﴿الّذينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ إلاّ كَما يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَسِّ ذلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرّبوا وَأحَلَّ اللهُ البيعَ وَحَرَّمَ الرّبوا فَمَنْ جاءَهُ مَوعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأمْرُهُ إلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولئِكَ أصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾.(1)
تفسير الآية:
"الربا" الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد، والربا هو الزيادة على رأس المال، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الأجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.
و"التخبّط" والخبط بمعنى واحد ، و هو المشي على غير استواء، يقال: خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: هو يخبط خبطة عشواء، أي يضرب على غير اتساق.
وعلى هذا فالمراد من قوله: ﴿يَتَخَبَّطهُ الشَّيْطان﴾ أي يخبطه الشيطان ويضربه، وبالتالي يصرعه.
و"السَلَف" أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً، ومنه الأمم السالفة أي الماضية.
وأمّا قوله ﴿مِنَ المَسّ﴾ فالظرف متعلق بيقوم، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.
وحاصل معنى الآية أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.
فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا و قيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سؤالان:
الأوّل: ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع؟
الثاني: ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان؟
أمّا الأوّل: فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه:
1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف أنّه آكل الربا في الدنيا.
و على ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.
2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: ﴿يخرجون من الأجداث سراعاً﴾ إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لأنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون.
ويؤيده ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء ياجبرئيل؟ قال: هؤلاء آكلة الربا.
3. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون، و إن كان المسّ يستعمل فيه، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته، كما هو الحال في قوله سبحانه: ﴿إنَّ الّذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هُمْ مُبْصِرُون﴾(2)، وذلك لأنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان، و من كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.
فلا شكّ أنّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.
وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو: "إنّ الإنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فانّ ذلك ينجرّ من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي، فانّ هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، ولا ينمو إلاّ من مال الغير، فهو بالانتقاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام من جانب آخر."
وينجرّ من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.
فالربا يضادّ التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.
وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع، أجاب: انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: ﴿إنَّما البيعُ مثْل الرّبا﴾.(3)
وهناك سؤال: وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع، لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع، لا على العكس.
والجواب: انّهم شبهوا البيع بالربا لأجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً، وحلّية البيع فرعاً، فقالوا: إنّ البيع مثل الربا.
هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
أمّا الأمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه، فنقول:
إنّ ظاهر الآية أنّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين، مع أنّ العلم الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الأعصاب الإدراكية، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل؟
وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، ولا ضير في ذلك، لأنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.
فحقيقة معنى الآية هو أنّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن، لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده، أو على عبده المؤمن.(4)
وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ الله تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل، و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله، وقد قال تعالى في وصف كلامه: ﴿وَإنَّهُ لكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾.(5)
وقال تعالى: ﴿إنَّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ بِالْهَزْلِ﴾.(6)
وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان و ذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.(7)
وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة: انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: ﴿أنّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ﴾8)، وإذ قال: ﴿أنّى مَسَّنِيَ الضُرُّ وَأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾(9) والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.(10)
1- البقرة:275.
2- الأعراف:201.
3- الميزان:2|411.
4- نقله في الميزان: 2|413 ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : 3|95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوى في تفسيره .
5- فصلت:42.
6- الطارق:13ـ 14.
7- الميزان: 2|412.
8- ص:41.
9- الأنبياء:83.
10-الميزان:2|413.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني