حلف سبحانه في سورة الفجر بأُمور خمسة:
1. الفجر، 2. ليال عشر، 3. الشفع، 4. الوتر، 5. الليل إذا يسر
وقال: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ * واللَّيلِ إِذا يَسْرِ * هَلْ في ذلِكَ قَسَمٌ لِذي حِجْر﴾. (1)
تفسير الآيات
اختلف المفسرون في تفسير هذه الاَقسام إلى أقوال كثيرة، غير انّ تفسير القرآن بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.
أمّا الفجر: فهو في اللغة، كما قال الراغب: شق الشيء شقاً، قال سبحانه: ﴿وَفَجَّرنا الاََرض عُيُوناً﴾ وقال:﴿وَفجّرنا خلالها نَهْراً﴾ ومنه قيل للصبح، الفجر لكونه يفجر الليل، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل، قال: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْس إِلى غَسَقِ اللَّيل وَقُرآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً﴾ (2)
.، وقال سبحانه: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيطُ الاََبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاََسْوَد مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيل﴾ (3) وقال سبحانه: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْر﴾(4).
وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس، فهو محمول على مطلق الفجر، أعني: انفجار الصبح الصادق، وإن كان مشيراً إلى فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة، ولعلّ المراد فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.
﴿وليال عشر﴾ فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر، فذكروا احتمالات ليس لها دليل.
أ: الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها، والتنكير للتفخيم.
ب: الليالي العشر من أوّل شهر محرم الحرام.
ج: العشر الاَواخر من شهر رمضان وكلّمحتمل، ولعل الاَوّل أرجح.
وأمّا الشفع: فهو لغة ضمّ الشيء إلى مثله،فلو قيل للزوج شفع، لاَجل انّه يضم إليه مثله، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر، وقد اختلفت كلمتهم فيما هو المراد من الشفع والوتر.
1. الشفع هو يوم النفر، والوتر يوم عرفة وإنّما أقسم اللّه بهما لشرفهما.
2. الشفع يومان بعد النحر، والوتر هو اليوم الثالث.
3. الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها.
إلى غير ذلك من الاَقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجهاً، ويحتمل أن يكون المراد من الوتر هو اللّه سبحانه، والشفع سائر الموجودات.
﴿وَاللّيل إذا يَسر﴾: أمّا الليل فمعلوم، وأمّا قوله يسر، فهو من سرى يسري فحذف الياء لاَجل توحيد فواصل الآيات، ويستعمل الفعل في السير في الليل، كما في قوله سبحانه: ﴿سُبْحانَ الّذي أَسرى بِعَبْدِهِ لَيلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرامِ إِلى الْمَسْجِدِ الاََقصى﴾ (5)،فالليل ظرف والساري غيره، ولكن الآية نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأنّ الليل موجود حقيقي له سير نحو الاَمام فهو يسير إلى جانب النور، فاللّه سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور النهار.
مضافاً إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلاّ بها.
هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر، فنقول: امّا الفجر فقد حلف به سبحانه بصورة أُخرى أيضاً، وقال: ﴿وَالصُّبح إِذا أَسْفَرَ﴾ (6)
وقال تبارك وتعالى: ﴿وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس﴾(7)، والمراد من الجميع واحد، فإنّ إسفار الصبح في الآية الاَُولى هو طلوع الفجر الصادق، فكأنّ الصبح كان مستوراً بظلام الليل، فهو رفع الستار وأظهر وجهه، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال: أسفرت المرأة: إذا رفع حجابها.
ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الاَرض حول الشمس، فبسبب كرويّتها لا تضيىَ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيىَ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر مظلماً حتى يحاذي الشمس بدوران الاَرض فيأخذ حظه من الاستنارة، وتتم الاَرض هذه الدورة في أربعة وعشرين ساعة.
كما أنّ المراد من الآية الثانية أعني: ﴿والصبح إِذا تَنَفَّس﴾ هو انتشار نوره، فعبّر عنه بالتنفّس، فكأنّه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج، أمّا عظمة الفجر فواضحة، لاَنّ الحياة رهن النور، وطلوع الفجر يثير بارقة الاَمل في القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.
وأمّا الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى العباد، سواء فسرت بالليالي العشر الاَُولى من ذي الحجّة أو الليالي العشر من آخر شهر رمضان. فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكناً ولباساً للاِنسان وقال: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً﴾ (8) كما جعله سكناً للكائنات الحية حيث ينفضون عن أنفسهم التعب والوصب، قال سبحانه: ﴿فالِقُ الاِِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً﴾. (9)
وأمّا الشفع والوتر، فقد جاء مبهماً وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كلّ شفع ووتر، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كاللّه سبحانه وشفعه كسائر الموجودات.
وأمّا قوله: ﴿واللَّيل إِذا يسر﴾ أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه، فلو دام الليل دون أن ينجلي لزالت الحياة، يقول سبحانه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ ان جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْل سَرْمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِيَأْتِيكُمْ بِضياءٍ أَفَلا تسْمَعُون﴾. (10)
فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانّها تتمتع بالكرامة والعظمة. وأمّا المقسم عليه فيحتمل وجهين:
أحدهما: انّه عبارة عن قوله سبحانه: ﴿إِنَّ رَبّكَ لَبِالْمِرصاد﴾.(11)
ثانيهما: انّ المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الاقسام، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ * إِرَمَ ذاتِ الْعِماد * التّي لَمْ يُخْلَق مِثْلُها فِي البِلاد * وَثَمُودَ الّذِينَ جابُوا الصَّخرَ بِالواد * وَفرْعَونَ ذِي الاََوتاد * الَّذينَ طَغَوْا فِي البِلاد * فَأَكْثَروا فِيهَا الفَسادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبّكَ سَوطَ عَذابٍ * إِنَّ رَبّكَ لَبِالْمِرصاد﴾. (12)
فالمفهوم من هذه الآيات انّه سبحانه حلف بهذه الاَقسام بغية الاِيعاد بأنّه يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود، فالاِنسان العاقل يعتبر بما جرى على الاَُمم الغابرة من إهلاك وتدمير.
أمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو: انّ من كان ذا لبٍّ، علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الاَشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته، فهو قادر على أن يكون بالمرصاد لاَعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شيء من أعمالهم لاَنّه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصاً بالنظر إلى ما أدَّب به قوم عاد وثمود مع ما كان لهم من القوة والمنعة.
1- الفجر:1ـ 5.
2- الاِسراء:78.
3- البقرة:187.
4- القدر:5.
5- الاِسراء:1.
6- المدثر:34.
7- التكوير:18.
8- النبأ:10.
9- الاَنعام:96.
10- القصص:71.
11- الفجر:14.
12- الفجر:6ـ14.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني