1- ك، ]إكمال الدين[ عن أبي علي أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي العسكري قال حدثنا محمد بن زكريا أن ملكا من ملوك الهند كان كثير الجند واسع المملكة مهيبا في أنفس الناس مظفرا على الأعداء و كان مع ذلك عظيم النهمة في شهوات الدنيا و لذاتها و ملاهيها مؤثرا لهواه مطيعا له و كان أحب الناس إليه و أنصحهم له في نفسه من زين له حاله و حسن رأيه و أبغض الناس إليه و أغشهم له في نفسه من أمره بغيرها و ترك أمره فيها و كان قد أصاب الملك فيها في حداثة سنه و عنفوان شبابه و كان له رأي أصيل و لسان بليغ و معرفة بتدبير الناس و ضبطهم فعرف الناس ذلك منه فانقادوا له و خضع له كل صعب و ذلول و اجتمع له سكر الشباب و سكر السلطان و الشهوة و العجب ثم قوي ذلك ما أصاب من الظفر على من ناصبه و القهر لأهل مملكته و انقياد الناس له فاستطال على الناس و احتقرهم ثم ازداد عجبا برأيه و نفسه لما مدحه الناس و زينوا أمره عنده فكان لا همة له إلا الدنيا و كانت الدنيا له مؤاتية لا يريد منها شيئا إلا ناله غير أنه كان مئناثا لا يولد له ذكر و قد كان الدين فشا في أرضه قبل ملكه و كثر أهله فزين له الشيطان عداوة الدين و أهله و أضر بأهل الدين فأقصاهم مخافة على ملكه و قرب أهل الأوثان و صنع لهم أصناما من ذهب و فضة و فضلهم و شرفهم و سجد لأصنامهم فلما رأى الناس ذلك منه سارعوا إلى عبادة الأوثان و الاستخفاف بأهل الدين ثم إن الملك سأل يوما عن رجل من أهل بلاده كانت له منه منزلة حسنة و مكانة رفيعة و كان أراد أن يستعين به على بعض أموره و يحبوه و يكرمه فقيل له أيها الملك إنه قد خلع الدنيا و خلي منها و لحق بالنساك فثقل ذلك على الملك و شق عليه ثم إنه أرسل إليه فأوتي به فلما نظر إليه في زي النساك و تخشعهم زبره و شتمه و قال له بينا أنت من عبيدي و عيون أهل مملكتي و وجههم و أشرافهم إذ فضحت نفسك و ضيعت أهلك و مالك و اتبعت أهل البطالة و الخسارة حتى صرت ضحكة و مثلا و قد كنت أعددتك لمهم أموري و الاستعانة بك على ما ينوبني فقال له أيها الملك إن لم يكن لي عليك حق فلعقلك عليك حق فاستمع قولي بغير غضب ثم أمر بما بدا لك بعد الفهم و التثبيت فإن الغضب عدو العقل و لذلك يحول ما بين صاحبه و بين الفهم قال له الملك قل ما بدا لك قال الناسك فإني أسألك أيها الملك أ في ذنبي على نفسي عتبت علي أم في ذنب مني إليك سالف قال الملك إن ذنبك إلى نفسك أعظم الذنوب عندي و ليس كلما أراد رجل من رعيتي أن يهلك نفسه أخلي بينه و بين ذلك و لكني أعد إهلاكه لنفسه كإهلاكه لغيره ممن أنا وليه و الحاكم عليه و له فأنا أحكم عليك لنفسك و آخذ لها منك إذ ضيعت أنت ذلك فقال له الناسك أراك أيها الملك لا تأخذني إلا بحجة و لا نفاذ لحجة إلا عند قاض و ليس عليك من الناس قاض لكن عندك قضاة و أنت لأحكامهم منفذ و أنا ببعضهم راض و من بعضهم مشفق قال الملك و ما أولئك القضاة قال أما الذي أرضى قضاءه فعقلك و أما الذي أنا مشفق منه فهواك قال الملك قل ما بدا لك و أصدقني خبرك و متى كان هذا رأيك و من أغواك قال أما خبري فإني كنت سمعت كلمة في حداثة سني وقعت في قلبي فصارت كالحبة المزروعة ثم لم تزل تنمي حتى صارت شجرة إلى ما ترى و ذلك أني كنت قد سمعت قائلا يقول يحسب الجاهل الأمر الذي هو لا شيء شيئا و الأمر الذي هو الشيء لا شيء و من لم يرفض الأمر الذي هو لا شيء لم ينل الأمر الذي هو شيء و من لم يبصر الأمر الذي هو الشيء لم تطب نفسه برفض الأمر الذي هو لا شيء و الشيء هو الآخرة و لا شيء هو الدنيا فكان لهذه الكلمة عندي قرار لأني وجدت الدنيا حياتها موتا و غناها فقرا و فرحها ترحا و صحتها سقما و
قوتها ضعفا و عزها ذلا و كيف لا تكون حياتها موتا و إنما يحيا فيها صاحبها ليموت و هو من الموت على يقين و من الحياة على قلعة و كيف لا يكون غناؤها فقرا و ليس أصيب أحد منها شيئا إلا احتاج لذلك الشيء إلى شيء آخر يصلحه و إلى أشياء لا بد له منها و مثل ذلك أن الرجل ربما يحتاج إلى دابة فإذا أصابها احتاج إلى علفها و قيمها و مربطها و أدواتها ثم احتاج لكل شيء من ذلك إلى شيء آخر يصلحه و إلى أشياء لا بد له منها فمتى تنقضي حاجة من هو كذلك و فاقته و كيف لا يكون فرحها ترحا و هي مرصدة لكل من أصاب منها قرة أعين أن يرى من ذلك الأمر بعينه أضعافه من الحزن إن رأى سرورا في ولده فما ينتظر من الأحزان في موته و سقمه و جائحة إن أصابته أعظم من سروره به و إن رأى السرور في مال فما يتخوف من التلف أن يدخل عليه أعظم من سروره بالمال فإذا كان الأمر كذلك فأحق الناس بأن لا يتلبس بشيء منها من عرف هذا منها و كيف لا يكون صحتها سقما و إنما صحتها من أخلاطها و أصح أخلاطها و أقربها من الحياة الدم و أظهر ما يكون الإنسان دما أخلق ما يكون صاحبه بموت الفجأة و الذبحة و الطاعون و الأكلة و البرسام و كيف لا تكون قوتها ضعفا و إنما تجمع القوى فيها ما يضره و يوبقه و كيف لا يكون عزها ذلا و لم ير فيها عز قط إلا أورث أهلها ذلا طويلا غير أن أيام العز قصيرة و أيام الذل طويلة فأحق الناس بذم الدنيا من بسطت له الدنيا فأصاب حاجته منها فهو يتوقع كل يوم و ليلة و ساعة و طرفة عين أن يعدى على ماله فيحتاج و على حميمه فيختطف و على جمعه فينهب و أن يؤتى بنيانه من القواعد فيهدم و أن يدب الموت إلى جسده فيستأصل و يفجع بكل ما هو به ضنين فأذم إليك أيها الملك الدنيا الآخذة ما تعطي و المورثة بعد ذلك التبعة السالبة لمن تكسو و المورثة بعد ذلك العرى المواضعة لمن ترفع و المورثة بعد ذلك الجزع التاركة لمن يعشقها و المورثة بعد ذلك الشقوة المغوية لمن أطاعها و اغتر بها الغدارة بمن ائتمنها و ركن إليها هي المركب القموص و الصاحب الخئون و الطريق الزلق و المهبط المهوي هي المكرمة التي لا تكرم أحدا إلا أهانته المحبوبة التي لا تحب أحدا الملزومة التي لا تلزم أحدا يوفى لها و تقدر و يصدق لها و تكذب و ينجز لها و تخلف هي المعوجة لمن استقام بها المتلاعبة بمن استمكنت منه بينا هي تطعمه إذ حولته مأكولا و بينا هي تخدمه إذ جعلته خادما و بينا هي تضحكه إذ ضحكت منه و بينا هي تشتمه إذ شتمت منه و بينا هي تبكيه إذا بكت عليه و بينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة و بينا هو فيها عزيز إذ أذلته و بينا هو فيها مكرم إذ أهانته و بينا هو فيها معظم إذ صار محقورا و بينا هو فيها رفيع إذ وضعته و بينا هي له مطيعة إذ عصته و بينا هو فيها مسرور إذ أخزنته و بينا هو فيها شبعان إذ إجاعته و بينا هو فيها حي إذ أماتته فأف لها من دار إذ كان هذا فعالها و هذه صفتها تضع التاج على رأسه غدوة و تعفر خده بالتراب عشية و تجعلها في الأغلال غدوة تحلي الأيدي بأسورة الذهب عشية و تجعلها في الأغلال غدوة و تقعد الرجل على السرير غدوة و ترمي به في السجن عشية تفرش له الديباج عشية و تفرش له التراب غدوة و تجمع له الملاهي و المعازف غدوة و تجمع عليه النوائح و النوادب عشية تحبب إلى أهله قربه عشية و تحبب إليهم بعده غدوة تطيب ريحه غدوة و تنتن ريحه عشية فهو متوقع لسطواتها غير ناج من فتنتها و بلائها تمتع نفسه من
أحاديثها و عينه من أعاجيبها و يده مملوة من جمعها ثم تصبح الكف صفرا و العين هامدة ذهب ما ذهب و هوى ما هوى و باد ما باد و هلك ما هلك تجد في كل من كل خلفا و ترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرن قرنا و تطعم سؤر كل قوم قوما تقعد الأراذل مكان الأفاضل و العجزة مكان الحزمة تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب و من الرجلة إلى المركب و من البؤس إلى النعمة و من الشدة إلى الرخاء و من الشقاء إلى الخفض و الدعة حتى إذا غمستهم في ذلك انقلبت بهم فسلبتهم الخصب و نزعت منهم القوة فعادوا إلى أبأس البؤس و أفقر الفقر و أجدب الجدب فأما قولك أيها الملك في إضاعة الأهل و تركهم فإني لم أضيعهم و لم أتركهم بل وصلتهم و انقطعت إليهم و لكني كنت و أنا أنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الأهل من الغرباء و لا الأعداء من الأولياء فلما انجلى عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة و استنبت الأعداء من الأولياء و الأقرباء من الغرباء فإذا الذين كنت أعدهم أهلين و أصدقاء و إخوانا و خلطاء إنما هم سباع ضارية لا همة لهم إلا أن تأكلني و تأكل بي غير أن اختلاف منازلهم في ذلك على قدر القوة فمنهم كالأسد في شدة السورة و منهم كالذئب في الغارة و النهبة و منهم كالكلب في الهرير و البصبصة و منهم كالثعلب في الحيلة و السرقة فالطرق واحدة و القلوب مختلفة فلو أنك أيها الملك في عظيم ما أنت فيه من ملكك و كثرة من تبعك من أهلك و جنودك و حاشيتك و أهل طاعتك نظرت في أمرك عرفت أنك وحيد فريد ليس معك أحد من جميع أهل الأرض و ذلك إنك قد عرفت أن عامة الأمم عدو لك و أن هذه الأمة التي أوتيت الملك عليها كثيرة الحسد من أهل العداوة و الغش لك الذين هم أشد عداوة لك من السباع الضارية و أشد حنقا عليك من كل الأمم الغريبة و إذا صرت إلى أهل طاعتك و معونتك و قرابتك وجدت لهم قوما يعملون عملا بأجر معلوم يحرصون مع ذلك أن ينقصوك من العمل فيزدادوك من الأجر و إذا صرت إلى أهل خاصتك و قرابتك صرت إلى قوم جعلت كدك و كدحك و مهناك و كسبك لهم فأنت تؤدي إليهم كل يوم الضريبة و ليس كلهم و إن وزعت بينهم جميع كدك عنك براض فإن أنت حبست عنهم ذلك فليس منهم البتة براض أ فلا ترى أنك أيها الملك وحيد لا أهل لك و لا مال فأما أنا فإن لي أهلا و مالا و إخوانا و أخواتا و أولياء لا يأكلوني و لا يأكلون بي يحبوني و أحبهم فلا يفقد الحب بيننا ينصحوني و أنصحهم فلا غش بيننا و يصدقوني و أصدقهم فلا تكاذب بيننا و يوالوني و أواليهم فلا عداوة بيننا ينصروني و أنصرهم فلا تخاذل بيننا يطلبون الخير الذي إن طلبته معهم لم يخافوا أن أغلبهم عليه أو أستأثر به دونهم فلا فساد بيننا و لا تحاسد يعملون لي و أعمل لهم بأجور لا تنفد و لا يزال العمل قائما بيننا هم هداتي إن ضللت و نور بصري إن عميت و حصني إن أتيت و مجني إن رميت و أعواني إذا فزعت و قد تنزهنا عن البيوت و المخاني فلا يزيدها و تركنا الذخائر و المكاسب لأهل الدنيا فلا تكاثر بيننا و لا تباغي و لا تباغض و لا تفاسد و لا تحاسد و لا تقاطع فهؤلاء أهلي أيها الملك و إخواني و أقربائي و أحبائي أحببتهم و انقطعت إليهم و تركت الذين كنت أنظر إليهم بالعين المسحورة لما عرفتهم و التمست السلامة منهم
فهذه الدنيا أيها الملك التي أخبرتك أنها لا شيء فهذا نسبها و حسبها و مسيرها إلى ما قد سمعت قد رفضتها لما عرفتها و أبصرت الأمر الذي هو الشيء فإن كنت تحب أيها الملك أن أصف لك ما أعرف عن أمر الآخرة التي هي الشيء فاستعد إلى السماع تسمع غير ما كنت تسمع به من الأشياء فلم يزده الملك عليه إلا أن قال له كذبت لم تصب شيئا و لم تظفر إلا بالشقاء و العناء فاخرج و لا تقيمن في شيء من مملكتي فإنك فاسد مفسد و ولد للملك في تلك الأيام بعد إياسه من الذكور غلام لم ير الناس مولودا مثله قط حسنا و جمالا و ضياء فبلغ السرور من الملك مبلغا عظيما كاد يشرف منه على هلاك نفسه من الفرح و زعم أن الأوثان التي كان يعبدها هي التي وهبت له الغلام فقسم عامة ما كان في بيوت أمواله على بيوت أوثانه و أمر الناس بالأكل و الشرب سنة و سمى الغلام يوذاسف و جمع العلماء و المنجمين لتقويم ميلاده فرفع المنجمون إليه أنهم يجدون الغلام يبلغ من الشرف و المنزلة ما لا يبلغه أحد قط في أرض الهند و اتفقوا على ذلك جميعا غير أن رجلا قال ما أظن الشرف و المنزلة و الفضل الذي وجدناه يبلغه هذا الغلام إلا شرف الآخرة و لا أحسبه إلا أن يكون إماما في الدين و النسك و ذا فضيلة في درجات الآخرة لأني أرى الشرف الذي تبلغه ليس يشبه شيئا من شرف الدنيا و هو شبيه بشرف الآخرة فوقع ذلك القول من الملك موقعا كاد أن ينغصه سروره بالغلام و كان المنجم الذي أخبره بذلك من أوثق المنجمين في نفسه و أعلمهم و أصدقهم عنده و أمر الملك للغلام بمدينة فأخلاها و تخير له من الظؤرة و الخدم كل ثقة و تقدم إليهم أن لا يذكر فيما بينهم موت و لا آخره و لا حزن و لا مرض و لا فناء حتى تعتاد ذلك ألسنتهم و تنساه قلوبهم و أمرهم إذا بلغ الغلام أن لا ينطقوا عنده بذكر شيء مما يتخوفونه عليه خشية أن يقع في قلبه منه شيء فيكون ذلك داعية إلى اهتمامه
بالدين و النسك و أن يتحفظوا و يتحرزوا من ذلك و يتفقد بعضهم من بعض و ازداد الملك عند ذلك حنقا على النساك مخافة على ابنه و كان لذلك الملك وزير قد كفل أمره و حمل عنه مئونة سلطانه و كان لا يخونه و لا يكذبه و لا يكتمه و لا يؤثر عليه و لا يتوانى في شيء من علمه و لا يضيعه و كان الوزير مع ذلك رجلا لطيفا طلقا معروفا بالخير يحبه الناس و يرضون به إلا أن أحباء الملك و أقرباءه كانوا يحسدونه و يبغون عليه و يستثقلون بمكانه ثم إن الملك خرج ذات يوم إلى الصيد و معه ذلك الوزير فأتى به في شعب من الشعاب على رجل قد أصابته زمانة شديدة في رجليه ملقى في أصل شجرة لا يستطيع براحا فسأله الوزير عن شأنه فأخبره أن السباع أصابته فرق له الوزير فقال له الرجل ضمني إليك و احملني إلى منزلك فإنك تجد عندي منفعة فقال الوزير إني لفاعل و إن لم أجد عندك منفعة و لكن يا هذا ما المنفعة التي تعدنيها هل تعمل عملا أو تحسن شيئا فقال الرجل نعم أنا أرتق الكلام فقال و كيف ترتق الكلام قال إذا كان فيه فتق أرتقه حتى لا يجيء من قبله فساد فلم ير الوزير قوله شيئا و أمر بحمله إلى منزله و أمر له بما يصلحه حتى إذ كان بعد ذلك احتال أحباء الملك للوزير و ضربوا له الأمور ظهرا و بطنا فأجمع رأيهم على أن دسوا رجلا منهم إلى الملك فقال له أيها الملك إن هذا الوزير يطمع في ملكك أن يغلب عليه عقبك من بعدك فهو يصانع الناس على ذلك و يعمل عليه دائبا فإن أردت أن تعلم صدق ذلك فأخبره أنه قد بدا لك أن ترفض الملك و تلحق بالنساك فإنك سترى من فرحه بذلك ما تعرف به أمره و كان القوم قد عرفوا من الوزير رقة عند ذكر فناء الدنيا و الموت و لينا للنساك و حبا لهم فعملوا فيه من الوجه الذي ظنوا أنهم يظفرون بحاجتهم منه فقال الملك لئن هجمت منه على هذا لم أسأل عما سواه فلما أن دخل عليه الوزير قال له الملك إنك قد عرفت حرصي على الدنيا و طلب الملك و إني ذكرت ما مضى من ذلك فلم أجد معي منه طائلا و قد عرفت أن الذي بقي منه كالذي مضى فإنه يوشك أن ينقضي ذلك كله بأجمعه فلا يصير في يدي منه شيء و أنا أريد أن أعمل في حال الآخرة عملا قويا على قدر ما كان من عملي في الدنيا و قد بدا لي أن ألحق بالنساك و أخلي هذا العمل لأهله فما رأيك قال فرق الوزير لذلك رقة شديدة حتى عرف الملك ذلك منه ثم قال أيها الملك إن الباقي و إن كان عزيزا لأهل أن يطلب و إن الفاني و إن استمكنت منه لأهل أن يرفض و نعم الرأي رأيت و إني لأرجو أن يجمع الله لك مع الدنيا شرف الآخرة قال فكبر ذلك على الملك و وقع منه كل موقع و لم يبد له شيئا غير أن الوزير عرف الثقل في وجهه فانصرف إلى أهله كئيبا حزينا لا يدري من أين أتى و لا من دهاه و لا يدري ما دواء الملك فيما استنكر عليه فسهر لذلك عامة الليل ثم ذكر الرجل الذي زعم أنه يرتق الكلام فأرسل إليه فأتي به فقال له إنك كنت ذكرت لي ذكرا من رتق الكلام فقال الرجل أجل فهل احتجت إلى شيء من ذلك فقال الوزير نعم أخبرك أني صحبت هذا الملك قبل ملكه و منذ صار ملكا فلم أستنكره فيما بيني و بينه قط لما يعرفه من نصيحتي و شفقتي و إيثاري إياه على نفسي و على جميع الناس حتى إذا كان هذا اليوم استنكرته استنكارا شديدا لا أظن خيرا عنده بعده فقال له الراتق هل لذلك سبب أو علة قال الوزير نعم دعاني أمس و قال لي كذا و كذا فقلت له كذا و كذا فقال من هاهنا جاء الفتق و أنا أرتقه إن شاء الله اعلم أن الملك قد ظن أنك تحب أن ينجلي هو عن ملكه و تخلفه أنت فيه فإذا كان عند الصبح فاطرح عنك ثيابك و حليتك و البس أوضع ما تجدون من ذي النساك و اشهره ثم احلق رأسك و امض على وجهك إلى باب الملك فإن الملك سيدعو بك و يسألك عن الذي صنعت فقل له هذا الذي دعوتني إليه و لا
ينبغي لأحد أن يشير على صاحبه بشيء إلا واساه فيه و صبر عليه و ما أظن الذي دعوتني إليه إلا خيرا مما نحن فيه فقم إذا بدا لك ففعل الوزير ذلك فتخلى عن نفس الملك ما كان فيها عليه ثم أمر الملك بنفي النساك من جميع بلاده و توعدهم بالقتل فجدوا في الهرب و الاستخفاء ثم إن الملك خرج ذات يوم متصيدا فوقع بصره على شخصين من بعيد فأرسل إليهما فأتي بهما فإذا هما ناسكان فقال لهما ما بالكما لن تخرجا من بلادي قالا قد أتتنا رسلك و نحن على سبيل الخروج قال و لم خرجتما راجلين قالا لأنا قوم ضعفاء ليس لنا دواب و لا زاد و لا نستطيع الخروج إلا بالتقصير قال الملك إن من خاف الموت أسرع بغير دابة و لا زاد فقالا له إنا لا نخاف الموت بل لا ننظر قرة عين في شيء من الأشياء إلا فيه قال الملك و كيف لا تخافان الموت و قد زعمتما أن رسلنا لما أتتكم و أنتم على سبيل الخروج أ فليس هذا هو الهرب من الموت قالا إن الهرب من الموت ليس من الفرق فلا تظن أنا فرقناك و لكنا هربنا من أن يعينك على أنفسنا فأسف الملك و أمر بهما أن يحرقا بالنار و أذن في أهل مملكته بأخذ النساك و تحريقهم بالنار فتجرد رؤساء عبدة الأوثان في طلبهم و أخذوا منهم بشرا كثيرا و أحرقوهم بالنار فمن ثم صار التحريق سنة باقية في أرض الهند و بقي في جميع تلك الأرض قوم قليل من النساك كرهوا الخروج من البلاد و اختاروا الغيبة و الاستخفاء ليكونوا دعاة و هداة لمن وصلوا إلى كلامه فنبت ابن الملك أحسن نبات في جسمه و عقله و علمه و رأيه و لكنه لم يؤخذ بشيء من الآداب إلا بما يحتاج إليه الملوك مما ليس فيه ذكر موت و لا زوال و لا فناء و أوتي الغلام من العلم و الحفظ شيئا كان عند الناس من العجائب و كان أبوه لا يدري أ يفرح بما أوتي ابنه من ذلك أو يحزن له لما يتخوف عليه أن يدعوه ذلك إلى ما قيل فيه فلما فطن الغلام بحصرهم إياه في المدينة و منعهم إياه من الخروج و النظر و الاستماع و تحفظهم عليه ارتاب لذلك و سكت عنه و قال في نفسه هؤلاء أعلم بما
يصلحني مني حتى إذا ازداد بالسن و التجربة علما قال ما أرى لهؤلاء علي فضلا و ما أنا بحقيق أن أقلدهم أمري فأراد أن يكلم أباه إذا دخل عليه و يسأله عن سبب حصره إياه ثم قال ما هذا الأمر إلا من قبله و ما كان ليطلعني عليه و لكني حقيق أن ألتمس علم ذلك من حيث أرجو إدراكه و كان في خدمة رجل كان ألطفهم به و أرأفهم به و كان الغلام إليه مستأنسا فطمع الغلام في إصابة الخبر من قبل ذلك الرجل فازداد له ملاطفة و به استيناسا ثم إن الغلام واضعه الكلام في بعض الليل باللين و أخبره أنه بمنزلة والده و أولى الناس به ثم أخذه بالترغيب و الترهيب و قال له إني لأظن هذا الملك سائر لي بعد والدي و أنت فيه سائر أحد رجلين إما أعظم الناس فيه منزلة و إما أسوأ الناس حالا قال له قال له الحاضن و بأي شيء أتخوف في ملكك سوء الحال قال بأن تكتمني اليوم أمرا أفهمه غدا من غيرك فأنتقم منك بأشد ما أقدر عليك فعرف الحاضن منه الصدق و طمع منه في الوفاء فأفشى إليه خبره و الذي قال المنجمون لأبيه و الذي حذر أبوه من ذلك فشكر له الغلام ذلك و أطبق عليه حتى إذا دخل عليه أبوه قال يا أبة إني و إن كنت صبيا فقد رأيت في نفسي و اختلاف حالي أذكر من ذلك ما أذكر و أعرف بما لا أذكر منه ما أعرف و أنا أعرف أني لم أكن على هذا المثال و أنك لم تكن على هذه الحال و لا أنت كائن عليها إلى الأبد و سيغيرك الدهر عن حالك هذه فلئن كنت أردت أن تخفي عني أمر الزوال فما خفي على ذلك و لئن كنت حبستني عن الخروج و حلت بيني و بين الناس لكيلا تتوق نفسي إلى غير ما أنا فيه لقد تركتني بحصرك إياي و إن نفسي لقلقة مما تحول بيني و بينه حتى ما لي هم غيره و لا أردت سواه حتى لا يطمئن قلبي إلى شيء مما أنا فيه و لا أنتفع به و لا آلفه فخل عني و أعلمني بما تكره من ذلك و تحذره حتى أجتنبه و أوثر موافقتك و رضاك على ما سواهما فلما سمع الملك ذلك من ابنه علم أنه قد علم ما الذي يكرهه و أنه من حبسه و حصره لا يزيده إلا إغراء و حرصا على ما يحال بينه و بينه فقال يا بني ما أردت بحصري إياك إلا أن أنحي عنك الأذى فلا ترى إلا ما يوافقك و لا تسمع إلا ما يسرك فأما إذا كان هواك في غير ذلك فإن آثر الأشياء عندي ما رضيت و هويت ثم أمر الملك أصحابه أن يركبوه في أحسن زينة و أن ينحوا عن طريقه كل منظر قبيح و أن يعدوا له المعازف و الملاهي ففعلوا ذلك فجعل بعد ركبته تلك يكثر الركوب فمر ذات يوم على طريق قد غفلوا عنه فأتى على رجلين من السؤال أحدهما قد تورم و ذهب لحمه و اصفر جلده و ذهب ماء وجهه و سمج منظره و الآخر أعمى يقوده قائد فلما رأى ذلك اقشعر منهما و سأل عنهما فقيل له إن هذا المورم من سقم باطن و هذا الأعمى من زمانه فقال ابن الملك و إن هذا البلاء ليصيب غير واحد قالوا نعم فقال هل يأمن أحد من نفسه أن يصيبه مثل هذا قالوا لا و انصرف يومئذ مهموما ثقيلا محزونا باكيا مستخفا بما هو فيه من ملكه و ملك أبيه فلبث بذلك أياما ثم ركب ركبة فأتى في مسيره على شيخ كبير قد انحنى من الكبر و تبدل خلقه و ابيض شعره و اسود لونه و تقلص جلده و قصر خطوه فعجب منه و سأل عنه فقالوا هذا الهرم فقال و في كم يبلغ الرجل ما أرى قالوا في مائة سنة أو نحو ذلك و قال فما وراء ذلك قالوا الموت قال فما يخلى بين الرجل و بين ما يريد من المدة قالوا لا و ليصيرن إلى هذا في قليل من الأيام فقال الشهر ثلاثون يوما و السنة اثنا عشر شهرا و انقضاء العمر مائة سنة فما أسرع اليوم في الشهر و ما أسرع الشهر في السنة و ما أسرع السنة في العمر فانصرف الغلام و هذا كلامه يبديه و يعيده مكررا له
ثم سهر ليلته كلها و كان له قلب حي ذكي و عقل لا يستطيع معه نسيانا و لا غفلة فعلاه الحزن و الاهتمام فانصرف نفسه عن الدنيا و شهواتها و كان في ذلك يداري أباه و يتلطف عنده و هو مع ذلك قد أصغى بسمعه إلى كل متكلم بكلمة طمع أن يسمع شيئا يدله على غير ما هو فيه و خلا بحاضنه الذي كان أفضى إليه بسره فقال له هل تعرف من الناس أحدا شأنه غير شأننا قال نعم قد كان قوم يقال لهم النساك رفضوا الدنيا و طلبوا الآخرة و لهم كلام و علم لا يدرى ما هو غير أن الناس عادوهم و أبغضوهم و حرقوهم و نفاهم الملك عن هذه الأرض فلا يعلم اليوم ببلادنا منهم أحد فإنهم قد غيبوا أشخاصهم ينتظرون الفرج و هذه سنة في أولياء الله قديمة يتعاطونها في دول الباطل فاغتص لذلك الخبر فؤاده و طال به اهتمامه و صار كالرجل الملتمس ضالته التي لا بد له منها و ذاع خبره في آفاق الأرض و شهر بتفكره و جماله و كماله و فهمه و عقله و زهادته في الدنيا و هوانها عليه فبلغ ذلك رجلا من النساك يقال له بلوهر بأرض يقال لها سرانديب و كان رجلا ناسكا حكيما فركب البحر حتى أتى أرض سولابط ثم عمد إلى باب ابن الملك فلزمه و طرح عنه زي النساك و لبس زي التجار و تردد إلى باب ابن الملك حتى عرف الأهل و الأحباء و الداخلين إليه فلما استبان له لطف الحاضن بابن الملك و حسن منزلته منه أطاف به بلوهر حتى أصاب منه خلوة فقال له إني رجل من تجار سرانديب قدمت منذ أيام و معي سلعة عظيمة نفيسة الثمن عظيمة القدر فأردت الثقة لنفسي فعليك وقع اختياري و سلعتي خير من الكبريت الأحمر و هي تبصر العميان و تسمع الصم و تداوي من الأسقام و تقوي من الضعف و تعصم من الجنون و تنصر على العدو و لم أر بهذا أحدا هو أحق بها من هذا الفتى فإن رأيت أن تذكر له ذلك ذكرته فإن كان له فيها حاجة أدخلتني عليه فإنه لم يخف عنه فضل سلعتي لو قد نظر إليها قال الحاضن للحكيم إنك لتقول شيئا ما سمعنا به من أحد قبلك و لا أرى بك بأسا و ما مثلي يذكر ما لا يدري به ما هو فأعرض علي سلعتك أنظر إليها فإن رأيت شيئا ينبغي لي أن أذكره ذكرته قال له
بلوهر إني رجل طبيب و إني لأرى في بصرك ضعفا فأخاف إن نظرت إلى سلعتي أن يلتمع بصرك و لكن ابن الملك صحيح البصر حدث السن و لست أخاف عليه أن ينظر إلى سلعتي فإن رأى ما يعجبه كانت له مبذولة على ما يحب و إن كان غير ذلك لم تدخل عليه مئونة و لا منقصة و هذا أمر عظيم لا يسعك أن تحرمه إياه أو تطويه دونه فانطلق الحاضن إلى ابن الملك فأخبره خبر الرجل فحس قلب ابن الملك بأنه قد وجد حاجته فقال عجل إدخال الرجل علي ليلا و ليكن ذلك في سر و كتمان فإن مثل هذا لا يتهاون به فأمر الحاضن بلوهر بالتهيؤ للدخول عليه فحمل معه سفطا فيه كتب له فقال الحاضن ما هذا السفط قال بلوهر في هذا السفط سلعتي فإذا شئت فأدخلني عليه فانطلق به حتى أدخله عليه فلما دخل عليه بلوهر سلم عليه و حياه و أحسن ابن الملك إجابته و انصرف الحاضن و قعد الحكيم عند الملك فأول ما قال له بلوهر رأيتك يا ابن الملك زدتني في التحية على ما تصنع بغلمانك و أشراف أهل بلادك قال ابن الملك ذلك لعظيم ما رجوت عندك قال بلوهر لئن فعلت ذلك بي فقد كان رجلا من الملوك في بعض الآفاق يعرف بالخير و يرجى فبينا هو يسير يوما في موكبه إذ عرض له في مسيره رجلان ماشيان لباسهما الخلقان و عليهما أثر البؤس و الضر فلما نظر إليهما الملك لم يتمالك أن وقع على الأرض فحياهما و صافحهما فلما رأى ذلك وزراؤه اشتد جزعهم مما صنع الملك فأتوا أخا له و كان جريا عليه فقالوا إن الملك أزرى بنفسه و فضح أهل مملكته و خر عن دابته لإنسانين دنيين فعاتبه على ذلك كيلا يعود و لمه على ما صنع ففعل ذلك أخ الملك فأجابه الملك بجواب لا يدرى ما حاله فيه أ ساخط عليه الملك أم راض عنه فانصرف إلى منزله حتى إذا كان بعد أيام أمر الملك مناديا و كان يسمى منادي الموت فنادى في فناء داره و كانت تلك سنتهم فيمن أرادوا قتله فقامت النوائح و النوادب في دار أخ الملك و لبس ثياب الموتى و انتهى إلى باب الملك و هو يبكي بكاء شديدا و نتف شعره فلما بلغ ذلك الملك دعا به فلما أذن له الملك دخل عليه و وقع على الأرض و نادى بالويل و الثبور و رفع يده بالتضرع فقال له الملك اقترب أيها السفيه أنت تجزع من مناد نادى من بابك بأمر مخلوق و ليس بأمر خالق و أنا أخوك و قد تعلم أنه ليس لك إلي ذنب أقتلك عليه ثم أنتم تلومونني على وقوعي إلى الأرض حين نظرت إلى منادي ربي إلي و أنا أعرف منكم بذنوبي فاذهب فإني قد علمت أنه إنما استغرك وزرائي و سيعلمون خطاهم ثم أمر الملك بأربعة توابيت فصنعت له من خشب فطلا تابوتين منها بالذهب و تابوتين بالقار فلما فرغ منها ملأ تابوتي القار ذهبا و ياقوتا و زبرجدا و ملأ تابوتي الذهب جيفا و دما و عذرة و شعرا ثم جمع الوزراء و الأشراف الذين ظن أنهم أنكروا صنيعه بالرجلين الضعيفين الناسكين فعرض عليهم التوابيت الأربعة و أمرهم بتقويمها فقالوا أما في ظاهر الأمر و ما رأينا و مبلغ علمنا فإن تابوتي الذهب لا ثمن لهما لفضلهما و تابوتي القار لا ثمن لهما لرذالتهما فقال الملك أجل هذا لعلمكم بالأشياء و مبلغ رأيكم فيها ثم أمر بتابوتي القار فنزعت عنهما صفائحهما فأضاء البيت بما فيها من الجواهر فقال هذان مثل الرجلين الذين ازدريتم لباسهما و ظاهرهما و هما مملوان علما و حكمة و صدقا و برا و سائر مناقب الخير الذي هو أفضل من الياقوت و اللؤلؤ و الجوهر و الذهب ثم أمر بتابوتي الذهب فنزع عنهما أبوابهما فاقشعر القوم من سوء منظرهما و تأذوا بريحهما و نتنهما فقال الملك و هذان مثل القوم المتزينين بظاهر الكسوة و اللباس و أجوافهما مملوة جهالة و عمى و كذبا و جورا و سائر أنواع الشر التي هي أفظع و أشنع و أقذر من الجيف قال القوم قد فقهنا و اتعظنا أيها الملك ثم قال بلوهر هذا مثلك يا ابن الملك فيما تلقيتني به من التحية و البشر فانتصب يوذاسف ابن الملك و كان متكئا ثم قال زدني مثلا قال الحكيم إن الزارع خرج ببذره الطيب ليبذره فلما ملأ كفه و نثره وقع بعضه على حافة الطريق فلم يلبثان أن التقطه الطير و وقع بعضه على صفاة قد أصابها ندى و طين
فمكث حتى اهتز فلما صارت عروقه إلى يبس الصفاة مات و يبس و وقع بعضه بأرض ذات شوك فنبت حتى سنبل و كاد أن يثمر فمنعه الشوك فأبطله و أما ما كان منه وقع في الأرض الطيبة و إن كان قليلا فإنه سلم و طاب و زكي فالزارع حامل الحكمة و أما البذر ففنون الكلام و أما ما وقع منه على حافة الطريق فالتقطه الطير فما لا يجاوز السمع منه حتى يمر صفحا و أما ما وقع على الصخرة في الندى فيبس حين بلغت عروقه الصفاة فما استحلاه صاحبه حتى سمعه بفراغ قلبه و عرفه بفهمه و لم يفقه بحصافة ولايته و أما ما نبت منه و كاد أن يثمر فمنعه الشوك فأهلكه فما وعاه صاحبه حتى إذا كان عند العمل به حفته الشهوات فأهلكته و أما ما زكي و طاب و سلم منه و انتفع به رآه البصر و وعاه الحفظ و أنفذه العزم بقمع الشهوات و تطهير القلوب من دنسها قال ابن الملك إني أرجو أن يكون ما تبذره أيها الحكيم ما يزكو و يسلم و يطيب فاضرب لي مثل الدنيا و غرور أهلها بها قال بلوهر بلغنا أن رجلا حمل عليه فيل مغتلم فانطلق موليا هاربا و أتبعه الفيل حتى غشيه فاضطره إلى بئر فتدلى فيها و تعلق بغصنين نابتين على شفير البئر و وقعت قدماه على رءوس حيات فلما تبين له الغصنين فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين أحدهما أبيض و الآخر أسود فلما نظر إلى تحت قدميه فإذا رءوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن فلما نظر إلى قعر البئر إذا بتنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه فلما رفع رأسه إلى أعلى الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل فتطعم من ذلك العسل فألهاه ما طعم منه و ما نال من لذة العسل و حلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتي لا يدري متى يبادرنه و ألهاه عن التنين الذي لا يدري كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته أما البئر فالدنيا مملوة آفات و بلايا و شرور و أما الغصنان فالعمر و أما الجرذان فالليل و النهار يسرعان في الأجل و أما الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة التي هي السموم القاتلة من المرة و البلغم و الريح و الدم التي لا يدري صاحبها متى تهيج به و أما التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب و أما العسل الذي اغتر به المغرور فما ينال الناس من لذة الدنيا و شهواتها و نعيمها و دعتها من لذة المطعم و المشرب و الشم و اللمس و السمع و البصر قال ابن الملك إن هذا المثل عجيب و إن هذا التشبيه حق فزدني مثلا للدنيا و صاحبها المغرور بها المتهاون بما ينفعه فيها قال بلوهر زعموا أن رجلا كان له ثلاثة قرناء و كان قد آثر أحدهم على الناس جميعا و يركب الأهوال و الأخطار بسببه و يغرر بنفسه له و يشغل ليله و نهاره في حاجته و كان القرين الثاني دون الأول منزلة و هو على ذلك حبيب إليه مشفق عنده و يكرمه و يلاطفه و يخدمه و يطيعه و يبذل له و لا يغفل عنه و كان القرين الثالث محقورا مستثقلا ليس له من وده و ماله إلا أقله حتى إذا نزل بالرجل الأمر الذي يحتاج فيه إلى قرنائه الثلاثة فأتاه جلاوزة الملك ليذهبوا به ففزع إلى قرينه الأول فقال له قد عرفت إيثاري إياك و بذل نفسي لك و هذا اليوم يوم حاجتي إليك فما ذا عندك قال ما أنا لك بصاحب و إن لي أصحابا يشغلوني عنك هم اليوم أولى بي منك و لكن لعلي أزودك ثوبين لتنتفع بهما ثم فزع إلى قرينه الثاني ذي المحبة و اللطف فقال له قد عرفت كرامتي إياك و لطفي بك و حرصي على مسرتك و هذا يوم حاجتي إليك فما ذا عندك فقال إن أمر نفسي يشغلني عنك و عن أمرك فاعمد لشأنك و اعلم أنه قد انقطع الذي بيني و بينك و أن طريقي غير طريقك إلا أني لعلي أخطو معك خطوات يسيرة لا تنتفع بها ثم انصرف إلى ما هو أهم إلي منك ثم فزع إلى قرينه الثالث الذي كان يحقره و يعصيه و لا يلتفت إليه أيام رخائه فقال له إني منك لمستح و لكن الحاجة اضطرتني إليك فما ذا لي عندك قال
لك عندي المواساة و المحافظة عليك و قلة الغفلة عنك فأبشر و قر عينا فإني صاحبك الذي لا يخذلك و لا يسلمك فلا يهمك قلة ما أسلفتني و اصطنعت إلي فإني قد كنت أحفظ لك ذلك و أوفره عليك كله ثم لم أرض لك بعد ذلك به حتى اتجرت لك به فربحت أرباحا كثيرة فلك اليوم عندي من ذلك أضعاف ما وضعت عندي منه فأبشر و إني أرجو أن يكون في ذلك رضي الملك عنك اليوم و فرجا مما أنت فيه فقال الرجل عند ذلك ما أدري على أي الأمرين أنا أشد حسرة عليه على ما فرطت في القرين الصالح أم على ما اجتهدت فيه من المحبة لقرين السوء قال بلوهر فالقرين الأول هو المال و القرين الثاني هو الأهل و الولد و القرين الثالث هو العمل الصالح قال ابن الملك إن هذا هو الحق المبين فزدني مثلا للدنيا و غرورها و صاحبها المغرور بها المطمئن إليها قال بلوهر كان أهل مدينة يأتون الرجل الغريب الجاهل بأمرهم فيملكونه عليهم سنة فلا يشك أن ملكه دائم عليهم لجهالته بهم فإذا انقضت السنة أخرجوه من مدينتهم عريانا مجردا سليبا فيقع في بلاء و شقاء لم يحدث به نفسه فصار ما مضى عليه من ملكه وبالا و حزنا و مصيبة و أذى ثم إن أهل المدينة أخذوا رجلا آخر فملكوه عليهم فلما رأى الرجل غربته فيهم لم يستأنس بهم و طلب رجلا من أهل أرضه خبيرا بأمرهم حتى وجده فأفضى إليه بسر القوم و أشار إليه أن ينظر إلى الأموال التي في يديه فيخرج منها ما استطاع الأول فالأول حتى يحرزه في المكان الذي يخرجونه إليه فإذا أخرجه القوم صار إلى الكفاية و السعة بما قدم و أحرز ففعل ما قال له الرجل و لم يضيع وصيته قال بلوهر و إني لأرجو أن تكون ذلك الرجل يا ابن الملك الذي لم يستأنس بالغرباء و لم يغتر بالسلطان و أنا الرجل الذي طلبت و لك عندي الدلالة و المعرفة و المعونة قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم أنا ذلك الرجل و أنت ذلك الرجل و أنت طلبتي التي كنت طلبتها فصف لي أمر الآخرة تاما فأما الدنيا فلعمري لقد صدقت و لقد رأيت منها ما يدلني على فنائها و يزهدني فيها و لم يزل أمرها حقيرا عندي قال بلوهر إن الزهادة في الدنيا يا ابن الملك مفتاح الرغبة إلى الآخرة و من طلب الآخرة فأصاب بابها دخل ملكوتها و كيف لا تزهد في الدنيا و قد آتاك الله من العقل ما آتاك و قد ترى أن الدنيا كلها و إن كثرت إنما يجمعها أهلها لهذه الأجساد الفانية و الجسد لا قوام له و لا امتناع به فالحر يذيبه و البرد يجمده و السموم يتخلله و الماء يغرقه و الشمس تحرقه و الهواء يسقمه و السباع يفترسه و الطير تنقره و الحديد يقطعه و الصدم يحطمه ثم هو معجون بطينة من ألوان الأسقام و الأوجاع و الأمراض فهو مرتهن بها مترقب لها وجل منها غير طامع في السلامة منها ثم هو مقارن الآفات السبع التي لا يتخلص منها ذو جسد و هي الجوع و الظمأ و الحر و البرد و الوجع و الخوف و الموت فأما ما سألت منه من الأمر الآخرة فإني أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا قريبا و ما كنت تحسبه عسيرا يسيرا و ما كنت تحسبه قليلا كثيرا قال ابن الملك أيها الحكيم أ رأيت القوم الذين كان والدي حرقهم بالنار و نفاهم أ هم أصحابك فقال نعم قال فإنه بلغني أن الناس اجتمعوا على عداوتهم و سوء الثناء عليهم قال بلوهر نعم قد كان ذلك قال فما سبب ذلك أيها الحكيم قال بلوهر أما قولك يا ابن الملك في سوء الثناء عليهم فما عسى أن يقولوا فيمن يصدق و لا يكذب و يعلم و لا يجهل و يكف و لا يؤدي و يصلي و لا ينام و يصوم و لا يفطر و يبتلي فيصبر و يتفكر فيعتبر و يطيب نفسه عن الأموال و الأهلين و لا يخافهم الناس على أموالهم و أهليهم قال ابن الملك فكيف اتفق الناس على عداوتهم و هم فيما بينهم مختلفون قال بلوهر مثلهم في ذلك مثل كلاب اجتمعوا على جيفة تنهشها و يهار بعضها بعضا مختلفة الألوان و الأجناس فبينا هي تقبل على الجيفة إذ دنا رجل منهم فترك بعضهن بعضا و أقبلن على الرجل فيهرن عليه جميعا معاويات عليه و ليس للرجل في جيفتهن حاجة
و لا أراد أن ينازعهن فيها و لكن هن عرفن غربته منهن فاستوحشن منه و استأنس بعضهن ببعض و إن كن مختلفات متعاديات فيما بينهن من قبل أن يرد الرجل عليهن قال بلوهر فمثل الجيفة متاع الدنيا و مثل صنوف الكلاب ضروب الرجال الذين يقتتلون على الدنيا و يهرقون دماءهم و ينفقون لها أموالهم و مثل الرجل الذي اجتمعت عليه الكلاب و لا حاجة له في جيفهن كمثل صاحب الدين الذي رفض الدنيا و خرج منها فليس ينازع فيها أهلها و لا يمنع ذلك الناس من أن يعادونه لغربته عندهم فإن عجبت فأعجبت من الناس أنهم لا همة لهم إلا الدنيا و جمعها و التكاثر و التفاخر و التغالب عليها حتى إذا رأوا من قد تركها في أيديهم و تخلى عنها كانوا له أشد قتالا عليه و أشد حنقا منهم للذي يشاحهم عليها فأي حجة لله يا ابن الملك أدحض من تعاون المختلفين على من لا حجة لهم عليه قال ابن الملك أعمد لحاجتي قال بلوهر إن الطبيب الرفيق إذ رأى الجسد قد أهلكته الأخلاط الفاسدة فأراد أن يقويه و يسمنه لم يغذه بالطعام الذي يكون منه اللحم و الدم و القوة لأنه يعلم أنه متى أدخل الطعام على الأخلاط الفاسدة أضر بالجسد و لم ينفعه و لم يقوه و لكن يبدأ بالأدوية و الحمية من الطعام فإذا أذهب من جسده الأخلاط الفاسدة أقبل عليه بما يصلحه من الطعام فحينئذ يجد طعم الطعام و يسمن و يقوى و يحمل الثقل بمشية الله عز و جل و قال ابن الملك أيها الحكيم أخبرني ما ذا تصيب من الطعام و الشراب قال الحكيم زعموا أن ملكا من الملوك كان عظيم الملك كثير الجند و الأموال و أنه بدا له أن يغزو ملكا آخر ليزداد ملكا إلى ملكه و مالا إلى ماله فسار إليه بالجنود و العدد و العدة و النساء و الأولاد و الأثقال فأقبلوا نحوه فظهروا عليه و استباحوا عسكره فهرب و ساق امرأته و أولاده صغارا فألجأه الطلب عند المساء إلى أجمة على شاطئ النهر فدخلها مع أهله و ولده و سيب دوابه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا في الأجمة و هم يسمعون وقع حوافر الخيل من كل جانب فأصبح الرجل لا يطيق براحا و أما النهر فلا يستطيع عبوره و أما الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمكان العدو فهم في مكان ضيق قد أذاهم البرد و أهجرهم الخوف و طواهم الجوع و ليس لهم طعام و لا معهم زاد و لا إدام و أولاده صغار جياع يبكون من الضر الذي قد أصابهم فمكث بذلك يومين ثم إن أحد بنيه مات فألقوه في النهر فمكث بعد ذلك يوما آخر فقال الرجل لامرأته إنا مشرفون على الهلاك جميعا و إن بقي بعضنا و هلك بعضنا كان خيرا من أن نهلك جميعا و قد رأيت أن أعجل ذبح صبي من هؤلاء الصبيان فنجعله قوتا لنا و لأولادنا إلى أن يأتي الله عز و جل بالفرج فإن أخرنا ذلك هزل الصبيان حتى لا يشبع لحومهم و تضعف حتى لا نستطيع الحركة إن وجدنا إلى ذلك سبيلا و طاوعته امرأته فذبح بعض أولاده و وضعوه بينهم ينهشونه فما ظنك يا ابن الملك بذلك المضطر أ أكل الكلب المستكثر يأكل أم أكل المضطر المستقل قال ابن الملك بل أكل المستقل قال الحكيم كذلك أكلي و شربي يا ابن الملك في الدنيا فقال له ابن الملك أ رأيت هذا الذي تدعوني إليه أيها الحكيم أ هو شيء نظر الناس فيه بعقولهم و ألبابهم حتى اختاروه على ما سواه لأنفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا قال الحكيم علا هذا الأمر و لطف عن أن يكون من أهل الأرض أو برأيهم دبروه و لو كان من أهل الأرض لدعوا إلى عملها و زينتها و حفظها و دعتها و نعيمها و لذتها و لهوها و لعبها و شهواتها و لكنه أمر غريب و دعوة من الله عز و جل ساطعة و هدى مستقيم ناقض على أهل الدنيا أعمالهم مخالف لهم عائب عليهم و طاعن ناقل لهم عن أهوائهم داع لهم إلى طاعة ربهم و إن ذلك لبين لمن تنبه مكتوم عنده عن غير أهله حتى يظهر الله الحق بعد خفائه و يجعل كلمته العليا و كلمة الذين جهلوا السفلى قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم ثم قال الحكيم إن من الناس من تفكر قبل مجيء الرسل ع فأصاب و منهم من دعته الرسل بعد مجيئها فأجاب و أنت يا ابن الملك ممن تفكر بعقله فأصاب
قال ابن الملك فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلى التزهيد في الدنيا غيركم قال الحكيم أما في بلادكم هذه فلا و أما في سائر الأمم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم و لم يستحقوه بأعمالهم فاختلف سبيلنا و سبيلهم قال ابن الملك كيف صرتم أولى بالحق منهم و إنما أتاكم هذا الأمر الغريب من حيث أتاهم قال الحكيم الحق كله جاء من عند الله عز و جل و أنه تبارك و تعالى دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه و شروطه حتى أدوه إلى أهله كما أمروا لم يظلموا و لم يخطئوا و لم يضيعوا و قبله آخرون فلم يقوموا بحقه و شروطه و لم يؤدوه إلى أهله و لم يكن لهم فيه عزيمة و لا على العمل به نية ضمير فضيعوه و استثقلوه فالمضيع لا يكون مثل الحافظ و المفسد لا يكون كالمصلح و الصابر لا يكون كالجازع فمن هاهنا كنا نحن أحق به منهم و أولى ثم قال الحكيم إنه ليس يجري على لسان أحد منهم من الدين و التزهيد و الدعاء إلى الآخرة إلا و قد أخذ ذلك عن أصل الحق الذي عنه أخذنا و لكنه فرق بيننا و بينهم أحداثهم التي أحدثوا و ابتغاؤهم الدنيا و إخلادهم إليها و ذلك أن هذه الدعوة لم تزل تأتي و تظهر في الأرض مع أنبياء الله و رسله صلوات الله عليهم في القرون الماضية على ألسنة مختلفة متفرقة و كان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم و طريقهم واضح و دعوتهم بينة لا فرقة فيهم و لا اختلاف فكانت الرسل ع إذا بلغوا رسالات ربهم و احتجوا لله تبارك و تعالى على عباده بحجة و إقامة معالم الدين و أحكامه قبضهم الله عز و جل إليه عند انقضاء آجالهم و منتهى مدتهم و مكثت الأمة من الأمم بعد نبيها برهة من دهرها لا تغير و لا تبدل ثم صار الناس بعد ذلك يحدثون الأحداث و يبتغون الشهوات و يضيعون العلم فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفى شخصه و لا يظهر علمه فيعرفونه باسمه و لا يهتدون إلى مكانه و لا يبقى منهم إلا الخسيس من أهل العلم يستخف به أهل الجهل و الباطل فيخمل العلم و يظهر الجهل و تتناسل القرون فلا يعرفون إلا الجهل
و يزداد الجهال استعلاء و كثرة و العلماء خمولا و قلة فحولوا معالم الله تبارك و تعالى عن وجوهها و تركوا قصد سبيلها و هم مع ذلك مقرون بتنزيله متبعون شبهه ابتغاء تأويله متعلقون بصفته تاركون لحقيقته نابذون لأحكامه فكل صفة جاءت الرسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلك الصفة مخالفون لهم في أحكامهم و سيرتهم و لسنا نخالفهم في شيء إلا و لنا عليهم الحجة الواضحة و البينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الكتب المنزلة من الله عز و جل فكل متكلم منهم يتكلم بشيء من الحكمة فهي لنا و هي بيننا و بينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا و سيرتنا و حكمنا و تشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم و أعمالهم فليسوا يعرفون من الكتاب إلا وصفه و لا من الذكر إلا اسمه فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتى يقيموه قال ابن الملك فما بال الأنبياء و الرسل ع يأتون في زمان دون زمان قال الحكيم إنما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها فلما أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا ثم أمره أن يعمر تلك الأرض و أن يغرس فيها صنوف الشجر و أنواع الزرع ثم سمى له الملك ألوانا من الغرس معلومة و أنواعا من الزرع معروفة ثم أمره أن لا يعدو ما سمى له و أن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يكن أمره به سيده و أمره أن يخرج لها نهرا و يسد عليها حائطا و يمنعها من أن يفسدها مفسد فجاء الرسول الذي أرسله الملك إلى تلك الأرض فأحياها بعد موتها و عمرها بعد خرابها و غرس فيها و زرع من الصنوف التي أمره بها ثم ساق نهر الماء إليها حتى نبت الغرس و اتصل الزرع ثم لم يلبث قليلا حتى مات قيمها و أقام بعده من يقوم مقامه و خلف من بعده خلف خالفوا من إقامة القيم بعده و غلبوه على أمره فأخربوا العمران و طموا الأنهار فيبس الغرس و هلك الزرع فلما بلغ الملك خلافهم على القيم بعد رسوله و خراب أرضه أرسل إليها رسولا آخر يحييها و يعيدها و يصلحها كما كانت في منزلتها الأولى و كذلك الأنبياء و الرسل ع يبعث الله عز و جل الواحد بعد الواحد فيصلح أمر الناس بعد فساده
قال ابن الملك أ يخص الأنبياء و الرسل عليهم إذا جاءت بما يبعث به أم تعم قال بلوهر إن الأنبياء و الرسل إذا جاءت تدعوا عامة الناس فمن أطاعهم كان منهم و من عصاهم لم يكن منهم و ما تخلو الأرض قط من أن يكون لله عز و جل فيها مطاع من أنبيائه و رسله و من أوصيائه و إنما مثل ذلك مثل طائر كان في ساحل البحر يقال له قدم يبيض بيضا كثيرا و كان شديد الحب للفراخ و كثرتها و كان يأتي عليه زمان يتعذر عليه فيه ما يريده من ذلك فلا يجد بدا من اتخاذ أرض أخرى حتى يذهب ذلك الزمان فيأخذ بيضة مخافة عليه من أن يهلك من شفقته فيفرقه في أعشاش الطير فتحضن الطير بيضته مع بيضتها و تخرج فراخه مع فراخها فإذا طال مكث فراخ قدم مع فراخ الطير ألفها بعض فراخ الطير و استأنس بها فإذا كان الزمان الذي ينصرف فيه قدم إلى مكانه مر بأعشاش الطير و أوكارها بالليل فأسمع فراخه و غيرها صوته فإذا سمعت فراخه صوته تبعته و تبع فراخه ما كان ألفها من فراخ سائر الطير و لم يجبه ما لم يكن من فراخه و لا ما لم يكن ألف فراخه و كان قد يضم إليه من أجابه من فراخه حبا للفراخ و كذلك الأنبياء إنما يستعرضون الناس جميعا بدعائهم فيجيبهم أهل الحكمة و العقل لمعرفتهم لفضل الحكمة فمثل الطير الذي دعا بصوته مثل الأنبياء و الرسل التي تعم الناس بدعائهم و مثل البيض المتفرق في أعشاش الطير مثل الحكمة و مثل سائر فراخ الطير التي ألفت فراخ قدم مثل من أجاب الحكماء قبل مجيء الرسل لأن الله عز و جل جعل لأنبيائه و رسله من الفضل و الرأي ما لم يجعل لغيرهم من الناس و أعطاهم من الحجج و النور و الضياء ما لم يعط غيرهم و ذلك لما يريد من بلوغ رسالته و مواقع حججه و كانت الرسل إذا جاءت و أظهرت دعوتها أجابهم من الناس أيضا من لم يكن أجاب الحكماء و ذلك لما جعل الله عز و جل على دعوتهم من الضياء و البرهان قال ابن الملك أ فرأيت ما يأتي به الرسل و الأنبياء إذ زعمت أنه ليس
بكلام الناس و كلام الله عز و جل و هو كلام و كلام ملائكته كلام قال الحكيم أ ما رأيت الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب و الطير ما يريدون من تقدمها و تأخرها و إقبالها و إدبارها لم يجدوا الدواب و الطير يحتمل كلامهم الذي هو كلامهم فوضعوا من النقر و الصفير و الرجز ما يبلغوا به حاجتهم و ما عرفوا أنها تطيق حمله و كذلك العباد يعجزوا أن يعلموا كلام الله عز و جل و كلام ملائكته على كنهه و كماله و لطفه و صفته فصار ما تراجع الناس بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة شبيها بما وضع الناس للدواب و الطير و لم يمنع ذلك الصوت مكان الحكمة المخبرة في تلك الأصوات من أن تكون الحكمة واضحة بينهم قوية منيرة شريفة عظيمة و لم يمنعها من وقوع معانيها على مواقعها و بلوغ ما احتج به الله عز و جل على العباد فيها فكان الصوت للحكمة جسدا و مسكنا و كانت الحكمة للصوت نفسا و روحا و لا طاقة للناس أن ينفذوا غور كلام الحكمة و لا يحيطوا به بعقولهم فمن قبل ذلك تفاضلت العلماء في علمهم فلا يزال عالم يأخذ علمه من عالم حتى يرجع العلم إلى الله عز و جل الذي جاء من عنده و كذلك العلماء قد يصيبون من الحكمة و العلم ما ينجيهم من الجهل و لكن لكل ذي فضل فضله كما أن الناس ينالون من ضوء الشمس ما ينتفعون به في معايشهم و أبدانهم و لا يقدرون أن ينفذوها بأبصارهم فهي كالعين الغزيرة الظاهر مجراها المكنون عنصرها فالناس قد يجيبون بما ظهر لهم من مائها و لا يدركون غورها و هي كالنجوم الزاهرة التي يهتدي بها الناس و لا يعلمون مساقطها فالحكمة أشرف و أرفع و أعظم مما وصفناها به كله هي مفتاح باب كل خير يرتجى و النجاة من كل شر يتقى و هي شراب الحياة التي من شرب منه لم يمت أبدا و الشفاء للسقم الذي من استشفى به لم يسقم أبدا و الطريق المستقيم الذي من سلكه لم يضل أبدا هي حبل الله المتين الذي لا يخلقه طول التكرار من تمسك به انجلى عنه العمى و من اعتصم به فاز و اهتدى و أخذ بالعروة الوثقى قال فما بال هذه الحكمة التي وصفت بما وصفت من الفضل و الشرف
و الارتفاع و القوة و المنفعة و الكمال و البرهان لا ينتفع بها الناس كلهم جميعا قال الحكيم إنما مثل الحكمة كمثل الشمس الطالعة على جميع الناس الأبيض و الأسود منهم و الصغير و الكبير فمن أراد الانتفاع بها لم تمنعه و لم يحل بينه و بينها من أقربهم و أبعدهم و من لم يرد الانتفاع بها فلا حجة له عليها و لا تمنع الشمس على الناس جميعا و لا يحول بين الناس و بين الانتفاع بها و كذلك الحكمة و حالها بين الناس إلى يوم القيامة و الحكمة قد عمت الناس جميعا إلا أن الناس يتفاضلون في ذلك و الشمس ظاهرة إذ طلعت على الأبصار الناظرة فرقت بين الناس على ثلاثة منازل فمنهم الصحيح البصر الذي ينفعه الضوء و يقوى على النظر و منهم الأعمى القريب من الضوء الذي لو طلعت عليه شمس أو شموس لم تغن عنه شيئا و منهم المريض البصر الذي لا يعد في العميان و لا في أصحاب البصر كذلك الحكمة هي شمس القلوب إذا طلعت تفرق على ثلاث منازل منزل لأهل البصر الذين يعقلون الحكمة فيكونون من أهلها و يعملون بها و منزل لأهل العمى الذين تنبو الحكمة عن قلوبهم لإنكارهم الحكمة و تركهم قبولها كما ينبو ضوء الشمس عن العميان و منزل لأهل مرض القلوب الذين يقصر علمهم و يضعف عملهم و يستوي فيهم السيئ و الحسن و الحق و الباطل و إن أكثر من تطلع عليه الشمس و هي الحكمة ممن يعمى عنها قال ابن الملك فهل يسع الرجل الحكمة فلا يجيب إليها حتى يلبث زمانا ناكبا عنها ثم يجيب و يراجعها قال بلوهر نعم هذا أكثر حالات الناس في الحكمة قال ابن الملك ترى والدي سمع شيئا من هذا الكلام قط قال بلوهر لا أراه سمع سماعا صحيحا رسخ في قلبه و لا كلمه فيه ناصح شفيق قال ابن الملك و كيف ترك ذلك الحكماء منه طول دهرهم قال بلوهر تركوه لعلمهم بمواضع كلامهم فربما تركوا ذلك ممن هو أحسن إنصافا و ألين عريكة و أحسن استماعا من أبيك حتى أن الرجل ليعاش الرجل طول عمره بينهما الاستيناس و المودة و المفاوضة و لا يفرق بينهما شيء إلا الدين و الحكمة و هو متفجع عليه متوجع له ثم لا يفضي إليه أسرار الحكمة إذ لم يره لها موضعا و قد بلغنا أن ملكا من الملوك كان عاقلا قريبا من الناس مصلحا لأمورهم حسن النظر و الإنصاف لهم و كان له وزير صدق صالح يعينه على الإصلاح و يكفيه مئونته و يشاوره في أموره و كان الوزير أديبا عاقلا له دين و ورع و نزاهة على الدنيا و كان قد لقي أهل الدين و سمع كلامهم و عرف فضلهم فأجابهم و انقطع إليهم بإخائه و وده و كانت له من الملك منزلة حسنة و خاصة و كان الملك لا يكتمه شيئا من أمره و كان الوزير له أيضا بتلك المنزلة إلا أنه لم يكن ليطلعه على أمر الدين و لا يفاوضه أسرار الحكمة فعاشا بذلك زمانا طويلا و كان الوزير كلما دخل على الملك سجد الأصنام و عظمها و أخذ شيئا في طريق الجهالة و الضلالة تقية له فأشفق الوزير على الملك من ذلك و اهتم به و استشار في ذلك أصحابه و إخوانه فقالوا له انظر لنفسك و أصحابك فإن رأيته موضعا للكلام فكلمه و فاوضه و إلا فإنك إنما تعينه على نفسك و تهيجه على أهل دينك فإن السلطان لا يغتر به و لا تؤمن سطوته فلم يزل الوزير على اهتمامه به مصافيا له رفيقا به رجاء أن يجد فرصة فينصحه أو يجد للكلام موضعا فيفاوضه و كان الملك مع ضلالته متواضعا سهلا قريبا حسن السيرة في رعيته حريصا على إصلاحهم متفقدا لأمورهم فاصطحب الوزير الملك على هذا برهة من زمانة ثم إن الملك قال للوزير ذات ليلة من الليالي بعد ما هدأت العيون هل لك أن تركب فنسير في المدينة فننظر إلى حال الناس و آثار الأمطار التي أصابتهم في هذه الأيام فقال الوزير نعم فركبا جميعا يجولان في نواحي المدينة فمرا في بعض الطريق على مزبلة تشبه الجبل فنظر الملك إلى ضوء النار تبدو في ناحية المزبلة فقال للوزير إن لهذه النار لقصة فأنزل بنا نمشي حتى ندنو منها فنعلم خبرها ففعلا ذلك فلما انتهيا إلى مخرج الضوء وجدا نقبا شبيها بالغار و فيه مسكين من المساكين ثم نظرا في الغار من حيث لا يراهما الرجل فإذا الرجل مشوه الخلق عليه ثياب
خلقان من خلقان المزبلة متكئ على متكأ قد هيأه من الزبل و بين يديه إبريق فخار فيه شراب و في يده طنبور يضرب بيده و امرأته في مثل خلقه و لباسه قائمة بين يديه تسقيه إذا استسقى منها و ترقص له إذا ضرب و تحييه بتحية الملوك كلما شرب و هو يسميها سيدة النساء و هما يصفان أنفسهما بالحسن و الجمال و بينهما من السرور و الضحك و الطرب ما لا يوصف فقام الملك على رجليه مليا و الوزير ينظر كذلك و يتعجبان من لذتهما و إعجابهما بما هما فيه ثم انصرف الملك و الوزير فقال الملك ما أعلمني و إياك أصابنا الدهر من اللذة و السرور و الفرح مثل ما أصاب هذين الليلة مع أني أظنهما يصنعان كل ليلة مثل هذا فاغتنم الوزير ذلك منه و وجد فرصة فقال له أخاف أيها الملك أن يكون دنيانا هذه من الغرور و يكون ملكك و ما نحن فيه من البهجة و السرور في أعين من يعرف الملكوت الدائم مثل هذه المزبلة و مثل هذين الشخصين اللذين رأيناهما و تكون مساكننا و ما شيدنا منها عند من يرجو مساكن السعادة و ثواب الآخرة مثل هذا الغار في أعيننا و تكون أجسادنا عند من يعرف الطهارة و النضارة و الحسن و الصحة مثل جسد هذه المشوه الخلق في أعيننا و يكون تعجبهم عن إعجابنا بما نحن فيه كتعجبنا من إعجاب هذين الشخصين بما هما فيه قال الملك و هل تعرف لهذه الصفة أهلا قال الوزير نعم قال الملك من هم قال الوزير أهل الدين الذين عرفوا ملك الآخرة و نعيمها فطلبوه قال الملك و ما ملك الآخرة قال الوزير هو النعيم الذي لا بؤس بعده و الغنى الذي لا فقر بعده و الفرح الذي لا ترح بعده و الصحة التي لا سقم بعدها و الرضى الذي لا سخط بعده و الأمن الذي لا خوف بعده و الحياة التي لا موت بعدها و الملك الذي لا زوال له التي هي دار البقاء و دار الحيوان التي لا انقطاع لها و لا تغير فيها رفع الله عز و جل عن ساكنيها فيها السقم و الهرم و الشقاء و النصب و المرض و الجوع و الظمأ و الموت فهذه صفة ملك الآخرة و خبرها أيها الملك
قال الملك و هل تدركون إلى هذه الدار مطلبا و إلى دخولها سبيلا قال الوزير نعم هي مهيأة لمن طلبها من وجه مطلبها و من أتاها من بابها ظفر بها قال الملك ما منعك أن تخبرني بهذا قبل اليوم قال الوزير منعني من ذلك إجلالك و الهيبة لسلطانك قال الملك لئن كان هذا الأمر الذي وصفت يقينا فلا ينبغي لنا أن نضيعه و لا نترك العمل به في إصابته و لكنا نجتهد حتى يصح لنا خبره قال الوزير أ فتأمرني أيها الملك أن أواظب عليك في ذكره و التكرير له قال الملك بل آمرك أن لا تقطع عني ليلا و لا نهارا و لا تريحني و لا تمسك عني ذكره فإن هذا أمر عجيب لا يتهاون به و لا يغفل عن مثله و كان سبيل ذلك الملك و الوزير إلى النجاة قال ابن الملك ما أنا بشاغل نفسي بشيء من هذه الأمور عن هذا السبيل و لقد حدثت نفسي بالهرب معك في جوف الليل حيث بدا لك أن تذهب قال بلوهر و كيف تستطيع الذهاب معي و الصبر على صحبتي و ليس لي جحر يأويني و لا دابة تحملني و لا أملك ذهبا و لا فضة و لا أدخر غذاء العشاء و لا يكون عندي فضل ثوب و لا أستقر ببلدة إلا قليلا حتى أتحول عنها و لا أتزود من أرض إلى أرض أخرى رغيفا أبدا قال ابن الملك إني أرجو أن يقويني الذي قواك قال بلوهر أما إنك إن أبيت إلا صحبتي كنت خليقا أن تكون كالفتى الذي صاهر الفقير قال يوذاسف و كيف كان ذلك قال بلوهر زعموا أن فتى كان من أولاد الأغنياء فأراد أبوه أن يزوجه ابنة عم له ذات جمال و مال فلم يوافق ذلك الفتى و لم يطلع أباه على كراهته حتى خرج من عنده متوجها إلى أرض أخرى فمر في طريقه على جارية عليها ثياب خلقان لها قائمة على باب بيت من بيوت المساكين فأعجبته الجارية فقال لها من أنت أيتها الجارية قالت ابنه شيخ كبير في هذا البيت فنادى الفتى الشيخ فخرج إليه فقال له هل تزوجني ابنتك هذه قال ما أنت بمتزوج لبنات الفقراء و أنت فتى من الأغنياء قال أعجبتني هذه الجارية و لقد خرجت هاربا من امرأة ذات حسب و مال أرادوا مني تزويجها فكرهتها
فزوجني ابنتك فإنك واجد عندي خيرا إن شاء الله قال الشيخ كيف أزوجك ابنتي و نحن لا تطيب أنفسنا أن تنقلها عنا و لا أحتسب مع ذلك أن أهلك يرضون أن تنقلها إليهم قال الفتى فنحن معكم في منزلكم هذا قال الشيخ إن صدقت فيما تقول فاطرح عنك زيك و حليتك هذه قال ففعل الفتى ذلك و أخذ أطمارا رثة من أطمارهم فلبسها و قعد معهم فسأله الشيخ عن شأنه و عرض له بالحديث حتى فتش عقله فعرف أنه صحيح العقل و أنه لم يحمله على ما صنع السفه فقال له الشيخ أما إذا اخترتنا و رضيت بنا فقم معي إلى هذا السرب فأدخله فإذا خلف منزله بيوت و مساكن لم ير مثله قط سعة و حسنا و له خزائن من كل ما يحتاج إليه ثم دفع إليه مفاتيحه و قال إن كل ما هاهنا لك فاصنع به ما أحببت فنعم الفتى أنت و أصاب الفتى ما كان يريده قال يوذاسف إني لأرجو أن أكون أنا صاحب هذا المثل إن الشيخ فتش عقل هذا الغلام حتى وثق به فلعلك تطول بي على تفتيش عقلي فأعلمني ما عندك في ذلك قال الحكيم لو كان هذا الأمر إلي لاكتفيت منك بأدنى المشافهة و لكن فوق رأسي سنة قد سنها أئمة الهدى في بلوغ الغاية في التوفيق و علم ما في الصدور فإني أخاف إن خالفت السنة أن أكون قد أحدثت بدعة و أنا منصرف عنك الليلة و حاضر بابك في كل ليلة ففكر في نفسك بهذا و اتعظ به و ليحضرك فهمك و تثبت و لا تعجل بالتصديق لما يورده عليك همك حتى تعلمه بعد التؤدة و الأناة و عليك بالاحتراس في ذلك أن يغلبك الهوى و الميل إلى الشبهة و العمى و اجتهد في المسائل التي تظن أن فيها شبهة ثم كلمني فيها و أعلمني رأيك في الخروج إذا أردت و افترقا على هذا تلك الليلة ثم عاد الحكيم إليه فسلم عليه و دعا له ثم جلس فكان من دعائه أن قال أسأل الله الأول الذي لم يكن قبله شيء و الآخر الذي لا يبقى معه شيء و الباقي الذي لا فناء له و العظيم الذي لا منتهى له و الواحد الفرد الصمد الذي ليس معه غيره و القاهر الذي لا شريك له البديع الذي لا خالق معه القادر الذي ليس له ضد الصمد الذي ليس له ند الملك الذي ليس معه أحد أن يجعلك ملكا عدلا إماما في الهدى قائدا إلى التقوى و مبصرا من العمى و زاهدا في الدنيا و محبا لذوي النهى و مبغضا لأهل الردى حتى يفضي بنا و بك إلى ما وعد الله أولياءه على ألسنة أنبيائه من جنته و رضوانه فإن رغبتنا إلى الله في ذلك ساطعة و رهبتنا منه باطنة و أبصارنا إليه شاخصة و أعناقنا له خاضعة و أمورنا إليه صائرة فرق ابن الملك لذلك الدعاء رقة شديدة و ازداد في الخير رغبة و قال متعجبا من قوله أيها الحكيم أعلمني كم أتى لك من العمر فقال اثنتا عشرة سنة فارتاع لذلك ابن الملك و قال ابن اثنتي عشرة سنة طفل و أنت مع ما أرى من التكهل كابن ستين سنة قال الحكيم أما المولد فقد راهق الستين سنة و لكنك سألتني عن العمر و إنما العمر الحياة و لا حياة إلا في الدين و العمل به و التخلي من الدنيا و لم يكن ذلك لي إلا من اثنتي عشرة سنة فأما قبل ذلك فإني كنت ميتا و لست أعتد في عمري بأيام الموت قال ابن الملك كيف تجعل الآكل و الشارب و المتقلب ميتا قال الحكيم لأنه شارك الموتى في العمى و الصم و البكم و ضعف الحياة و قلة الغنى فلما شاركهم في الصفة وافقهم في الاسم قال ابن الملك لئن كنت لا تعد حياتك تلك حياة و لا غبطة ما ينبغي لك أن تعد ما تتوقع من الموت موتا و لا تراه مكروها قال الحكيم تغريري في الدخول عليك بنفسي يا ابن الملك مع علمي لسطوة أبيك على أهل ديني يدلك على أني لا أرى الموت موتا و لا أرى هذه الحياة حياة و لا ما أتوقع من الموت مكروها فكيف يرغب في الحياة من قد ترك حظه منها أو يهرب من الموت من قد أمات نفسه بيده أ و لا ترى يا ابن الملك أن صاحب الدين قد رفض الدنيا من أهله و ماله و ما لا يرغب فيها إلا له و احتمل من نصب العبادة ما لا يريحه منه إلا
الموت فما حاجة من لا يتمتع بلذة الحياة إلى الحياة أو يهرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت قال ابن الملك صدقت أيها الحكيم فهل يسرك أن ينزل بك الموت من غد قال الحكيم بل يسرني أن ينزل بي الليلة دون غد فإنه من عرف السيئ و الحسن و عرف ثوابهما من الله عز و جل ترك السيئ مخافة عقابه و عمل الحسن رجاء ثوابه و من كان موقنا بالله وحده مصدقا بوعده فإنه يحب الموت لما يرجو بعد الموت من الرخاء و يزهد في الحياة لما يخاف على نفسه من الشهوات الدنيا و المعصية لله فيها فهو يحب الموت مبادرة من ذلك فقال ابن الملك إن هذا لخليق أن يبادر الهلكة لما يرجو في ذلك من النجاة فاضرب لي مثل أمتنا هذه و عكوفها على أصنامها قال الحكيم إن رجلا كان له بستان يعمره و يحسن القيام عليه إذ رأى في بستانه ذات يوم عصفورا واقعا على شجرة من شجرة البستان يصيب من ثمرها فغاضه ذلك فنصب فخا فصاده فلما هم بذبحه أنطقه الله عز و جل بقدرته فقال لصاحب البستان إنك تهتم بذبحي و ليس في ما يشبعك من جوع و لا يقويك من ضعف فهل لك في خير عما هممت به قال الرجل ما هو قال العصفور تخلي سبيلي و أعلمك ثلاث كلمات إن أنت حفظتهن كن خيرا لك من أهل و مال هو لك قال قد فعلت فأخبرني بهن قال العصفور احفظ عني ما أقول لك لا تأس على ما فاتك و لا تصدقن بما لا يكون و لا تطلبن ما لا تطيق فلما قضى الكلمات خلى سبيله فطار فوقع على بعض الأشجار ثم قال للرجل لو تعلم ما فاتك مني لعلمت أنك قد فاتك مني عظيم جسيم من الأمر فقال الرجل و ما ذاك قال العصفور لو كنت قضيت على ما هممت به من ذبحي لاستخرجت من حوصلتي درة كبيضة الإوزة فكان لك في ذلك غنى الدهر فلما سمع الرجل منه ذلك أسر في نفسه ندما على ما فاته و قال دع عنك ما مضى و هلم أنطلق بك إلى منزلي فأحسن صحبتك و أكرم مثواك فقال له العصفور أيها الجاهل ما أراك حفظتني إذا ظفرت
بي و لا انتفعت بالكلمات التي افتديت بها منك نفسي أ لم أعهد إليك ألا تأس على ما فاتك و لا تصدق ما لا يكون و لا تطلب ما لا يدرك أما أنت متفجع على ما فاتك و تلتمس مني رجعتي إليك و تطلب ما لا تدرك و تصدق إن في حوصلتي درة كبيضة الإوزة و جميعي أصغر من بيضها و قد كنت عهدت إليك أن لا تصدق بما لا يكون و إن أمتكم صنعوا أصنامهم بأيديهم ثم زعموا أنها هي التي خلقتهم و حفظوها من أن تسرق مخافة عليها و زعموا أنها هي التي تحفظهم و أنفقوا عليها من مكاسبهم و أموالهم و زعموا أنها هي التي ترزقهم فطلبوا من ذلك ما لا يدرك و صدقوا بما لا يكون فلزمهم منه ما لزم صاحب البستان قال ابن الملك صدقت أما الأصنام فإني لم أزل عارفا بأمرها زاهدا فيها آيسا من خيرها فأخبرني بالذي تدعوني إليه و الذي ارتضيته لنفسك ما هو قال بلوهر جماع الدين أمران أحدهما معرفة الله عز و جل و الآخر العمل برضوانه قال ابن الملك و كيف معرفة الله عز و جل قال الحكيم أدعوك إلى أن تعلم أن الله واحد ليس له شريك لم يزل فردا ربا و ما سواه مربوب و أنه خالق و ما سواه مخلوق و أنه قديم و ما سواه محدث و أنه صانع و ما سواه مصنوع و أنه مدبر و ما سواه مدبر و أنه باق و ما سواه فان و أنه عزيز و ما سواه ذليل و أنه لا ينام و لا يغفل و لا يأكل و لا يشرب و لا يضعف و لا يغلب و لا يعجز و لا يعجزه شيء لم تمتنع منه السماوات و الأرض و الهواء و البر و البحر و أنه كون الأشياء لا من شيء و أنه لم يزل و لا يزال و لا تحدث فيه الحوادث و لا تغيره الأحوال و لا تبدله الأزمان و لا يتغير من حال إلى حال و لا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان و لا يكون من مكان أقرب منه إلى مكان و لا يغيب عنه شيء عالم لا يخفى عليه شيء قدير لا يفوته شيء و أن تعرفه بالرأفة و الرحمة و العدل و أن له ثوابا أعده لمن أطاعه و عذابا أعده لمن عصاه و أن تعمل لله برضاه و تجتنب سخطه قال ابن الملك فما يرضى الواحد الخالق من الأعمال قال الحكيم يا ابن الملك أن تطيعه و لا تعصيه و أن تأتي إلى غيرك ما تحب أن يؤتى إليك و تكف عن غيرك ما تحب أن يكف عنك في مثله فإن ذلك عدل و في العدل رضاه و في اتباع آثار أنبياء الله و رسله بأن لا تعدو سنتهم قال ابن الملك زدني أيها الحكيم تزهيدا في الدنيا و أخبرني بحالها قال الحكيم إني لما رأيت الدنيا دار تصرف و زوال و تقلب من حال إلى حال و رأيت أهلها فيها أغراضا للمصائب و رهائن للمتالف و رأيت صحة بعدها سقما و شبابا بعده هرما و غنى بعده فقرا و فرحا بعده حزنا و عزا بعده ذلا و رخاء بعده شدة و أمنا بعده خوفا و حياة بعدها ممات و رأيت أعمارا قصيرة و حتوفا راصدة و سهاما قاصدة و أبدانا ضعيفة مستسلمة غير ممتنعة و لا حصينة عرفت أن الدنيا منقطعة بالية فانية و عرفت بما ظهر لي منها ما غاب عني منها و عرفت بظاهرها باطنها و غامضها بواضحها و سرها بعلانيتها و صدورها بورودها فحذرتها لما عرفتها و فررت منها لما أبصرتها بينا ترى المرء فيها مغتبطا محبورا و ملكا مسرورا في خفض و دعة و نعمة و سعة في بهجة من شبابه و حداثة من سنه و غبطة من ملكه و بهاء من سلطانه و صحة من بدنه إذا انقلبت الدنيا به أسر ما كان فيها نفسا و أقر ما كان فيها عينا فأخرجته من ملكها و غبطتها و خفضها و دعتها و بهجتها فأبدلته بالعز ذلا و بالفرح ترحا و بالسرور حزنا و بالنعمة بؤسا و بالغنى فقرا و بالسعة ضيقا و بالشباب هرما و بالشرف ضعة و بالحياة موتا فدلته في حفرة ضيقة شديدة الوحشة وحيدا فريدا غريبا قد فارق الأحبة و فارقوه خذله إخوانه فلم يجد عندهم دفعا و صار عزه و ملكه و أهله و ماله نهبة من بعده كأن لم يكن في الدنيا و لم يذكر فيها ساعة قط و لم
يكن له فيها خطر و لم يملك من الأرض حظا قط فلا تتخذ فيها يا ابن الملك دارا و لا تتخذن فيها عقدة و لا عقارا فأف لها و تف قال ابن الملك أف لها و لمن يغتر بها إذ كان هذا حالها و رق ابن الملك و قال زدني أيها الحكيم من حديثك فإنه شفاء لما في صدري قال الحكيم إن العمر قصير و الليل و النهار يسرعان فيه و الارتحال من الدنيا حثيث قريب و إنه و إن طال العمر فيها فإن الموت نازل و الظاعن لا محالة راحل فيصير ما جمع فيها مفرقا و ما عمل فيها متبرا و ما شيد فيها خرابا و يصير اسمه مجهولا و ذكره منسيا و حسبه خاملا و جسده باليا و شرفه وضيعا و نعمته وبالا و كسبه خسارا و يورث سلطانه و يستذل عقبه و يستباح حريمه و تنقض عهوده و تخفر ذمته و تدرس آثاره و يوزع ماله و يطوى رحله و يفرح عدوه و يبيد ملكه و يورث تاجه و يخلف على سريره و يخرج من مساكنه مسلوبا مخذولا فيذهب به إلى قبره فيدلى في حفرته في وحدة و غربة و ظلمة و وحشة و مسكنة و ذلة قد فارق الأحبة و أسلمته العصبة فلا تؤنس وحشته أبدا و لا ترد غربته أبدا و اعلم أنها يحق على المرء اللبيب من سياسة نفسه خاصة كسياسة الإمام العادل الحازم الذي يؤدب العامة و يستصلح الرعية و يأمرهم بما يصلحهم و ينهاهم عما يفسدهم ثم يعاقب من عصاه منهم و يكرم من أطاعه منهم فكذلك للرجل اللبيب أن يؤدب نفسه في جميع أخلاقها و أهوائها و شهواتها و أن تحملها و إن كرهت على لزوم منافعها فيما أحبت و كرهت و على اجتناب مضارها و أن يجعل لنفسه عن نفسه ثوابا و عقابا من مكانها من السرور إذا أحسنت و من مكانها من الغم إذا أساءت و مما يحق على ذي العقل النظر فيما ورد عليه من أموره و الأخذ بصوابها و ينهى نفسه عن خطائها و أن يحتقر عمله و نفسه في رأيه لكيلا يدخله عجب فإن الله عز و جل قد مدح أهل العقل و ذم أهل العجب و من لا عقل له و بالعقل يدرك كل خير بإذن الله تبارك و تعالى و بالجهل تهلك النفوس و إن من أوثق
الثقات عند ذوي الألباب ما أدركته عقولهم و بلغته تجاربهم و نالته أبصارهم في الترك للأهواء و الشهوات و ليس ذو العقل بجدير أن يرفض ما قوي على حفظه من العمل احتقارا له إذا لم يقدر على ما هو أكثر منه و إنما هذا من أسلحة الشيطان الغامضة التي لا يبصرها إلا من تدبرها و لا يسلم منها إلا من عصمه الله منها و من أسلحته سلاحان أحدهما إنكار العقل أن يوقع في قلب الإنسان العاقل أنه لا عقل له و لا بصر و لا منفعة له في عقله و بصره و يريد أن يصده عن محبة العلم و طلبه و يزين له الاشتغال بغيره من ملاهي الدنيا فإن أتبعه الإنسان من هذا الوجه فهو ظفره و إن عصاه و غلبه فرغ إلى السلاح الآخر و هو أن يجعل الإنسان إذا عمل شيئا و أبصره عرض له بأشياء لا يبصرها ليغمزه و يضجره بما لا يعلم حتى يبغض إليه ما هو فيه بتضعيف عقله عنده و بما يأتيه من الشبهة و يقول أ لست ترى أنك لا تستكمل هذا الأمر و لا تطيقه أبدا فبم تعني نفسك و تشقيها فيما لا طاقة لك به فبهذا السلاح صرع كثيرا من الناس فاحترس من أن تدع اكتساب علم ما تعلمه و أن تخدع عما اكتسبت منه فإنك في دار قد استحوذ على أكثر أهلها الشيطان بألوان حيلة و وجوه ضلالته و منهم من قد ضرب على سمعه و عقله و قلبه فتركه لا يعلم شيئا و لا يسأل عن علم ما جهل منه كالبهيمة و إن لعامتهم أديانا مختلفة فمنهم المجتهدون في الضلالة حتى أن بعضهم ليستحل دم بعض و أموالهم و يموه ضلالتهم بأشياء من الحق ليلبس عليهم دينهم و يزينه لضعيفهم و يصدهم عن الدين القيم فالشيطان و جنوده دائبون في إهلاك الناس و تضليلهم لا يسأمون و لا يفترون و لا يحصي عددهم إلا الله و لا يستطاع دفع مكايدهم إلا بعون من الله عز و جل و الاعتصام بدينه فنسأل الله توفيقا لطاعته و نصرا على عدونا فإنه لا حول و لا قوة إلا بالله قال ابن الملك صف لي الله سبحانه و تعالى حتى كأني أراه قال إن الله تقدس ذكره لا يوصف بالرؤية و لا يبلغ بالعقول كنه صفته و لا تبلغ الألسن كنه مدحته و لا يحيط العباد من علمه إلا بما علمهم منه على ألسنة أنبيائه ع بما وصف به نفسه و لا تدرك الأوهام عظم ربوبيته هو أعلى من ذلك و أجل و أعز و أعظم و أمنع و ألطف فتاح للعباد من علمه بما أحب و أظهرهم من صفته على ما أراد و أدلهم على معرفته و معرفة ربوبيته بإحداث ما لم يكن و إعدام ما أحدث قال ابن الملك و ما الحجة قال إذا رأيت شيئا مصنوعا غاب عنك صانعه علمت بعقلك أن له صانعا فكذلك السماء و الأرض و ما بينهما فأي حجة أقوى من ذلك قال ابن الملك فأخبرني أيها الحكيم أ بقدر من الله عز و جل يصيب الناس ما يصيبهم من الأسقام و الأوجاع و الفقر و المكاره أو بغير قدر قال بلوهر لا بل بقدر قال فأخبرني عن أعمالهم السيئة قال إن الله عز و جل من سيئ أعمالهم بريء و لكنه عز و جل أوجب الثواب العظيم لمن أطاعه و العقاب الشديد لمن عصاه قال فأخبرني من أعدل الناس و من أجورهم و من أكيسهم و من أحمقهم و من أشقاهم و من أسعدهم قال أعدلهم أنصفهم من نفسه و أجورهم من كان جوره عنده عدلا و عدل أهل العدل عنده جورا و أما أكيسهم فمن أخذ لآخرته أهبتها و أحمقهم من كانت الدنيا همه و الخطايا عمله و أسعدهم من ختم عاقبة عمله بخير و أشقاهم من ختم له بما يسخط الله عز و جل ثم قال من دان الناس بما إن دين بمثله هلك فذلك المسخط لله المخالف لما يحب و من دانهم بما إن دين بمثله صلح فذلك المطيع لله الموافق لما يحب المجتنب لسخطه ثم قال لا تستقبحن الحسن و إن كان في الفجار و لا تستحسنن القبيح و إن كان في الأبرار ثم قال له أخبرني أي الناس أولى بالسعادة و أيهم أولى بالشقاوة قال بلوهر أولاهم بالسعادة المطيع لله عز و جل في أمره و المجتنب لنواهيه و أولاهم بالشقاوة العامل بمعصية الله التارك لطاعته المؤثر لشهوته على رضي الله
عز و جل قال فأي الناس أطوعهم لله عز و جل قال أتبعهم لأمره و أقواهم في دينه و أبعدهم من العمل بالسيئات قال فما الحسنات و السيئات قال الحسنات صدق النية و العمل و القول الطيب و العمل الصالح و السيئات سوء النية و سوء العمل و القول السيئ قال فما صدق النية قال الاقتصاد في الهمة قال فما سوء القول قال الكذب قال فما سوء العمل قال معصية الله عز و جل قال أخبرني كيف الاقتصاد في الهمة قال التذكر لزوال الدنيا و انقطاع أمرها و الكف عن الأمور التي فيها النقمة و التبعة في الآخرة قال فما السخاء قال إعطاء المال في سبيل الله عز و جل قال فما الكرم قال التقوى قال فما البخل قال منع الحقوق عن أهلها و أخذها من غير وجهها قال فما الحرص قال الإخلاد إلى الدنيا و الطماح إلى الأمور التي فيها الفساد و ثمرتها عقوبة الآخرة قال فما الصدق قال طريقة في الدين بأن لا يخادع المرء نفسه و لا يكذبها قال فما الحمق قال الطمأنينة إلى الدنيا و ترك ما يدوم و يبقى قال فما الكذب قال أن يكذب المرء نفسه فلا يزال بهواه شعفا و لدينه مسوفا قال أي الرجال أكملهم في الصلاح قال أكملهم في العقل و أبصرهم بعواقب الأمور و أعملهم بخصومة و أشدهم منهم احتراسا قال أخبرني ما تلك العاقبة و ما أولئك الخصماء الذين يعرفهم العاقل فيحترس منهم قال العاقبة الآخرة و العناء الدنيا قال فما الخصماء قال الحرص و الغضب و الحسد و الحمية و الشهوة و الرياء و اللجاجة قال أي هؤلاء الذين عددت أقوى و أجدر أن لا يسلم منه قال الحرص أقل رضا و أفحش غضبا و الغضب أجور سلطانا و أقل شكرا و أكسب للبغضاء و الحسد أسوأ الخيبة للنية و أخلف للظن و الحمية أشد لجاجة و أفظع معصية و الحقد أطول توقدا و أقل رحمة و أشد سطوة و الرياء أشد خديعة و أخفى اكتنانا و أكذب و اللجاجة أعيا خصومة و أقطع معذرة قال أي مكايد الشيطان للناس في هلاكهم أبلغ قال تعميته عليهم البر و الإثم و الثواب و العقاب و عواقب الأمور في ارتكاب الشهوات قال أخبرني بالقوة التي قوي الله عز و جل بها العباد في تغالب تلك الأمور السيئة و الأهواء المردية قال العلم و العقل و العمل بهما و صبر النفس عن شهواتها و الرجاء للثواب في الدين و كثرة الذكر لفناء الدنيا و قرب الأجل و الاحتفاظ من أن ينقض ما يبقى بما يفنى و اعتبار ماضي الأمور بعاقبتها و الاحتفاظ بما لا يعرف إلا عند ذوي العقول و كف النفس عن العادة السيئة و حملها على العادة الحسنة و الخلق المحمود و أن يكون أمل المرء بقدر عيشه حتى يبلغ غايته فإن ذلك هو القنوع و عمل الصبر و الرضا بالكفاف و اللزوم للقضاء و المعرفة بما فيه في الشدة من التعب و ما في الإفراط من الاغتراف و حسن العزاء عما فات و طيب النفس عنه و ترك معالجة ما لا يتم و الصبر بالأمور التي إليها يرد و اختيار سبيل الرشد على سبيل الغي و توطين النفس على أنه إن عمل خيرا جزي به و إن عمل شرا جزي به و المعرفة بالحقوق و الحدود في التقوى و عمل النصيحة و كف النفس عن اتباع الهوى و ركوب الشهوات و حمل الأمور على الرأي و الأخذ بالحزم و القوة فإن أتاه البلاء أتاه و هو معذور غير ملوم قال ابن الملك أي الأخلاق أكرم و أعز قال التواضع و لين الكلمة للإخوان في الله عز و جل قال أي العبادة أحسن قال الوقار و المودة قال فأخبرني أي الشيم أفضل قال حب الصالحين قال أي الذكر أفضل قال ما كان في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر قال فأي الخصوم ألد قال ترك الذنوب قال ابن الملك أخبرني أي الفضل أفضل قال الرضا بالكفاف قال أخبرني أي الأدب أحسن قال أدب الدين قال أي الشيء أجفل قال السلطان العاتي و القلب القاسي قال أي شيء أبعد غاية قال عين الحريص التي لا يشبع من الدنيا قال أي الأمور أخبث عاقبة قال التماس رضى الناس في سخط الله عز و جل قال أي شيء أسرع تقلبا قال قلوب الملوك الذين يعملون للدنيا
قال فأخبرني أي الفجور أفحش قال إعطاء عهد الله و الغدر فيه قال فأي شيء أسرع انقطاعا قال مودة الفاسق قال فأي شيء أخون قال لسان الكاذب قال فأي شيء أشد اكتتاما قال شر المرائي المخادع قال فأي شيء أشبه بأحوال الدنيا قال أحلام النائم قال أي الرجال أفضل رضى قال أحسنهم ظنا بالله عز و جل و أتقاهم و أقلهم غفلة عن ذكر الله و ذكر الموت و انقطاع المدة قال أي شيء من الدنيا أقر للعين قال الولد الأديب و الزوجة الموافقة المؤاتية المعينة على أمر الآخرة قال أي الداء ألزم في الدنيا قال الولد السوء و الزوجة السوء اللذين لا يجد منهما بدا قال أي الخفض أخفض قال رضى المرء بحظه و استيناسه بالصالحين ثم قال ابن الملك للحكيم فرغ لي ذهنك فقد أردت مساءلتك عن أهم الأشياء إلي بعد إذ بصرني الله عز و جل من أمري ما كنت به جاهلا و رزقني من الدين ما كنت منه آيسا قال الحكيم سل عما بدا لك قال ابن الملك أ رأيت من أوتي الملك طفلا و دينه عبادة الأوثان و قد غذي بلذات الدنيا و اعتادها و نشأ فيها إلى أن كان رجلا و كهلا لا ينتقل من حالته تلك في جهالته بالله تعالى ذكره و إعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلك الشهوات مشتغلا بها مؤثرا لها جريا عليها لا يرى الرشد إلا فيها و لا تزيده الأيام إلا حبا لها و اغترارا بها و عجبا و حبا لأهل ملته و رأيه و قد دعته بصيرته في ذلك إلى أن جهل أمر آخرته و أغفلها فاستخفها و سها عنها قساوة قلب و خبث نية و سوء رأي و اشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين و الاستخفاء بالحق و المغيبين لأشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه و الخروج منه إلى ما الفضل فيه بين و الحجة فيه واضحة و الحظ جزيل من لزوم ما أبصرت من الدين فيأتي ما يرجى له بعد مغفرة ما قد سلف من ذنوبه و حسن الثواب في مآبه قال الحكيم قد عرفت هذه الصفة و ما دعاك إلى هذه المسألة قال ابن الملك ما ذاك منك بمستنكر لفضل ما أوتيت من الفهم و خصصت به من العلم قال الحكيم أما صاحب هذه الصفة فالملك و الذي دعاك إليه العناية بما سألت عنه و الاهتمام به من أمره و الشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عز و جل من كان على مثل رأيه و طبعه و هواه مع ما نويت من ثواب الله تعالى ذكره في أداء حق ما أوجب الله عليك له و أحسبك تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لإنفاذه و إخراجه عن عظيم الهول و دائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلى السلامة و راحة الأبد في ملكوت السماء قال ابن الملك لم تحرم حرفا عما أردت فأعلمني رأيك فيما عنوت من أمر الملك و حالة التي أتخوف أن يدركه الموت عليها فتصيبه الحسرة و الندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه على يقين و فرج عني فأنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه قال الحكيم أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عز و جل و لا نأيس له منها ما دام فيه الروح و إن كان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارك و تعالى به نفسه من التحنن و الرأفة و الرحمة و دل عليه من الإيمان و ما أمر به من الاستغفار و التوبة و في هذا فضل الطمع لك في حاجتك إن شاء الله و زعموا أنه كان في زمن من الأزمان ملك عظيم الصوت في العلم رفيق سائس يحب العدل في أمته و الإصلاح لرعيته عاش بذلك زمانا بخير حال ثم هلك فجزعت عليه أمته و كان بامرأة له حمل فذكر المنجمون و الكهنة أنه غلام و كان يدبر ملكهم من كان يلي ذلك في زمان ملكهم فاتفق الأمر كما ذكره المنجمون و الكهنة و ولد من ذلك الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف و الملاهي و الأشربة و الأطعمة ثم إن أهل العلم منهم و الفقه و الربانيين قالوا لعامتهم إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالى و قد جعلتم الشكر لغيره و إن كان هبة من غير الله عز و جل فقد
أديتم الحق إلى من أعطاكموه و اجتهدتم في الشكر لمن رزقكموه فقال لهم العامة ما وهبه لنا إلا الله تبارك و تعالى و لا امتن به علينا غيره قال العلماء فإن كان الله عز و جل هو الذي وهبه لكم فقد أرضيتم غير الذي أعطاكم و أسخطتم الله الذي وهبه لكم فقالت لهم الرعية فأشيروا لنا أيها الحكماء و أخبرونا أيها العلماء فنتبع قولكم و نتقبل نصيحتكم و مرونا بأمركم قالت العلماء فإنا نرى لكم أن تعدلوا عن اتباع مرضاة الشيطان بالمعازف و الملاهي و المسكر إلى ابتغاء مرضاة الله عز و جل و شكره على ما أنعم به عليكم أضعاف شكركم الشيطان حتى يغفر لكم ما كان منكم قالت الرعية لا تحمل أجسادنا كل الذي قلتم و أمرتم به قالت العلماء يا أولي الجهل كيف أطعتم من لا حق له عليكم و تعصون من له الحق الواجب عليكم و كيف قويتم على ما لا ينبغي و تضعفون عما ينبغي قالوا لهم يا أئمة الحكماء عظمت فينا الشهوات و كثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها على العظيم من مشكلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلك يوما فيوما و لا تكلفونا كل هذا الثقل قالوا لهم يا معشر السفهاء أ لستم أبناء الجهل و إخوان الضلال حين خفت عليكم الشقوة و ثقلت عليكم السعادة قالوا لهم أيها السادة الحكماء و القادة العلماء إنا نستجير من تعنيفكم إيانا بمغفرة الله عز و جل و نستتر من تعييركم لنا بعفوه فلا تؤنبونا و لا تعيرونا بضعفنا و لا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه و حلمه و تضعيفه الحسنات أو اجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا و بلغ الله عز و جل بنا غايتنا و رحمنا كما خلقنا فلما قالوا ذلك أقرهم علماؤهم و رضوا قولهم فصلوا و صاموا و تعبدوا و أعظموا الصدقات سنة كاملة فلما انقضى ذلك منهم قالت الكهنة إن الذي صنعت هذه الأمة على هذا المولود يخبر أن هذا الملك يكون فاجرا و يكون بارا و يكون متجبرا و يكون متواضعا و يكون مسيئا و يكون محسنا و قال المنجمون مثل ذلك فقيل لهم كيف قلتم ذلك قال الكهنة قلنا هذا من قبل اللهو و المعازف و الباطل الذي صنع عليه و ما صنع عليه من ضده
بعد ذلك و قال المنجمون قلنا ذلك من قبل استقامة الزهرة و المشتري فنشأ الغلام بكبر لا يوصف عظمته و مرح لا ينعت و عدوان لا يطاق فعسف و جار و ظلم في الحكم و غشم و كان أحب الناس إليه من وافقه على ذلك و أبغض الناس إليه من خالفه في شيء من ذلك و اغتر بالشباب و الصحة و القدرة و الظفر و النظر فامتلأ سرورا و إعجابا بما هو فيه و رأى كلما يحبه و سمع كلما اشتهى حتى بلغ اثنتين و ثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوك و صبيانا و الجواري و المخدرات و خيله المطهمات العناق و ألوان مراكبه الفاخرة و وصائفه و خدامه الذين يكونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم و يتزينوا بأحسن زينتهم و أمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب مفضضا بأنواع الجواهر طوله مائة و عشرون ذراعا و عرضه ستون ذراعا مزخرفا سقفه و حيطانه قد زين بكرائم الحلي و صنوف الجوهر و اللؤلؤ النظيم و فاخره و أمر بضروب الأموال فأخرجت من الخزائن و نضدت سماطين أمام مجلسه و أمر جنوده و أصحابه و قواده و كتابه و حجابه و عظماء أهل بلاده و علمائهم فحضروا في أحسن هيئتهم و أجمل جمالهم و تسلح فرسانه و ركبت خيوله في عدتهم ثم وقفوا على مراكزهم و مراتبهم صفوفا و كراديس و إنما أراد بزعمه أن ينظر إلى منظر رفيع حسن تسر به نفسه و تقر به عينه ثم خرج فصعد إلى مجلسه فأشرف على مملكته فخروا له سجدا فقال لبعض غلمانه قد نظرت في أهل مملكتي إلى منظر حسن و بقي أن أنظر إلى صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلى وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته كغراب أبيض بين غربان سود و اشتد منها ذعره و فزعه و تغير في عينه حالة و ظهرت الكأبة و الحزن في وجهه و تولى السرور منه ثم قال في نفسه هذا حين نعى إلي شبابي و بين لي أن ملكي في ذهاب و أوذنت بالنزول عن سرير ملكي ثم قال هذه مقدمة الموت و رسول البلاء لم يحجبه عني حاجب و لم يمنعه عني حارس فنعى إلى نفسي و أذن لي بزوال ملكي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي و ذهاب سروري و هدم قوتي لم يمنعه مني الحصون و لم تدفعه عني الجنود هذا سالب الشباب و القوة و ما حق العز و الثروة و مفرق الشمل و قاسم التراث بين الأولياء و الأعداء مفسد المعاش و منغص اللذات و مخرب العمارات و مشتت الجمع و واضع الرفيع و مذل المنيع قد أناخت بي أثقاله و نصب لي حبالة ثم نزل عن مجلسه حافيا ماشيا و قد صعد إليه محمولا ثم جمع إليه جنوده و دعا إليه ثقاته فقال أيها الملأ ما ذا صنعت فيكم و ما أتيت إليكم منذ ملكتكم و وليت أموركم قالوا له أيها الملك المحمود عظم بلاؤك عندنا و هذه أنفسنا مبذولة في طاعتك فمرنا بأمرك قال طرقني عدو نحيف لم تمنعوني منه حتى نزل بي و كنتم عدتي و ثقاتي قالوا أيها الملك أين هذا العدو أ يرى أم لا يرى قال يرى بأثر و لا يرى عينه قالوا أيها الملك هذه عدتنا كما ترى و عندنا سكن و فينا ذوو الحجى و النهى فأرناه نكفك ما مثله يكفي قال قد عظم الاغترار مني بكم و وضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتكم و جعلتكم لنفسي جنة و إنما بذلت لكم الأموال و رفعت شرفكم و جعلتكم البطانة دون غيركم لتحفظوني من الأعداء و تحرسوني منهم ثم أيدتكم على ذلك بتشييد البلدان و تحصين المدائن و الثقة من الصلاح و نحيت عنكم الهموم و فرغتكم للنجدة
و الاحتفاظ و لم أكن أخشى أن أراع معكم و لا أتخوف المنون على بنياني و أنتم عكوف مطيفون به فطرقت و أنتم حولي و أتيت و أنتم معي فلئن كان هذا ضعف منكم فما أخذت أمري بثقة و إن كانت غفلة منكم فما أنتم بأهل النصيحة و لا علي بأهل الشفقة قالوا أيها الملك أما شيء نطيق دفعه بالخيل و القوة فليس بواصل إليك إن شاء الله و نحن أحياء و أما ما لا يرى فقد غيب عنا علمه و عجزت قوتنا عنه قال أ ليس اتخذتكم لتمنعوني من عدوي قالوا بلى قال فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني قالوا من الذي يضرك قال أ فمن كل ضار لي أو من بعضهم قالوا من كل ضار قال فإن رسول البلى قد أتاني ينعى إلى نفسي و ملكي و يزعم أنه يريد خراب ما عمرت و هدم ما بنيت و تفريق ما جمعت و فساد ما أصلحت و تبذير ما أحرزت و تبديل ما عملت و توهين ما وثقت و زعم أن معه الشماتة من الأعداء و قد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم و ذكر أنه سيهزم جيشي و يوحش أنسي و يذهب عزي و يؤتم ولدي و يفرق جموعي و يفجع بي إخواني و أهلي و قرابتي و يقطع أوصالي و يسكن مساكن أعدائي قالوا أيها الملك إنما نمنعك من الناس و السباع و الهوام و دواب الأرض فأما البلاء فلا طاقة لنا به و لا قوة لنا عليه و لا امتناع لنا منه فقال فهل من حيلة في دفع ذلك مني قالوا لا قال فشيء دون ذلك تطيقونه قالوا و ما هو قال الأوجاع و الأحزان و الهموم قالوا أيها الملك إنما قد قدر هذه الأشياء قوي لطيف و ذلك يثور من الجسم و النفس و هو يصل إليك إذا لم يوصل و لا يحجب عنك و إن حجب قال فأمر دون ذلك قالوا و ما هو قال ما قد سبق من القضاء قالوا أيها الملك و من ذا غالب القضاء فلم يغلب و من ذا كابره فلم يقهر قال فما ذا عندكم قالوا ما نقدر على دفع القضاء و قد أصبت التوفيق و التسديد فما ذا الذي تريد قال أريد أصحابا يدوم عهدهم و يفوا لي و تبقى لي إخوتهم و لا يحجبهم عني الموت و لا يمنعهم البلى عن صحبتي و لا يشتمل بهم الامتناع عن صحبتي و لا يفردوني إن مت و لا يسلموني إن عشت و يدفعون عني ما عجزتم عنه من أمر الموت قالوا أيها الملك و من هؤلاء الذين وصفت قال هم الذين أفسدتهم باستصلاحكم قالوا أيها الملك أ فلا تصطنع عندنا و عندهم معروفا فإن أخلاقك تامة و رأفتك عظيمة قال إن في صحبتكم إياي السم القاتل و الصمم و العمى في طاعتكم و البكم في موافقتكم قالوا كيف ذاك أيها الملك قال صارت صحبتكم إياي في الاستكثار و موافقتكم على الجمع و طاعتكم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد و زينتم لي الدنيا و لو نصحتموني ذكرتموني الموت و لو أشفقتم علي ذكرتموني البلاء و جمعتم لي ما يبقى و لم تستكثروا لي ما يفنى فإن تلك المنفعة التي ادعيتموها ضرر و تلك المودة عداوة و قد رددتها عليكم لا حاجة لي فيها منكم قالوا أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك و في أنفسنا إجابتك و ليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا و هلاك لدنيانا و شماتة لعدونا و قد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك و أجمع عليه أمرك قال قولوا آمنين و اذكروا ما بدا لكم غير مرعوبين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية و الأنفة و أنا اليوم غالب لهما و كنت إلى اليوم مقهورا لهما و أنا اليوم قاهر لهما و كنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا و أنا اليوم عتيق و أنتم من مملكتي طلقاء قالوا أيها الملك ما الذي كنت مملوكا إذ كنت علينا ملكا قال كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني و نبذتها خلف ظهري قالوا فقل ما أجمعت أيها الملك قال القنوع و التخلي لآخرتي و ترك هذا الغرور و نبذ هذا الثقل عن ظهري و الاستعداد للموت و التأهب للبلاء فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملازمتي و الإقامة معي
حتى يأتيني الموت فقالوا أيها الملك و من هذا الرسول الذي قد أتاك و لم نره و هو مقدمة الموت الذي لا نعرفه قال أما الرسول فهذا البياض يلوح بين السواد و قد صاح في جميعه بالزوال فأجابوا و أذعنوا و أما مقدمة الموت فالبلاء الذي هذا البياض طرقه قالوا أيها الملك أ فتدع مملكتك و تهمل رعيتك و كيف لا تخاف الإثم في تعطيل أمتك أ لست تعلم أن أعظم الأمر في استصلاح الناس و أن رأس الصلاح الطاعة للأمة و الجماعة فكيف لا تخاف من الإثم و في هلاك العامة من الإثم فوق الذي ترجو من الأجر في صلاح الخاصة أ لست تعلم أن أفضل العبادة العمل و أن أشد العمل السياسة فإنك أيها الملك ما في يديك عدل على رعيتك مستصلح لها بتدبيرك فإن لك من الأجر بقدر ما استصلحت أ لست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح أمتك فقد أردت فسادهم و إذا أردت فسادهم فقد حملت من الإثم فيهم أعظم مما أنت تصيب من الأجر في خاصة يديك أ لست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا من أتلف نفسا فقد استوجب لنفسه الفساد و من أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه و أي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها و الإقامة في هذه الأمة التي أنت نظامها حاشا لك أيها الملك أن تخلع عنك لباس الملك الذي هو الوسيلة إلى شرف الدنيا و الآخرة قال قد فهمت الذي ذكرتم و عقلت الذي وصفتم فإن كنت إنما أطلب الملك عليكم للعدل فيكم و الأجر من الله تعالى ذكره في استصلاحكم بغير أعوان يرفدونني و وزراء يكفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيكم أ لستم جميعا نزعا إلى الدنيا و شهواتها و لذاتها و لا آمن أن أخلد إلى الدنيا التي أرجو أن أدعها و أرفضها فإن فعلت ذلك أتاني الموت على غرة فأنزلني عن سرير ملكي إلى بطن الأرض و كساني التراب بعد الديباج و المنسوج بالذهب و نفيس الجوهر و ضمني إلى الضيق بعد السعة و ألبسني الهوان بعد الكرامة فأصبر فريدا بنفسي ليس معي أحد منكم في الوحدة قد أخرجتموني من العمران و أسلمتموني إلى الخراب و خليتم بين لحمي و سباع الطير و حشرات الأرض فأكلت مني النملة فما فوقها من الهوام و صار جسدي دودا و جيفة قذرة الذل لي حليف و العز مني غريب أشدكم حبا إلي أسرعكم إلى دفني و التخلية بيني و بين ما قدمت من عملي أسلفت من ذنوبي فيورثني ذلك الحسرة و يعقبني الندامة و قد كنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندكم و لا قوة على ذلك لكم و لا سبيل لكم أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع و نصبتم لي شراك الغرور فقالوا أيها الملك المحمود لسنا الذي كنا كما أنك لست الذي كنت و قد أبدلنا الذي أبدلك و غيرنا الذي غيرك فلا ترد علينا توبتنا و بذل نصيحتنا قال أنا مقيم فيكم ما فعلتم ذلك و مفارقكم إذا خالفتموه فأقام ذلك الملك في ملكه و أخذ جنوده بسيرته و اجتهدوا في العبادة فخصبت بلادهم و غلبوا عدوهم و ازداد ملكهم حتى هلك ذلك الملك و قد صار فيهم بهذه السيرة اثنتين و ثلاثين سنه فكان جميع ما عاش أربعا و ستين سنة قال يوذاسف قد سررت بهذا الحديث جدا فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شكرا قال الحكيم زعموا أنه كان ملك من الملوك الصالحين و كان له جنود يخشون الله عز و جل و يعبدونه و كان في ملك أبيه شدة من زمانهم و التفرق فيما بينهم و تنقص العدو من بلادهم و كان يحثهم على تقوى الله عز و جل و خشيته و الاستعانة به و مراقبته و الفزع إليه فلما ملك ذلك الملك قهر عدوه و استجمعت رعيته و صلحت بلاده و انتظم له الملك فلما رأى ما فضل الله عز و جل به أترفه ذلك و أبطره و أطغاه حتى ترك عبادة الله عز و جل و كفر نعمه و أسرع في قتل من عبد الله و دام ملكه و طالت مدته حتى ذهل الناس عما كانوا عليه من الحق قبل
ملكه و نسوه و أطاعوه فيما أمرهم به و أسرعوا إلى الضلالة فلم يزل على ذلك فنشأ فيه الأولاد و صار لا يعبد الله عز و جل فيهم و لا يذكر بينهم اسمه و لا يحسبون أن لهم إلها غير الملك و كان ابن الملك قد عاهد الله عز و جل في حياة أبيه أن هو ملك يوما أن يعمل بطاعة الله عز و جل بأمر لم يكن من قبله من الملوك يعملون به و لا يستطيعونه فلما ملك أنساه الملك رأيه الأول و نيته التي كان عليها و سكر سكر صاحب الخمر فلم يكن يصحو و يفيق و كان من أهل لطف الملك رجل صالح أفضل أصحابه منزلة عنده فتوجع له مما رأى من ضلالته في دينه و نسيانه ما عاهد الله عليه و كان كلما أراد أن يعظه ذكر عتوه و جبروته و لم يكن بقي من تلك الأمة غيره و غير رجل آخر في ناحية أرض الملك لا يعرف مكانه و لا يدعى باسمه فدخل ذات يوم على الملك بجمجمة قد لفها في ثيابه فلما جلس عن يمين الملك انتزعها عن ثيابه ثم وطئها برجله فلم يزل يفركها بين يدي الملك و على بساطة حتى دنس مجلس الملك بما تحات من تلك الجمجمة فلما رأى الملك ما صنع غضب من ذلك غضبا شديدا و شخصت إليه أبصار جلسائه و استعدت الحرس بأسيافهم انتظارا لأمره إياهم بقتله و الملك في ذلك مالك لغضبه و قد كانت الملوك في ذلك الزمان مع جبروتهم و كفرهم ذوي أناة و تؤدة استصلاحا للرعية على عمارة أرضهم ليكون ذلك أعون للجلب و أدى للخراج فلم يزل الملك ساكتا على ذلك حتى قام من عنده فلف تلك الجمجمة في ثوبه ثم فعل ذلك في اليوم الثاني و الثالث فلما رأى أن الملك لا يسأله عن تلك الجمجمة و لا يستنطقه في شيء من شأنها أدخل مع تلك الجمجمة ميزانا و قليلا من تراب فلما صنع بالجمجمة ما كان يصنع أخذ الميزان و جعل في إحدى كفتيه درهما و في الأخرى بوزنه ترابا ثم جعل ذلك
التراب في عين تلك الجمجمة ثم أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلك الجمجمة فلما رأى الملك ما صنع قل صبره و بلغ مجهوده فقال لذلك الرجل قد علمت أنك إنما اجترأت على ما صنعت لمكانك مني و إدلالك علي و فضل منزلتك عندي و لعلك تريد بما صنعت أمرا فخر الرجل للملك ساجدا و قبل قدميه و قال أيها الملك أقبل علي بعقلك كله فإن مثل الكلمة كمثل السهم إذا رمي به في أرض لينة يثبت فيها و إذا رمي في الصفا لم يثبت و مثل الكلمة كمثل المطر إذا أصاب أرضا طيبة مزروعة ينبته فيها و إذا أصاب السباخ لم ينبت و إن أهواء الناس متفرقة و العقل و الهوى يصطرعان في القلب فإن غلب هوى العقل عمل الرجل بالطيش و السفه و إن كان الهوى هو المغلوب لم يوجد في أمر الرجل سقطة فإني لم أزل منذ كنت غلاما أحب العلم و أرغب فيه و أوثره على الأمور كلها فلم أدع علما إلا بلغت منه أفضل مبلغ فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوك فغاظني موقعها و فراقها جسدها غضبا للملوك فضممتها إلي و حملتها إلى منزلي فألبستها الديباج و نضحتها بالماء الورد و الطيب و وضعتها على الفرش و قلت إن كان من جماجم الملوك فسيؤثر فيها إكرامي إياها و ترجع إلى جمالها و بهائها و إن كانت من جماجم المساكين فإن الكرامة لا تزيدها شيئا ففعلت ذلك بها أياما فلم أستنكر من هيئتها شيئا فلما رأيت ذلك دعوت عبدا هو أهون عبدي عندي فأهانها فإذا هي في حالة واحدة عند الإهانة و الإكرام فلما رأيت ذلك أتيت الحكماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها ثم علمت أن الملك منتهى العلم و مأوى الحلم فأتيتك خائفا على نفسي فلم يكن لي أن أسألك عن شيء حتى تبدأني به و أحب أن تخبرني أيها الملك أ جمجمة ملك أم جمجمة مسكين فإنها لما أعياني أمرها تفكرت في أمرها و في عينها التي كانت لا يملؤها شيء حتى لو قدرت على ما دون السماء من شيء تطلعت إلى أن تتناول ما فوق السماء فذهبت أنظر ما الذي يسدها و يملأها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها و ملأها و نظرت إلى فيها الذي لم يكن يملأه شيء فملأته قبضة من تراب فإن أخبرتني أيها الملك أنها جمجمة مسكين احتججت عليك بأني قد وجدتها وسط قبور الملوك ثم أجمع جماجم ملوك و جماجم مساكين فإن كان لجماجمكم عليها فضل فهو كما قلت و إن أخبرتني بأنها من جماجم الملوك أنبأتك أن ذلك الملك الذي كانت هذه جمجمته قد كان من بهاء الملك و جماله و عزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاك أيها الملك أن تصير إلى حال هذه الجمجمة فتوطأ بالأقدام و تخلط بالتراب و يأكلك الدود و تصبح بعد الكثرة قليلا و بعد العزة ذليلا و تسعك حفرة طولها أدنى من أربعة أذرع و يورث ملكك و ينقطع خبرك و يفسد صنائعك و يهان من أكرمت و يكرم من أهنت و يستبشر أعداءك و يضل أعوانك و يحول التراب دونك فإن دعوناك لم تسمع و إن أكرمناك لم تقبل و إن أهناك لم تغضب فيصير بنوك يتامى و نساؤك أيامى و أهلك يوشك أن يستبدلن أزواجا غيرك فلما سمع الملك ذلك فزع قلبه و انسكبت عيناه يبكي و يقول و يدعو بالويل فلما رأى الرجل ذلك علم أن قوله قد استمكن من الملك و قوله قد أنجع فيه زاده ذلك جرأة عليه و تكريرا لما قال فقال له الملك جزاك الله عني خيرا و جزى من حولي من العظماء شرا لعمري لقد علمت ما أردت بمقالتك هذه و قد أبصرت أمري فسمع الناس خبره فتوجهوا أهل الفضل إليه و ختم له بالخير و بقي عليه إلى أن فارق الدنيا قال ابن الملك زدني من هذا المثل قال الحكيم زعموا أن ملكا كان في أول الزمان و كان حريصا على أن يولد له و كان لا يدع شيئا مما يعالج به الناس أنفسهم إلا أتاه و صنعه فلما طال ذلك عليه من أمره حملت امرأة له من نسائه فولدت له غلاما فلما نشأ و ترعرع خطا ذات يوم خطوة فقال معادكم تجفون ثم خطا أخرى فقال تهرمون ثم خطا الثالثة فقال ثم تموتون ثم عاد كهيئة
يفعل كما يفعل الصبي فدعا الملك العلماء و المنجمين فقال أخبروني خبر ابني هذا فنظروا في شأنه و أمره فأعياهم أمره فلم يكن عندهم فيه علم فلما رأى الملك أنه ليس عندهم فيه علم دفعه إلى المرضعات فأخذن في إرضاعه إلا أن منجما منهم قال إنه سيكون إماما و جعل عليه حراسا لا يفارقونه حتى إذا شب انسل يوما من عنده مرضعيه و الحرس فأتى السوق فإذا هو بجنازة فقال ما هذا قالوا إنسانا مات قال ما أماته قالوا كبر و فنيت أيامه و دنا أجله فمات قال و كان صحيحا حيا يمشي و يأكل و يشرب قالوا نعم ثم مضى فإذا هو برجل شيخ كبير فقام ينظر إليه متعجبا منه فقال ما هذا قالوا رجل شيخ كبير قد فنى شبابه و كبر قال و كان صغيرا ثم شاب قالوا نعم ثم مضى فإذا هو برجل مريض مستلقي على ظهره فقام ينظر إليه و يتعجب منه فسألهم ما هذا قالوا رجل مريض فقال أ و كان هذا صحيحا ثم مرض قالوا نعم قال و الله لئن كنتم صادقين فإن الناس لمجنونون فافتقد الغلام عند ذلك فطلب فإذا هو بالسوق فأتوه فأخذوه و ذهبوا به فأدخلوه البيت فلما دخل البيت استلقى على قفاه ينظر إلى خشب سقف البيت و يقول كيف كان هذا قالوا كانت شجرة ثم صارت خشبا ثم قطع ثم بنى هذا البيت ثم جعل هذا الخشب عليه فبينا هو في كلامه إذ أرسل الملك إلى الموكلين به انظروا هل يتكلم أو يقول شيئا قالوا نعم و قد وقع في كلام ما نظنه إلا وسواسا فلما رأى الملك ذلك و سمع جميع ما لفظ به الغلام دعا العلماء فسألهم فلم يجد فيه عندهم علما إلا الرجل الأول فأنكر قوله فقال بعضهم أيها الملك لو زوجته ذهب عنه الذي ترى و أقبل و عقل و أبصر فبعث الملك في الأرض يطلب و يلتمس له امرأة فوجدت له امرأة من أحسن الناس و أجملهم فزوجها منه فلما أخذوا في وليمة عرسه أخذ اللاعبون يلعبون و الزمارون يزمرون فلما سمع الغلام جلبتهم و أصواتهم قال ما هذا قالوا هؤلاء لعابون و زمارون جمعوا لعرسك فسكت الغلام فلما فرغوا من العرس و أمسوا دعا الملك امرأة ابنه فقال لها إنه لم يكن لي ولد غير هذا الغلام فلما دخلت عليه فالطفي به و اقربي منه و تحببي إليه فلما دخلت المرأة عليه أخذت تدنو منه و تتقرب إليه فقال الغلام على رسلك فإن الليل طويل بارك الله فيك و اصبري حتى نأكل و نشرب فدعا بالطعام فجعل يأكل فلما فرغ جعلت المرأة تشرب فلما أخذ الشراب منها نامت فقام الغلام فخرج من البيت و انسل من الحرس و البوابين حتى خرج و تردد في المدينة فلقيه غلام مثله من أهل المدينة فأتبعه و ألقى ابن الملك عنه تلك الثياب التي كانت عليه و لبس ثياب الغلام و تنكر جهده و خرجا جميعا من المدينة فسارا ليلتهما حتى إذا قرب الصبح خشيا الطلب فكمنا فأتيت الجارية عند الصبح فوجدوها نائمة فسألوها أين زوجك قالت كان عندي الساعة فطلب الغلام فلم يقدر عليه فلما أمسى الغلام و صاحبه سارا ثم جعلا يسيران الليل و يكمنان النهار حتى خرجا من سلطان أبيه و وقعا في ملك سلطان آخر و قد كان لذلك الملك الذي صارا إلى سلطانه ابنة قد جعل لها أن لا يزوجها أحدا إلا من هوته و رضيته و بنى لها غرفة عالية مشرفة على الطريق فهي فيها جالسة تنظر إلى كل من أقبل و أدبر فبينما هي كذلك إذ نظرت إلى الغلام يطوف في السوق و صاحبه معه في خلقانة فأرسلت إلى أبيها أني قد هويت رجلا فإن كنت مزوجي أحدا من الناس فزوجني منه و أتيت أم الجارية فقيل لها إن ابنتك قد هويت رجلا و هي تقول كذا و كذا فأقبلت إليها فرحة حتى تنظر إلى الغلام فأروها إياه فنزلت أمها مسرعة حتى دخلت على الملك فقالت إن ابنتك قد هويت غلاما فأقبل الملك ينظر إليه ثم قال أرونيه فأروه من بعد فأمر أن يلبس ثيابا أخرى و نزل فسأله و استنطقه و قال من أنت و من أين أنت قال الغلام و ما سؤالك عني أنا رجل من مساكين الناس فقال إنك لغريب و ما يشبه لونك ألوان
أهل هذه المدينة فقال الغلام ما أنا بغريب فعالجه الملك أن يصدقه قصته فأبى فأمر الملك أناسا أن يحرسوه و ينظروا أين يأخذ و لا يعلم بهم ثم رجع الملك إلى أهله فقال رأيت رجلا كأنه ابن ملك و ما له حاجة فيما تراودونه عليه فبعث إليه فقيل له إن الملك يدعوك فقال الغلام و ما أنا و الملك يدعوني و ما لي إليه حاجة و ما يدري من أنا فانطلق به على كره منه حتى دخل على الملك فأمر بكرسي فوضع له فجلس عليه و دعا الملك امرأته و ابنته فأجلسهما من وراء الحجاب خلفه فقال له الملك دعوتك لخير إن لي ابنة قد رغبت فيك أريد أن أزوجها منك فإن كنت مسكينا أغنيناك و رفعناك و شرفناك قال الغلام ما لي فيما تدعوني إليه حاجة فإن شئت ضربت لك مثلا أيها الملك قال فافعل قال الغلام زعموا أن ملكا من الملوك كان له ابن و كان لابنه أصدقاء صنعوا له طعاما و دعوه إليه فخرج معهم فأكلوا و شربوا حتى سكروا فناموا فاستيقظ ابن الملك في وسط الليل فذكر أهله فخرج عائدا إلى منزله و لم يوقظ أحد منهم فبينا هو في مسيره إذ بلغ منه الشراب فبصر بقبر على الطريق فظن أنه مدخل بيته فدخله فإذا هو بريح الموتى فحسب ذلك لما كان به السكر أنه رياح طيبة فإذا هو بعظام لا يحسبها إلا فرشه الممهدة فإذا هو بجسد قد مات حديثا و قد أروح فحسبه أهله فقام إلى جانبه فاعتنقه و قبله و جعل يعبث به عامة ليله فأفاق حين أفاق و نظر حين نظر فإذا هو على جسد ميت و ريح منتنة قد دنس ثيابه و جلده و نظر إلى القبر و ما فيه من الموتى فخرج و به من السوء ما يختفي به من الناس أن ينظروا إليه متوجها إلى باب المدينة فوجده مفتوحا فدخله حتى أتى أهله فرأى أنه قد أنعم عليه حيث لم يلقه أحد فألقى عنه ثيابه تلك و اغتسل و لبس لباسا أخرى و تطيب عمرك الله أيها الملك أ تراه راجعا إلى ما كان فيه و هو يستطيع قال لا قال فإني أنا هو فالتفت الملك إلى امرأته و ابنته و قال قد أخبرتكم أنه ليس له فيما تدعونه رغبة قالت أمها لقد قصرت في النعت لابنتي و الوصف لها أيها الملك
و لكني خارجة إليه و متكلمة فقال الملك للغلام إن امرأتي تريد أن تكلمك و تخرج إليك و لم تخرج إلى أحد قبلك فقال الغلام لتخرج إن فخرجت و جلست فقالت للغلام تعال إلى ما قد ساق الله إليك من الخير و الرزق فأزوجك ابنتي فإنك لو قد رأيتها و ما قسم الله عز و جل لها من الجمال و الهيئة لاغتبطت فنظر الغلام إلى الملك فقال أ فلا أضرب لك مثلا قال بلى قال إن سراقا تواعدوا أن يدخلوا خزانة الملك ليسرقوا فنقبوا حائط الخزانة فدخلوها فنظروا إلى متاع لم يروا مثله قط و إذا هم بقلة من ذهب مختومة بالذهب فقالوا لا نجد شيئا أعلى من هذه القلة هي ذهب مختومة بالذهب و الذي فيها أفضل من الذي رأينا فاحتملوها و مضوا بها حتى دخلوا غيضة لا يأمن بعضهم بعضا عليها ففتحوها فإذا في وسطها أفاع فوثبن في وجوههم فقتلنهم أجمعين عمرك الله أيها الملك أ فترى أحدا علم بما أصابهم و ما لقوه يدخل يده في تلك القلة و فيها من الأفاعي قال لا قال فإني أنا هو فقالت الجارية لأبيها ائذن لي فأخرج إليه بنفسي و أكلمه فإنه لو قد نظر إلي و إلى جمالي و حسني و هيئتي و ما قسم الله عز و جل لي من الجمال لم يتمالك أن يجيب فقال الملك للغلام إن ابنتي تريد أن تخرج إليك و لم تخرج إلى رجل قط قال لتخرج إن أحبت فخرجت عليه و هي أحسن الناس وجها و قدا و طرفا و هيكلا فسلمت على الغلام و قالت للغلام هل رأيت مثلي قط أو أتم أو أجمل أو أكمل أو أحسن و قد هويتك و أحببتك فنظر الغلام إلى الملك فقال أ فلا أضرب لها مثلا قال بلى قال الغلام زعموا أيها الملك أن ملكا له ابنان فأسر أحدهما ملك آخر فحبسه في بيت و أمر أن لا يمر عليه أحد إلا رماه بحجر فمكث بذلك حينا ثم إن أخاه قال لأبيه ائذن لي فانطلق إلى أخي فأفديه و احتال له قال فانطلق و خذ معك ما شئت من مال و متاع و دواب فاحتمل معه الزاد و الراحلة و انطلق معه المغنيات و النوائح فلما دنا من مدينة ذلك الملك أخبر الملك بقدومه فأمر الناس بالخروج إليه و أمر له بمنزل خارج من المدينة فنزل الغلام في ذلك المنزل فلما جلس فيه و نشر متاعه و أمر غلمانه أن يبيعوا الناس و يساهلوهم في بيعهم و يسامحوهم ففعلوا ذلك فلما رأى الناس قد شغلوا بالبيع انسل و دخل المدينة و قد علم أين سجن أخيه ثم أتى السجن فأخذ حصاة فرمى بها لينظر ما بقي من نفس أخيه فصاح حين أصابته الحصاة و قال قتلتني ففزع الحرس عند ذلك و خرجوا إليه و سألوه لم صحت و ما شأنك و ما بدا لك و ما رأيناك تكلمت و نحن نعذبك منذ حين و يضربك و يرميك كل من يمر بك بحجر و رماك هذا الرجل بحصاة فصحت منها فقال إن الناس كانوا من أمري على جهالة و رماني هذا على علم فانصرف أخوه راجعا إلى منزله و متاعه و قال للناس إذا كان غدا فأتوني أنشر عليكم بزا و متاعا لم تروا مثله قط فانصرفوا يومئذ حتى إذا كان من الغد غدوا عليه بأجمعهم فأمر بالبز فنشروا و أمر بالمغنيات و النائحات و كل صنف معه مما يلهى به الناس فأخذوا في شأنهم فاشتغل الناس فأتى أخاه فقطع عنه أغلاله و قال أنا أداويك فاختلسه و أخرجه من المدينة فجعل على جراحاته دواء كان معه حتى إذا وجد راحة أقامه على الطريق ثم قال له انطلق فإنك ستجد سفينة قد سيرت لك في البحر فانطلق سائرا فوقع في جب فيه تنين و على الجب شجرة نابتة فنظر إلى الشجرة فإذا على رأسها اثنا عشر غولا و في أسفلها اثنا عشر سيفا و تلك السيوف مسلولة معلقة فلم يزل يتحمل و يحتال حتى أخذ بغصن من الشجر فتعلق به و تخلص و سار حتى أتى البحر فوجد سفينة قد أعدت له إلى جانب الساحل فركب فيها حتى أتوا به أهله عمرك الله أيها الملك أ تراه عائد إلى ما قد عاين و لقي قال لا قال فإني أنا هو فيئسوا منه فجاء الغلام الذي صحبه من المدينة و قال اذكرني لها و أنكحنيها فقال الغلام للملك إن هذا يقول إني أحب أن ينكحنيها الملك فقال لا أفعل قال أ فلا أضرب لك مثلا قال بلى
قال إن رجلا كان في قوم فركبوا سفينة فساروا في البحر ليالي و أياما ثم انكسرت سفينتهم بقرب جزيرة في البحر فيها الغيلان فغرقوا كلهم سواه و ألقاه البحر إلى الجزيرة و كانت الغيلان يشرفن من الجزيرة إلى البحر فأتى غولا فهواها و نكحها حتى إذا كان من الصبح قتلته و قسمت أعضاءه بين صواحباتها و اتفق مثل ذلك لرجل آخر فأخذته ابنة ملك الغيلان فانطلقت به فبات معها ينكحها و قد علم الرجل ما لقي من كان قبله فليس ينام حذرا حتى إذا كان مع الصبح قامت الغولة فانسل الرجل حتى أتى الساحل فإذا هو بسفينة فنادى أهلها و استغاث بهم فحملوه حتى أتوا به أهله فأصبحت الغيلان فأتوا الغولة التي باتت معه فقالوا لها أين الرجل الذي بات معك قالت إنه قد فر مني فكذبوها و قالوا أكلته و استأثرت به علينا فنقتلنك إن لم تأتنا به فمرت في الماء حتى أتته في منزله و رحله فدخلت عليه و جلست عنده و قالت له ما لقيت في سفرك هذا قال لقيت بلاء خلصني الله منه و قص عليها ذلك فقالت و قد تخلصت قال نعم فقالت أنا الغولة و جئت لأخذك فقال لها أنشدك الله أن تهلكني فإني أدلك على مكان رجل قالت إني أرحمك فانطلقا حتى دخلا على الملك قالت اسمع منا أصلح الله الملك إني تزوجت بهذا الرجل و هو من أحب الناس إلي ثم إنه كرهني و كره صحبتي فانظر في أمرنا فلما رآها الملك أعجبه جمالها فخلا بالرجل فساره و قال إني قد أحببت أن تتركها فأتزوجها قال نعم أصلح الله الملك ما تصلح إلا لك فتزوج بها الملك و بات معها حتى إذا كانت مع السحر ذبحته و قطعت أعضاءه و حملته إلى صواحباتها أ فترى أيها الملك أحدا يعلم بهذا ثم ينطلق إليه قال لا قال الخاطب للغلام فإني لا أفارقك و لا حاجة لي فيما أردت فخرجا من عند الملك يعبدان الله جل جلاله و يسيحان في الأرض فهدى الله عز و جل بهما أناسا كثيرا و بلغ شأن الغلام و ارتفع ذكره في الآفاق فذكر والده و قال لو بعثت إليه لاستنقذته مما هو فيه فبعث إليه رسولا فأتاه فقال له إن ابنك يقرئك السلام و قص عليه خبره و أمره فأتاه والده و أهله فاستنقذهم مما كانوا فيه
ثم إن بلوهر رجع إلى منزله و اختلف إلى يوذاسف أياما حتى عرف أنه فتح له الباب و دله على السبيل ثم تحول من تلك البلاد إلى غيرها و بقي يوذاسف حزينا مغتما فمكث بذلك حتى بلغ وقت خروجه إلى النساك لينادي بالحق و يدعو إليه أرسل الله عز و جل ملكا من الملائكة فلما رأى منه خلوة ظهر له و قام بين يديه ثم قال له لك الخير و السلامة أنت إنسان بين البهائم الظالمين الفاسقين من الجهال أتيتك بالتحية من الحق و إله الخلق بعثني إليك لأبشرك و أذكر لك ما غاب عنك من أمور دنياك و آخرتك فاقبل بشارتي و مشورتي و لا تغفل عن قولي اخلع عنك الدنيا و انبذ عنك شهواتها و ازهد في الملك الزائل و السلطان الفاني الذي لا يدوم و عاقبته الندم و الحسرة و اطلب الملك الذي لا يزول و الفرح الذي لا ينقضي و الراحة التي لا يتغير و كن صديقا مقسطا فإنك تكون إمام الناس تدعوهم إلى الجنة فلما سمع يوذاسف كلامه خر بين يدي الله عز و جل ساجدا و قال إني لأمر الله تعالى مطيع و إلى وصيته منته فمرني بأمرك فإني لك حامد و لمن بعثك إلي شاكر فإنه رحمني و رءوف بي و لم يرفضني بين الأعداء فإني كنت بالذي أتيت له مهتما قال الملك إني أرجع إليك بعد أيام ثم أخرجك فتهيأ للخروج و لا تغفل عنه فوطن يوذاسف نفسه على الخروج و جعل همته كله فيه و لم يطلع على ذلك أحدا حتى إذا جاء وقت خروجه أتى الملك في جوف الليل و الناس نيام فقال له قم فاخرج و لا تؤخر ذلك فقام و لم يفش سره إلى أحد من الناس غير وزيره فبينا هو يريد الركوب إذ أتاه رجل شاب جميل كان قد ملكهم بلاده فسجد له و قال أين تذهب يا ابن الملك و قد أصابنا العسر أيها المصلح الحكيم الكامل و تتركنا و تترك ملكك و بلادك أقم عندنا فإنا كنا منذ ولدت في رخاء و كرامة و لم تنزل بنا عاهة و لا مكروه فسكته يوذاسف و قال له امكث أنت في بلادك و دار أهل مملكتك فأما أنا فذاهب حيث بعثت و عامل ما أمرت به فإن أنت أعنتني
كان لك في عملي نصيبا ثم ركب فسار ما قضى الله له أن يسير ثم إنه نزل عن فرسه و وزيره يقود فرسه و يبكي أشد البكاء و يقول ليوذاسف بأي وجه أستقبل أبويك و بما أجيبهما عنك و بأي عذاب أو موت يقتلاني و أنت كيف تطيق العسر و الأذى الذي لم تتعوده و كيف لا تستوحش و أنت لم تكن وحدك يوما قط و جسدك كيف تحمل الجوع و الظمأ و التقلب على الأرض و التراب فسكته و عزاه و وهب له فرسه و المنطقة فجعل يقبل قدميه و يقول لا تدعني وراءك يا سيدي اذهب بي معك حيث خرجت فإنه لا كرامة لي بعدك و إنك إن تركتني و لم تذهب بي معك خرجت في الصحراء و لم أدخل مسكنا فيه إنسان أبدا فسكته أيضا و عزاه و قال لا تجعل في نفسك إلا خيرا فإني باعث إلى الملك و موصيه فيك أن يكرمك و يحسن إليك ثم نزع عنه لباس الملك و دفعه إلى وزيره و قال له البس ثيابي و أعطاه الياقوتة التي كان يجعلها في رأسه و قال انطلق بها معك و فرسي و إذا أتيته فاسجد له و أعطه هذه الياقوتة و أقرئه السلام ثم الأشراف و قل لهم إني لما نظرت فيما بين الباقي و الزائل رغبت في الباقي و زهدت في الزائل و لما استبان لي أصلي و حسبي و فضلت بينهما و بين الأعداء و القرباء رفضت الأعداء و القرباء و انقطعت إلى أصلي و حسبي فأما والدي فإنه إذا أبصر الياقوتة طابت نفسه فإذا أبصر كسوتي عليك ذكرني و ذكر حبي لك و مودتي إياك فمنعه ذلك أن يأتي إليك مكروها ثم رجع وزيره و تقدم يوذاسف أمامه يمشي حتى بلغ فضاء واسعا فرفع رأسه فرأى شجرة عظيمة على عين من ماء أحسن ما يكون من الشجر و أكثرها فرعا و غصنا و أحلاها ثمرا و قد اجتمع إليها من الطير ما لا يعد كثرة فسر بذلك المنظر و فرح به و تقدم إليه حتى دنا منه و جعل يعبره في نفسه و يفسره فشبه الشجر بالبشرى التي دعا إليها و عين الماء بالحكمة و العلم و الطير بالناس الذين يجتمعون إليه و يقبلون منه الدين فبينا هو قائم إذ أتاه أربعة من الملائكة
ع يمشون بين يديه فأتبع آثارهم حتى رفعوه في جو السماء و أوتي من العلم و الحكمة ما عرف به الأولى و الوسطى و الأخرى و الذي هو كائن ثم أنزلوه إلى الأرض و قرنوا معه قرينا من الملائكة الأربعة فمكث في تلك البلاد حينا ثم إنه أتى أرض سولابط فلما بلغ والده قدومه خرج يسير هو و الأشراف فأكرموه و قربوه و اجتمع إليه أهل بلده مع ذوي قرابته و حشمه و قعدوا بين يديه و سلموا عليه و كلمهم الكلام الكثير و فرش لهم الإيناس و قال لهم اسمعوا إلي بأسماعكم و فرغوا إلى قلوبكم لاستماع حكمة الله عز و جل التي هي نور الأنفس و تقروا بالعلم الذي هو الدليل على سبيل الرشاد و أيقظوا عقولكم و افهموا الفصل الذي بين الحق و الباطل و الضلال و الهدى و اعلموا أن هذا هو دين الحق الذي أنزله الله عز و جل على الأنبياء و الرسل ع و القرون الأولى فخصنا الله عز و جل به في هذا القرن برحمته بنا و رأفته و رحمته و تحننه علينا و فيه خلاص من نار جهنم ألا إنه لا ينال الإنسان ملكوت السماوات و لا يدخلها أحد إلا بالإيمان و عمل الخير فاجتهدوا فيه لتدركوا به الراحة الدائمة و الحياة التي لا تنقطع أبدا و من آمن منكم بالدين فلا يكونن إيمانه طمعا في الحياة و رجاء لملك الأرض و طلب مواهب الدنيا و ليكن إيمانكم طمعا في ملكوت السماوات و رجاء الخلاص و طلب النجاة من الضلالة و بلوغ الراحة و الفرج في الآخرة فإن ملك الأرض و سلطانها زائل و لذاتها منقطعة فمن اغتر بها هلك و افتضح لو قد وقف علي ديان الدين الذي لا يدين إلا بالحق فإن الموت مقرون مع أجسادكم و هو يتراصد أرواحكم أن يكبكبها مع الأجساد و اعلموا أنه كما أن الطير لن يقدر على الحياة و النجاة من الأعداء من اليوم إلى غد هذه إلا بقوة من البصر و الجناحين و الرجلين فكذلك الإنسان لا يقدر على الحياة و النجاة إلا بالعمل و الإيمان و أعمال الخير الكاملة فتفكر أيها الملك أنت و الأشراف فيما تستمعون و افهموا و اعتبروا و اعبروا البحر ما دامت السفينة و اقطعوا المسافة ما دام الدليل و الظهر و الزاد و اسلكوا سبيلكم ما دام المصباح و أكثروا من كنوز البر مع النساك و شاركوهم في الخير و العمل الصالح و أصلحوا التبع و كونوا لهم أعوانا و أمروهم بأعمالكم لينزلوا معكم ملكوت النور و اقبلوا النور و احتفظوا بفرائضكم و إياكم أن تتوثقوا إلى أماني الدنيا و شرب الخمور و شهوة النساء من كل ذميمة و قبيحة مهلكة للروح و الجسد و اتقوا الحمية و الغضب و العداوة و النميمة و ما لم ترضوه أن يؤتى إليكم فلا تأتوه إلى أحد و كونوا طاهري القلوب صادقي النيات لتكونوا على المنهاج إذا أتاكم الأجل ثم انتقل من أرض سولابط و سار في بلاد و مدائن كثيرة حتى أتى أرضا تسمى قشمير فسار فيها و أحيا ميتها و مكث حتى أتاه الأجل الذي خلع الجسد و ارتفع إلى النور و دعا قبل موته تلميذا له اسمه يابد الذي كان يخدمه و يقوم عليه و كان رجلا كاملا في الأمور كلها و أوصى إليه و قال إنه قد دنا ارتفاعي عن الدنيا و احتفظوا بفرائضكم و لا تزيغوا عن الحق و خذوا بالنسك ثم أمر يابد أن يبني له مكانا فبسطه هو رجليه و هيأ رأسه إلى المغرب و وجهه إلى المشرق ثم قضى نحبه