حلف سبحانه في هذه السورة بأُمور ثلاثة: العاديات، الموريات، المغيرات. قال سبحانه: ﴿وَالعادِيات ضَبحاً * فَالمُورياتِ قَدحاً * فَالمُغيراتِ صُبحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِِهِ جَمْعاً * إِنَّ الاِِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود * وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهيد * وَانّهُ لحبّ الخَيْر لَشديد﴾. (1)
تفسير الآيات
﴿العاديات﴾ من العدو وهو الجري بسرعة."الضبح" صوت أنفاس الخيل عند عدوها، وهو المعهود المعروف من الخيل، ومعنى الآية أُقسم بالخيل التي تعدو وتضبح ضبحاً.
﴿فَالمُوريات قدحاً﴾ فالموريات من الايراء وهو إخراج النار، و"القدح" الضرب، يقال: قدح فأورى: إذا أخرج النار بالقدح،والمراد بها الخيل التي تخرج النار بحوافرها حين ضربها الاَحجار.
﴿فالمغيرات صبحاً﴾ الاِغارة: الهجوم على العدو بغتة بالخيل،وهي صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة،والمعنى: أُقسم بالخيل المغيرة على العدو بغتة في وقت الصبح.
﴿فَأَثَرْنَ بهِ نَقْعاً﴾ والنقع: الغبار، والمراد إثارة الغبار حين العدو، لما في الاِغارة على العدو بالخيل من إثارة الغبار. والضمير في "به" يرجع إلى العدو المستفاد من قوله: والعاديات، والباء للسببية.
﴿فوسطن به جمعاً﴾ فلو قلنا بتشديد السين يكون المعنى حاصروا الاَعداء، ولكن القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل فيكون معناه أي صاروا في وسط الاَعداء بما انّ هجومها كان مباغتاً خاطفاً استطاعت في بضع من اللحظات أن تشق صفوف العدو وتشن حملتها في قلبه وتشتت جمعه.
ثمّ الضمير إمّا يرجع إلى العدو المستفاد من قوله: ﴿والعاديات﴾ أو إلى النقع فيكون المعنى فوسطن صباحاً أو في خضمِّ النقع صفوف الاَعداء.
ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصبح، ويكون الباء بمعنى "في" أي وسطن في الصبح جمعاً.
وعلى كلّ حال فالآيات تحلف بالخيول التي تسرع إلى ميدان الجهاد بسرعة حتى تضبح ويتطاير الشررَ من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للاَحجار، وعند انجلاء الصبح تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كلّ جانب ثمّ تتوغل إلى قلب العدو وتشتت صفوفه. وهذا يعرب انّ الجهاد له منزلة عظيمة إلى حد استحق أن يقسم بخيوله والشرر التي تتطاير من حوافرها والغبار الذي تثيره في الهواء.
هذا كلّه حول الاَقسام، وأمّا جواب القسم، فهو قوله:﴿إِنَّ الاِِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود﴾ والكنود، اسم للاَرض التي لا تنبت ويطلق على الاِنسان الكافر والبخيل، فكأنّه جُبِّل على نكران الحق وجحوده وعدم الاِقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له. يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الاِِنْسانَ لَكَفُور﴾ (2) وهو اخبار عمّا في طبع الاِنسان من اتّباع الهوى والانكباب على الدنيا والانقطاع بها عن شكر ربّه، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم، بأنّهم كانوا كافرين بنعمة الاِسلام، وهذا على وجه يشهد الاِنسان على كفران نفسه، كما يقول: ﴿وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهيد﴾.
ثمّ إنّه يدلّل شهادته على ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لحُبّ الخَير لَشَديد﴾ والمراد من الخير المال.
ثمّإنّ هذه الآيات لا تنافي ما دلت عليه آية الفطرة، قال سبحانه:﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ حَنيفاً فِطْرَة اللّهِالّتي فَطَرَالنّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلْقِاللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّم وَلكِنّ أَكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون﴾.(3)
وجه عدم التنافي انّ الاِنسان كما جبل على الخير جبل على الشر أيضاً، فكما ألهمها تقواها ألهمها فجورها، وكما أنّه هداه إلى النجدين، ولكن السعادة هو من يستخدم قوى الخير ويتجنب قوى الشر.
والحاصل انّ الآيات القرآنية على صنفين: فصنف يصف الاِنسان بصفات سلبية مثل قوله: ﴿يوَس﴾ (4) ﴿ظلوم كفّار﴾(5)
﴿عَجُولاً﴾ (6) ﴿كَفُوراً﴾ (7) ﴿أكثر شيء جَدلاً﴾ (8)، ﴿ظَلُوماًجَهُولاً﴾ (9)﴿كَفور مُبين﴾(10) ﴿هَلُوعاً﴾ (11) إلى غير ذلك من الصفات السلبية الواردة في القرآن الكريم.
وصنف آخر يصفه بصفات إيجابية تجعله في قمة الكرامة والعظمة.
فقد بلغت به الكرامة انّه صار "مسجوداً للملائكة" (12) مخلوقاً بفطرة اللّه (13).
منشأ بأحسن تقويم (14) مفضلاً على كثير من المخلوقات (15) حاملاً لاَمانة اللّه (16).
سائراً في البر والبحر ومرزوقاً من الطيبات ومكرماً عند اللّه (17) إلى غير ذلك من الآيات التي تصف الاِنسان بصفات إيجابية.
ولا منافاة بين الصنفين من الآيات، وذلك لاَنّ تلك الكرامة إنّما هي للاِنسان الذي تمتع بكلا الوصفين، فهو عندما يلبّي نداء العقل والشرع ينل كرامته العليا، ويكون مظهراً لقوله:﴿وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفضيلاً﴾(18) ولو خضع لدعوة النفس والهوى، يكون مظهراً للصفات السلبية، كفوراً يوَساً هلوعاً كنوداً إلى غير ذلك من الصفات الذميمة. فالكمال كلّالكمال لاِنسان تكمن فيه قوى الخير والشر فيقوي إحداهما على الاَُخرى بإرادة واختيار دون أي وازع، فلو جبل على إحدى القوتين دون الاَُخرى لما استحق المدح ولا اللوم دون ما إذا كان فيه أرضية الخير والشر فيعالج أرضية الشر بتوجيهها نحو الخير والكمال، ولذلك نرى انّه سبحانه يستثني بعد الحكم على الاِنسان بقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلين﴾ الفئة الموَمنة العاملة بالصالحات ويقول: ﴿إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون﴾(19).
إلى هنا تبين المقسم به والمقسم عليه.
بقي الكلام في الصلة بين المقسم به والمقسم عليه، فنقول:
إنّه سبحانه بعث الاَنبياء لهداية الناس، فمنهم من يهتدي بكتابه وسنّته، فهذه الطائفة تكفيها قوة المنطق؛ وثمة طائفة أُخرى لا تهتدي، بل تثير العراقيل في سبيل دعوة الاَنبياء، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوة، ولذلك يقول سبحانه: ﴿لَقَدْأَرْسَلْنا رُسُلنا بِالبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتاب وَالمِيزان لِيَقُوم النّاس باِلقِسْط وَأَنْزَلْنا الحَديد فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس﴾. (20)
فهذه الآية موَلفة من فقرتين:
الفقرة الاَُولى التي تتضمن البحث عن إرسال الرسل بالبيّنات وإنزال الكتب والميزان راجعة إلى من له أهلية للهداية فيكفيه قوة المنطق.
والفقرة الثانية، أعني:﴿وَأَنْزَلْنَا الحَديد﴾ فهي راجعة إلى من لا يستلهم من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي بل يثير الموانع فلا يجدي معهم سوى الحديد الذي هو رمز منطق القوة.
وبذلك يعلم وجه الصلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب، وبهذا تبين أيضاً وجه الصلة بين الاَقسام والمقسم عليه، ففي الوقت الذي كان النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" يعظ ويبعث رجال الدعوة لاِرشاد الناس، اجتمعت طائفة لمباغتة المسلمين والهجوم على المدينة والاِطاحة بالدولة الاِسلامية الفتية، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً مع سريّة، فأمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وتعدّإعداداً كاملاً، وحينما انفلق الفجر صلّى بالناس الصبح وشنَّ هجومه وباشر و ما انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الاِسلام، فهذه الطائفة لا يصلحهم إلا العاديات والموريات والمغيرات التي تهاجمهم كالصاعقة.
نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): "إنّها سورة العاديات نزلت في أهل وادي اليابس، اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا أن لا يتخلّف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحداً، ولا يفر رجل عن صاحبه حتى يموتوا كلّهم على حلف واحدويقتلوا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ".
إلى أن قال:
"خرج علي (عليه السلام) ومعه المهاجرون والاَنصار وسار بهم غير سير أبي بكر، وذلك انّه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى دوابهم، فقال لهم: لا تخافوا فانّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمرني بأمر وأخبرني انّ اللّه سيفتح عليّ وعليكم، فأبشروا فانّكم على خير وإلى خير، فطابت نفوسهم وقلوبهم، وساروا على ذلك السير التعب حتى إذا كانوا قريباً منهم حيث يرونه ويريهم، أمر أصحابه أن ينزلوا، وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه، فأخرجوا إليهم منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح، فلمّا رآهم علي (عليه السلام) خرج إليهم في نفر من أصحابه.
فقالوا لهم: من أنتم، ومن أين أنتم، ومن أين أقبلتم، وأين تريدون؟ قال: أنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عمّرسول اللّهوأخوه ورسوله إليكم ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّاللّه وانّ محمّداً عبده ورسوله، ولكم ان آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين من خير وشر، فقالوا له: إياك أردنا، وأنت طلبتنا، قد سمعنا مقالتك، فخذ حذرك واستعد للحرب العوان، واعلم انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة، وقد اعذرنا فيما بيننا وبينك.
فقال لهم علي (عليه السلام): ويلكم تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم، فأنا أستعين باللّه وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.
فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي إلى مركزه، فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوّابهم ويقضموا ويسرجوا، فلمّا انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس، ثمّ غار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرب ديارهم وأقبل بالاَُسارى والاَموال معه.
فنزل جبرئيل وأخبر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فتح اللّه على عليّ (عليه السلام) وجماعة المسلمين.
فصعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين، وأعلمهم انّه لم يصب منهم إلاّ رجلين، ونزل فخرج يستقبل عليّاً (عليه السلام) في جميع أهل المدينة من المسلمين حتى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة، فلمّا رآه علي (عليه السلام) مقبلاً نزل عن دابته، ونزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه، فنزل جماعة المسلمين إلى علي (عليه السلام) حيث نزل رسول اللّه "صلى الله عليه وآله وسلم" وأقبل بالغنيمة والاَُسارى و ما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس".
ثمّ قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): "ما غنم المسلمون مثلها قط إلاّ أن يكون من خيبر، فانّها مثل خيبر وأنزل اللّه تعالى في ذلك اليوم هذه السورة:
﴿وَالعاديات ضبحاً﴾ يعني بالعاديات: الخيل تعدو بالرجال،والضبح ضبحها في أعنّتها ولجمها.
﴿فالموريات قدحاً * فالمغيرات صبحاً﴾ فقد أخبرك انّها غارت عليهم صبحاً.
﴿فأثرن به نقعاً﴾ قال: يعني الخيل يأثرن بالوادي نقعاً.
﴿فوسطن به جمعاً * إِنَّ الاِِنسان لربّه لكنود * وانّه على ذلك لشهيد * وَانَّهُ لحبّ الخَيرِ لَشديد﴾ قال: يعنيهما قد شهدا جميعاً وادي اليابس وكانا لحب الحياة حريصين".
1- العاديات:1ـ 8.
2- الحج:66.
3- الروم:30.
4- هود:9.
5- إبراهيم:34.
6- الاِسراء:11.
7- الاسراء:67
8- الكهف:54.
9- الاَحزاب:72.
10- الزخرف: 15.
11- المعارج: 19.
12- الاَعراف:11.
13- الروم:30.
14- التين:4.
15- الاِسراء:70.
16- الاَحزاب:72.
17- الاِسراء: 70.
18- الاِسراء:70.
19- التين:5ـ 6.
20- الحديد:25.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني