جاء في رواياتنا: أنّ آخر ما نزل هي سورة النصر، روي أنّها لمّا نزلت وقرأها (صلى الله عليه وآله) على أصحابه، فرحوا واستبشروا، سوى العباس بن عبد المطلب، فإنّه بكى، قال (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك يا عم! قال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: إّنه لكما تقول. فعاش (صلى الله عليه وآله) بعدها سنتين(1).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (وآخر سورة نزلت إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (2).
وأخرج مسلم عن ابن عباس، قال: آخر سورة نزلت، إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (3).
وروي: آخر سورة نزلت براءة. نزلت في السنة التاسعة بعد عام الفتح عند مرجعه (صلى الله عليه وآله) من غزوة تبوك، نزلت آيات من أوّلها، فبعث بها النبيّ مع علي (عليه السلام) ليقرأها على ملأ من المشركين (4).
وروي: آخر آية نزلت (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ). نزل بها جبرئيل، وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة. وعاش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدها أحداً وعشرين يوماً، وقيل سبعة أيام (5).
قال ابن واضح اليعقوبي: وقد قيل: إن آخر ما نزل عليه (صلى الله عليه وآله) (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (6) قال: وهي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة. وكان نزولها يوم النصّ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) بغدير خم (7).
أقول: لاشكّ أنّ سورة النصر نزلت قبل براءة، لأنها كانت بشارة بالفتح، أو بمكة عام الفتح (8) وبراءة نزلت بعد الفتح بسنة. فطريق الجمع بين هذه الروايات: أنّ آخر سورة نزلت كاملة هي سورة النصر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أما أنّ نفسي نعيت إلي (9). وآخر سورة نزلت باعتبار مفتتحها هي سورة براءة. وأمّا آية (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ) فإن صح أنّها نزلت بمنى يوم النحر في حجة الوداع كما جاء في رواية الماوردي (10) فآخر آية نزلت هي آية الإكمال كما ذكرها اليعقوبي. لأنّها نزلت في مرجعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ثامن عشر ذي الحج. وإلاّ فلو صحّ أنّ النبيّ عاش بعد آية (وَاتَّقُواْ. . .) أحداً وعشرين يوماً أو سبعة أو تسعة أيام، فهذه هي آخر آية نزلت عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
والأرجح عندنا: هو ما ذهب إليه اليعقوبي، نظراً لأنّها آية الإعلام بكمال الدين، فكانت إنذاراً بانتهاء الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) بالبلاغ والأداء. فلعلّ تلك الآية كانت آخر آيات الأحكام، وهذه آخر آيات الوحي إطلاقاً.
وهناك أقوال وآراء أُخر لا قيمة لها، إنّها غير مستندة إلى نصّ معصوم.
قال القاضي أبو بكر في الانتصار: وهذه الأقوال ليس في شيئ منها ما رفع إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجوز ان يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد، وتغليب الظنّ وليس العلم بذلك هن فرائض الدين، حتى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط. ويحتمل أنّ كلاً منهم أخبر عن آخر ما سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وغيره سمع منه بعد ذلك. ويحتمل أيضاً أن تنزل الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها، وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخراً وتلاوته، فيظنّ سامع ذلك أنّه آخر ما نزل في الترتيب (11).
المصدر:
كتاب التمهيد في علوم القرآن، لسماحة آية الله الشيخ محمد هادي معرفة.
1- مجمع البيان: ج10 ص554.
2- تفسير البرهان: ج1 ص29.
3- الإتقان: ج1 ص27.
4- تفسير الصافي: ج1 ص680.
5- تفسير شبر: ص83.
6- المائدة: 3.
7- تاريخ اليعقوبي: ج2 ص145.
8- أسباب النزول بهامش الجلالين: ج2 ص145.
9- مجمع البيان: ج2 ص394.
10- البرهان: ج1 ص187.
11- البرهان: ج1 ص210.