قال سبحانه: ﴿وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون * اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون * أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوقَدَ نَاراً فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمّ بُكمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ﴾.(1)
تفسير الآيات:
الوقود ـ بفتح الواو ـ الحطب، استوقد ناراً، أو أوقد ناراً، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.
افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث:
الأولى: الموَمنون، واقتصر فيهم على آيتين.
الثانية: الكافرون، واقتصر فيهم على آية واحدة.
الثالثة: المنافقون، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتى عشرة آية.
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ النفاق بوَرة الخطر، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الإسلامي. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.
بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإيمان ﴿وَإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإذا خَلَوا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إنّا مَعَكُمْ إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون﴾.
ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم، بقوله: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون﴾ والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.
ثمّ وصفهم بقوله: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين ﴾، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، واستبدلوا الكفر بالإيمان، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتى:
نفترض أنّ أحداً، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه، ولا يمكن أن يهتدي ـ والحال هذه ـ إلاّ بإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة أطفأت ما أوقده، فعاد إلى حيرته الأَُولى .
فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادىء الأمر واستناروا بنور الإيمان ومشوا في ضوئه، لكنّهم استبدلوا الإيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلاً.
هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا مؤمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر، وأمّا على القول بعدم إيمانهم منذ البداية، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات الله تبارك و تعالى.
والحاصل: أنّ حال هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالأخطار فأوقد ناراً لإنارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.
وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفئ نورها بإذن الله سبحانه، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن، وسنّة الرسول، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب الله ، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية، فلمّـا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على الله بنفاقهم، فخرجوا عن كونهم أهلاً للتوفيق والتسديد، فأوكلهم الله سبحانه إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.
وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله: ﴿مَثَلُهمْ كَمَثلِ الَّذى استوقَد ناراً فلَمّا أضاءَت ما حوله ﴾وتمّ المثل إلى هنا.
ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله: ﴿ذَهَبَ الله بِنُورهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبصرون﴾.
فإن قلت: فعلى هذا فما هو جواب "لمّا" في قوله ﴿فلمّا أضاءَت﴾؟
قلت: الجواب محذوف، لأجل الوجازة، وهو قوله "خمدت".
فإن قلت: فعلى هذا فبم يتعلّق قوله: ﴿ذهب الله بنورهم ﴾؟
قلت: هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل، وتقدير الكلام هكذا: فلَمّا أضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.
فحال المنافقين كحال هؤلاء، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن ﴿ذَهَب الله بنورهم وتَرَكَهُمْ في ظُلمات لا يُبصرون﴾.
وبكلمة موجزة: ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية، والإيجاز بلا تعقيد من شؤون البلاغة.(2)
فقوله سبحانه: ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ﴾ بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ ﴿فَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون﴾ أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.
ترى أنّ التمثيل يحتوي على معاني عالية وكثيرة بعبارات موجزة، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه، وهذا من فوائد المثل، حيث يوَدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.
ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم، وعطّلوا عيونهم فهم عمى، قال: ﴿صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون﴾.
والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الأدوات التي بها تعرف الحقائق، فما كانوا يسمعون آيات الله بجدٍّ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك.(3)
إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة، ولكن باءت مساعيه بالفشل.
وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا بالله ورسوله في بدء الأمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق، قوله سبحانه: ﴿ذلِكَ بأنّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِـعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُون﴾.(4)
وممّا يدل على أنّ الإسلام نور ينوّر القلوب والأنفس قوله سبحانه: ﴿أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(5)
وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمـّاً بكماً عمياً، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد، يقول سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلياوَُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون﴾.(6)
وبذلك ظهر أنّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ وما بعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.
فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر و البرزخ بقوله سبحانه: ﴿يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً... ﴾(7) ليس بأمر صحيح، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الإيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة، ولا نظر للآية لما بعد الموت.
سؤال وإجابة:
إنّ مقتضى البلاغة هو الإتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به ﴿كالذي استوقد ناراً﴾ وجمع المشبّه أعني قوله: ﴿مثلهم﴾ ﴿ذهب الله بنورهم ﴾، فما هو الوجه؟
أجاب عنه صاحب المنار بقوله: إنّ العرب تستعمل لفظ "الذي" في الجمع كلفظي "ما" و "مَن" ومنه قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالّذِى خَاضُوا ﴾(8) وإن شاع في "الذي" الافراد، لأنّ له جمعاً، وقد روعي في قوله ﴿استوقد﴾ لفظه، وفي قوله (ذهب الله بنورهم) معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً، ومراعاة المعنى آخراً، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء.(9)
ولنا مع هذا الكلام وقفة، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه: ﴿ذَهَبَ الله بنورهِمْ وَتَرَكهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون﴾ في تتمة المثل، وأجزاء المشبه به، ولكنّك قد عرفت خلافه، وانّ المثل تمّ في قوله: ﴿فلمّا أضاءت ما حوله ﴾، وذلك بحذف جواب "لمّـا"، لكونه معلوماً في الجملة التالية، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.
وإلاّ فلو كان قوله ﴿ذهب الله بنورهم﴾ من أجزاء المشبّه به، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله: ﴿صمّ بكمٌ عُمىٌ﴾ كذلك، أي من أوصاف المستوقد، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة، فنقول:
المشبه به: الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.
والمشبه: المنافقون الذين استضاءوا بنور الإسلام فترة ثمّ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمّا وجه الإفراد، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الأعيان فيلزم المطابقة، لأنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الأعيان إذا روعي التطابق في الجمع والإفراد، يقول سبحانه: ﴿كَأنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾(10)، وقوله: ﴿كَأنَّهُمْ أعْجَازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾.(11)
وأمّا إذا كان التشبيه بين الأفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات، يقال في المثل: ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.
وربما يقال: إنّ الموصول "الذي" بمعنى الجمع ، قال سبحانه: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(12) (13)
المصدر
1- البقرة: 14ـ 18.
2- لاحظ الكشاف:1|153.
3- انظر مجمع البيان:1|54؛ آلاء الرحمن:1|73.
4- المنافقون:3.
5- الزمر:22.
6- البقرة:257.
7- الحديد:13.
8- التوبة:69.
9- تفسير المنار:1|169.
10- المنافقون:4.
11- الحاقة:7.
12- الزمر:33.
13- انظر التبيان في تفسير القرآن:1|86.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني