أقسم سبحانه بلفظ "رب" بصور مختلفة:
تارة حلف به بلفظ "فلا وربك"
وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ (لا ) وقال: "فلا أُقسم".
وثالثة حلف به بلفظ "فوربّك".
ورابعة بلفظ "بلى و ربّـي".
وخامسة بلفظ "اي وربي".
وسادسة بلفظ "فوربّ السماء والاَرض".
وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب،وإليك الآيات:
1. ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً﴾.(1)
2.﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ *عَلى أَنْنُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ﴾. (2)
3. ﴿فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين﴾. (3)
4. ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* عَمّا كانُوا يَعْمَلُون﴾. (4)
5. ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْبَلى وَربّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِم الْغَيب﴾. (5)
6. ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْلَنْ يُبْعَثُوا قُلْبلى وَربّي لَتُبعثُنّ ثُمَّ لَتُنَبَّوَنَّ بما عَمِلْتُمْوَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير﴾. (6)
7.﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي انّهُ لحقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين﴾. (7)
8. ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالاََرْضِ إنّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْتَنْطِقُون﴾. (8)
تفسير الآيات:
تشير الآية الاَُولى إلى مقام من مقامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانّله -حسب ما دلّعليه الكتاب و السنة في إدارة رحى المجتمع- مقامات ثلاثة:
أ- السياسية وتدبير الاَُمور: يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الاََرْضِ أَقامُوا الصَّلاة وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِوَللّهِ عاقِبَةُ الاَُمور﴾. (9) ويقول في حقّ النبي خاصة: ﴿النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُوَْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (10) وليس الاَولى بالموَمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.
ب- القضاء وفضُّ الخصومات: يقول سبحانه في حقّداود: ﴿يا داوُدُ إِنّا جَعلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبيلِاللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِاللّهِلَهُمْ عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسُوا يَومَ الْحِساب﴾ (11) وفي حقّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللّهَيُحِبُّ الْمُقْسِطينَ﴾. (12)
ج- الاِفتاء وبيان الاَحكام: يقول سبحانه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة﴾ (13)
س وقد كان الرسول ـ بنص هذه الآيات ـ جامعاً لهذه المقامات الثلاثة فكان سائساً وحاكماً، وقاضياً وفاضّاً للخصومات، ومفتياً ومبيّناً للاَحكام.
ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله، وقد كان بعض المنتمين إلى الاِسلام لم يعيروا أهمية لقضائه، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّرسول واجب الطاعة.يقول سبحانه: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاع بِإِذْنِ اللّه﴾. (14)
ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الاِيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره فليس بموَمن، يقول سبحانه: ﴿فَلا وَرَبّكَ لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً﴾. (15) فالآية تدل على أنّ الاِيمان لا يكتمل بنفس الاِذعان واليقين بالتوحيد والرسالة مالم ينضم إليه التسليم القلبي، ولذلك ترى أنّأمير الموَمنين علياً (عليه السلام) يصف الاِسلام بالنحو التالي، ويقول: "لاَنسبنّ الاِسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الاِسلام هو التسليم". (16)) وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين ﴿خيراً منهم﴾، من دون أن يكون مغلوباً، قال: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ* عَلى أَنْنُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ﴾.
فجواب القسم قوله ﴿إِنّا لَقادِرُون﴾ وقوله ﴿وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين﴾ عطف على جواب القسم، والمراد بالسبق الغلبة، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد: وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.
والتعبير بالمشارق والمغارب لاَجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقاً ومغرباً لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.
ومن عجيب الاَمر أنّ في الآية على قصرها وجوهاً من الالتفات:
ففي قوله: ﴿فلا أُقْسِم﴾ التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله: ﴿إِنّا خَلَقْناكُمْ﴾ إلى التكلم وحده، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى اللّه نفسه.
وفي قوله: ﴿بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب﴾ التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الاِشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل، وهي ربوبيته للمشارق و المغارب، فانّ الشروق بعد الشروق، والغروب بعد الغروب، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الاِنسان جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.
وفي قوله: ﴿إِنّا لَقادِرُون﴾ التفات (17) من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والوجه فيه الاِشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة،وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله، عن شيء منها، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير. (18)
وأمّا الآية الثالثة: فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان، وقال: ﴿أوَ لا يَذْكُرُ الاِِنْسانُأَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ (19) والمراد أو لا يذكر أنّالنشأة الاَُولى دليل على إمكان النشأة الثانية، ثمّ أكده بقوله: "فوربك" يا محمد "لنحشرنّهم والشياطين" أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
وأمّا الآية الرابعة: فسياق الآية يندد بالمقتسمين، ويقول: ﴿كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمين﴾ (20) ثمّ يصفهم بقوله:﴿الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِين﴾ (21) والعضين جمع عضّة والتعضية التفريق، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة: سحر، وأُخرى: أساطير الاَوّلين، وثالثة: مفترى، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.
ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً، وقالوا: نوَمن ببعض ونكفر ببعض.
وعلى أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل اللّه فهوَلاء هم المقصودون، ثمّ حلف سبحانه وقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* عَمّا كانُوا يَعْمَلُون﴾ من تبعيض القرآن و صد الناس عن الاِيمان به.
وأمّا الآية الخامسة: فتذكر إنكار المشركين لاِتيان الساعة ويوم القيامة، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.
وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الاِنسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط أجزاوَه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز، فكيف يمكن إعادته؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع، ويقول: ﴿وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلى وَرَبّي لتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الغَيْبِ لا يَعزبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ وَلا فِي الاََرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ في كِتابٍمُبين﴾. (22)
فقوله: ﴿لا تَأْتِينَا السّاعَة﴾ حكاية لقول المشركين.
وقوله: ﴿قل بلى وربّي﴾ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.
وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الاَموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الاَرض، فهو يعلم بذرات بدن كلّإنسان ويميّزه عن غيره، ومع علمه سبحانه فالاَجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.
وأمّا الآية السادسة: يقول سبحانه: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْلَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّوَُنّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير﴾. (23)
تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث، فأمر النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" بالاِجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال: ﴿وَرَبّي لَتُبعَثُنّ ثُمْ لتُنَبَّوَُنّّ﴾.
وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى، وانّما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع.
وأمّا الآية السابعة: أعني قوله سبحانه: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إنّهُ لحقّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين﴾. (24)
سياق الآية يوحي إلى أنّالمشركين كانوا يستخبرون النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" عن نزول العذاب أو وقوع البعث، فأمره سبحانه بأن يجيب موَكداً، فقال: ﴿قل إي وربّي انّه لحقّ﴾ وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية، و"انّ" المشبهة و "اللام،" ثم أشار إلى أنّالكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد، وقال: ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعجِزين﴾، وفي سورة المعارج قال مكانه: ﴿وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين﴾.
وأمّا الآية الثامنة: ﴿فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالاََرْضِ انّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُون﴾. (25)
فالضمير في قوله: "إنّه" يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة، قال سبحانه: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقكُمْ وَما تُوعَدُون﴾ والمراد من الوعد هو الجنة.
ثمّ أشار ﴿انّه لحقّ مثل ما أنّكم تنطِقُون﴾ وكما أنّ العلم بهذا الاَمر ـ أي النطق ـ أمر ملموس لا شبهة فيه، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
حكى الزمخشري عن الاَصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل عليّفتلوت "والذاريات" فلمّا بلغت قوله: ﴿وَفِي السَّماءِرزْقكُمْ﴾ قال: "حسبك"، فقام إلى ناقته، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى، فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالاَعرابي قد نحل واصفرّفسلّم عليَّ و استقرأ السورة، فلمّـا بلغت الآية، صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً، ثمّ قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: ﴿فوربّ السّماء والاَرض انّه لحقّ﴾ فصاح، وقال: يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجوَه إلى اليمين، قالها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه. (26)
إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته، وإليك الكلام في المقسم به، والمقسم عليه.
المقسم به:
إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب، والربّ أصله من ربب، يقول صاحب القاموس: ربّ كلّشيء مالكه ومستحقه وصاحبه،يقال: ربّالاَمر أصلحه.
يقول ابن فارس: الرب، المالك، الخالق، الصاحب، و الرب المصلح للشيء، يقال: ربّ فلان ضيعته، إذا قام على إصلاحها.
والربّ المصلح للشيء، واللّه جلّثناوَه، الرب لاَنّه مصلح أحوال خلقه، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.
هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة، حتى أن ّالكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد، وإليك هذه الموارد والمصاديق:
1. التربية: مثل رب الولد، رباه.
2. الاِصلاح والرعاية: مثل رب الضيعة.
3. الحكومة والسياسة: مثل فلان قد ربّ قومه، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
4. المالك: كما جاء في الخبر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرب غنم أم رب إبل.
5. الصاحب: مثل قوله: رب الدار، أو كما يقول القرآن الكريم: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبّهَذا الْبَيْت﴾. (27)
لا ريب انّهذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار، فلاَنّ أمرها مفوض إليه، ولو أطلق على المصلح و السائس، فلاَنّ بيد هوَلاء أمر التدبير والاِدارة والتصرف، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثْواي﴾ (28)، فلاَجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشوَونه.
ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً، وقال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْأَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ﴾ (29)، فلاَجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الاَموال والاَعراض كيفما شاءُوا.
إنّه سبحان وصف نفسه، بقوله: ﴿ربُّ السَّماواتِ والاََرْض﴾ (30) وقال أيضاً: ﴿رَبّ الشعرى﴾ (31)كلّ ذلك لانّه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شوَونها والقائم عليها.
وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد. أعني: من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق و التدبير والتربية، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.
نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً. وثمة نكتة جديرة بالاهتمام، وهي: أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد في الربوبية والتوحيد في الالوهية، وفسَّروا الاَوّل بالتوحيد في الخالقية، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً؛ و فسروا الثاني بالتوحيد في العبادة، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد؛ ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.
أمّا الاَوّل: فلاَنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية، فانّ الخالقية شيء والتدبير والاِصلاح شيء آخر، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.
فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية، وكان منطق الجميع، ما حكاه سبحانه بقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّماواتِ وَالاََرضَ ليقُولُنَّ خَلَقَهُنَّالْعَزِيزُ العَلِيم﴾. (32)
وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية، يقول سبحانه: ﴿وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً﴾ (33) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شوَون المدبر، قال سبحانه: ﴿واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون) (34). فكانوا يرون أنّ النصر بيد الاِلهة، خلافاً للموحد في أمر التدبير، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد اللّه سبحانه: قال تعالى: ﴿فَلِلّهِ العِزَّةُ جَميعاً) (35) وقال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيز الْحَكيم﴾ (36) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.
وأمّا الثاني: فلاَنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة، فهو مبني على أنّ الاِله بمعنى المعبود، والعبادة من لوازم الاِله.
ولكنّه بعيد عن الصواب، لاَنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الاِله، غير أنّ الاَوّل جزئي موضوع لفرد واحد، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.
والذي يدل على أنّ الاِله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاِله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر، كما في قوله سبحانه: ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِوَفِي الاََرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْركُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُون﴾. (37)
فإنّ وزان هذه الآية وزان، قوله سبحانه:
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وِفِي الاََرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَليم﴾. (38)
﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكونَ لَهُ وَلَد﴾. (39)
﴿هُوَ اللّهُ الَّذِي لاإِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوّرُ لَهُ الاََسماءُالْحُسْنى يُسَبِّحُلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالاََرضِ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم﴾. (40)
ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الاِله على وجه الكلية (أي ما معناه أنّه هو الاِله الذي يتصف بكذا وكذا).
ويقرب من الآية الاَُولى، قوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الاََسْماءُالْحُسْنى﴾. (41)
فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الاَسماء، والاَمر بدعوة أيٍّ منها، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ:"الاِله" وغيره، ومثله قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارِىَُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاََسْماءُ الْحُسْنى﴾. (42)
فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
المقسم عليه
إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم، وهو في تلك الآيات كالتالي:
أ- الدعوة إلى تحكيم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والتسليم أمام قضائه. ﴿لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحكّموك...﴾.
ب- التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم: ﴿انّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً...﴾.
ج- التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين: ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين﴾.
د- التأكيد على أنّهم مسوَولون يوم القيامة عن أعمالهم ﴿لنسئَلنّهم أَجْمَعين...﴾.
هـ- التأكيد على إتيان الساعة: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب...﴾.
و- التأكيد على بعثهم وآبائهم: ﴿لتبعثن ثمّ لتنبوَنّ...﴾.
ز- التأكيد على وقوع البعث: ﴿انّه لحقّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين...﴾.
ح- التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ: ﴿انّه لحقّ مثلَ ما أَنْتُمْ تَنْطِقُون...﴾.
الصلة بين المقسم به والمقسم عليه
الصلة بينهما واضحة،فانّ المقسم عليه في هذه الآيات، كان يدور حول أحد أمرين:
أ- الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.
ب- كون البعث والحشر والسوَال عن الاَعمال، أمراً حقّاً.
ومن الواضح أنّ كلا الاَمرين من شوَون الربوبية، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لاَمر النبيّ "صلى الله عليه وآله وسلم" ونهيه.
كما أنّحياة المربوب من شوَون الرب دون فرق بين آجله وعاجله، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر و النشر.
وبعبارة أُخرى: كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه، كما كانوا ينكرون البعث والنشر، ولما كان الجميع من شوَون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.
ثمّإنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.
وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّالمقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم كـ"ما" الموصولة، وقد جاء في آيات أربع:
1. ﴿وَالسَّماءِ وَما بَناها﴾.
2. ﴿وَالاََرْضِ وما طَحيها﴾.
3. ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوّاها﴾. (43)
4. ﴿وما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاَُنثى﴾. (44)
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة "ما"، فالاَكثرون على أنّها "ما" موصولة كناية عن اللّه سبحانه،وكأنّه سبحانه يقول: والسماء والذي بناها، والاَرض والذي طحاها،ونفس والذي سواها، والواو للقسم.
وهناك من يذهب إلى أنّها "ما" مصدرية، وكأنّه يقول: أُقسم بالسماء وبنائها، والاَرض وطحائها،والنفس وتسويتها.
ولكن الرأي الاَوّل هو الاَقرب لاَنّ سياق الآية يوَيد ذلك، لاَنّه سبحانه يقول: ﴿فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها﴾ (45) فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى "ما" الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة.والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من "ما" لا المصدر، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.
1- النساء:65.
2- المعارج:40 ـ 41.
3- مريم:68.
4- الحجر:92ـ 93.
5- سبأ:3.
6- التغابن:7.
7- يونس:53.
8- الذاريات:23.
9- الحج:41.
10- الاَحزاب:6.
11- ص:26.
12- المائدة:42.
13- النساء:176.
14- النساء:64.
15- النساء:65.
16- نهج البلاغة: قسم الحكم، الحكمة125.
17- الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطابإلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه: (مالِكِ يَوم الدِّين*إِيّاكَ نَعْبُد) وقوله سبحانه: (حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الفلك و جرين بهم) وقوله سبحانه: (وَاللّهُ الذي أَرسل الرياح فتثير سَحاباً فَسُقْناهُ) ففي الآية الاَُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
18- الميزان: 20|22.
19- مريم:67.
20- الحجر:91.
21- الحجر:90.
22- سبأ:3.
23- التغابن:7.
24- يونس:53.
25- الذاريات:23.
26- الكشاف:3|169.
27- قريش:3.
28- يوسف:23.
29- التوبة:31.
30- الرعد:16.
31- النجم:49.
32- الزخرف:9.
33- مريم:81.
34- يس:74.
35- فاطر:10.
36- آل عمران:126.
37- الاَنعام:3.
38- الزخرف:84.
39- النساء:171.
40- الحشر:23ـ 24.
41- الاِسراء:110.
42- الحشر: 24.
43- الشمس:5ـ7.
44- الليل:3.
45- الشمس:8.