لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة، وقال:
أ: ﴿وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً﴾.
ب: ﴿فَالعاصِفاتِعَصْفاً﴾.
ج: ﴿وَالنّاشِراتِ نَشْراً﴾.
د: ﴿فَالفارِقاتِ فَرْقاً﴾.
هـ: ﴿فَالْمُلْقِيات ِذِكراً * عُذْراً أو نُذْراً * إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ﴾. (1)
حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها بـ:"المرسلات، فالعاصفات، والناشرات، فالفارقات، فالملقيات ذكراً عذراً أونذراً.
وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الاَقسام، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة، بيد أنّوحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات، فنقول:
1. ﴿المُرْسَلاتِ عُرفاً﴾ أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي، والعرف -بالضم فالسكون- الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الاَُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس، يقول سبحانه: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ﴾ (2)، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.
2.﴿فَالعاصِفاتِ عَصْفاً﴾ والعصف هو سرعة السير، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.
ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.
3. ﴿وَالنّاشِراتِ نَشْراً﴾ قسم آخر، والمراد نشر الصحيفة والكتاب، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.
4. ﴿فَالفارِقات فَرقاً﴾ المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّ والباطل والحلال والحرام، وذلك لاَجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.
5. ﴿فَالْمُلْقياتِ ذِكراً﴾ المراد به الملائكة، تلقي الذكر على الاَنبياء وتلقيه الاَنبياء إلى الاَُمم.
وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي، أو مطلق الوحي النازل على الاَنبياء المتلو عليهم.
ثمّ يبّن انّالغاية من إلقاء الوحي أحد الاَمرين إمّا الاِعذار أو الاِنذار، والاِعذار الاِتيان بما يصير به معذوراً، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده الموَمنين بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.
وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً لغيرهم، هذا هو الظاهر من الآيات.
وأمّا المقسم عليه فهو قوله: ﴿إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع﴾ وما موصولة والخطاب لعامة البشر، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن، لاَنّه أبلغ في التحقّق.
ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة، لاَنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الاِيمان بالبعث والنشور، ويوَيد ذلك قوله ﴿عذراً أو نذراً﴾ أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للموَمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به الموَمن.
وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي، حيث يقول: من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الاِقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم، أعني: إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدبير لا يتم إلاّمع وجود التكليف الاِلهي والتكليف لا يتم إلاّمع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.
فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هوبعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل: اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع.(3)
1- المرسلات:1 ـ 7.
2- النحل:2.
3- الميزان:20|147.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني