حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات، وقال:
﴿وَالنّازِعاتِ غَرْقاً﴾.
﴿وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً﴾.
﴿وَالسّابِحاتِ سَبْحاً﴾.
﴿فَالسّابِقاتِ سَبْقاً﴾.
﴿فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ﴾. (1)
حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها بـ: النازعات، الناشطات، السابحات، السابقات، المدبرات.
النازعات من النزع، يقال: نزع الشيء جذبه من مقره، كنزع القوس عن كنانته.
والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها، أي نزعها؛ ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج.
والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء، ويقال: سبح سبحاً وسباحة، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.
والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.
وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر، وهو الاِغراق، يقال: غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.
هذه هي معاني الاَلفاظ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر، قال الزمخشري: أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الاَرواح من الاَجساد، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم.(2)
والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.
ولا يخفى انّالطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الاَُولى، فالملائكة الذين ينزعون الاَرواح من الاَجساد هم الذين ينشطون الاَرواح ويخرجونها، ولكن يمكن التفريق بينهما، بأنّ الطائفة الاَُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً، وقد عرفت معناه، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح الموَمنين برفق وسهولة.
والسابحات هم الملائكة التي تقبض الاَرواح فتسرع بروح الموَمن إلى الجنة، وبروح الكافر إلى النار، والسبح الاِسراع في الحركة، كما يقال: للفرس سابح إذا أسرع في جريه.
والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح الموَمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.
فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للاَُمور، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها، فعزرائيل موكل بقبض الاَرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.
ثمّ إنّ الاَشد، انطباقاً على الملائكة، هو قوله: ﴿فالمدبرات أمراً﴾، وهو قرينة على أنّ المراد من الاَخيرين هم الملائكة، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.
وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي:
المراد بالنازعات الملائكة القابضين لاَرواح الكفّار، وبالناشطات الوحش، وبالسابحات السفن، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال، وبالمدبرات الاَفلاك، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.
والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.
يقول العلاّمة الطباطبائي: وإذ كان قوله: ﴿فالمدبرات أمراً﴾ مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق، وكذا قوله: ﴿فَالسّابِقاتِ سَبْقاً﴾ مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: ﴿وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً﴾ فمدلولها أنّهم يدبرون الاَمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره. (3)
تدبير الملائكة
إنّ القرآن الكريم يعرّف اللّه سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الاَُمور بإرادته ومشيئته، ويوَدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الاَرواح وإجراء السوَال، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.
كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد الموَمنين.
وبالجملة هم ﴿عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون﴾ (4)
فاللّه سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم، فيقبض الاَرواح بواسطتهم، وينزل الوحي بتوسيطهم،وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره. (5)
قال أمير الموَمنين (عليه السلام) في حقّ الملائكة: فمنهم سجود لا يركعون،وركوع لا ينتصبون، وصافُّون لا يتزايلون، ومسبِّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نومُ العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الاَبدان، ولا غفلة النِّسيان، ومنهم أُمناءُ على وحيه، وألسنة إلى رُسُله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظةُلعباده والسَّدنَة لاَبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الاَرضين السُّفلى أقدامُهُم، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم، والخارجة من الاَقطار أركانُهم، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم، متلفِّعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم و بين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدُّونه بالاَماكن، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر.(6)
وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.
1- النازعات:1 ـ 9.
2- الكشاف:3|308.
3- الميزان:20|181.
4- الاَنبياء:26 ـ 27.
5- الميزان:20|188، نقل بتلخيص.
6- نهج البلاغة:19 ـ 20،الخطبة الاَولى.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني