﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون * الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِين﴾.(1)
تفسير الآية:
ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه "مريم العذراء" وابتدأ بيانه بقوله:﴿إذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ...﴾ وانتهى بقوله:﴿قالَتْ رَبّ أنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشَاءُ إذا قَضى أمْراً فَإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾.(2)
وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه (عليه السلام) آية من آيات الله سبحانه، ولما كانت النصارى تتبنّى ألوهية المسيح وانّه يوَلف أحد أضلاع مثلث الألوهية الرب و الابن وروح القدس، وكانت تؤمن انّه ابن الرب، لأنّه ولد من مريم بلا أب .
ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافاه الوحي مجيباً على استدلالهم بأنّ كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالإمكان.
وبعبارة أُخرى: انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الأوصاف، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.
إنّ من الأسئلة المثارة حول قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ قال لَهُ كُنْ فيكون﴾ هو انّ الأنسب أن يقول: "ثم قال له كن فكان" فلماذا قال: ﴿فيكون﴾ لأنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة؟.
والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فإنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.
وبعبارة أُخرى: انّ قوله: ﴿كن﴾وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين: قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلى أسبابها التدريجية، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة ـ لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي، ولذا قال سبحانه: ﴿وَما أمْرنا إلاّ واحدةٌ كَلَمْحٍ بالْبَصَر﴾(3) وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق، وبالجملة فقوله ﴿فيكون﴾ ناظر إلى الحالة الماضية.(4)
وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه: ﴿بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْض وَإذا قَضى أمْراً فَانَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾.
إنّ قوله: ﴿فيكون﴾ تفريع على قوله ﴿يقول﴾ وليس جزاءً لقوله تعالى ﴿كن﴾، لأنّ الكون بعد الفاء، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه، وتوهم أنّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع.(5)
وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الأمر أيضاً، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الألوهية عن المسيح.
إحداهما: انّ عيسى مخلوق لله ـ على ما يعلمه الله لا يضل في علمه ـ خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.
وثانيهما: انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى (عليه السلام) أيضاً لمكان المماثلة.
ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية و إن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد.(6)
1- آل عمران:59ـ60.
2- آل عمران: 45ـ47.
3- القمر : 50.
4- الميزان: 3|212؛ المنار:3|319.
5- آلاء الرحمن:1|120.
6- الميزان:3|212.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني