مصدره أحياناً، وأحياناً يلهم أنّه من الله. وقد يكون من غيره تعالى.
وهذا المعنى المعروف عند الروحيّين بظاهرة التلباثي: (التخاطر من بعيد) وهو خطور باطني آني لا يعرف مصدره. قالوا: إنّها فكرة تنتقل من ذهن إنسان إلى آخر، والمسافة بينهما شاسعة. أو القاء روحيّ، من قبل أرواح عالية أو سافلة(4) وقيل: إنّها فكرة رحمانيّة توحيها الملائكة، تنفثها في روع إنسان يريد الله هدايته، أو وسوسة شيطانيّة تلقيها أبالسة الجنّ لغرض غوايته.
ومن الإلهام الرحماني قوله تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(5).
قال الأزهري: الوحي هنا: إلقاء الله في قلبها. قال: وما بعد هذا يدلّ والله أعلم على أنّه وحي من الله على جهة الإعلام، للضمان لها ﴿إنا رادّوه إليك﴾. وقيل: إنّ معنى الوحي هنا: الإلهام. قال: وجائز أن يلقي الله في قلبها أنّه مردود إليها وإنّه يكون مرسلاً. ولكن الإعلام أبين في معنى الوحي هنا(6).
والشيخ المفيد قُدس سره أخذ الوحي هنا بمعنى الإعلام الخفي، في كتابه (أوائل المقالات). لكنه في كتابه (تصحيح الاعتقاد) جعله بمعنى رؤيا أو كلام سمعته أُمّ موسى في المنام. وقال بصدد إيضاح معنى الوحي: أصل الوحي هو الكلام الخفي، ثمّ قد يطلق على كلّ شيئ قصد به إفهام المخاطب على السرّ له عن غيره(7).
وأمّا التعبير بالوحي عن وسواس الشيطان وتسويله خواطر الشرّ والفساد، فجاء في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾ (8). وقال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (9) ويفسّره قوله: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ﴾ (10).
كما جاء التعبير عمّا يلقيه الله الى الملائكة من أمره ليفعلوه من فورهم، بالوحي أيضاً في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ (11).
وأمّا التعبير بالوحي عمّا يلقيه الله الى نبيّ من أنبيائه بواسطة ملك أو بغير واسطة لأجل تبليغ رسالة الله، فهو معنى رابع استعمله القرآن وهو موضوع بحثنا في الفصل التالي.
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة
1- النحل: 68.
2- فصلت: 12.
3- لسان العرب: ج15 ص380.
4- راجع رؤوف عبيد، مفصل الإنسان روح لا جسد: ج1 ص542.
5- القصص: 7.
6- لسان العرب:ج15ص380.
7- راجع أوائل المقالات:ص39،وتصحيح الاعتقاد:ص56.
8- الانعام:112.
9- الانعام:121.
10- الناس:4-6
11- الانفال:12.