القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه فتارة بلفظ "القرآن "وأُخرى بلفظ "الكتاب".
فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات:
﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. (1)
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾. (2)
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾. (3)
كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين،وقال: ﴿حم * وَالكِتاب الْمُبين *إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكيم *أمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين﴾. (4)
﴿حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ﴾. (5)
وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً:
الأوّل: انّه سبحانه صدّر هذه الأقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح، وهذا يوَيد أنّ كلمة يس من الحروف المقطعة، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي صدّر بها قسم من السور يجمعها قولنا:"صراط علي حق نمسكه" وعند التحليل يرجع إلى: ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن،هـ، ي.
والعجب أنّهذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.
الثاني: ما هو المراد من الحروف المقطعة؟
افتتح القرآن الكريم قسماً من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية:
1. البقرة، 2. آل عمران، 3. الأعراف، 4. يونس، 5. هود، 6. يوسف، 7. الرعد، 8. إبراهيم، 9. الحجر، 10. مريم، 11. طه، 12. الشعراء، 13. النمل، 14، القصص، 15. العنكبوت، 16. الروم، 17.لقمان، 18. السجدة، 19. يس، 20. ص، 21. غافر، 22. فصلت، 23. الشورى، 24. الزخرف، 25. الدخان، 26. الجاثية، 27. الأحقاف، 28. ق، 29. القلم.
فهذه السور التي يبلغ عددها 29 سورة افتتحت بالحروف المقطعة.
وقد تطرق المفسرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف. وذكروا وجوهاً كثيرة نقلها فخرالدين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً. (6)
وها نحن نقدم المختار ثمّ نلمح إلى بعض الوجوه.
إلماع إلى مادة القرآن:
إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره، وادعى أنّهذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.
ثمّ إنّه أخذ يورد في أوائل السور قسماً من الحروف الهجائية للاِلماع إلى أنّ هذا الكتاب موَلف من هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله، لأنّ المواد التي تركب منها القرآن كلّها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم، فإن عجزتم، فاعلموا أنّه كتاب منزل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده بشيراً ونذيراً.
وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو خيرة جمع من المحقّقين، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام:
أ: روى الصدوق بسنده عن الاِمام العسكري (عليه السلام)، انّه قال: "كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا: هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللّه: ﴿الم * ذلِكَ الكتاب﴾ أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها ﴿الم﴾ وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: ﴿لَئِن اجْتَمَعتِ الاِِنْس وَالجِنّ عَلى أن ْيَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً﴾ (7)". (8)
وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني (254ـ 322هـ) من كبار المفسرين، حيث قال: إنّ الذي عندنا أنّه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة تعرفونها وتقتدرون على أمثالها، فكان عجزكم عن الاِتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّالمنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها، وانّه حجّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وممّا يدل على تأويله أنّ كلّسورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها، بعدها إشارة إلى القرآن، يعني أنّه موَلف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها، ثمّسأل نفسه، وقال: إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة؟ فقال: عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه. (9)
واختاره الزمخشري (467ـ 538هـ) في تفسيره، وقال: واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّسلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم: 14 سواه، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.
ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أنّ فيها من المهموسة نصفها: الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.
ومن المهجورة نصفها: الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.
ومن الشديدة نصفها: الألف والكاف والطاء والقاف.
ومن الرخوة نصفها: اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.
ومن المطبقة نصفها: الصاد والطاء.
ومن المنفتحة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون.
ومن المستعلية نصفها: القاف والصاد والطاء.
ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون.
ومن حروف القلقلة نصفها: القاف والطاء.
ثمّ إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف التنزيل.
فكأنّ اللّه عزّاسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم. (10)
ومن المتأخرين من بيّن هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقّق السيد هبة الدين الشهرستاني (1301ـ 1386هـ) قال ما هذا نصّه:
إنّ القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير اعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية، وكلما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً، قلّ النبوغ فيه وصعب افتراض الاِعجاز والاِعجاب منه، فإذا الجمل القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر، فهي عبارة عن "الم"و "حمعسق" فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر المتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز ودقيق الرز، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الأدوات، وكذلك الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح وم ول و رو ط و ه و أنتم مع ذلك عاجزون. (11)
ويؤيد هذا الرأي أنّ أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع، هي: مريم والعنكبوت والروم والقلم، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن، وإليك نماذج من الآيات:
﴿الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين﴾. (12)
﴿الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلأ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾. (13)
﴿المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾. (14)
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾. (15)
إلى غير ذلك من السور ما عدا الأربع التي أشرنا إليها.
ثمّ إن ّهذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد، وإلى جمع عظيم من المحقّقين وقال:إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تحدّاهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، فعجزوا عنه، أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ لذلك على أنّه من عند اللّه لا من عند البشر. (16)
هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.
وثمة رأي آخر أقل صحة من الأول، وحاصله: إن كلّ واحد منها دال على اسم من أسماء اللّه تعالى وصفة من صفاته.
قال ابن عباس في ﴿الم﴾: الألف إشارة إلى أنّه تعالى أحد، أوّل، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنّه لطيف، والميم إشارة إلى انّه ملك، مجيد، منّان.
وقال في ﴿كهيعص﴾: إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق.
وذكر ابن جرير عن ابن عباس انّه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنّه يجير، والعين على العزيز و العدل. (17)
ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي:
وفي الحديث: "شعاركم حم لا ينصرون"، قال الأزهري: سئل أبو العباس، عن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): حم لا ينصرون. فقال: معناه واللّه لا ينصرون.
وفي لسان العرب في حديث الجهاد: "إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا ينصرون" قال ابن الأثير: معناه اللهم لا ينصرون. (18)
إذا عرفت هذه الأمور، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب، وإليك البيان:
1. ﴿يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين﴾ فالمقسم به هو القرآن، والمقسم عليه قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين﴾، والصلة بين القرآن وبين كونه من المرسلين واضحة، لأنّ القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته الخالدة.
وأمّا وصف القرآن بالحكيم، فلأنه مستقرٌ فيه الحكمة، وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر و المواعظ. (19)
2. ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾.
وصف القرآن بكونه (ذي الذكر) كما وصفه في الآية السابقة بكونه (حكيماً) ووصفه تارة ثالثة بـ (المجيد)، والمراد بالذكر هو ذكر ما جُبل عليه الإنسان من التوحيد والمعاد.
قال الطبرسي: فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى، وذكر الأنبياء، وأخبار الأمم، وذكر البعث والنشور، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلّف من الأحكام ويؤَيده قوله: ﴿ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء﴾. (20)
قال الطباطبائى في تفسيره: المراد بالذكر ذكر اللّه تعالى وتوحيده وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد والنبوة وغيرهما.
ويؤيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة، قال سبحانه: ﴿ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه﴾ (21) وقال: ﴿استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأنْساهُمْ ذِكرَ اللّه﴾ (22) إلى غير ذلك.
وأمّا المقسم عليه: فمحذوف معلوم من القرينة، هو أنّك لمن المنذرين، ويدل على ذلك التنديد بالذين كفروا وأنهم في عزّة وشقاق، أي في تكبّر عن قبول الحق وحمية جاهلية، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ويصرّون على مخالفته، ثمّ خوّفهم اللّه سبحانه، فقال: كم أهلكنا من قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين مناص.
والصلة بين المقسم به ﴿القُرآن ذي الذِّكر﴾ والمقسم عليه المقدّر "إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين" واضحة، لأنّ القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.
3. ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾. (23)
المقسم به هو القرآن ووصفه بالمجيد، قال الراغب: المجد السعة في المقام والجلال، وقد وصف به القرآن الكريم، فلأجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، فالمجيد مبالغة في المجد.
وقال الطبرسي: المجيد أي الكريم على اللّه، العظيم في نفسه، الكثير الخير والنفع. (24)
والمقسم عليه: محذوف تدل عليه الجمل التالية، والتقدير: والقرآن المجيد انّك لمن المنذرين، أو أن ّالبعث حق والإنذار حق.
وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد و وبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ونقد زعمهم.
والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة، سواء أقلنا بأنّ المقسم عليه إِنّك مِنَ المنذرين أو أن ّالبعث والنشر حقّ، أمّا على الأوّل فلأنّ القرآن أحد أدوات الاِنذار، وأمّا على الثاني فلأنَّ القرآن يتضمن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد.
ثمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان، قال سبحانه: ﴿إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرآنهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فاتَّبع قُرآنه﴾ (25) قال ابن عباس: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.
وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فصار له كالعلم،كما أنّ التوراة لما أُنزل على موسى (عليه السلام)، و الاِنجيل لما أُنزل على عيسى (عليه السلام)، قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كتب اللّه لكونه جامعاً لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار تعالى إليه بقوله: ﴿وَتَفصيلاً لكلِّ شيء﴾. (26)
وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة، كما في قوله سبحانه: ﴿وَقُرآنَ الفَجْر﴾ (27) أي قراءته.
الحلف بالكتاب
حلف سبحانه بالكتاب مرتين، وقال:
1. ﴿حم * والكتابِ المُبِين *إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرين﴾. (28)
2. ﴿حم * وَالكتابِ المُبِين * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾. (29)
فالمقسم به هو الكتاب، والمقسم عليه في الآية الأولى قوله: ﴿إِنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُباركة﴾، والصلة بينهما واضحة، حيث يحلف بالكتاب على أنّه منزل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة.
كما أن ّالمقسم به في الآية الثانية هو ا لكتاب المبين، والمقسم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربياً للتعقل، والصلة بينهما واضحة.
ووصف الكتاب بالمبين دون غيره، لأنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم كما جاء في الآيتين، حيث قال: ﴿إِنّا كُنّا مُنذرين﴾ وقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾، وهذا النوع من الغاية أي الإنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً لا مجهولاً ومعقداً.
والكتاب في الأصل مصدر، ثمّ سمّي المكتوب فيه كتاباً.
إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب.
بقي هنا الكلام في عظمة المقسم به ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة.
وقد تكلّم غير واحد من المفكرين الغربيين حول عظمة القرآن، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونستنطقه حتى يبدي رأيه في حق نفسه.
أ: القرآن نور ينير الطريق لطلاب السعادة: قال سبحانه: ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِين﴾. (30)
ب: انّه هدى للمتَّقين: قال سبحانه: ﴿هُدىً لِلْمُتَّقين﴾. (31)
فهو وإن كان هدى لعامة الناس، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المتقون، ولذلك خصّهم بالذكر.
ج: هو الهادي إلى الشريعة الأقوم: قال سبحانه: ﴿إِنَّ هذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتي هِي أقْوم﴾. (32)
د: الغاية من إنزاله قيام الناس بالقسط: قال سبحانه: ﴿وَأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾. (33)
هـ: لا يتطرق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ولا في مضامينه ولا محتواه: قال سبحانه: ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اختلافاً كَثِيراً﴾. (34)
و: يحث الناس إلى التدبر والتفكّر فيه ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُباركٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ﴾. (35)
ز: تبيان لكلّ شيء: ﴿وَنَزلْنا عَليْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء﴾. (36)
ح: نذير للعالمين: ﴿تَبارَكَ الَّذي نَزَّل الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً﴾. (37)
ط: فيه أحسن القصص: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَص﴾. (38)
ي:ضُرب فيه للناس من كلّ مثل: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنا في هذا الْقُرآنِ لِلنّاسِ من كُلِّ مَثَل﴾. (39)
هذه نماذج من الآيات التي تصف القرآن ببعض الأوصاف.
وللنبي والأئمة المعصومين كلمات قيّمة حول التعريف بالقرآن ننقل شذرات منها:
قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً، فقال: "أيّها الناس انّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان، كلّ جديد، ويقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّموعود، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز".
فقام المقداد بن الأسود، وقال: يا رسول اللّه و ما دار الهدنة؟ قال:" دار بلاغ وانقطاع.
فإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدَّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه، ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، ويتخلص من نشب، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص". (40)
وقال الاِمام علي أمير الموَمنين (عليه السلام) في وصف القرآن:
"ثمّأنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده،وبحراً لا يدرك قعره، فهو ينابيع العلم وبحوره، وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون". (41)
إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
1- آل عمران:1ـ3.
2- الأعراف: 1ـ2.
3- يونس:1.
4- تفسير الفخر الرازي:2|6.
5- تفسير الفخر الرازي:2|6.
6- تاريخ القرآن:105.
7- تفسير الميزان:17|62.
8- مجمع البيان:8|465.
9- الحديد:16.
10- المجادلة:19.
11- ق:1ـ2.
12- مجمع البيان:9|141.
13- القيامة:17ـ 18.
14- الأنعام:154.
15- الاِسراء:78.
16- الدخان:1ـ3.
17- الزخرف:1ـ3.
18- المائدة:15.
19- البقرة:2.
20- الاِسراء:9.
21- الحديد:25.
22- النساء:82.
23- ص:29.
24- النحل:89.
25- الفرقان:1.
26- يوسف:3.
27- الكهف:54.
28- الكافي: 2|599، كتاب فضل القرآن.
29- نهج البلاغة، الخطبة 198.
30- يس1ـ4.
31- ص:1ـ5.
32- ق:1ـ2.
33- الدخان:1ـ5.
34- الزخرف:1ـ4.
35- تفسير الفخر الرازي:2|5ـ 8.
36- الأسراء:88.
37- تفسير البرهان:1|54، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9.
38- تاريخ القرآن للزنجاني: 106.
39- الكشاف:1|17، ط دار المعرفة.
40- المعجزة الخالدة:115ـ 116.
41- البقرة: 1ـ2.