فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما أنا نذير [ وبشير ] مبين أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم، فهو حجة بينة عليكم، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربي وما على الرسول إلا البلاغ المبين إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.
فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم، ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك، فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح عليه السلام: امضوا إلى جبل أبي قبيس، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه. وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه السلام امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة، فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار. وقل للفريق الثالث [ المقترحين لآية موسى: امضوا إلى ظل الكعبة ] فسترون آية موسى، وسينجيكم هناك عمي حمزة. وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل:
وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث، فإن الآية التي اقترحتها تكون بحضرتي.
فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد صلى الله عليه وآله، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس والثاني إلى صحراء ملساء والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله مؤمنين، وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله صلى الله عليه وآله الإيمان بالله فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية تركنا ذكره هاهنا طلبا للايجاز والاختصار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عيانا وهم مؤمنين بالله وبرسوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي جهل:
هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتك بما شاهدت. فقال أبو جهل: لا أدري أصدق هؤلاء أم كذبوا أم حقق لهم ذلك أم خيل إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على كثرتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ أسلاف أعدائك، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها، وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه إلا إذا كان بأزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا، وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده.
ثم أخبره النبي صلى الله عليه وآله بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل في ذلك كله بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي صلى الله عليه وآله يخبره به من ذلك، إلى أن قال النبي لأبي جهل: أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمنا من عذاب الله.
قال أبو جهل: إني لأظن أن هذا تخييل وإيهام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها - يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له - وبين مشاهدتك لنفسك ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم؟ قال أبو جهل: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل. قال أبو جهل: ما هو تخييل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ولا هذا تخييل، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئا أوثق منه - تمام الخبر.