1- سورة الفاتحة: (مكيّة)
حكى أبو الليث السمرقندي قولاً بأن نصفها نزلت بالمدينة.
قال جلال الدين: لا دليل لهذا القول(1). كما سبق: أنّها من أوائل ما نزلت بمكة كاملة، وكان المسلمون يقرأون بها في الصلاة.
2- سورة الأنعام: (مكيّة)
(نزلت بمكة جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد وقد طبقوا ما بين السماء والأرض، وكانت ليلة جمعة، وكانت لنزولهم هيبة وعظمة، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم، وخرّ ساجداً. ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم).
هذا الحديث مستفيض رواه الفريقان بطرق يعضد بعضها بعضاً(2). قال جلال الدين: فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضاً(3). ومن ثم لا وقع لقول أبي عمرو بن الصلاح: أنّ الخبر المذكور جاء من حديث أُبي بن كعب، وفي إسناده ضعف، ولم نر له إسناداً صحيحاً، وقد روي ما يخالفه(4).
قلت: استفاضة الطرق إلى عدّة من الأصحاب غير أُبي بن كعب أيضاً كافية للاستناد إليها.
هذا ... وأمّا رواية المخالف فضعيفة وغير ثابتة.
قال ابن الحصّار: استثنى منها تسع آيات، ولا يصحّ به نقل(5). وسنتكلذم فيما زعموا صحّتها من روايات الاستثناء(6).
وجاء في المصحف الأميري وفي بعض كتب المقلّدة استثناء تسع آيات من غير تحقيق، نبحث عن كلّ واحدة واحدة فيما يلي:
الأُولى: قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ﴾(7).
الثانية: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾(8).
ولا شاهد للاستثناء في هاتين الآيتين إطلاقاً. ولعلّ السبب مجيء ذكر أهل الكتاب فيهما، على غموض في الثانية. ولا دليل في ذلك، بعد أن جاء ذكر أهل الكتاب في كثير من سور (مكيّة). كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(9)، ولم يستثنها أحد. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾(10). وامثال ذلك كثير.
الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾(11).
قرأ ابن كثير وأبوعمرو: ﴿يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً﴾(12) قيل: نزلت في جماعة من اليهود، قالوا: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً.
وقيل: نزلت في مالك بن الصيف، وكان حبراً من أحبار يهود قريظة، وكان سميناً، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، اما تجد في التوراة: (إنّ الله يبغض الحبر السمين)؟. فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيئ وقيل: الذي خاصم النبيّ (صلى الله عليه وآله) في هذا المقال هو فنحاص بن عازوراء اليهودي.
وقيل: نزلت في مشركي قريش، حيث أنكروا النبوّات رأساً(13).
قال أبو جعفر الطبري: وأولى هذه الأقوال بالصواب، هو القول الأخير، إذ لم يجر لليهود ذكر قبل ذلك. وليس إنكار نزول الوحي على بشر ممّا تدين به اليهود، بل المعروف من دينهم الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود. ولم يكن الخبر بأنّها نزلت في اليهود خبراً صحيحاً متصل السند، ولا أجمع المفسّرون على ذلك. وكان سياق السورة من أوّلها إلى هنا جارياً في المشركين، فناسب أن تكون هذه الآية أيضاً موصولة بما قبلها لا مفصولة منه. فلم يجز لنا أن ندّعي فصلها إلاّ بحجّة قاطعة من خبر أو عقل. ولعلّ الذي أوقع هذا القائل في الوهم المذكور ما وجده في قوله تعالى:﴿تجعلونه...﴾ على وجه الخطاب. ولكن الأصوب من القراءة أنّها بياء الغيبة(14).
قلت: ونحن إذ نصادق أبا جعفر في هذا التحقيق، نضيف اليه: أنّ القصة التي ذكروها بشأن مالك بن الصيف في محاورته تلك مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) تتنافى تماماً مع خُلق رسول الله الكريم، النبيّ لا يجرح من عاطفة إنسان إطلاقاً، كما وننزّه كتاب الله العزيز عن التعرّض لهكذا أُمور تافهة لا قيمة لها، أو تنزل بشأنها آية!!
إذن فقوله: ﴿وعلمتم...﴾ خطاب موجّه إلى المشركين، بعد تلك الحكاية - بصورة الغيبة كما رجّحها أبوجعفر- عن أهل الكتاب.
وأمّا القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الجميع، فلا تستدعي اختصاص الخطاب بأهل الكتاب، بل إلى البشرية باعتبار فعل بعضهم ممّن نزل عليهم الكتاب. ولاسيّما ومساس العرب المشركين مع اليهود ومخالطتهم معهم في الجزيرة، ومن ثمّ جاء الكلام عن بني إسرائيل في سور (مكيّة) كثيراً، كما في سورة الأعراف(15).
ويشهد بذلك قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾(16) خطاباً مع أهل مكة، وسورة الأنبياء المكية أيضا(17). وقد كان للعرب صلة وثيقة وثقة بأهل الكتاب، ويعرفونهم أهل علم وثقافة، وكثيراً ما يسألونهم عن تاريخ الأُمم والأنبياء ويعتمدون كلامهم، فجاز أن يخاطبوا بخطاب اليهود المجاورين لهم المخالطين معهم الموثوق بهم عندهم!
الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ﴾(18).
قالوا: نزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى...﴾ في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي عثمان من الرضاعة. وكان أسلم وكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإما نزلت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾(19) دعاه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأملاها عليه. فلمّا انتهى إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هكذا أُنزلت عليّ، فشك عبدالله حينئذ، وقال: لئن كان كاذباًَ لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام، ولحق أهل مكة، فجعلوا يقولون له: كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: كنت أكتب كيف شئت. وذلك أنّه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يملي عليه (عليماً حكيماً) فيكتب (غفوراً رحيماً) يزيد وينقص ويبدّل في كتاب الله، ولا يشعر به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم شك في رسالته، وكفر ولحق بقريش، فأهدر النبيّ (صلى الله عليه وآله) دمه! لكن عثمان أجاره يوم الفتح، والحّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى عفى عنه(20).
لكن الحديث مكذوب من أصله. لأنّ سورة (المؤمنون) (مكيّة)، ولم يستثن أحد تلك الآية. فكيف يكتبها ابن أبي سرح بالمدينة ثم يرتدّ إلى مكة؟! ثم أنّى لبشر أن يتقوّل على الله كذباً وينتحله وحياً، وقد ضمن الله لكتابه الكريم بالحفظ. ثم لا يشعر الرسول بدسّ كاذب مفتر على الله فيما أنزله الله عليه!! وهل تبقى - بعد هذا الاحتمال- ثقة بنصوص الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟!
نعم هناك ثلاث آيات من ثلاث سور، قيل في كلّ واحدة منها: أنها نزلت بشأن ابن أبي سرح. هذه إحداها!
والثانية قوله: تعالى: ﴿وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ﴾(21).
والثالثة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً﴾(22).
وهذه الأخيرة أنسب وأولى بالقبول، كما روي ذلك عن الإمامين محمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)(23).
إذن فالصحيح في الآية الأُولى هو ما قاله أبو جعفر الطبري: هي عامّة، تصف موقف الإنسان عموماً تجاه رسالات الأنبياء (عليهم السلام): فمن منكر معاند لا يصدّق بأي رسالة جاءت من قبل الله. وآخر مسترسل ضعيف يؤمن بكلّ دعوى رساليّة، حتى ولو كانت نزغة شيطانيّة، من غير تدبّر ولا تفكير صحيح. ومن ثم وبّخت الآية هذا النمط من الاسترسال الهابط، وتلك الجرأة الظالمة تجاه ربّ العزّة، فيفترى عليه تعالى ظلماً وعدواناً. ولا مساس للآية بقضية ابن أبي سرح بالخصوص.
على أنّ قوله تعالى: ﴿سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ﴾ لا ينطبق مع موقف ابن أبي سرح تجاه رسول الله (صلى الله عليه وآله). نعم كان ينطبق عليه لو كانت الآية هكذا: (سأُنزل مثل ما أنزل محمد)...!
وقد ناقض سيد قطب هنا بشأن الآية، ففي موضع رجّح كون السورة (مكيّة) كلّها، وفي موضع آخر اعتمد على روايات الاستثناء!(24).
الخامسة: قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾(25).
وليس في الآية ما يدعو إلى الظنّ بأنّها مدنيّة إلاّ ذكر أهل الكتاب فيها. وقد سبق أنّ هذا وحده ليس دليلاً، فقد ورد مثلها في آيات (مكيّة) كثيراً. ويرجع السبب إلى ثقة العرب المشركين بمن جاور بلادهم من أهل الكتاب، فيرونهم أهل علم ودراية، ومن ثم قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾(26) يعني أهل الكتاب ولا سيّما اليهود. وهذه الآية (مكيّة) بالإجماع، ما خلا ما نسب إلى جابر بن زيد، وقد ردّ عليه السيوطي من وجهين فراجع(27).
السادسة: قوله تعالى: ﴿وَهُو الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ .. إلى قوله: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾(28).
ولعل القائل بمدنيّتها فسّر الحقّ الواجب بالزكاة، والزكاة لم تقرّر بأنصبتها المحددة في الزروع والثمار إلاّ في المدنية.
ولكن هذا المعنى ليس متعيّنا في الآية، لأنّها فسّرت بمطلق الصدقة من غير تحديدن وهي بهذا الإطلاق كانت واجبة في مكة، وجاءت الإشارة إليها في قوله: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ الآية رقم:19 من سورة الذاريات ال(مكيّة) باجماع. وجاء ذكر الإنفاق والصدقة في كثير من آيات (مكيّة).
وجاءت روايات مأثورة، بأنّ الحقّ في هذه الآية يعني الإنفاق وإعطاء اليتامي والمساكين - عن سعيد بن جبير وغيره- ثم نسخت بآية الزكاة فيما بعد(29) وروي ذلك عن الإمام أبي عبدالله الصادق، عن آبائه (عليهم السلام)(30).
السابعة: قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...﴾(31).
الثامنة: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...﴾(32).
التاسعة: قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ...﴾(33).
قال السيوطي: وقد صحّ النقل عن ابن عباس باستثناء هذه الآيات الثلاث(34) والرواية هي: ما أخرجه ابوجعفر النحّاس في كتابه (الناسخ والمنسوخ) عن طريق أبي عبيدة معمّر بن المثنى، عن يونس، عن ابي عمرو، عن مجاهد عن ابن عباس...(35).
وأبو عبيدة هذا كان رجلا به شذوذ، كان يرى رأي الخوارج، وكان بذي اللسان متهتّكاً قليل العناية بالقرآن، وإذا قرأه قرأه نظراً(36)، ومن ثم لا يعتمد على نقله فيما يخضّ الكتاب والسنّة، اللهمّ إلاّ في رواية الشعر والأدب. ولا ندري بم صحّح جلال الدين سند هذا النقل؟!
هذا وقد روى أبونعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لمّا أمر الله نبيهّ أن يعرض نفسه على القبائل، خرج إلى منى وأنا معه وأبوبكر، وكان رجلاً نسّابة، فوقف على مضاربهم بمنى وسلّم عليهم فردّوا عليه السلام، فتكلم معه القوم، حتى سألوه: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ﴿قل تعالوا اتل ما حرم ربكم - إلى قوله: لعلكم تتقون﴾ تمام الآيات الثلاث. فأعجبهم كلام الله، وقالوا: فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان لعرفناه...(37) فالآيات كانت نازلة حينذاك بمكة(38). على أنّ لحن الآيات وأُسلوب التعبير فيها - أيضاً- يشهد بمكيّتها.
وتلخّص: أنّ سورة الانعام كلّها (مكيّة)، ليست منها آية مدنية إطلاقاً. ولم يثبت شيئ مما قيل باستثنائه أصلاً، لا نقلاً ولا عقلاً، على ما أسلفنا.
3- سورة الأعراف: (مكيّة)
أخرج ابن ضريس والنحّاس وابن مردويه من عدّة طرق عن ابن عباس: أنّها نزلت بمكة(39).
قال قتادة: سوى آية واحدة: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾(40). قال: نزلت بالمدينة(41).
وقال غيره: إلى نهاية الآية رقم: 171(42). وهي قوله: ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ...﴾.
قلت: ودليل قتادة هو الأمر بسؤال اليهود، وهو يناسب - كما زعم- أيّام كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة. وهذا ليس دليلاً، إذ لا مستند لعود الضمير إلى اليهود، فلعلّه يعود إلى المشركين أنفسهم، لمكان معرفتهم بقصّة أصحاب السبت، والقرية - وهي أيلة- كانت على ساحل البحر الأحمر، مما يلي الشام. وهي آخر الحجاز وأوّل الشام، مدينة يهوديّة صغيرة كانت عامرة(43)، وكانت قريش تمرّ عليها في رحلتها الصيفيّة التجاريّة، وكانت تتصّل بهم أخبارها، ومن ثمّ كانوا على معرفة من أهلها اليهود الذين عتوا عن أمر ربّهم.
وأمّا قول غيره فلا مستند له إطلاقاً، ولا سند معروف فالصحيح أنّ هذه الآيات متناسقة مع غيرها من قصص أُمم الأنبياء نزلت على قريش ليعتبر أُلوا البصائر منهم، إذن يكون الترجيح مع القول بأنّ جميعها مكيذة، لا استثناء فيها.
4- سورة يونس: (مكيّة)
استثنى بعضهم منها أربع آيات:
الأُولى: قوله تعالى: ﴿وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾(44). زعم بعضهم أنّها نزلت في اليهود(45). لكن السياق يأباه.
الثانية: قوله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ...﴾(46).
الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ...﴾(47).
الرابعة: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ...﴾(48).
زعموها - أيضاً- نزلت في اليهود. ولا دليل لهم في ذلك، والسياق واحد متّصل. ولعلّ ذكر أهل الكتاب هو الذي أوقعهم في هذا الزعم! مع العلم بأنّ هذه الآيات ليست بأصرح من قوله: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ﴾(49) الآية ال(مكيّة) بالإجماع.
وقيل: من الآية: رقم 40 إلى نهاية السورة كلّها نزلت بالمدينة(50) ولا شاهد لهذا القول إطلاقاً. ولحن الآيات ولهجتها أيضاً تأباه.
والخلاصة: القائل بالاستثناء في هذه السورة، لا يملك دليلاً موثوقاً به ولا سنداً يعتمد عليه. كما أنّ سياقها ينادي بمكيّتها بوضوح. ومن ثم نرجّح كونها (مكيّة) أجمع.
5- سورة هود: (مكيّة)
استثني منها ثلاث آيات:
الأُولى: قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ﴾(51).
لكن السياق يشهد - صراحة- بأنّها (مكيّة). وقد روي في سبب نزولها ما يجعلها أيضاً (مكيّة) قطعيّاً(52).
الثانية: قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾(53). استشهد من قال بمدنيتها بقوله: (كتاب موسى). وبقوله: (من الأحزاب).
لكن لا شاهد فيهما، بعد أن جرى ذكر موسى في كثير من آيات (مكيّة).
والاحزاب إشارة إلى قبائل عربيّة متحزّبة ضدّ الرسول، وقد كانت تحزّبت منذ أن شعر المشركون بخطر نفوذ الإسلام في الجزيرة وسرعة انتشاء الدعوة(54). ولا شاهد على إرادة وقعة الأحزاب.
الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ﴾(55).
روى أبوجعفر الطبري بإسناده عن أبي ميسرة. قال: جاءتني إمرأة تبتاع منّي تمراً، فقلت لها: إنّ في البيت تمراً أجود، فأدخلتها البيت وأهويت إليها وأقبّلها وآتي منها ما يأتي الرجل من امرأته سوى الجماع، حتى مسست بيدي دبرها. ثم خرجت فذكرت ذلك لأبي بكر وعمر، فقالا: استر ذلك على نفسك ولا تخبرن أحداً. ثم ذكرت ذلك للنبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: هل جهّزت غازياً؟ قلت: لا. فقال: هل خلفت غازياً في أهله؟ قلت: لا. فقال: استغفر ربّك وصلّ أربع ركعات. ثم تلا: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ﴾ ثم قال: إنّها للناس عامّة، وفي رواية: نزل بها جبرئيل لساعته(56).
وهذه الرواية بهذا السياق باطلة عندنا البتة. لأنّها تجرئة على المعاصي، فليفعل أيّ إنسان ما يريد ثم يعمد إلى صلاة يصليها لتكون كفّارة عن كلّ ذنب يقترفه. هذا فضلا عن التهافت في نفس الرواية وعدم انسجامها مع الآية، وهو دليل آخر على وهنها. وأخيراً ففي أكثر الروايات: ثم تلا عليه الآية، وليس فيها أنّها نزلت تحينذاك. كما روي غير هذه الأُقصوصة أيضاً.
والصحيح عندنا: أن سورة هود (مكيّة) بأجمعها، نظراً لوحدة سياقها المنتظم على اسلوب تقريعي بديع يتناسب والدعوة في مكة.
6- سورة يوسف: (مكيّة)
في المصحف الأميري: استثناء ثلاث آيات من أولها (1 -3) وقوله: ﴿لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ﴾(57). قال جلال الدين: وهو واه جداً، لا يلتفت إليه(58). قلت: ونحن نربأ بمثل العلاّمة أبي عبد الله الزنجاني أن يتابع ثبت المصحف المصري من غير تحقيق، فيسجّله في كتابه القيم (59). وفضح الأمر أوضح من أن يستره وهم.
7- سورة إبراهيم: (مكيّة)
قال الزركشي: سوى آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين وهما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ. جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾(60).
والأصل في ذلك: ما روي عن سعد، عن عمر بن الخطاب قال: الذين يدّلوا نعمة الله كفراً، هما: الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أُميّة. أمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر. أو قال: استأصلهم الله يوم بدر. وأمّا بنو اميَّة. فمتّعوا إلى حين (61). وهكذا روي عن الإمام الصادق، وزاد، بلى هي قريش قاطبة (62).
لكن لا دلالة في ذلك على أنّهما نزلتا يوم بدر أو بعده. وإنّما كانت وقعة بدر مصداقاً من مصاديق البوار الذي أنذروا به. أمّا المصداق فهي جهنم يصلونها وبئس القرار. فهذا الاستثناء كان نتيجة عدم التدبّر في تأويل الآية بزعم أنّه السبب الداعي للنزول!
8- سورة الحجر: مكية
قال جلال الدين: ينبغي استثناء قوله تعالي: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾(63). لما أخرجة الترمذي: أنّها نزلت في صفوف الصلاة(64).
وقال الحسن: إلاّ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي ...﴾(65). وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾(66).
قلت: سياق الاية يأبى حملها على صلاة الجماعة. بشاهد قوله تعالى قبل هذه الآية: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾، وكذا الآية بعدها: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾، وإنما المعنى: ولقد علمنا بالأموات الماضين وبالأحياء الباقين(67). أمّا رواية الترمذي قهي مقطوعة وفي اسنادها ضعف، مضافاً إلى عدم انسجامها مع الآية.
وامّا استثناء الآية رقم: 87 فمستند غلى قول مجاهد: إنَّ سورة الفاتحة نزلت بالمدينة. وتقدّم انّها هفوة منه، والإجماع على خلاف قوله(68).
وأمّا آية المقتسمين، فزعمها نزلت في اليهود والنصارى ممّن آمنوا ببعض القرآن وكفروا بالبعض(69). لكنّه زعم باطل، لأنّ اليهود لم يؤمنوا بالقرآن إطلاقاً، ولم يكونوا هم المنزل عليهم. نعم كان إيمانهم بالكتب النازلة عليهم كذلك يؤمنون بالبعض ويكفرون بالبعض.
والصحيح أنّ الآية المذكورة نزلت في المشركين الذين جعلوا من القرآن بعضه سحراً وبعضه أساطير الأوّلين وبعضه مفترى وغير ذلك، وكانوا يتفرّقون على أبواب مكّة يصدّون الناس عن القرآن ويقولون على الله الكذب(70).
وقد روى العياشي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): أنّها نزلت في قريش(71).
1- الإتقان: ج1 ص14.
2- الانفال: 30.
3- فتح الباري: ج9 ص38.
4- الإتقان: ج1 ص12 و14.
5- تفسير العياشي: ج1 ص353ح1. ومجمع البيان: ج4 ص271. والدر المنثور: ج3 ص2.
6- الإتقان: ج1 ص37.
7- البرهان: ج1 ص199.
8- الإتقان: ج1 ص15.
9- عند استثناء الآيات رقم: 7و8و9.
10- الانعام: 20.
11- الانعام: 23.
12- العنكبوت: 46 و 47.
13- الانعام: 91.
14- الكشف عن القراءات السبع: ج1 ص440.
15- تفسير الطبري: ج7 ص177. ومجمع البيان: ج4 ص333.
16- جامع البيان: ج7 ص178. وهكذا وافقه سيد قطب في ظلال القرآن: ج7 ص302-303.
17- الآية: 102و160.
18- النحل: 43.
19- الآية: 7.
20- الأنعام: 93.
21- المؤمنون: 12.
22- نفس المصادر.
23- النحل: 106. تفسير الطبري: ج7 ص181
24- النساء: 137.
25- تفسير العياشي: ج1 ص281 ح288. وامّا الذي جاء في التفسير المنسوب إلى علي بن ابراهيم القمي:ج1 ص210 من نزول آية الأنعام(93) بشأن ابن أبي سرح، ففيه من المناكير ما يرفض صدوره من المعصوم (عليه السلام) إذ فيه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يُقرّه على تبديله النّص ويقول له: هو واحد..!!
26- في ظلال القرآن: ج7 ص106و306.
27- الانعام: 114.
28- النحل: 43-44. وفي سورة الأنبياء: 7بدون الذيل
29- الإتقان: ج1 ص15.
30- الانعام: 141
31- راجع الدر المنثور: ج3 ص49. وتفسير الطبري: ج8 ص44.
32- مجمع البيان: ج4 ص375.
33- الانعام: 151.
34- الأنعام: 152.
35- الأنعام: 153.
36- الإتقان: ج1 ص15.
37- الإتقان: ج1 ص9.
38- الفهرست: ص59. وتهذيب التهذيب: ج10 ص247. وميزان الاعتدال: ج4 ص155. ونقدّم ذلك في الصفحة: 148.
39- (40) الدر المنثور: ج3 ص54.
40- تفسير الطبري: ج8 ص60.
41- الدر المنثور: ج3 ص67.
42- الأعراف: 163.
43- الكشف عن القراءات السبع: ج1 ص460.
44- الإتقان: ج1 ص15.
45- معجم البلدان: ج1 ص292.
46- يونس: 40.
47- الإتقان: ج1 ص15.
48- يونس: 94.
49- يونس: 95.
50- يونس: 96.
51- النحل: 43.
52- الإتقان: ج1 ص15.
53- هود: 12.
54- مجمع البيان: ج5 ص146.
55- هود: 17.
56- تفسير التبيان: ج5 ص461.
57- هود: 114.
58- تفسير الطبري: ج12 ص82-83.
59- يوسف 7.
60- الإتقان: ج1 ص15.
61- تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني: ص28.
62- إبراهيم 28-29. البرهان: ج1 ص200.
63- تفسير الطبري: ج13 ص146.
64- تفسير العياشي: ج2 ص229 ح22. وتفسير الصافي:ج1 ص888.
65- الحجر: 24.
66- الإتقان: ج1 ص15.
67- الحجر: 87.
68- الحجر: 90-91. مجمع البيان: ج6 ص326.
69- راجع تفسير الطبري: ج14 ص16و18.
70- راجع الإتقان: ج1 ص12.
71- تفسير الطبري: ج14 ص42.