وأما القائلون بتواتر القراءات السبع فقد استدلوا على رأيهم بوجوه:
الأول: دعوى قيام الاجماع عليه من السلف إلى الخلف. وقد وضح للقارئ فساد هذه الدعوى، على أن الاجماع لا يتحقق باتفاق أهل مذهب واحد عند مخالفة الآخرين. وسنوضح ذلك في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.
الثاني: ان اهتمام الصحابة والتابعين بالقرآن يقضي بتواتر قراءته، وإن ذلك واضح لمن أنصف نفسه وعدل.
الجواب:
إن هذا الدليل إنما يثبت تواتر نفس القرآن، لا تواتر كيفية قراءته، وخصوصا مع كون القراءة عند جمع منهم مبتنية على الاجتهاد، أو على السماع ولو من الواحد.
وقد عرفت ذلك مما تقدم، ولولا ذلك لكان مقتضى هذا الدليل أن تكون جميع القراءات متواترة، ولا وجه لتخصيص الحكم بالسبع أو العشر.
وسنوضح للقارئ أن حصر القراءات في السبع إنما حدث في القرن الثالث الهجري، ولم يكن له قبل هذا الزمان عين ولا أثر، ولازم ذلك أن نلتزم إما بتواتر الجميع من غير تفرقة بين القراءات، وإما بعدم تواتر شئ منها في مورد الاختلاف، والاول باطل قطعا فيكون الثاني هو المتعين.
الثالث: ان القراءات السبع لو لم تكن متواترة لم يكن القرآن متواترا والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله: ووجه التلازم أن القرآن إنما وصل الينا بتوسط حفاظه، والقراء المعروفين، فإن كانت قراءاتهم متواترة فالقرآن متواتر، وإلا فلا.
وإذن فلا محيص من القول بتواتر القراءات.
الجواب:
1- ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لان الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها، ولهذا نجد أن اختلاف الرواة في بعض ألفاظ قصائد المتنبي - مثلا - لا يصادم تواتر القصيدة عنه وثبوتها له، وان اختلاف الرواة في خصوصيات هجرة النبي لا ينافي تواتر الهجرة نفسها.
2 - ان الواصل الينا بتوسط القراء إنما هو خصوصيات قراءاتهم.
وأما أصل القرآن فهو واصل الينا بالتواتر بين المسلمين، وبنقل الخلف عن السلف.
وتحفظهم على ذلك في صدورهم وفي كتاباتهم، ولا دخل للقراء في ذلك أصلا، ولذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القراء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا.
وعظمة القرآن أرقي من أن تتوقف على نقل اولئك النفر المحصورين.
الرابع: ان القراءات لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر مثل " ملك " و " مالك " ونحوهما، فإن تخصيص أحدهما تحكم باطل.
وهذا الدليل ذكره ابن الحاجب وتبعه جماعة من بعده.
الجواب:
1- ان مقتضى هذا الدليل الحكم بتواتر جميع القراءات، وتخصيصه بالسبع أيضا تحكم باطل. ولا سيما أن في غير القراء السبعة من هو أعظم منهم وأوثق، كما اعترف به بعضهم، وستعرف ذلك.
ولو سلمنا أن القراء السبعة أو ثق من غيرهم، وأعرف بوجوه القراءات، فلا يكون هذا سببا لتخصيص التواتر بقراءاتهم دون غيرهم.
نعم ذلك يوجب ترجيح قراءاتهم على غيرها في مقام العمل، وبين الامرين بعد المشرقين، والحكم بتواتر جميع القراءات باطل بالضرورة.
2- ان الاختلاف في القراءة إنما يكون سببا لالتباس ما هو القرآن بغيره، وعدم تميزه من حيث الهيئة أو من حيث الاعراب، وهذا لا ينافي تواتر أصل القرآن، فالمادة متواترة وإن اختلف في هيئتها أو في إعرابها، وإحدى الكيفيتين أو الكيفيات من القرآن قطعا وإن لم تعلم بخصوصها.
تعقيب: ومن الحق إن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات.
وقد اعترف بذلك الزرقاني حيث قال: يبالغ بعضهم في الاشادة بالقراءات السبع، ويقول من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر، لانه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة، ويعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الاندلسية الاستاذ أبي سعيد فرج ابن لب، وقد تحيس لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه.
والرد على من رد عليه، ولكن دليلة الذي استند إليه لا يسلم.
فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن، كيف وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع، بحيث يصح أن يكون القرآن، متواترا في غير القراءات السبع، أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا.
أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قراء كانوا أو غير قراء.
وذكر بعضهم: ان تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، وانه لم يقع لاحد من أئمة الاصوليين تصريح بتواتر القراءات وتوقف تواتر القرآن على تواترها، كما وقع لابن الحاجب.
قال الزركشي في البرهان: للقرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه واله وسلم للبيان والاعجاز، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، وكيفيتها من تخفيف وتشديد غيرهما، والقراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل بل هي مشهورة.
وقال أيضا: والتحقيق انها متواترة عن الائمة السبعة.
أما تواترها عن النبي صلى الله عليه واله وسلم ففيه نظر، فإن اسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد.
المصدر:
البيان في تفسير القرآن - لزعيم الحوزة العلمية آيه الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي