9- سورة النحل: (مكيّة)
قال قتادة: إلاّ قوله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ...﴾(1). وقيل: إلى آخر السورة نزلن بالمدينة(2).
وعن عطاء بن ياسر: استثناء قوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ...﴾ إلى آخر السورة - وهن ثلاث آيات - نزلن في حادثة اُحد، بعد مقتل حمزة (عليه السلام)(3).
وفي رواية عن ابن عباس قوله: ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ... إلى قوله: بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(4). نزلتا بالمدينة(5).
قلَت: أمّا الآية رقم 41 و42 فلا دلالة فيها على أنّ المراد هي الهجرة الثاية إلى المدينة، بل الظاهر منها أنّها: الهجرة الأُولى إلى الحبشة، كما روي ذلك عن قتادة أيضاً(6). وأمّا القول بنزول ما بعد آية الأربعين إلى آخر السورة بالمدينة فلا مستند له وسياق الآيات أيضاً ينافيه.
وأمّا الآية رقم 95 و96 فقيل: نزلت بشأن امرئ القيس الكندي، كان قد غصب أرضاً من عبدان الأشرع الحضرموتي. فشكاه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنكر امرؤ القيس، فاستحلفه فاستعظم أن يحلف كاذباً، فنزلت الآية(7). وهذه القصة وقعت بالمدينة!
لكن القصة لم تثبت، ولهجة الآية عامّة، وسياقها يشهد بانسجامها الوثيق مع آيات قبلها، تهدف تقريعاً عنيفاً باولئك المشركين المعاندين. وملاحظة عابرة بالآية تجعلنا نطمئن بأنّها مرتبطة تمام الارتباط مع الآية رقم: 91 ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾ توكيداً منها، وتثبيتاً بموقف المؤمنين آنذاك، فلا يشتروا بما عاهدوا الله عليه ثمناً بخساً: عرض هذه الحياة الدنيا، تجاه ما أعد لهم من عظيم الأجر والثواب وحسن الخاتمة(8).
وأمّا آية ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ فقد اختلف المفسرون فيها على ثلاثة اقوال:
الأول: أنّها نزلت يوم اُحد، عندما وقف النبيّ (صلى الله عليه وآله) على حمزة وقد مُثّل به، فما كان أوجع لقلبه الكريم، فقال: أمَا والله لا مثّلنّ بسبعين، أو قال: بثلاثين منهم مكانك!
وهكذا لمّا سمع المسلمون ذلك، قالوا: لئن أمكننا الله منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلاً عن الأموات، وقال بعضهم: لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب! فنزل جبرئيل بالآية، فكفّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن يمينه وأمسك عن الذي أراد.!
الثاني: أنّها نزلت يوم الفتح، فهمّ المسلمون أن يقعوا في المشركين، ويقتلوهم شرّ قتلة، تشفّيقاً بما كانوا يفعلوا بهم يوم اُحد: كان قد اُصيب من الانصار يومذالك أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزن بن عبد المطلب، وقد مثّل بهم المشركون! فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربينّ عليهم، فلمّا كان يوم فتح مكة، وأمكن الله السلمين من المشركين، نزلت الآية للأخذ من حدّة المسلمين، وأن لا يتجاوزوا حدود ما أنزل الله!
الثالث: أنّها عامّة في كلّ ظلم، يحاول المظلوم الانتقام من الظالم، بعد ما يمكّنة الله منه.
وهذه الآية جاءت مزيجة بين الانتقام العادل والصفح الجميل، الأمر الذي يتناسب مع حالة المسلمين يوم كانوا بمكة. ومن ثم قالوا: إنّها منسوخة بآية القتال. وهي نظيرة قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وقوله: ﴿فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ (9). أوائل عهد المسلمين بالمدينة.
وهذا الرأي الأخير هو الصحيح، نظراً إلى سياق الآية نفسها، وماسبتها الوثيقة مع آيات قبلها وبعدها: قال تعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...﴾.
﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ...﴾. ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾(10).
وهذه الآية جاءت تصبّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) على أذى المشركين وتسلّيه عن حزنه عليهم لا حزنه منهم، وهو دليل على أنّ الآية نزلت يوم كان المشركون صموداً تجاه دعاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومتعرّضين أذاه. وكانت نفوس مؤمنة تأبى تحمّل الضيم، وتحاول الانتقام منهم مهما كلّف الأمر(11).
10- الإسراء: (مكيّة)
قالوا: فيها سبع عشرة آية نزلن بالمدينة، وهن: 26، 32، 33، 57، 60، 73، 74، 75، 76، 77، 78، 79، 80، 81، 85، 88، 107.
وهذه مبالغة في القول، لا سند لأكثرها، وإليك بعض التفصيل:
الآية الأُولى: قوله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾(12). قيل: نزلت بالمدينة بعدما فتح الله خيبر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأعطى فاطمة فدكاً(13).
وأخرج أبوجعفر الطبري عن السدّي عن أبي الديلم، قال: قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام) لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن، قال: نعم! قال: أفما قرأت في نبي إسرائيل: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾؟ قال: وإنّكم للقرابة التي أمر الله جل ثناؤه أن يؤتى حقّه؟ قال (عليه السلام): نعم(14).
وأخرج الحافظ الحسكاني حديث نزول الآية بشأن إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) فدكاً، بأسانيد وطرق عديدة(15).
قلت: ولكن ظاهر الآية كونها شريعة عامّة، وظيفة لكلّ مسلم، وجاءت مجملة بوجوب الإنفاق على ذوي القربى والمساكين، كما هو طابع التشريعات ال(مكيّة)، ثم فصّلت حدودها بعد الهجرة بالمدينة.
والآية بعمومها شاملة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أيضاً مأمور بمواصلة الأرحام والإنفاق عليهم وعلى الفقراء، كأحد المسلمين.
إذن فالآية - لعلّها- نزلت للمرة الثانية بعد فتح خيبر، وبعد ما أفاء الله على رسوله والمؤمنينن نزل بها جبرئيل يذكّره بها وجوب مواصلة قرباه، فدعى فاطمة (عليها السلام) وأعطاها فدكاً، ولا دليل على أنّ الآية نزلت - في أوّل نزولها- حينذاك.
أو لعلّ الآية التي نزلت بخيبر، بشأن مواصلة القربى، كانت غيرها: فقد ورد في حديث (منهال بن عمرو) بالشام - أيضاً- عن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(16). وأهل القرى: هم بنو قريظة وبنو النضير. والقرى، هي: فدك وخيبر وعرينة وينبع، أصبحت غنائم في يد المسلمين. وقد نزلت الآية بشأنها حينذاك(17).
فلو صحّ أنّ جبرئيل(عليه السلام) جاء بالآية الأُولى أيضاً، فهو تذكير للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بحكم سابق، وتأكيد لحكم حاضر. هذا إذا لم يكن الراوي قد اشتبهت عليه إحدى الآيتين بالأُخرى!
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾(18).
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾(19).
والقائل باستثناء هاتين الآيتين لم يعلل استثناءه بشيئ(20).
ولعلّه نظر إلى ظاهر تشريع حرمة الزنا وقتل النفس، حيث كان تشريع الأحكام بالمدينة!
لكن فاته أن تحديدات الحدود وتفاصيل الأحكام جاءت بالمدينة، أمّا أُسس الشريعة وكليّات الأحكام في صورها الإجمالية فقد جاءت في سور (مكيّة) وبمكة كثيراً. وهاتان الآيتان جاءتا بمكة على نفس النمط.
قال السدّي: آية ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾ نزلت يوم لم تكن حدود. فجاءت بعد ذلك في سورة النور - وهي مدنيّة- (21).
وقال الضحّاك في آية القتل: كان هذا بمكة، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) بها. وهو أوّل شيئ نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون يغتالون أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) يومذاك، فهمّ أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفعلوا بهم مثل ذلك، فقال جلّ ثناؤه: من قتلكم فلا يحملنّكم عمله على أن تقتلوا أباه أو أخاه أو أحداً من المشركين، كما كانت العادة الجاهليّة جارية على قتل الأخ بأخيه أو آخرين من أفراد قبيلته، فلا يقتلنّ أحدكم إلاّ القاتل نفسه(22).
الآية الرابعة: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾(23).
والآية، بقرينة الآية قبلها تتناسب مع نزولها بمكة، ولم نعرف وجه هذا الاستثناء الذي جاء في المصحف الأميري وغيره!
الآية الخامسة: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ﴾(24).
جاء هذا الاستثناء في كلام جلال الدين، نظراً لأنّ الآية نزلت في رؤيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهمّته، رأى بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، ولم ير ضاحكاً حتى مات (صلى الله عليه وآله)(25).
هذا ... والنبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن له منبر بمكة!
وقد تقدّم كلامنا في ذلك، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أُري اعتلاء دعوته المباركة، وأُري أيضاً تطاول أيدي الغاصبين لمنصبه الإلهي فساءه ذلك(26).
السادسة و السابعة والثامنة:
قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾(27).
لاشك أنّ الآيات مكيّات، نزلن بشأن مشركي قريش عرضوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسالمته مع آلهتهم، فنهرهم نهراً، ونزلت الآيات تثبيتاً بموقف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك المشرّف، وتيئيساً للمشركين نهائياً، لئلا يطمعوا في رسول الله، وهو داعية إلى التوحيد الخالص ونبذ الإشراك كليّاً، أن يجامل فيما يناقض دعوته إلى الله وحده لا شريك له!(28).
ولم نعرف وجهاً صحيحاً لاستثناء هذه الآيات الثلاث، كما جاء في كلام جلال الدين(29) وفي المصحف الأميري وغيرهما!.
التاسعة والعاشرة:
قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً . سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾(30).
وجه الاستثناء: ما قيل في سبب نزولهما: أنّ اليهود أتوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: إن كنت نبيّاً فأت الشام أرض الأنبياء، فصدّقهم على ذلك. وغزا غزوة تبوك، لا يريد إلاّ اللحاق بالشام، فلمّا بلغ تبوك أنزل الله عليه هاتين الآيتين، فأمره بالرجوع إلى المدينة، ففيها محياه ومماته ومبعثه يوم القيامة(31).
لكنه معارض بما ورد: أنّهما نزلتا بشأن مشركي مكة، همّوا بإخراج الرسول من مكة بنفس الأُسلوب، قالوا له (صلى الله عليه وآله): كانت الأنبياء (عليهم السلام) يسكنون الشام فما لك وسكنى هذه البلدة! أو همّوا بإخراجه عنفاً، لأنّ الاستفزاز هو الإزعاج بعنف، وظاهر الآية يرجّح المعنى الثاني، كما أنّ المشركين لمّا فعلوا ذلك بعدئذ طبّقت عليهم سنّة الله في الخلق، بدأت بقتلى بدر، وانتهت بفتح مكة وإخراج المشركين منها نهائياً(32).
الحادية عشرة إلى الرابعة عشرة:
قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً . وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً . وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً . وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾(33).
زعم المستثني: أنّها من تتمّة الآيتين السابقتين نزولا بالمدينة(34). وهو زعم باطل، بعد أن لم يثبت الأصل فكيف بالفرع!
وقد أخرج أبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس: أنّ قوله: ﴿وقل رب أدخلني مدخل صدق...﴾ نزل بمكة قبيل هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم)(35).
على أنّ الآيات في سياقها المتّصل، سبقاً ولحوقاً، بنفسها تشهد بنزولها بمكة، ولا تنسجم مع القول بنزولها في المدينة بشيئ.
الخامسة عشرة:
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(36).
أخرج جماعة من أهل الحديث: أنّ هذا السؤال كان من يهود المدينة، بعد الهجرة(37).
لكنه معارض بما ورد أنّ هذا السؤال وقع من مشركي قريش، سألوه عن الروح الذي جاء ذكره في القرآن(38) أو أنّ اليهود أو عزوا إلى المشركين توجيه هكذا سؤال إلى محمد (صلى الله عليه وآله). قالوا: فإن أجابكم فليس بنبيّ وإن لم يجبكم فهو نبيّ(39).
هذا مضافاً إلى أنّ ذيل الآية تشهد بأنّها خطاب مع المشركين، وعن عطاء بن يسار: أنّ قوله تعالىّ: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ نزلت بمكة(40).
السادسة عشرة:
قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(41).
أَخرج الطبري: أنّ الآية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة، بسبب قوم من اليهود جادلوه في تناسق القرآن، فانكروا تناسقه وزعموا أنّ التوراة أنسق منه(42).
لكن رنّة الآية الأخّاذة تشي بنزولها بشأن مشركي قريش تحدّياً معهم حينما سألوه مخاريق غريبة غلى جنب مطاليب تافهة، تجاه نزول القرآن.
وهذه الآية نزلت تمهيداً للتشنيع المتّجه إليهم في آيات بعدها: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا﴾(43). إلى تمام الاربع آيات، والتي تستتبعها إلى الآية السابعة والتسعين. فراجع نفس الآيات.
الآية الأِخيرة وهي السابعة عشرة:
قوله تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾44).
قال جلا الدين: نزلت بالمدينة، لما أخرجاه في أسباب النزول(45).
لكنه لم يخرج شيئاً بهذا الشأن، لا في لباب النقول ولا في الدر المنثور!!
والآية بسياقها تشهد بأنّها (مكيّة)، نزلت توبيخاً لصمود المشركين تجاه نزول القرآن وإباءهم عن الإيمان به، وتلميحاً بأنّ هذا العناد هو أثر الجهل الأعمى والتوحّش الفادح الذي تمكّن من نفوسهم القاسيّة، أمّا أهل المدينة والثقافة فإنّهم إذا لمسوا من حقيقة القرآن الواضحة يؤمنون به فوراً بلا ارتياب، كناية بأن هؤلاء المشركين بعيدون عن الحضارة والعلم، ومن ثم هذا التأنّف والشموخ الجاهل!
11- سورة الكهف: (مكيّة)
استثنى بعضهم منها اثنين وثلاثين آية، زعمها نزلت بالمدينة. وهذا إسراف في القول، لأنّ هذا يعني: أنّ ثلث السورة، ولا سيّما ثماني آيات من أوّلها مدنيّة، فكان جديراً ثبتها في المدنيّات!
قال جلال الدين: استثنى من أوّلها إلى قوله: ﴿جُرُزاً﴾ الآيات رقم 1- 8 نزلت بالمدينة(46).
ولا دليل لهذا الاستثناء إطلاقاً، مضافاً إلى استلزامه أن تكون السورة مدنيّة لا (مكيّة)! لأنّ الاعتبار في ال(مكيّة) والمدنيّة إنما هو بمفتتح السورة وشيء من آيات من اوّلها. هذا والإجماع منعقد على أنّ سورة الكهف (مكيّة) لا اختلاف فيها(47).
ولعلّ المستثني نظر إلى قوله تعالى: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾(48).
ولكن ذلك لا يستدعي نزولها بالمدينة لمناسبة وجود اليهود فيها، بل هي عامّة تشمل النصارى والمشركين أيضاً، على أنّ نزول آية بشأن قصّة يهودّية لا تستوجب مقارنة نزولها يوم كانوا ينابذون الإسلام، والآيات بهذا النمط كثيرة في سورة (مكيّة)، وذلك لوجود الصلة القريبة بين اليهود والمشركين قبل مهاجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
قال أيضاً باستثناء قول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... إلى قوله: فُرُطًا﴾(49).
زعمها نزلت في عيينة بن حصن، عرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آنذاك بالمدينة، أن يتباعد مجلس فقراء المؤمنين، إن كان يريد إسلام عظماء البلد(50).
لكن الصحيح أنها نزلت في اُميّة بن خلف، عرض عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك وهو بمكة فدعى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى طرد الفقراء وتقريب صناديد قريش(51). ولهجة الآية وسياقها أيضاً تشي بذلك.
وفي المصحف الأميري وتاريخ القرآن للزنجاني: استثناء قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ... إلى قوله: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾(52). تسع عشرة آية.
زعموا أنّ الذينّ وجّهوا هذا السؤال إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانوا هم اليهود أنفسهم، ومن ثم كان نزول الآيات - بصدد الإجابة - في المدينة(53).
والصحيح أنّ المشركين هم الذين سألوا هذا السؤال، لكن بتعليم من اليهود، كان المشركون بعثوا من يسأل اليهود عن أوصاف رسول الله، فأجابوهم بأسئلة يوجّهونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن أجاب فهو نبيّ حقاً.
روى أبو جعفر الطبري: أنّ قريشاً بعثت النضربن الحرث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل - التوراة - وعندهم علم ما ليس عندنا، من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب سلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟. سلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنّه بنيّ فاتّبعوه... الخ. والحديث طويل وفي نفس الوقت طريف(54).
وفي الإتقان جاء استثناء قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾ إلى آخر السورة(55). أربع آيات(56).
هذا... ولم يبيّن سند هذا الاستثناء الغريب! ولعلّه سهو أو جزاف من الكلام، إذ لا شيء في الآيات يصلح دليلاً على مدنيّتها، ولا ورد في تفسيرها ما يتناسب ونزولها بالمدينة!!
نعم روى في الدر المنثور عن مجاهد قال: كان من المسلمين من يقاتل وهو يحبّ أن يرى مكانه، فانزل الله، ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ...﴾(57). لكن لحن الاية وفحواها لا تلتئم وذلك.. وروى الطبرسي عن ابن عباس: لما نزل قوله ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قالت اليهود، أُتينا التوراة وفيها علم كثير. فأنزل الله ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ...﴾ وذلك قال الحسن: أراد بالكلمات العلم(58). لكن هذا لا يدلّ على كونها نزلت بالمدينة كما مرّ غيرة مرة!.
12- سورة مريم: (مكيّة)
قال جلال الدين: استثني منها آيتان(59).
1- آية السجدة: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ- إلى قوله-: خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾(60).
ويكذبه: أنّ هذه الآية نزلت تعقيباً على الآيات التي سبقتها من أوّل السورة إلى هنا، ذكرت أحوال الأنبياء وأُمم سالفة بتفصيل، ثم جاء مدحهم جميعاً بصورة إجمالية في هذه الآية، كأنّها تلخيص لتلكم السمات والأوصاف، وكانت نتيجة عليها، فأمّا أن نقول بأن جميعها من أوّل السورة إلى هذه الآية مدنيّة أو كلّها (مكيّة)، ولا موقع لهذا الاستثناء الغريب، والذي لم يبيّن المستثنى سنده في ذلك!!
2- قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾(61).
وهذه كسابقتها مرتبطة تمام الارتباط بآيات اكتنفتها سبقاً ولحوقاً، بما لا يدع مجالا لاستثنائها وحدها.
13- سورة طه: (مكيّة)
استثني منها آيتان: الأُولى قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾(62).
لكن الآية تفريع على آيات سبقتها، مضافاً إلى لهجتها الخاصّة بآيات (مكيّة). وورد في تفسيرها ما يؤكّد نزولها بمكة(63).
الثانية قوله تعالى: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ...﴾(64).
قال جلال الدين: لما أخرجه البزّار عن أبي رافع، كان بعثه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك، فنزلت الآية(65).
لكن القصة - على فرض صحّتها- لا تصلح داعية لنزول هذه الآية بشأنها، ولا مناسبة بينها وبين فحوى الآية رأساً.
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة الشيخ محمد هادي معرفة
1- راجع الميزان: ج12 ص205.
2- تفسير العياشي: ج2 ص151-252 ح43و44.
3- النحل: 41.
4- الإتقان: ج1 ص15. وفي مجمع البيان: ج6 ص347 نسبه إلى الحسن وقتادة.
5- الدر المنثور: ج4 ص135.
6- النحل: 95-96.
7- مجمع البيان: ج6 ص347.
8- الدر المنثور: ج4 ص118.
9- مجمع البيان: ج6 ص384.
10- راجع الدر المنثور: ج4 ص129.
11- البقرة: 190 و191.
12- النحل: 125 و 126 و127.
13- راجع مجمع البيان: ج6 ص393. والدر المنثور: ج4 ص135.
14- الاسراء: 26.
15- الدر المنثور: ج4 ص177. ومجمع البيان: ج6 ص411.
16- تفسير الطبري: ج15 ص53.
17- شواهد التنزيل: ج1 ص338- 341.
18- الحشر المدنية: 7.
19- مجمع البيان: ج9 ص260 – 161. وجاء في الدر المنثور: ج6 ص189 إشارة.
20- الاسراء: 32.
21- الاسراء: 33.
22- تاريخ القرآن لابي عبدالله الزنجاني: ص28.
23- الدر المنثور: ج4 ص179.
24- الدر المنثور: ج4 ص181.
25- الاسراء: 57.
26- الاسراء: 60.
27- الدر المنثور: ج4 ص191.
28- تقدم ذلك في الصفحة: 157.
29- الاسراء: 73 – 74 – 75.
30- راجع مجمع البيان: ج6 ص431. والدر المنثور: ج4 ص194.
31- الإتقان: ج1 ص15.
32- الاسراء: ج76 – 77.
33- مجمع البيان: ج6 ص432. والدر المنثور: ج4 ص195.
34- راجع: نفس المصادر.
35- الاسراء: 78 و 79 و 80 و81.
36- الإتقان: ج1 ص15.
37- الدر المنثور: ج4 ص198. وتفسير الطبري: ج15 ص100.
38- الاسراء: 85.
39- الدر المنثور: ج4 ص199. وتفسير الطبري: ج15 ص105.
40- و (113) راجع مجمع البيان: ج6 ص437 والدر المنثور: ج4 ص199.
41- و (115) تفسير الطبري: ج15 ص106.
42- الاسراء: 88.
43- الاسراء: 90.
44- الاسراء: 107.
45- الإتقان ج1 ص15. وفي الدر المنثور: ج4 ص205: أخرج ابن جرير عن مجاهد: أنّ الذين أُتوا العلم من قبله هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل الله على محمد.. ولكنّ ذلك لا يستدعي نزول الآية بالمدينة، كما لا يخفى.
46- نفس المصدر.
47- راجع الدر المنثور: ج4 ص208.
48- الكهف: 4.
49- الكهف28. الإتقان: ج1 ص15، وتأريخ القرآن لأبي عبدالله الزنجاني: ص29.
50- الدر المنثور: ج4 ص220.
51- أسباب النزول بهامش الجلالين: ج1 ص230. والدر المنثور: ج4 ص220.
52- الكهف: 83 – 101.
53- الدر المنثور: ج4 ص340.
54- جامع البيان: 215 ص127 وج16 ص7. والدر المنثور: ج4 ص210. ولباب النقول بهامش الجلالين: ج1 ص228.
55- الكهف: 107-110.
56- الإتقان: ج1 ص15.
57- الدر المنثور: ج4 ص255.
58- مجمع البيان: ج6 ص499.
59- الإتقان: ج1 ص15.
60- مريم: 58.
61- مريم:71.
62- طه: 130.
63- تفسير الطبري: ج16 ص168.
64- طه: 131.
65- الإتقان: ج1 ص16. وراجع تفسير الطبري: ج16 ص169.