حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم، وقال: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم *إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيم * فِي كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ المُطَهَّرُون﴾.(1)
تفسير الآيات
المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.
قال الراغب: الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه، يقال: وقع الطائر وقوعاً، وعلى ذلك يراد منه مطالعها ومغاربها، يقال: مواقع الغيث أي مساقطه.(2)
ويدل على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أنّ اللّه سبحانه يقسم بالنجوم وطلوعها وجريها وغروبها، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة، كما في قوله تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوارِ الكُنَّس﴾ (3) وقال: ﴿وَالنَّجْم إِذا هَوى﴾ وقال: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب﴾ ويرجح هذا القول أيضاً، انّ النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب، كقوله تعالى: ﴿وَإدْبار النُّجوم﴾(4)صخ، وقوله: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمرُ وَالنُّجُوم(5)).
وأمّا المقسم عليه: فهو قوله سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَريم * في كِتابٍ مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَّهَرُون﴾ وصف القرآن بصفات أربع:
أ: (لقرآن كريم)، والكريم هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كلّشيء أحسنه وأفضله، فاللّه سبحانه كريم، وفعله أعني القرآن مثله.
وقال الاَزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، فاللّه كريم يحمد فعاله، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.
ب: (في كتاب مكنون) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ، بشهادة قوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرآنٌ مَجيد * في لَوحٍ مَحْفُوظ﴾.(6) ويحتمل أن يكون المراد الكتاب الذي بأيدي الملائكة، قال سبحانه: ﴿في صُحُفٍ مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرة * بِأَيدِي سَفَرَة * كِرامٍ بَررَة﴾.(7)
ج:﴿لا يَمَسُّه إِلاّ المُطهّرون﴾ فلو رجع الضمير إلى قوله:﴿لقرآن كريم﴾، كما هو المتبادر، لاَنّ الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلاّ طاهر، فيكون الاِخبار بمعنى الاِنشاء، كما في قوله سبحانه: ﴿وَالمُطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء﴾.(8)
ولو قيل برجوع الضمير إلى (كتاب مكنون) فيكون المعنى لا يمس الكتاب المكنون إلاّ المطهرون، وربما يوَيد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين، وانّ محله لا يصل إليه، فلا يمسه إلاّ المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق اللّه وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه، قال تعالى: ﴿وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون﴾.(9)
د: ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين﴾ وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف مختلفة، وانّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر.
وأمّا الصلة بين القسم والمقسم به: فهو واضح، فلاَنّ النجوم بمواقعها أي طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر، والقرآن الكريم كذلك يهتدي به الاِنسان في ظلمات الجهل والغي، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادة كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.
إكمال إنّه سبحانه قال: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم﴾ فالمراد منه القسم بلا شك، بشهادة انّه قال بعده: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم﴾ فلو كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب ما بعده حيث يصفه بأنّه حلف عظيم، وقد اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها، إلى أقوال:
1. "لا" زائدة، مثلها قوله سبحانه: ﴿لئلاّ يَعْلَم﴾.
2. أصلها لاَقسم بلام التأكيد، فلمّا أشبعت فتحتها صارت "لا " كما في الوقف.
3. لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب، ثمّ الابتداء بالقسم، كما نقول: لا واللّه لا صحة لقول الكفار، أقسم عليه.
ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيماً، كما في قوله ﴿و انّه لقسم لو تعلمون عظيم﴾، فقوله: ﴿عظيم﴾ وصف ﴿القسم﴾ أُخر لحفظ فواصل الآيات.
وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم، فالحديث هنا هو حديث على الاَبعاد، أبعاد النجوم عنّا، و عن بعضها البعض، في مجرّتنا، وفي كل المجرّات، ولاَنّها كلّها تتحرك، فانّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها، وحركاتها الاَُخرى العديدة، وسرعاتها، وعلى علاقاتها بالنجوم الاَُخرى، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة، التي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاص به وحفظته، في علاقات متوازنة، دقيقة، محكمة، فهي لا يعتريها الاضطراب، ولا تتغير سننها وقوانينها، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو متعارضة بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامّين دائمين، آيات على قدرة القادر سبحانه. (10)
يقول الفلكيون: إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم، ما يمكن روَيته بالعين المجردة، وما لا يرى إلاّ بالمجاهر والاَجهزة، وما يمكن أن تحس به الاَجهزة دون أن تراه، هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر، أو يصطدم كوكب بآخر إلاّ كما يحتمل تصادم مركب في البحر الاَبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة، وهو احتمال بعيد وبعيداً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. (11).
1- الواقعة:75ـ 79.
2- مفردات الراغب:530، مادة وقع.
3- التكوير:15ـ 16.
4- الطور:49.
5- الحج:18.
6- البروج: 21 ـ 22.
7- عبس: 13 ـ 16.
8- البقرة:228.
9- الشعراء:210ـ211.
10- أسرار الكون في القرآن:192.
11- اللّه والعلم الحديث:24.
تأليف: آية الله الشيخ جعفر السبحاني