أنواعها و تفسير بعض آياتها برواية النعماني و هي رسالة مفردة مدونة كثيرة الفوائد نذكرها من فاتحتها إلى خاتمتها
الحمد لله العدل ذي العظمة و الجبروت و العز و الملكوت الحي الذي لا يموت و مبدئ الخلق و معيده و منشئ كل شيء و مبيده الذي لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ واحد لا كالآحاد الخالي من الأنداد لا إله إلا هو راحم العباد و صلى الله على نوره الساطع و ضيائه اللامع محمد نبيه و صفيه و عروته الوثقى و مثله الأعلى المفضل على جميع الورى و على أخيه و وصيه و وارث علمه و آيته العظمى و على آله الأئمة المصطفين و عترته المنتجبين المفضلين على جميع العالمين مصابيح الدجى و أعلام الهدى و سفن النجاة الذين قرنهم الله بنفسه و نبيه حيث يقول جل ثناؤه أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فدل سبحانه و أرشد إليهم فقال النبي ص إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا الثقلين كتاب الله و عترتي فإن ربي اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض و قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع في خطبة له ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض و جميع ما فضلت به النبيون في عترة خاتم النبيين. و اعلم يا أخي وفقك الله لما يرضيه بفضله و جنبك ما يسخطه برحمته إن القرآن جليل خطره عظيم قدره و لما أخبرنا رسول الله ص أن القرآن مع أهل بيته و هم التراجمة عنه المفسرون له وجب أخذ ذلك عنهم و منهم قال الله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ففرض جلت عظمته على الناس العلم و العمل بما في القرآن فلا يسعهم مع ذلك جهله و لا يعذرون في تركه و جميع ما أنزله في كتابه عند أهل بيت نبيه الذين ألزم العباد طاعتهم و فرض سؤالهم و الأخذ عنهم حيث يقول فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فالذكر هاهنا رسول الله ص قال الله تعالى قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ الآية و أهل الذكر هم أهل بيته و لما اختلف الناس في ذلك أنزل الله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فلم يفرض على عباده طاعة غير من اصطفاه و طهره دون من وقع منه الشك أو الظلم و يتوقع فالويل لمن خالف الله تعالى و رسوله و أسند أمره إلى غير المصطفين قال الله تعالى وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا فالسبيل هاهنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و الذكر هاهنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً فالقرآن هاهنا إشارة إلى أمير المؤمنين صلوات الله ثم وصف الأئمة ع فقال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أ لا ترى أنه لا يصلح أن يأمر بالمعروف إلا من قد عرف المعروف كله حتى لا يخطأ فيه و لا يزل لا ينسى و لا يشك و لا ينهى عن المنكر إلا من عرف المنكر كله و أهله و لا يجوز لأحد أن يقتدي و يأتم إلا بمن هذه صفته و هم الراسخون في العلم الذين قرنهم الله بالقرآن و قرن القرآن بهم.
قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني رضي الله عنه في كتابه في تفسير القرآن حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ع يقول إن الله تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده أحل فيه حلالا و حرم حراما فحلاله حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم
و جعله النبي ص علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان و عدلوا عنهم ثم قتلوهم و اتبعوا غيرهم و أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم قال الله سبحانه فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ و احتجوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام و احتجوا بأول الآية و تركوا السبب في تأويلها و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه و لم يعرفوا موارده و مصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا و أضلوا. و اعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عز و جل الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام و المحكم من المتشابه و الرخص من العزائم و المكي و المدني و أسباب التنزيل و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة و ما فيه من علم القضاء و القدر و التقديم و التأخير و المبين و العميق و الظاهر و الباطن و الابتداء و الانتهاء و السؤال و الجواب و القطع و الوصل و المستثنى منه و الجاري فيه و الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد و المؤكد منه و المفصل و عزائمه و رخصه و مواضع فرائضه و أحكامه و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون و الموصول من الألفاظ و المحمول على ما قبله و على ما بعده فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب و رسوله وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.
و لقد سأل أمير المؤمنين صلوات الله عليه شيعته عن مثل هذا فقال إن الله تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص و في القرآن ناسخ و منسوخ و محكم و متشابه و خاص و عام و مقدم و مؤخر و عزائم و رخص و حلال و حرام و فرائض و أحكام و منقطع و معطوف و منقطع غير معطوف و حرف مكان حرف و منه ما لفظه خاص و منه ما لفظه عام محتمل العموم و منه ما لفظه واحد و معناه جمع و منه ما لفظه جمع و معناه واحد و منه ما لفظه ماض و معناه مستقبل و منه ما لفظه على الخبر و معناه حكاية عن قوم آخر و منه ما هو باق محرف عن جهته و منه ما هو على خلاف تنزيله و منه ما تأويله في تنزيله و منه ما تأويله قبل تنزيله و منه ما تأويله بعد تنزيله و منه آيات بعضها في سورة و تمامها في سورة أخرى و منه آيات نصفها منسوخ و نصفها متروك على حاله و منه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى و منه آيات متفقة اللفظ مختلفة المعنى و منه آيات فيها رخصة و إطلاق بعد العزيمة لأن الله عز و جل يحب أن يؤخذ برخصة كما يؤخذ بعزائمه و منه رخصة صاحبها فيها بالخيار إن شاء أخذ و إن شاء تركها و منه رخصة ظاهرها خلاف باطنها يعمل بظاهرها عند التقية و لا يعمل بباطنها مع التقية و منه مخاطبة لقوم و المعنى لآخرين و منه مخاطبة للنبي ص و معناه واقع على أمته و منه لا يعرف تحريمه إلا بتحليله و منه ما تأليفه و تنزيله على غير معنى ما أنزل فيه و منه رد من الله تعالى و احتجاج على جميع الملحدين و الزنادقة و الدهرية و الثنوية و القدرية و المجبرة و عبدة الأوثان و عبدة النيران و منه احتجاج على النصارى في المسيح ع و منه الرد على اليهود و منه الرد على من زعم أن الإيمان لا يزيد و لا ينقص و أن الكفر كذلك و منه رد على من زعم أن ليس بعد الموت و قبل القيامة ثواب و عقاب و منه رد على من أنكر فضل النبي ص على جميع الخلق و منه رد على من أنكر الإسراء به ليلة المعراج و منه رد على من أثبت الرؤية و منه صفات الحق و أبواب معاني الإيمان و وجوبه و وجوهه و منه رد على من أنكر الإيمان و الكفر و الشرك و الظلم و الضلال و منه رد على من وصف الله تعالى وحده و منه رد على من أنكر الرجعة و لم يعرف تأويلها و منه رد على من زعم أن الله عز و جل لا يعلم الشيء حتى يكون و منه رد على من لم يعلم الفرق بين المشية و الإرادة و القدرة في مواضع و منه معرفة ما خاطب الله عز و جل به الأئمة و المؤمنين و منه أخبار خروج القائم منا عجل الله فرجه و منه ما بين الله تعالى فيه شرائع الإسلام و فرائض الأحكام و السبب في معنى بقاء الخلق و معايشهم و وجوه ذلك و منه أخبار الأنبياء و شرائعهم و هلاك أممهم و منه ما بين الله تعالى في مغازي النبي ص و حروبه و فضائل أوصيائي و ما يتعلق بذلك و يتصل به
فكانت الشيعة إذا تفرغت من تكاليفها تسأله عن قسم قسم فيخبرها فمما سألوه عن الناسخ و المنسوخ
فقال صلوات الله عليه إن الله تبارك و تعالى بعث رسوله ص بالرأفة و الرحمة فكان من رأفته و رحمته أنه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عادتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم و حلت الشريعة في صدورهم فكانت من شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت و أقيم بأودها حتى يأتي الموت و إذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم و شتموه و آذوه و عيروه و لم يكونوا يعرفون غير هذا قال الله تعالى في أول الإسلام وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً فلما كثر المسلمون و قوي الإسلام و استوحشوا أمور الجاهلية أنزل الله تعالى الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ إلى آخر الآية فنسخت هذه الآية آية الحبس و الأذى و من ذلك أن العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة و كان إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا بعرة و ما جرى مجريها ثم قالت البعل أهون علي من هذه فلا أكتحل و لا أمتشط و لا أتطيب و لا أتزوج سنة فكانوا لا يخرجونها من بيتها بل يجرون عليها من تركة زوجها سنة فأنزل الله تعالى في أول الإسلام وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فلما قوي الإسلام أنزل الله تعالى وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إلى آخر الآية قال ع و من ذلك أن الله تبارك و تعالى لما بعث محمدا ص أمره في بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط و أنزل عليه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فبعثه الله تعالى بالدعوة فقط و أمره أن لا يؤذيهم فلما أرادوه بما هموا به من تبييته أمره الله تعالى بالهجرة و فرض عليه القتال فقال سبحانه أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فلما أمر الناس بالحرب جزعوا و خافوا فأنزل الله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلى قوله سبحانه أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ فنسخت آية القتال آية الكف فلما كان يوم بدر و عرف الله تعالى حرج المسلمين أنزل على نبيه وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فلما قوي الإسلام و كثر المسلمون أنزل الله تعالى فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ فنسخت هذه الآية التي أذن لهم فيها أن يجنحوا ثم أنزل سبحانه في آخر السورة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ إلى آخر الآية و من ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل الواحد
أن يقاتل عشرة من المشركين فقال إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلى آخر الآية ثم نسخها سبحانه فقال الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ إلى آخر الآية فنسخ بهذه الآية ما قبلها فصار من فر من المؤمنين في الحرب إن كان عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف و إن كان العدة رجلين لرجل فارا من الزحف و قال و من ذلك نوع آخر و هو أن رسول الله ص لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار و جعل المواريث على الأخوة في الدين لا في ميراث الأرحام و ذلك قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا... فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إلى قوله سبحانه وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فأخرج الأقارب من الميراث و أثبته لأهل الهجرة و أهل الدين خاصة ثم عطف بالقول فقال تعالى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه و تركته لأخيه في الدين دون القرابة و الرحم الوشيجة فلما قوي الإسلام أنزل الله النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً فهذا المعنى نسخ آية الميراث و منه وجه آخر و هو أن رسول الله ص لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بني إسرائيل و قد أخبرنا الله بما قصه في ذكر موسى ع أن يجعل بيته قبلة و هو قوله وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً و كان رسول الله ص في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة و بعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيرته اليهود و قالوا أنت تابع لقبلتنا فأحزن رسول الله ص ذلك منهم فأنزل الله تعالى عليه و هو يقلب وجهه في السماء و ينتظر الأمر قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعني اليهود في هذا الموضع ثم أخبرنا الله عز و جل ما العلة التي من أجلها لم يحول قبلته من أول مبعثه فقال تبارك و تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فسمى سبحانه الصلاة هاهنا إيمانا و هذا دليل واضح على أن كلام البارئ سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لا يشبه أفعاله أفعالهم و لهذه العلة و أشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب الله تعالى و تأويله إلا نبيه ص و أوصياؤه و من ذلك ما كان مثبتا في التوراة من الفرائض في القصاص و هو قوله وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلى آخر الآية فكان الذكر و الأنثى و الحر و العبد شرعا سواء فنسخ الله تعالى ما في التوراة بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فنسخت هذه الآية وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ و من ذلك أيضا آصار غليظة كانت على بني إسرائيل في الفرائض فوضع الله تعالى تلك الآصار عنهم و عن هذه الأمة فقال سبحانه وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ
و منه أنه تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل و لا بالنهار على معنى صوم بني إسرائيل في التوراة فكان ذلك محرما على هذه الأمة و كان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أن يفطر فقد حرم عليه الأكل بعد النوم أفطر أو لم يفطر و كان رجل من أصحاب رسول الله ص يعرف بمطعم بن جبير شيخا فكان في الوقت الذي حضر فيه الخندق حفر في جملة المسلمين و كان ذلك في شهر رمضان فلما فرغ من الحفر و راح إلى أهله صلى المغرب و أبطأت عليه زوجته بالطعام فغلب عليه النوم فلما أحضرت إليه الطعام أنبهته فقال لها استعمليه أنت فإني قد نمت و حرم علي و طوى إليه و أصبح صائما فغدا إلى الخندق و جعل يحفر مع الناس فغشي عليه فسأله رسول الله ص عن حاله فأخبره و كان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرا لقلة صبرهم فسأل النبي الله سبحانه في ذلك فأنزل الله عليه أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فنسخت هذه الآية ما تقدمها و نسخ قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قوله عز و جل وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي للرحمة خلقهم و نسخ قوله تعالى وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قوله سبحانه يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إلى آخر الآية و نسخ قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نسخها قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ و نسخ قوله تعالى وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً آية التحريم و هو قوله جل ثناؤه قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ و الإثم هاهنا هو الخمر و نسخ قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ و نسخ قوله سبحانه وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً يعني اليهود حين هادنهم رسول الله ص فلما رجع من غزاة تبوك أنزل الله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ فنسخت هذه الآية تلك الهدنة و سئل صلوات الله عليه عن أول ما أنزل الله عز و جل من القرآن فقال ع أول ما أنزل الله عز و جل من القرآن بمكة سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ و أول ما أنزل بالمدينة سورة البقرة ثم سألوه صلوات الله عليه عن تفسير المحكم من كتاب الله عز و جل فقال أما المحكم الذي لم ينسخه شيء من القرآن فهو قول الله عز و جل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
و إنما هلك الناس في المتشابه لأنهم لم يقفوا على معناه و لم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلات من عند أنفسهم بآرائهم و استغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء و نبذوا قول رسول الله ص وراء ظهورهم و المحكم مما ذكرته في الأقسام مما تأويله في تنزيله من تحليل ما أحل الله سبحانه في كتابه و تحريم ما حرم الله من المآكل و المشارب و المناكح و منه ما فرض الله عز و جل من الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و مما دلهم به مما لا غنا بهم عنه في جميع تصرفاتهم مثل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الآية و هذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله لا يحتاج في تأويله إلى أكثر من التنزيل و منه قوله عز و جل حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فتأويله في تنزيله و منه قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ إلى آخر الآية فهذا كله محكم لم ينسخه شيء قد استغني بتنزيله من تأويله و كل ما يجري هذا المجرى ثم سألوه ع عن المتشابه من القرآن فقال و أما المتشابه من القرآن فهو الذي انحرف منه متفق اللفظ مختلف المعنى مثل قوله عز و جل يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع و هذا ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم و نسبه إلى الكفار في موضع آخر و نسبه إلى الأصنام في آية أخرى فمعنى الضلالة على وجوه فمنه ما هو محمود و منه ما هو مذموم و منه ما ليس بمحمود و لا مذموم و منه ضلال النسيان فالضلال المحمود هو المنسوب إلى الله تعالى و قد بيناه و المذموم هو قوله تعالى وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ و قوله وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى و مثل ذلك في القرآن كثير و أما الضلال المنسوب إلى الأصنام فقوله تعالى في قصة إبراهيم ع وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الآية و الأصنام لم تضلن أحدا على الحقيقة و إنما ضل الناس بها و كفروا حين عبدوها من دون الله عز و جل و أما الضلال الذي هو النسيان فهو قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى و قد ذكر الله تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك و أما الضلال المنسوب إلى الله تعالى الذي هو ضد الهدى و الهدى هو البيان و هو معنى قوله سبحانه أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ معناه أي أ لم أبين لهم مثل قوله سبحانه فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي بينا لهم وجه آخر و هو قوله تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ و أما معنى الهدى فقوله عز و جل إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ و معنى الهادي هاهنا المبين لما جاء به المنذر من عند الله
و قد احتج قوم من المنافقين على الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها و ذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه ص وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقال طائفة من المنافقين ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا فأجابهم الله تعالى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فهذا معنى الضلال المنسوب إليه تعالى لأنه أقام لهم الإمام الهادي لما جاء به المنذر فخالفوه و صرفوا عنه بعد أن أقروا بفرض طاعته و لما بين لهم ما يأخذون و ما يذرون فخالفوه ضلوا هذا مع علمهم بما قاله النبي ص و هو قوله لا تصلوا علي صلاة مبتورة إذا صليتم علي بل صلوا على أهل بيتي و لا تقطعوهم مني فإن كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي و لما خالفوا الله تعالى ضلوا و أضلوا فحذر الله تعالى الأمة من اتباعهم و قال سبحانه وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ و السبيل هاهنا الوصي و قال سبحانه وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ الآية فخالفوا ما وصاهم به الله تعالى و اتبعوا أهواءهم فحرفوا دين الله جلت عظمته و شرائعه و بدلوا فرائضه و أحكامه و جميع ما أمروا به كما عدلوا عمن أمروا بطاعته و أخذ عليهم العهد بموالاتهم و اضطرهم ذلك إلى استعمال الرأي و القياس فزادهم ذلك حيرة و التباسا و أما قوله سبحانه وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فكان تركهم اتباع الدليل الذي أقام الله لهم ضلالة لهم فصار ذلك كأنه منسوب إليه تعالى لما خالفوا أمره في اتباع الإمام ثم افترقوا و اختلفوا و لعن بعضهم بعضا و استحل بعضهم دماء بعض فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ و لما أردت قتل الخوارج بعد أن أرسلت إليهم ابن عباس لإقامة الحجة عليهم قلت يا معشر الخوارج أنشدكم الله أ لستم تعلمون أن في القرآن ناسخا و منسوخا و محكما و متشابها و خاصا و عاما قالوا اللهم نعم فقلت اللهم اشهد عليهم ثم قلت أنشدكم الله هل تعلمون ناسخ القرآن و منسوخه و محكمه و متشابهه و خاصه و عامه قالوا اللهم لا قلت أنشدكم الله هل تعلمون أني أعلم ناسخه و منسوخه و محكمه و متشابهه و خاصه و عامه قالوا اللهم نعم فقلت من أضل منكم إذ قد أقررتم بذلك ثم قلت اللهم إنك تعلم أني حكمت فيهم بما أعلمه ثم قال صلوات الله عليه و أوصاني رسول الله ص فقال يا علي إن وجدت فئة تقاتل بهم فاطلب حقك و إلا فالزم بيتك فإني قد أخذت لك العهد يوم غدير خم بأنك خليفتي و وصيي و أولى الناس بالناس من بعدي فمثلك كمثل بيت الله الحرام يأتونك الناس و لا تأتيهم يا أبا الحسن حقيق على الله أن يدخل أهل الضلال الجنة و إنما أعني بهذا المؤمنين الذين قاموا في زمن الفتنة على الائتمام بالإمام الخفي المكان المستور عن الأعيان فهم بإمامته مقرون و بعروته مستمسكون و لخروجه منتظرون موقنون غير شاكين صابرون مسلمون و إنما ضلوا عن مكان إمامهم و عن معرفة شخصه يدل على ذلك أن الله تعالى إذا حجب عن عباده عين الشمس التي جعلها دليلا على أوقات الصلاة فموسع عليهم تأخير الوقت ليتبين لهم الوقت بظهورها و يستيقنوا أنه قد زالت فكذلك المنتظر لخروج الإمام ع المتمسك بإمامته موسع عليه جميع فرائض الله الواجبة عليه مقبولة منه بحدودها غير خارج عن
معنى ما فرض عليه فهو صابر محتسب لا تضره غيبة إمامه ثم سألوه صلوات الله عليه عن لفظ الوحي في كتاب الله تعالى فقال منه وحي النبوة و منه وحي الإلهام و منه وحي الإشارة و منه وحي أمر و منه وحي كذب و منه وحي تقدير و منه وحي خبر و منه وحي الرسالة فأما تفسير وحي النبوة و الرسالة فهو قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ إلى آخر الآية و أما وحي الإلهام فقوله عز و جل وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ و مثله وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ و أما وحي الإشارة فقوله عز و جل فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا أي أشار إليهم لقوله تعالى أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً و أما وحي التقدير فقوله تعالى وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها و أما وحي الأمر فقوله سبحانه وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي و أما وحي الكذب فقوله عز و جل شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ إلى آخر الآية و أما وحي الخبر فقوله سبحانه وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ و سألوه صلوات الله عليه عن متشابه الخلق فقال هو على ثلاثة أوجه و رابع فمنه خلق الاختراع فقوله سبحانه خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و أما خلق الاستحالة فقوله تعالى يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ و قوله تعالى فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ و أما خلق التقدير فقوله لعيسى ع وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ إلى آخر الآية و أما خلق التغيير فقوله تعالى وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ و سألوه ع عن المتشابه في تفسير الفتنة فقال الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ و قوله لموسى ع وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً و منه فتنة الكفر و هو قوله تعالى لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ و قوله تعالى وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ يعني هاهنا الكفر و قوله سبحانه في الذين استأذنوا رسول الله ص في غزوة تبوك أن يتخلفوا عنه من المنافقين فقال الله تعالى فيهم وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعني ائذن لي و لا تكفرني فقال عز و جل أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ و منه فتنة العذاب و هو قوله تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يعذبون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي ذوقوا عذابكم و منه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي عذبوا المؤمنين و منه فتنة المحبة للمال و الولد كقوله تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي إنما حبكم لها فتنة لكم و منه فتنة المرض و هو قوله سبحانه أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يمرضون و يعتلون و سألوه صلوات الله عليه عن المتشابه في القضاء فقال هو عشرة أوجه مختلفة المعنى فمنه قضاء فراغ و قضاء عهد و منه قضاء إعلام و منه قضاء فعل و منه قضاء إيجاب و منه قضاء كتاب و منه قضاء إتمام و منه قضاء حكم و فصل و منه قضاء خلق و منه قضاء نزول الموت أما تفسير قضاء الفراغ من الشيء فهو قوله تعالى وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ معنى فَلَمَّا قُضِيَ أي فلما فرغ و كقوله فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أما قضاء العهد فقوله تعالى وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي عهد و مثله في سورة القصص وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي عهدنا إليه أما قضاء الإعلام فهو قوله تعالى وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ
و قوله سبحانه وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي أعلمناهم في التوراة ما هم عاملون أما قضاء الفعل فقوله تعالى في سورة طه فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي افعل ما أنت فاعل و منه في سورة الأنفال لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي يفعل ما كان في علمه السابق و مثل هذا في القرآن كثير أما قضاء الإيجاب للعذاب كقوله تعالى في سورة إبراهيم ع وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي لما وجب العذاب و مثله في سورة يوسف ع قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ معناه أي وجب الأمر الذي عنه تساءلان أما قضاء الكتاب و الحتم فقوله تعالى في قصة مريم وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي معلوما و أما قضاء الإتمام فقوله تعالى في سورة القصص فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي فلما أتم شرطه الذي شارطه عليه و كقول موسى ع أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ معناه إذا أتممت و أما قضاء الحكم فقوله تعالى قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي حكم بينهم و قوله تعالى وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ و قوله سبحانه و الله يقضي بالحق و هو خير الفاصلين و قوله تعالى في سورة يونس وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ و أما قضاء الخلق فقوله سبحانه فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي خلقهن و أما قضاء إنزال الموت فكقول أهل النار في سورة الزخرف وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي لينزل علينا الموت و مثله لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي لا ينزل عليهم الموت فيستريحوا و مثله في قصة سليمان بن داود فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ يعني تعالى لما أنزلنا عليه الموت و سألوه صلوات الله عليه عن أقسام النور في القرآن قال النور القرآن و النور اسم من أسماء الله تعالى و النور النورية و النور القمر و النور ضوء المؤمن و هو الموالاة التي يلبس بها نورا يوم القيامة و النور في مواضع من التوراة و الإنجيل و القرآن حجة الله عز و جل على عباده و هو المعصوم و لما كلم الله تعالى ابن عمران ع أخبر بني إسرائيل فلم يصدقوه فقال لهم ما الذي يصحح ذلك عندكم قالوا سماعة قال فاختاروا سبعين رجلا من خياركم فلما خرجوا معه أوقفهم و تقدم فجعل يناجي ربه و يعظمه فلما كلمه قال لهم أ سمعتم قالوا بلى و لكنا لا ندري أ هو كلام الله أم لا فليظهر لنا حتى
نراه فنشهد لك عند بني إسرائيل فلما قالوا ذلك صعقوا فماتوا فلما أفاق موسى مما تغشاه و رآهم جزع و ظن أنهم إنما أهلكوا بذنوب بني إسرائيل فقال يا رب أصحابي و إخواني أنست بهم و أنسوا بي و عرفتهم و عرفوني أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ فقال تعالى عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إلى قوله سبحانه النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فالنور في هذا الموضع هو القرآن و مثله في سورة التغابن قوله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني سبحانه القرآن و جميع الأوصياء المعصومين حملة كتاب الله عز و جل و خزنته و تراجمته الذين نعتهم الله في كتابه فقال وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا و هم المنعوتون الذين أنار الله بهم البلاد و هدى بهم العباد قال الله تعالى في سورة النور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ إلى آخر الآية فالمشكاة رسول الله ص و المصباح الوصي و الأوصياء ع و الزجاجة فاطمة و الشجرة المباركة رسول الله ص و الكوكب الدري القائم المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا ثم قال تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي ينطق به ناطق ثم قال تعالى نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ثم قال عز و جل فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ و هم الأوصياء قال الله تبارك و تعالى في سورة الأنعام في ذكر التوراة و أنها نور قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ و قال الله تعالى في سورة يونس هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً و مثله في سورة نوح ع قوله تعالى وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً و قال سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ يعني الليل و النهار و قال سبحانه في سورة البقرة اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان فسمي الإيمان هاهنا نورا و مثله في سورة إبراهيم ع لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ و قال عز و جل في سورة براءة يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني نور الإسلام بكفرهم و جحودهم و قال سبحانه في سورة النساء وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ و قال سبحانه في سورة الحديد في ذكر المؤمنين يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ و فيها انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نمشي في ضوئكم و مثل هذا في القرآن كثير و سألوه صلوات الله عليه عن أقسام الأمة في كتاب الله تعالى فقال قوله تعالى
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ منها الأمة أي الوقت الموقت كقوله سبحانه في سورة يوسف وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد وقت و قوله سبحانه وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى وقت معلوم و الأمة هي الجماعة قال الله تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ و الأمة الواحد من المؤمنين قال الله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً و الأمة جمع دواب و جمع طيور قال الله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي جماعات يأكلون و يشربون و يتناسلون و أمثال ذلك و سألوه صلوات الله عليه عن الخاص و العام في كتاب الله تعالى فقال إن من كتاب الله تعالى آيات لفظها الخصوص و العموم و منه آيات لفظها لفظ الخاص و معناه عام و من ذلك لفظ عام يريد به الله تعالى العموم و كذلك الخاص أيضا فأما ما ظاهره العموم و معناه الخصوص فقوله عز و جل يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ فهذا اللفظ يحتمل العموم و معناه الخصوص لأنه تعالى إنما فضلهم على عالم أزمانهم بأشياء خصهم بها مثل المن و السلوى و العيون التي فجرها لهم من الحجر و أشباه ذلك و مثله قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ أراد الله تعالى أنه فضلهم على عالمي زمانهم و كقوله تعالى وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يعني سبحانه بلقيس و هي مع هذا لم يؤت أشياء كثيرة مما فضل الله تعالى به الرجال على النساء و مثل قوله تعالى تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها يعني الريح و قد تركت أشياء كثيرة لم تدمرها و مثل قوله عز و جل ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أراد سبحانه بعض الناس و ذلك أن قريشا كانت في الجاهلية تفيض من المشعر الحرام و لا يخرجون إلى عرفات كسائر العرب فأمرهم الله سبحانه أن يفيضوا من حيث أفاض رسول الله ص و أصحابه و هم في هذا الموضع الناس على الخصوص و ارجعوا عن سنتهم و قوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني بالناس هاهنا اليهود فقط و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ و هذه الآية نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر و قوله عز و جل وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً نزلت في أبي لبابة و إنما هو رجل واحد و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة و هو رجل واحد فلفظ الآية عام و معناها خاص و إن كانت جارية في الناس و قوله سبحانه الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي و ذلك أن رسول الله ص لما رجع من غزاة أحد و قد قتل عمه حمزة و قتل من المسلمين من قتل و جرح من جرح و انهزم من انهزم و لم ينله القتل و الجرح أوحى الله تعالى إلى رسول الله ص أن اخرج في وقتك هنا لطلب قريش و لا تخرج معك من أصحابك إلا كل من كانت به جراحة فأعلمهم
بذلك فخرجوا معه على ما كان بهم من الجراح حتى نزلوا منزلا يقال له حمراء الأسد و كانت قريش قد جدت السير فرقا فلما بلغهم خروج رسول الله ص في طلبهم خافوا فاستقبلهم رجل من أشجع يقال له نعيم بن مسعود يريد المدينة فقال له أبو سفيان صخر بن حرب يا نعيم هل لك أن أضمن لك عشر قلائص و تجعل طريقك على حمراء الأسد فتخبر محمدا أنه قد جاء مدد كثير من حلفائنا من العرب كنانة و عشيرتهم و الأحابيش و تهول عليهم ما استطعت فلعلهم يرجعون عنا فأجابه إلى ذلك و قصد حمراء الأسد فأخبر رسول الله ص بذلك و إن قريشا يصبحون بجمعهم الذي لا قوام لكم به فاقبلوا نصيحتي و ارجعوا فقال أصحاب رسول الله ص حسبنا الله و نعم الوكيل اعلم أنا لا نبالي بهم فأنزل الله سبحانه على رسوله الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ و إنما كان القائل لهم نعيم بن مسعود فسماه الله تعالى باسم جميع الناس و هكذا كل ما جاء تنزيله بلفظ العموم و معناه الخصوص و مثله قوله تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ و أما ما لفظه خصوص و معناه عموم فقوله عز و جل مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فنزل لفظ الآية خصوصا في بني إسرائيل و هو جار على جميع الخلق عاما لكل العباد من بني إسرائيل و غيرهم من الأمم و مثل هذا كثير في كتاب الله و قوله سبحانه الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نزلت هذه الآية في نساء كن بمكة معروفات بالزنا منهن سارة و حنتمة و رباب حرم الله تعالى نكاحهن فالآية جارية في كل من كان من النساء مثلهن و مثله قوله سبحانه وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا و معناه جميع الملائكة و أما ما لفظه ماض و معناه مستقبل فمنه ذكره عز و جل أخبار القيامة و البعث و النشور و الحساب فلفظ الخبر ما قد كان و معناه أنه سيكون قوله وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ إلى قوله وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً فلفظه ماض و معناه مستقبل و مثله قوله سبحانه وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً و أمثال هذا كثير في كتاب الله تعالى و أما ما نزل بلفظ العموم و لا يراد به غيره فقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ و قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى و قوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و قوله كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي على مذهب واحد و ذلك كان من قبل نوح ع و لما بعثه الله اختلفوا ثم بعث النبيين مبشرين و منذرين و أما ما حرف من كتاب الله فقوله كنتم خير أئمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر فحرفت إلى خَيْرَ أُمَّةٍ و منهم الزناة و اللاطة و السراق و قطاع الطريق و الظلمة و شراب الخمر و المضيعون لفرائض
الله تعالى و العادلون عن حدوده أ فترى الله تعالى مدح من هذه صفته و منه قوله عز و جل في سورة النحل أن تكون أئمة هي أربى من أئمة فجعلوها أُمَّةٌ و قوله في سورة يوسف ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون فحرفوه و قالوا يَعْصِرُونَ و ظنوا بذلك الخمر قال الله تعالى وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً و قوله تعالى فلما خر تبينت الإنس أن لو كانت الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين فحرفوها بأن قالوا فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ و قوله تعالى في سورة هود ع أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني رسول الله ص وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وصيه إماما و رحمة و من قبله كتاب موسى أولئك يؤمنون به فحرفوا و قالوا أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً فقدموا حرفا على حرف فذهب معنى الآية و قال سبحانه في سورة آل عمران لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ لآل محمد فحذفوا آل محمد و قوله تعالى و كذلك جعلناكم أئمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا و معنى وسطا بين الرسول و بين الناس فحرفوها و جعلوها أُمَّةً و مثله في سورة عم يتساءلون و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابيا فحرفوها و قالوا تُراباً و ذلك أن رسول الله ص كان يكثر من مخاطبتي بأبي تراب و مثل هذا كثير و أما الآية التي نصفها منسوخ و نصفها متروك بحاله لم ينسخ و ما جاء من الرخصة بعد العزيمة قوله تعالى وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ و ذلك أن المسلمين كانوا ينكحون في أهل الكتاب من اليهود و النصارى و ينكحونهم حتى نزلت هذه الآية نهيا أن ينكح المسلم من المشرك أو ينكحونه ثم قال تعالى في سورة المائدة ما نسخ هذه الآية فقال وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فأطلق عز و جل مناكحتهن بعد أن كان نهى و ترك قوله وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا على حاله لم ينسخه فأما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي فإن الله تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر و كذا الغسل من الجنابة فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فالفريضة من الله عز و جل الغسل بالماء عند وجوده لا يجوز غيره و الرخصة فيه إذا لم يجد الماء التيمم بالتراب من الصعيد الطيب و مثله قوله عز و جل حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فالفرض أن يصلي الرجل الصلاة الفريضة على الأرض بركوع و سجود تام ثم رخص للخائف فقال سبحانه فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً
و مثله قوله عز و جل فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ و معنى الآية أن الصحيح يصلي قائما و المريض يصلي قاعدا و من لم يقدر أن يصلي قاعدا صلى مضطجعا و يومي نائما فهذه رخصة جاءت بعد العزيمة و مثله قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ثم رخص للمريض و المسافر بقوله سبحانه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فانتقلت فريضة العزيمة الدائمة للرجل الصحيح لموضع القدرة و زالت الضرورة تفضلا على العباد و أما الرخصة التي ظاهرها خلاف باطنها فإن الله تعالى نهى المؤمن أن يتخذ الكافر وليا ثم من عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر أن يصوم بصيامه و يفطر بإفطاره و يصلي بصلاته و يعمل بعمله و يظهر له استعماله ذلك موسعا عليه فيه و عليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأمة قال الله تعالى لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فهذه رخصة تفضل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر و قال رسول الله ص إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه و أما الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإن الله تعالى رخص أن يعاقب العبد على ظلمه فقال الله تعالى جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ و هذا هو فيه بالخيار إن شاء عفا و إن شاء عاقب و أما الرخصة التي ظاهرها خلاف باطنها و المنقطع المعطوف في التنزيل هو أن الآية من كتاب الله عز و جل كانت تجيء بشيء ما ثم تجيء منقطعة المعنى بعد ذلك و تجيء بمعنى غيره ثم تعطف بالخطاب على الأول مثل قوله تعالى وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ثم انقطعت وصية لقمان لابنه فقال وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ إلى قوله إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ثم عطف بالخطاب على وصية لقمان لابنه فقال يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ و مثل قوله عز و جل أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثم قال تعالى في موضع آخر عطفا على هذا المعنى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ كلاما معطوفا على أولي الأمر منكم و قوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثم قال تعالى في الأمر بالجهاد كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
الآية و مثله قوله عز و جل في سورة المائدة وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ثم قطع الكلام بمعنى ليس يشبه هذا الخطاب فقال تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ثم عطف على المعنى الأول و التحريم الأول فقال سبحانه فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و كقوله عز و جل قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ثم اعترض تعالى بكلام آخر فقال قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ثم عطف على الكلام الأول فقال عز و جل الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و كقوله في سورة العنكبوت وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً إلى قوله تعالى وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ثم استأنف القول بكلام غيره فقال سبحانه أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم عطف القول على الكلام الأول في وصف إبراهيم فقال تعالى فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ثم جاء تعالى بتمام قصة إبراهيم ع في آخر الآيات و مثله قوله عز و جل وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ثم قطع الكلام فقال قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا ثم عطف على القول الأول فقال تمامه في معنى ذكر الأنبياء و ذكر داود أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً و مثله قوله عز و جل آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ثم استأنف الكلام فقال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ثم رجع و عطف تمام القول الأول فقال رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا إلى آخر السورة و هذا و أشباهه كثير في القرآن و أما ما جاء في أصل التنزيل حرف مكان حرف فهو قوله عز و جل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ معناه و لا الذين ظلموا منهم و قوله تعالى وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً معناه و لا خطأ و كقوله يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ و إنما معناه و لا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء و قوله تعالى لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ و إنما معناه إلى أن تقطع قلوبهم و مثله كثير في كتاب الله عز و جل
و أما ما هو متفق اللفظ مختلف المعنى قوله وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها و إنما عنى أهل القرية و أهل العير و قوله تعالى وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا و إنما عنى أهل القرى و قوله وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ يعني أهلها و أما احتجاجه تعالى على الملحدين في دينه و كتابه و رسله فإن الملحدين أقروا بالموت و لم يقروا بالخالق فأقروا بأنهم لم يكونوا ثم كانوا قال الله تعالى ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ و كقوله عز و جل وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ و مثله قوله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ فرد الله تعالى عليهم ما يدلهم على صفة ابتداء خلقهم و أول نشئهم يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً فأقام سبحانه على الملحدين الدليل عليهم من أنفسهم ثم قال مخبرا لهم وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ و قال سبحانه وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ فهذا مثال إقامة الله عز و جل لهم الحجة في إثبات البعث و النشور بعد الموت و قال أيضا في الرد عليهم فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ و مثله قوله عز و جل وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ و احتج سبحانه عليهم و أوضح الحجة و أبان الدليل و أثبت البرهان عليهم من أنفسهم و من الآفاق و من السماوات و الأرض بمشاهدة العيان و دلائل البرهان و أوضح البيان في تنزيل القرآن كل ذلك دليل على الصانع القديم المدبر الحكيم الخالق العليم الجبار العظيم سبحان الله رب العالمين و أما الرد على عبدة الأصنام و الأوثان فقوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم في الاحتجاج على أبيه يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً و قوله حين كسر الأصنام فقالوا له من كسرها و مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
إلى قوله فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ و لما جاء قالوا له أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ فلما انقطعت حجتهم قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إلى آخر القصص فقال الله تعالى يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ و مثل ذلك قول الله عز و جل لقريش على لسان نبيه ص إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا و قوله سبحانه قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا و مثل ذلك كثير و أما الرد على الثنوية من الكتاب فقوله عز و جل مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ فأخبر الله تعالى أن لو كان معه آلهة لانفرد كل له منهم بخلقه و لأبطل كل منهم فعل الآخر و حاول منازعته فأبطل تعالى إثبات إلهين خلاقين بالممانعة و غيرها و لو كان ذلك لثبت الاختلاف و طلب كل إله أن يعلو على صاحبه فإذا شاء أحدهم أن يخلق إنسانا و شاء الآخر أن يخلق بهيمة اختلفا و تباينا في حال واحد و اضطرهما ذلك إلى التضاد و الاختلاف و الفساد و كل ذلك معدوم و إذا بطلت هذه الحال كذلك ثبت الوحدانية بكون التدبير واحدا و الخلق متفق غير متفاوت و النظام مستقيم و أبان سبحانه لأهل هذه المقالة و من قاربهم أن الخلق لا يصلحون إلا بصانع واحد فقال لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ثم نزه نفسه فقال سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ و الدليل على أن الصانع واحد حكمة التدبير و بيان التقدير و أما الرد على الزنادقة فقوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ فأعلمنا تعالى أن الذي ذهب إليه الزنادقة من قولهم إن العالم يتولد بدوران الفلك و وقوع النطفة في الأرحام لأن عندهم أن النطفة إذا وقعت تلقاها الأشكال التي تشاكلها فيتولد حينئذ بدوران القدرة و الأشكال التي تتلقاها مرور الليل و النهار و الأغذية و الأشربة و الطبيعة فتتربى و تنتقل و تكبر فعكس تعالى قولهم بقوله وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ معناه أن من طال عمره و كبر سنه رجع إلى مثل ما كان عليه في حال صغره و طفوليته فيستولي عليه عند ذلك النقصان في جميع آلاته و يضعف في جميع حالاته و لو كان الأمر كما زعموا من أنه ليس للعباد خالق مختار لوجب أن يكون تلك النسمة أو ذلك الإنسان زائدا أبدا ما دامت الأشكال التي ادعوا أن بها كان قوام ابتدائها قائمة و الفلك ثابت و الغداء ممكن و مرور الليل و النهار متصل و لما صح في العقول معنى قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ و قوله سبحانه وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً علم أن هذا من تدبير الخالق المختار و حكمته و وحدانيته و ابتداعه للخلق فتثبت وحدانيته
جلت عظمته و هذا احتجاج لا يمكن الزنادقة دفعه بحال و لا يجدون حجة في إنكاره و مثله قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فرد سبحانه عليهم احتجاجهم بقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إلى آخر السورة و أما الرد على الدهرية الذين يزعمون أن الدهر لم يزل أبدا على حال واحدة و أنه ما من خالق و لا مدبر و لا صانع و لا بعث و لا نشور قال تعالى حكاية لقولهم وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و مثل هذا في القرآن كثير و ذلك رد على من كان في حياة رسول الله ص يقول هذه المقالة ممن أظهر له الإيمان و أبطن الكفر و الشرك و بقوا بعد رسول الله ص و كانوا سبب هلاك الأمة فرد الله تعالى بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ إلى قوله سبحانه لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ثم ضرب للبعث و النشور مثلا فقال تعالى وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى و ما جرى ذلك في القرآن و قوله سبحانه في سورة ق ردا على من قال أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ إلى قوله سبحانه وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ و هذا و أشباهه رد على الدهرية و الملحدة ممن أنكر البعث و النشور و أما ما جاء في القرآن على لفظ الخبر و معناه الحكاية فمن ذلك قوله عز و جل وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً و قد كانوا ظنوا أنهم لبثوا يوم أو بعض يوم ثم قال الله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الآية فخرجت ألفاظ هذه الحكاية على لفظ ليس معناه معنى الخبر و إنما هو حكاية لما قالوه و الدليل على ذلك أنه حكاية قوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إلى آخر الآية و قوله عز و جل عند ذكر عدتهم ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مثل حكايته عنهم في ذكر المدة وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فهذا معطوف على قوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فهذه الآية من المنقطع المعطوف و هي على لفظ الخبر و معناه حكاية و مثله قوله عز و جل كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ و إنما خرج هذا على لفظ الخبر و هو حكاية عن قوم من اليهود ادعوا ذلك فرد الله تعالى عليهم قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي انظروا في التوراة هل تجدون فيها تصديق ما ادعيتموه و مثله في سورة الزمر قوله تعالى ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فلفظ هذا خبر و معناه حكاية و مثله كثير و أما الرد على النصارى فإن رسول الله ص احتج على نصارى نجران لما قدموا عليه ليناظروه فقالوا يا محمد ما تقول في المسيح قال هو عبد الله يأكل و يشرب قال فمن أبوه فأوحى الله إليه يا محمد سلهم عن آدم هل هو إلا بشر مخلوق يأكل و يشرب و أنزل الله عليه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فسألهم عن آدم فقالوا نعم قال فأخبروني من أبوه
فلم يجيبوه بشيء و لزمتهم الحجة فلم يقروا بل لزموا السكوت فأنزل الله تعالى عليه فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فلما دعاهم إلى المباهلة قال علماؤهم لو باهلنا بأصحابه باهلناه و لم يكن عندنا صادق في قوله فأما أن يباهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله و أعطوه الرضا و شرط عليهم الجزية و السلاح حقنا لدمائهم و انصرفوا و أما السبب الذي به بقاء الخلق فقد بين الله عز و جل في كتابه أن بقاء الخلق من أربع وجوه الطعام و الشراب و اللباس و الكن و المناكح للتناسل مع الحاجة في ذلك كله إلى الأمر و النهي فأما الأغذية فمن أصناف النبات و الأنعام المحلل أكلها قال الله تعالى في النبات أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ و قال تعالى أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ و قال سبحانه وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ و هذا و شبهه مما يخرجه الله تعالى من الأرض سببا لبقاء الخلق و أما الأنعام فقوله تعالى وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ الآية و قوله سبحانه وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ و أما اللباس و الأكنان قوله تعالى وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ و قال تعالى يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ و الخير هو البقاء و الحياة و أما المناكح فقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ و قال تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً و قال عز و جل وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية و قال تعالى وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى في معنى النكاح و سبب التناسل و الأمر و النهي وجه واحد لا يكون معنى من معاني الأمر إلا و يكون بعد ذلك نهيا و لا يكون وجه من وجوه النهي إلا و مقرون به الأمر قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ إلى آخر الآية فأخبر سبحانه أن العباد لا يحيون إلا بالأمر و النهي كقوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ و مثله قوله تعالى ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ فالخير هو سبب البقاء و الحياة
و في هذا أوضح دليل على أنه لا بد للأمة من إمام يقول بأمرهم فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد العدو و يقسم الغنائم و يفرض الفرائض و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذرهم ما فيه مضارهم إذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق و إلا سقطت الرغبة و الرهبة و لم يرتدع و لفسد التدبير و كان ذلك سببا لهلاك العباد في أمر البقاء و الحياة في الطعام و الشراب و المساكن و الملابس و المناكح من النساء و الحلال و الحرام و الأمر و النهي إذ كان سبحانه لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك و وجدنا أول المخلوقين و هو آدم ع لم يتم له البقاء و الحياة إلا بالأمر و النهي قال الله عز و جل يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فدلهما على ما فيه نفعهما و بقاؤهما و نهاهما عن سبب مضرتهما ثم جرى الأمر و النهي في ذريتهما إلى يوم القيامة و لهذا اضطر الخلق إلى أنه لا بد لهم من إمام منصوص عليه من الله عز و جل يأتي بالمعجزات ثم يأمر الناس و ينهاهم و إن الله سبحانه خلق الخلق على ضربين ناطق عاقل فاعل مختار و ضرب مستبهم فكلف الناطق العاقل المختار و قال سبحانه خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ و قال سبحانه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ثم كلف و وضع التكليف عن المستبهم لعدم العقل و التمييز و أما وضع الأسماء فإنه تبارك و تعالى اختار لنفسه الأسماء الحسنى فسمى نفسه الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ و غير ذلك و كل اسم يسمى به فلعلة ما و لما تسمى بالملك أراد تصحيح معنى الاسم لمقتضى الحكمة فخلق الخلق و أمرهم و نهاهم ليتحقق حقيقة الاسم و معنى الملك و الملك له وجوه أربعة القدرة و الهيبة و السطوة و الأمر و النهي فأما القدرة فقوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهذه القدرة التامة التي لا يحتاج صاحبها إلى مباشرة الأشياء بل يخترعها كما يشاء سبحانه و لا يحتاج إلى التروي في خلق الشيء بل إذا أراده صار على ما يريده من تمام الحكمة و استقام التدبير له بكلمة واحدة و قدرة قاهرة بأن بها من خلقه ثم جعل الأمر و النهي تمام دعائم الملك و نهايته و ذلك أن الأمر و النهي يقتضيان الثواب و العقاب و الهيبة و الرجاء و الخوف و بهما بقاء الخلق و بهما يصح لهم المدح و الذم و يعرف المطيع من العاصي و لو لم يكن الأمر و النهي لم يكن للملك بهاء و لا نظام و لبطل الثواب و العقاب و كذلك جميع التأويل فيما اختاره سبحانه لنفسه من الأسماء و قد اعترض على ذلك بأن قيل قد رأينا أصنافا من الحيوان لا يحصى عددها يبقى و يعيش بغير أمر و لا نهي و لا ثواب لها و لا عقاب عليها و إذا جاز أن يستقيم بقاء الحيوان المستبهم و لا آمر له و لا ناهي بطل قولكم إنه لا بد للناطقين من آمر و ناه و إلا لم يبقوا و الرد عليهم هو أن الله تعالى لما خلق الحيوان على ضربين مستبهم و ناطق أطلق للنوع المستبهم أمرين جعل قوامه و بقاءه بهما و هو إدراك الغذاء و نيله و عرفانهم بالنافع و الضار بالشم و التنسيم و إنما أنبت عليهم من الوبر و الصوف و الشعر و الريش ليكنهم من البرد و الحر و منعهم أمرين النطق و الفهم و سخرهم للحيوان الناطق العاقل و غير العاقل أن يتصرفوا فيهم و عليهم كما يختارون و يأمرون فيهم و ينهون و لم يجعل في الناطقين معرفة الضار من الغذاء و النافع بالشم و التنسيم حتى إن أفهم الناس و أعقلهم لو جمعت الناس له ضروب الحشائش من النافع و الضار و الغذاء و السم لم يميز ذلك بعقله و فكره بل من جهة موقف فقد احتاج العاقل
الفطن البصير إلى مؤدب موقف يوقفه على منافعه و يعلمه ما يضره و لما كانت بنية الناس و ما خلقهم الله بهذه الصفة لا بد أن يكون عندهم علم كثير من الأغذية التي تقوم بها أبدانهم لأنها سبب حياتهم و كان البهائم في ذلك أهدى منهم ثبت ما أوردناه من الأمر و النهي اللذين يتبعهما الثواب و العقاب قال المعترض و قد وجدنا بعض البهائم يأكل ما يكون هلاكه فيه من السمام القاتلة فلو كان هذا كما ذكرتم من أنها تعرف الضار من النافع بالشم و التنسم لما أصابهم ذلك قيل هذا الذي ذكرتم لا يكون على العموم و إنما يكون في الواحد بعد الواحد لعلة ما لأنه ربما اضطره الجوع الشديد إلى أكل ما يكون فيه هلاكه أو لاختلاط جميع أنواع الحشائش بعضها ببعض كما أنا قد نجد الرجل العاقل قد يقف على ما يضره من الأطعمة ثم يأكله إما لجوع غالب أو لعلة يحدث أو سكر يزيل عقله أو آفة من الآفات فيأكل ما يعلم أنه يسقمه و يضره و ربما كان تلف نفسه فيه و إذا كان هذا موجودا في الإنسان الفطن العاقل فأحرى أن يجوز مثله في البهائم و وجه آخر و هو أن الله سبحانه إذا أراد قضاء أجله خلى بينه و بين الحال التي بمثلها يتم عليه ذلك و مثل هذا يعرض دون العادة العامة و لأنا قد نرى الفراخ من الدجاج و ما يجري مجراها من أجناس الطير يخرج من البيضة فتلقى له السموم من الحبوب القاتلة مثل حب البنج و السناء فيحتذر عنه و إذا ألقي عليه غذاؤها بادرت إليه فأكلته و لم يتوقف عنه فبطل الاعتراض و لما ثبت لنا أن قوام الأمة بالأمر و النهي الوارد عن الله عز و جل صح لنا أنه لا بد للناس من رسول من عند الله فيه صفات يتميز بها من جميع الخلق منها العصمة من سائر الذنوب و إظهار المعجزات و بيان الدلالات لنفي الشبهات طاهر مطهر متصل بملكوت الله سبحانه غير منفصل لأنه لا يؤدي عن الله عز و جل إلى خلقه إلا من كانت هذه صفته فصح موضع المأمومين الذين لا عصمة لهم إلا إمام عادل معصوم يقيم حدود الله تعالى و أوامره فيهم و يجاهد بهم و يقسم غنائمهم و لا يستقيم أن يقيم الحدود من في جنبه حد الله تعالى لأن الخبيث لا يطهر بالخبيث و إنما يطهر الخبيث بالطاهر الذي يدل على ما يقرب من الله تعالى و إنما يحيون به الحياة الدنيا في حال معايشهم مما يكون عاقبته إلى حياة الأبد في الدار الآخرة و لا بد ممن هذه صفته في عصر بعد عصر و أوان بعد أوان و أمة بعد أمة جاريا ذلك في الخلق ما داموا و دام فرض التكليف عليهم لا يستقيم لهم الأمر و لا يدوم لهم الحياة إلا بذلك و لو كان الإمام بصفة المأمومين لاحتاج إلى ما احتاجوا إليه فيكون حينئذ إماما و ليس في عدل الله تعالى و حكمه أن يحتج على خلقه بمن هذه صفته و إنما إمام الإمام الوحي الآمر له و الناهي فكل هذه الصفات المتفرقة في الأنبياء فإن الله سبحانه جمعها في نبينا و وجب لذلك بعد مضيه ص أن يكون في وصيه ثم الأوصياء اللهم إلا أن يدعي مدع أن الإمامة مستغنية عمن هذه صفته فيكونون بهذه الدعوى مبطلين بما تقدم من الأدلة و ثبت أنه لا بد من إمام عارف بجميع ما جاء محمد النبي ص من كتاب الله تعالى بإقامة المقدم ذكرها يجيب عنها و عن جميع المشكلات و ينفي عن الأمة مواقع الشبهات لا يزل في حكمه عارف بدقيق الأشياء و جليلها يكون فيه ثمان خصال يتميز بها عن المأمومين أربع منها في نعت نفسه و نسبه أربع صفات ذاته و حالاته فأما التي في نعت نفسه فإنه ينبغي أن يكون معروف البيت معروف النسب منصوصا عليه من النبي ص بأمر من الله سبحانه بمثله يبطل دعوى من يدعي منزلته بغير نص من الله سبحانه و رسوله حتى إذا قدم الطالب من البلد القريب و البعيد أشارت إليه الأمة بالكمال و البيان و أما اللواتي في صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس و أعلم الناس و أشجع الناس و أكرم الناس و ما يتبع ذلك لعلل تقتضيه لأنه إذا لم يكن زاهدا في الدنيا و زخرفها دخل في المحظورات من المعاصي
فاضطره ذلك أن يكتم على نفسه فمخون الله تعالى في عباده يحتاج إلى من يطهره بإقامة الحد عليه فهو حينئذ إمام مأموم و أما إذا لم يكن عالما بجميع ما فرضه الله تعالى في كتابه و غيره قلب الفرائض فأحل ما حرم الله فضل و أضل و إذا لم يكن أشجع الناس سقط فرض إمامته لأنه في الحرب فئة للمسلمين فلو فر لدخل فيمن قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ و إذا لم يكن أكرم الناس نفسا دعاه البخل و الشح إلى أن يمد يده فيأخذ فيء المسلمين لأنه خازنهم و أمينهم على جميع أموالهم من الغنائم و الخراج و الجزية و الفيء فلهذه العلل يتميز من سائر الأمة و لم يكن الله ليأمر بطاعة من لا يعرف أوامره و نواهيه و لا أن يولي عليهم الجاهل الذي لا علم له و لا ليجعل الناقص حجة على الفاضل و لو كان ذلك لجاز لأهل العلل و الأسقام أن يأخذوا الأدوية ممن ليس بعارف منافع الأجساد و مضارها فتتلف أنفسهم و لو أن رجلا أراد أن يشتري ما يصلح به من متاع و غيره لكان من حزم الرأي أن يستعين بالتاجر البصير بالتجارة فيكون ذلك أحوط عليه و إذا كان جميع ذلك لا يصلح في هذه الأشياء الدنياوية فأحرى أن يقصد الإمام العادل في الأسباب كلها التي يتوصل بها إلى أمور الآخرة فتميز بين الإمام العادل و الجاهل و روى عمر بن الخطاب أنه اختصم إليه رجلان فحكم لأحدهما على الآخر فقال المحكوم له بالله لقد حكمت بالحق فعلاه عمر بدرته و قال له ثكلتك أمك و الله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ و إنما رأي رأيته هذا مع ما تقدمه من قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم و إن لي شيطانا يعتريني فإذا ملت فقوموني فإذا غضبت فاجتنبوني لا أمثل في أشعاركم و أبشاركم فاحتج التابعون لهما لأنفسهم بأن قالوا لنا أسوة بالسلف الماضي لما عجزوا من تأدية حقائق الأحكام فلهذه العلة وقعت الاختلاف و زال الايتلاف لمخالفتهم الله تعالى قال الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ثم جعل للصادقين علامات يعرفون بها فقال تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى آخره و وصفهم أيضا فقال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ إلى آخر الآية في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز و لا يصح أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يحافظ على حدود الله سبحانه إلا العارف بالأمر و النهي دون الجاهل بهما فأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق و أسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه وجه الإشارة و وجه العمارة و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات و أما وجه الإشارة فقوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ الآية فجعل الله لهم خمس الغنائم و الخمس يخرج من أربعة وجوه من الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين و من المعادن و من المكنوز و من الغوص ثم جزء هذه الخمس على ستة أجزاء فيأخذ الإمام عنها سهم الله تعالى و سهم الرسول و سهم ذي القربى ع ثم يقسم الثلاثة سهام الباقية بين يتامى آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم ثم إن للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله ص قال الله تعالى يسئلونك الأنفال قل الأنفال لله و للرسول فحرفوها و قالوا يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ و إنما سألوه الأنفال كلها ليأخذوها لأنفسهم فأجابهم الله تعالى بما تقدم ذكره و الدليل على ذلك قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي الزموا طاعة الله أن لا تطلبوا ما لا تستحقونه فما كان لله تعالى و لرسوله فهو للإمام و له نصيب آخر من الفيء و الفيء يقسم قسمين فمنه ما هو خاص للإمام و هو قول الله عز و جل في سورة الحشر ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هي البلاد التي لا يوجف عليه المسلمون بخيل و لا ركاب و الضرب الآخر ما رجع إليهم مما غصبوا عليه في الأصل قال الله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فكانت الدنيا بأسرها لآدم ع إذ كان خليفة الله في أرضه ثم هي للمصطفين الذين اصطفاهم و عصمهم فكانوا هم الخلفاء في الأرض فلما غصبهم الظلمة على الحق الذي جعله الله و رسوله لهم و حصل ذلك في أيدي الكفار صار في أيديهم على سبيل الغصب حتى بعث الله تعالى رسوله محمدا ص فرجع له و لأوصيائه فما كانوا غصبوا عليه أخذوه منهم بالسيف فصار ذلك مما أفاء الله به أي مما أرجعه الله إليهم و الدليل على أن الفيء هو الراجع قوله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي رجعوا من الإيلاء إلى المناكحة و قوله عز و جل وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي ترجع و يقال لوقت الصلاة فإذا فاء الفيء أي رجع الفيء فصلوا و أما وجه العمارة فقوله هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سببا لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الحب و الثمرات و ما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش للخلق و أما وجه التجارة فقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ إلى آخر الآية فعرفهم سبحانه كيف يشترون المتاع في السفر و الحضر و كيف يتجرون إذ كان ذلك من أسباب المعايش و أما وجه الإجارة فقوله عز و جل نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق إذ خالف بحكمته بين هممهم و إرادتهم و سائر حالاتهم و جعل ذلك قواما لمعايش الخلق و هو الرجل يستأجر الرجل في صنعته و أعماله و أحكامه و تصرفاته و أملاكه و لو كان الرجل منا مضطرا إلى أن يكون بناء لنفسه أو نجارا أو صانعا في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه و يتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب مما يحتاج إليه الملك فمن دونه ما استقامت أحوال العالم بذلك و لا اتسعوا له و لعجزوا عنه و لكنه تبارك و تعالى أتقن تدبيره و أبان آثار حكمته لمخالفته بين هممهم و كل يطلب ما ينصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض و ليستعين بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم و أما وجه الصدقات فإنما هي لأقوام ليس لهم في الإمارة نصيب و لا في العمارة حظ و لا في التجارة مال و لا في الإجارة معرفة و قدرة ففرض الله تعالى في أموال الأغنياء ما تقوتهم و يقوم بأودهم و بين سبحانه ذلك في كتابه و كان سبب ذلك أن رسول الله ص لما فتح عليه من بلاد العرب ما فتح وافت إليه الصدقات منهم فقسمها في أصحابه ممن فرض الله لهم فسخط أهل الجدة من المهاجرين و الأنصار و أحبوا أن يقسمها فيهم فلمزوه فيما بينهم و عابوه بذلك فأنزل الله عز و جل وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ
ثم بين سبحانه لمن هذه الصدقات فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إلى آخر الآية فأعلمنا سبحانه أن رسول الله ص لم يضع شيئا من الفرائض إلا في مواضعها بأمر الله تعالى عز و جل و مقتضى الصلاح في الكثرة و القلة و أما الإيمان و الكفر و الشرك و زيادته و نقصانه فالإيمان بالله تعالى هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسماها حظا فقيل له ع الإيمان قول و عمل أم قول بلا عمل فقال الإيمان تصديق بالجنان و إقرار باللسان و عمل بالأركان و هو عمل كله و منه التام و منه الكامل تمامه و منه الناقص البين نقصانه و منه الزائد البين زيادته إن الله تعالى ما فرض الإيمان على جارحة من جوارح الإنسان إلا و قد وكلت بغير ما وكلت به الأخرى فمنه قلبه الذي يعقل به و يفقه و يفهم و يحل و يعقد و يريد و هو أمير البدن و إمام الجسد الذي لا تورد الجوارح و لا تصدر إلا عن رأيه و أمره و نهيه و منها لسانه الذي ينطق به و منها أذناه اللتان يسمع بهما و منها عيناه اللتان يبصر بهما و منها يداه اللتان يبطش بهما و منها رجلاه اللتان يسعى بهما و منها فرجه الذي الباه من قبله و منها رأسه الذي فيه وجهه و ليس جارحة من جوارحه إلا و هو مخصوصة بفريضة فرض على القلب غير ما فرض على السمع و فرض على السمع غير ما فرض على البصر و فرض على البصر غير ما فرض على اليدين و فرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين و فرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج و فرض على الفرج غير ما فرض على الوجه و فرض على الوجه غير ما فرض على اللسان فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار و المعرفة و العقد عليه و الرضا بما فرضه عليه و التسليم لأمره و الذكر و التفكر و الانقياد إلى كل ما جاء عن الله عز و جل في كتابه مع حصول المعجز فيجب عليه اعتقاده و أن يظهر مثل ما أبطن إلا للضرورة كقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و قال سبحانه الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ و قوله تعالى أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ و قوله سبحانه وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا و قوله تعالى أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها و قال عز و جل فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى و هو رأس الإيمان و أما ما فرضه الله على اللسان فقوله عز و جل في معنى التفسير لما عقد به القلب و أقر به أو جحده فقوله تعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ الآية و قوله سبحانه قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و قوله سبحانه وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ فأمر سبحانه بقول الحق و نهى عن قول الباطل و أما ما فرضه على الأذنين فالاستماع لذكر الله و الإنصات إلى ما يتلى من كتابه و ترك الإصغاء إلى ما يسخطه فقال سبحانه وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و قال تعالى وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
الآية ثم استثنى برحمته لموضع النسيان فقال وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ و قال عز و جل فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ و قال تعالى وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ و في كتاب الله تعالى ما معناه معنى ما فرض الله سبحانه على السمع و الإيمان و أما ما فرضه على العينين فمنه النظر إلى آيات الله تعالى و غض البصر عن محارم الله قال الله تعالى أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ و قال تعالى أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ و قال سبحانه انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ و قال فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها و هذه الآية جامعة لإبصار العيون و إبصار القلوب قال الله تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ و منه قوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ معناه لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن أو يمكنه من النظر إلى فرجه ثم قال سبحانه وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي ممن يلحقهن النظر كما جاء في حفظ الفرج و النظر سبب إيقاع الفعل من الزنا و غيره ثم نظم تعالى ما فرض على السمع و البصر و الفرج في آية واحدة فقال وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ يعني بالجلود هاهنا الفروج و قال تعالى وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فهذا ما فرض الله تعالى على العينين من تأمل الآيات و الغض عن تأمل المنكرات و هو من الإيمان و أما ما فرض سبحانه على اليدين فالطهور و هو قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ و فرض على اليدين الإنفاق في سبيل الله تعالى فقال أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و فرض تعالى على اليدين الجهاد لأنه من عملها و علاجها فقال فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ و ذلك كله من الإيمان و أما ما فرضه الله على الرجلين فالسعي بهما فيما يرضيه و اجتناب السعي فيما يسخطه و ذلك قوله سبحانه فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ و قوله سبحانه وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً و قوله وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ و فرض الله عليهما القيام في الصلاة فقال وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ
ثم أخبر أن الرجلين من الجوارح التي تشهد يوم القيام حتى يستنطق بقوله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و هذا مما فرضه الله تعالى على الرجلين في كتابه و هو من الإيمان و أما ما افترضه على الرأس فهو أن يمسح من مقدمه بالماء في وقت الطهور للصلاة بقوله وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ و هو من الإيمان و فرض على الوجه الغسل بالماء عند الطهور و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ و فرض عليه السجود و على اليدين و الركبتين و الرجلين الركوع و هو من الإيمان و قال فيما فرض على هذه الجوارح من الطهور و الصلاة و سماه في كتابه إيمانا حين تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فقال المسلمون يا رسول الله ذهبت صلاتنا إلى بيت المقدس و ظهورنا ضياعا فأنزل الله تعالى وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فسمي الصلاة و الطهور إيمانا و قال رسول الله ص من لقي الله كامل الإيمان كان من أهل الجنة و من كان مضيعا لشيء مما فرضه الله تعالى في هذه الجوارح و تعدى ما أمره الله و ارتكب ما نهاه عنه لقي الله تعالى ناقص الإيمان قال الله عز و جل وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ و قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ و قال سبحانه إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً و قال وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ و قال هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ الآية فلو كان الإيمان كله واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد فضل على أحد و لتساوى الناس فبتمام الإيمان و كماله دخل المؤمنون الجنة و نالوا الدرجات فيها و بذهابه و نقصانه دخل الآخرون النار و كذلك السبق إلى الإيمان قال الله تعالى وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ و قال سبحانه وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ و ثلث بالتابعين و قال عز و جل تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ و قال وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً و قال انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا و قال هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ و قال سبحانه وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ و قال الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ و قال تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى و قال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً
و قال ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ فهذه درجات الإيمان و منازلها عند الله سبحانه و لن يؤمن بالله إلا من آمن برسوله و حججه في أرضه قال الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ و ما كان الله عز و جل ليجعل لجوارح الإنسان إماما في جسده ينفي عنها الشكوك و يثبت لها اليقين و هو القلب و يهمل ذلك في الحجج و هو قوله تعالى فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ و قال لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ و قال تعالى أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ و قال سبحانه وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا الآية ثم فرض على الأمة طاعة ولاة أمره القوام لدينه كما فرض عليهم طاعة رسول الله ص فقال أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ثم بين محل ولاة أمره من أهل العلم بتأويل كتابه فقال عز و جل وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و عجز كل أحد من الناس عن معرفة تأويل كتابه غيرهم لأنهم هم الراسخون في العلم المأمونون على تأويل التنزيل قال الله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إلى آخر الآية و قال سبحانه بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ و طلب العلم أفضل من العبادة قال الله عز و جل إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ الذين لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ و بالعلم استحقوا عند الله اسم الصدق و سماهم به صادقين و فرض طاعتهم على جميع العباد بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فجعلهم أولياءه و جعل ولايتهم ولايته و حزبهم حزبه فقال وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ و قال إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ و اعلموا رحمكم الله إنما هلكت هذه الأمة و ارتدت على أعقابها بعد نبيها ص بركوبها طريق من خلا من الأمم الماضية و القرون السالفة الذين آثروا عبادة الأوثان على طاعة أولياء الله عز و جل و تقديمهم من يجهل على من يعلم فعنفها الله تعالى بقوله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ و قال في الذين استولوا على تراث رسول الله ص بغير حق من بعد وفاته أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فلو جاز للأمة الايتمام بمن لا يعلم أو بمن يجهل لم يقل إبراهيم ع لأبيه لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً فالناس أتباع من اتبعوه من أئمة الحق و أئمة الباطل قال الله عز و جل يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا فمن ائتم
بالصادقين حشر معهم قال رسول الله ص المرء مع من أحب قال إبراهيم ع فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي و أصل الإيمان العلم و قد جعل الله تعالى له أهلا ندب إلى طاعتهم و مسألتهم فقال فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و قال جلت عظمته وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و البيوت في هذا الموضع اللاتي عظم الله بناءها بقوله فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثم بين معناها لكيلا يظن أهل الجاهلية أنها بيوت مبنية فقال تعالى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فمن طلب العلم في هذه الجهة أدركه قال رسول الله ص أنا مدينة العلم و في موضع أنا مدينة الحكمة و علي بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها و كل هذا منصوص في كتابه تعالى إلا أن له أهلا يعلمون تأويله فمن عدل عنهم إلى الذين ينتحلون ما ليس لهم و يتبعون ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ و هو تأويله بلا برهان و لا دليل و لا هدى هلك و أهلك و خسرت صفقته و ضل سعيه إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و إنما هو حق و باطل و إيمان و كفر و علم و جهل و سعادة و شقوة و جنة و نار لن يجتمع الحق و الباطل في قلب امرئ قال الله تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ و إنما هلك الناس حين ساووا بين أئمة الهدى و بين أئمة الكفر و قالوا إن الطاعة مفروضة لكل من قام مقام النبي برا كان أو فاجرا فأتوا من قبل ذلك قال الله سبحانه أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ و قال الله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ و قال فيمن سموهم من أئمة الكفر بأسماء أئمة الهدى ممن غصب أهل الحق ما جعله الله لهم و فيمن أعان أئمة الضلال على ظلمهم إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فأخبرهم الله سبحانه بعظيم افترائهم على جملة أهل الإيمان بقوله تعالى إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ و قوله تعالى وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ و بقوله سبحانه أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ و قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ هُوَ أَعْمى فبين الله عز و جل بين الحق و الباطل في كثير من آيات القرآن و لم يجعل للعباد عذرا في مخالفة أمره بعد البينات و البرهان و لم يتركهم في لبس من أمرهم و لقد ركب القوم من الظلم و الكفر في اختلافهم بعد نبيهم و تفريقهم الأمة و تشتيت أمر المسلمين و اعتدائهم على أوصياء رسول الله ص بعد أن تبين لهم من الثواب على الطاعة و العقاب المعصية بالمخالفة فاتبعوا أهواءهم و تركوا ما أمرهم الله به و رسوله قال تعالى وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ
ثم أبان فضل المؤمنين فقال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ثم وصف ما أعده من كرامته تعالى لهم و ما أعده لمن أشرك به و خالف أمره و عصى وليه من النقمة و العذاب ففرق بين صفات المهتدين و صفات المعتدين فجعل ذلك مسطورا في كثير من آيات كتابه و لهذه العلة قال الله تعالى أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فترى من هو الإمام الذي يستحق هذه الصفة من الله عز و جل المفروض على الأمة طاعته من لم يشرك بالله تعالى طرفة عين و لم يعصه في دقيقة و لا جليلة قط أم من أنفد عمره و أكثر أيامه في عبادة الأوثان ثم أظهر الإيمان و أبطن النفاق و هل من صفة الحكيم أن يطهر الخبيث بالخبيث و يقيم الحدود على الأمة من في جنبه الحدود الكثيرة و هو سبحانه يقول أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ و لم يأمر الله عز و جل نبيه ص بتبليغ ما عهده إليه في وصيه و إظهار إمامته و ولايته يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فبلغ رسول الله ص ما قد سمع و اعلم أن الشياطين اجتمعوا إلى إبليس فقالوا له أ لم تكن أخبرتنا أن محمدا إذا مضى نكثت أمته عهده و نقضت سنته و أن الكتاب الذي جاء به يشهد بذلك و هو قوله وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فكيف يتم هذا و قد نصب لأمته علما و أقام لهم إماما فقال لهم إبليس لا تجزعوا من هذا فإن أمته ينقضون عهده و يغدرون بوصيه من بعده و يظلمون أهل بيته و يهملون ذلك لغلبة حب الدنيا على قلوبهم و تمكن الحمية و الضغائن في نفوسهم و استكبارهم و عزهم فأنزل الله تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و أما الكفر المذكور في كتاب الله تعالى فخمسة وجوه منها كفر الجحود و منها كفر فقط و الجحود ينقسم على وجهين و منها كفر الترك لما أمر الله تعالى به و منه كفر البراءة و منها كفر النعيم فأما كفر الجحود فأحد الوجهين منه جحود الوحدانية و هو قول من يقول لا رب و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا نشور و هؤلاء صنف من الزنادقة و صنف من الدهرية الذين يقولون وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ و ذلك رأي وضعوه لأنفسهم استحسنوه بغير حجة فقال الله تعالى إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ و قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يؤمنون بتوحيد الله و الوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيقته قال تعالى وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا و قال سبحانه وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ أي جحدوه بعد أن عرفوه و أما الوجه الثالث من الكفر فهو كفر الترك لما أمرهم الله به و هو من المعاصي قال الله سبحانه وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ إلى قوله أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكانوا كفارا لتركهم ما أمر الله تعالى به فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن فلم ينفعهم ذلك لقوله تعالى فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى آخر الآية
و أما الوجه الرابع من الكفر فهو ما حكاه تعالى من قول إبراهيم ع كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ فقوله كَفَرْنا بِكُمْ أي تبرأنا منكم و قال سبحانه في قصة إبليس و تبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي تبرأت منكم و قوله تعالى إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى قوله ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الآية و أما الوجه الخامس من الكفر و هو كفر النعم قال الله تعالى عن قول سليمان ع هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ الآية و قوله عز و جل لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ و قال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ فأما ما جاء من ذكر الشرك في كتاب الله تعالى فمن أربعة أوجه قوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ فهذا شرك القول و الوصف و أما الوجه الثاني من الشرك فهو شرك الأعمال قال الله تعالى وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ و قوله سبحانه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ على أنهم لم يصوموا لهم و لم يصلوا و لكنهم أمروهم و نهوهم فأطاعوهم و قد حرموا عليهم حلالا و أحلوا لهم حراما فعبدوهم من حيث لا يعلمون فهذا شرك الأعمال و الطاعات و أما الوجه الثالث من الشرك شرك الزنا قال الله تعالى وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ فمن أطاع ناطقا فقد عبده فإن كان الناطق ينطق عن الله تعالى فقد عبد الله و إن كان ينطق عن غير الله تعالى فقد عبد غير الله و أما الوجه الرابع من الشرك فهو شرك الرياء قال الله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فهؤلاء صاموا و صلوا و استعملوا أنفسهم بأعمال أهل الخير إلا أنهم يريدون به رئاء الناس فأشركوا لما أتوه من الرياء فهذه جملة وجوه الشرك في كتاب الله تعالى و أما ما ذكر من الظلم في كتابه فوجوه شتى فمنها ما حكاه الله تعالى عن قول لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ و من الظلم مظالم الناس فيما بينهم من معاملات الدنيا و هي شتى قال الله تعالى وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ الآية فأما الرد على من أنكر زيادة الكفر فمن ذلك قول الله عز و جل في كتابه إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ و قوله تعالى وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ و قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً الآية و غير ذلك في كتاب الله و أما ما فرضه سبحانه من الفرائض في كتابه فدعائم الإسلام و هي خمس دعائم و على هذه الفرائض الخمسة بني الإسلام فجعل سبحانه لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدا جهلها أولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام
ثم الحج ثم الولاية و هي خاتمتها و الحافظة لجميع الفرائض و السنن فحدود الصلاة أربعة معرفة الوقت و التوجه إلى القبلة و الركوع و السجود و هذه عوام في جميع الناس العالم و الجاهل و ما يتصل بها من جميع أفعال الصلاة و الأذان و الإقامة و غير ذلك و لما علم الله سبحانه أن العباد لا يستطيعون أن يؤدوا هذه الحدود كلها على حقائقها جعل فيها فرائض و هي الأربعة المذكورة و جعل ما فيها من هذه الأربعة من القراءة و الدعاء و التسبيح و التكبير و الأذان و الإقامة و ما شاكل ذلك سنة واجبة من أحبها يعمل بها أعمالا فهذا ذكر حدود الصلاة و أما حدود الزكاة فأربعة أولها معرفة الوقت الذي يجب فيه الزكاة و الثاني القسمة و الثالث الموضع الذي توضع فيه الزكاة و الرابع القدر فأما معرفة العدد و القسمة فإنه يجب على الإنسان أن يعلم كم يجب من الزكاة في الأموال التي فرضها الله تعالى من الإبل و البقر و الغنم و الذهب و الفضة و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب فيجب أن يعرف كم يخرج من العدد و القسمة و يتبعهما الكيل و الوزن و المساحة فما كان من العدد فهو من باب الإبل و البقر و الغنم و أما المساحة فمن باب الأرضين و المياه و ما كان من المكيل فمن باب الحبوب التي هي أقوات الناس في كل بلد و أما الوزن فمن الذهب و الفضة و سائر ما يوزن من أبواب مبلغ التجارات مما لا يدخل في العدد و لا الكيل فإذا عرف الإنسان ما يجب عليه في هذه الأشياء و عرف الوضع و توضع فيه كان مؤديا للزكاة على ما فرض الله تعالى و أما حدود الصيام فأربعة حدود أولها اجتناب الأكل و الشرب و الثاني اجتناب النكاح و الثالث اجتناب القيء متعمدا و الرابع اجتناب الاغتماس في الماء و ما يتصل بها و ما يجري مجراها من السنن كلها و أما حدود الحج فأربعة و هي الإحرام و الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الوقوف في الموقفين و ما يتبعهما و يتصل بها فمن ترك هذه الحدود وجب عليه الكفارة و الإعادة و أما حدود الوضوء للصلاة فغسل اليدين و الوجه و المسح على الرأس و على الرجلين و ما يتعلق و يتصل بها سنة واجبة على من عرفها و قدر على فعلها و أما حدود الإمام المستحق للإمامة فمنها أن يعلم الإمام المتولي عليه أنه معصوم من الذنوب كلها صغيرها و كبيرها لا يزل في الفتيا و لا يخطئ في الجواب و لا يسهو و لا ينسى و لا يلهو بشيء من أمر الدنيا و الثاني أن يكون أعلم الناس بحلال الله و حرامه و ضروب أحكامه و أمره و نهيه و جميع ما يحتاج إليه الناس فيحتاج الناس إليه و يستغني عنهم و الثالث يجب أن يكون أشجع الناس لأنه فئة المؤمنين التي يرجعون إليها إن انهزم من الزحف انهزم الناس بانهزامه و الرابع يجب أن يكون أسخى الناس و إن بخل أهل الأرض كلهم لأنه إن استولى الشح عليه شح على ما في يديه من أموال المسلمين و الخامس العصمة من جميع الذنوب و بذلك يتميز من المأمومين الذين هم غير معصومين لأنه لو لم يكن معصوما لم يؤمن عليه أن يدخل فيما يدخل فيه الناس من موبقات الذنوب المهلكات و الشهوات و اللذات و لو دخل في هذه الأشياء لاحتاج إلى من يقيم عليه الحدود فيكون حينئذ إماما مأموما و لا يجوز أن يكون الإمام بهذه الصفة و أما وجوب كونه أعلم الناس فإنه لو لم يكن عالما لم يؤمن أن يقلب الأحكام و الحدود و يختلف عليه القضايا المشكلة فلا يجيب عنها بخلافها أما وجوب كونه أشجع الناس فيما قدمناه لأنه لا يصح أن ينهزم فيبوء بغضب من الله تعالى و هذه
لا يصح أن يكون صفة الإمام و أما وجوب كونه أسخى الناس فيما قدمناه و ذلك لا يليق بالإمام و قد جعل الله تعالى لهذه الأربعة فرائض دليلين أبان لنا بهما المشكلات و هما الشمس و القمر أي النبي و وصيه بلا فصل و أما الزجر في كتاب الله عز و جل فهو ما نهى الله سبحانه و وعد العقاب لمن خالفه مثل قوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا و قوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و قوله سبحانه لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً و قوله وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى و أما ترغيب العباد في كتاب الله تعالى وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً و قوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ و قوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ. آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية و قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً و أمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى أما الترهيب في كتاب الله فقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ و قوله عز و جل وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إلى آخر الآية و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ الآية أما الجدال و معانيه في كتاب الله تعالى وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ و لما خرج رسول الله ص إلى بدر كان خروجه في طلب العدو و قال لأصحابه إن الله عز و جل قد وعدني أن أظفر بالعير أو بقريش فخرجوا معه على هذا فلما أقبلت العير و أمره الله بقتال قريش أخبر أصحابه فقال إن قريشا قد أقبلت و قد وعدني الله سبحانه إحدى الطائفتين أنها لكم و أمرني بقتال قريش قال فجزعوا من ذلك و قالوا يا رسول الله فإنا لم نخرج على أهبة الحرب قال و أكثر قوم منهم الكلام و الجدال فأنزل الله تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ إلى قوله وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ و كقوله سبحانه قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ و قوله سبحانه وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى و أما الاحتجاج على الملحدين و أصناف المشركين مثل قوله حكاية عن قول إبراهيم ع أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إلى آخر الآية و قوله سبحانه عن الأنبياء في مجادلتهم لقومهم في سورة الأعراف و غيرها و قوله تعالى حكاية عن قوم نوح ع يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
و مثل هذا كثير موجود في مجادلة الأمم للأنبياء و أما ما في كتاب الله تعالى من القصص عن الأمم فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام فمنه ما مضى و منه ما كان في عصره و منه ما أخبر الله تعالى به أنه يكون بعده فأما ما مضى فما حكاه الله تعالى فقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ و منه قول موسى لشعيب فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ و منه ما أنزل الله من ذكر شرائع الأنبياء و قصصهم و قصص أممهم حكاية عن آدم إلى نبينا صلى الله عليه و آله و عليهم أجمعين و أما الذي كان في عصر النبي ص فمنه ما أنزل الله تعالى في مغازيه و أصحابه و توبيخهم و مدح من مدح منهم و ذم من ذم منهم و ما كان من خير و شر و قصة كل فريق منهم مثل ما قص من قصة غزاة بدر و أحد و خيبر و حنين و غيرها من المواطن و الحروب و مباهلة النصارى و محاربة اليهود و غيره مما لو شرح لطال به الكتاب و أما قصص ما يكون بعده فهو كل ما حدث بعده مما أخبر النبي ص به و ما لم يخبر و القيامة و أشراطها و ما يكون من الثواب و العقاب و أشباه ذلك و أما ما في كتاب الله تعالى من ضرب الأمثال فمثل قوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ إلى آخر الآية و قوله تعالى مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية و كقوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ إلى آخر الآية و إنما ضرب الله سبحانه هذه الأمثال للناس في كتابه ليعتبروا بها و يستبدلوا بها ما أراده منهم من الطاعة و هو كثير في كتابه تعالى و أما ما في كتابه تعالى في معنى التنزيل و التأويل فمنه ما تأويله في تنزيله و منه ما تأويله قبل تنزيله و منه ما تأويله مع تنزيله و منه ما تأويله بعد تنزيله فأما الذي تأويله في تنزيله فهو كل آية محكمة نزلت في تحريم شيء من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها فليس يحتاج فيها إلى تفسير أكثر من تأويلها و ذلك قوله تعالى في التحريم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ الآية و قوله إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ الآية و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إلى قوله وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا و قوله تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ و مثل ذلك في القرآن كثير مما حرم الله سبحانه لا يحتاج المستمع إلى مسألة عنه و قوله عز و جل في معنى التحليل أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ و قوله سبحانه وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الآية و قوله تعالى وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ و قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ و قوله تبارك و تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى و أما الذي تأويله قبل تنزيله فمثل قوله تعالى في الأمور التي حدثت في عصر رسول الله ص مما لم يكن الله أنزل فيها حكما مشروحا و لم يكن عند النبي ص فيها شيء و لا عرف ما وجب فيها مثل ذلك من اليهود من بني قريظة و النضير و ذلك أن رسول الله ص لما هاجر إلى المدينة كان بها ثلاث بطون من اليهود من بني هارون منهم بنو قريظة و بنو النضير و بنو القينقاع فلما دخلت الأوس و الخزرج في الإسلام جاءت اليهود إلى رسول الله ص فقالوا يا محمد قد أحببنا أن نهادنك إلى أن نرى ما يصير إليه أمرك فأجابهم رسول الله ص تكرما و كتب لهم كتابا أنه قد هادنهم و أقرهم على دينهم لا يتعرض لهم و أصحابهم بأذية و ضمنوهم عن نفوسهم أنهم لا يكيدونه بوجه من الوجوه و لا لأحد من أصحابه و كانت الأوس حلفاء بني قريظة و الخزرج حلفاء بني النضير و بنو النضير أكثر عددا من بني القريظة و أكثر أموالا و كانت عدتهم ألف مقاتل و كانت عدد بني قريظة مائة مقاتل و كان إذا وقع بينهم قتل لهم يرض بنو النضير أن يكون قتل بقتيل بل يقولون نحن أشرف و أكثر و أقوى و أعز ثم اتفقوا بعد ذلك أن يكتبوا بينهم كتابا شرطوا فيه أيما رجل من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة دفع نصف الدية و حمم وجهه و معنى حمم وجهه سخم وجهه بالسواد و معناه حمم بالفحم و يقعد على حمار و يحول وجهه إلى ذنب الحمار و نودي عليه في الحي و أيما رجل من بني قريظة قتل رجلا من بني النضير كان عليه الدية الكاملة و قتل القاتل مع رفع الدية فلما هاجر رسول الله ص إلى المدينة و دخل الأوس و الخزرج في دين الإسلام وثب رجل من بني قريظة على رجل من بني النضير فبعث بنو النضير إلى بني قريظة ابعثوا لنا بقاتل صاحبنا لنقتله و ابعثوا إلينا بالدية فامتنعوا من ذلك و قالوا ليس هذا حكم الله في التوراة و إنما هذا حكم ابتدعتموه و ليس لكم علينا إلا الدية أو القتل فإن رضيتم بذلك و إلا بيننا و بينكم محمد نتحاكم إليه جميعا قال فبعث بنو النضير إلى عبد الله بن أبي بن سلول و كان رأس المنافقين فقالوا قد علمت ما بيننا من الحلف و الموادعة و قد كنا لكم يا معاشر الأنصار من الخزرج أنصارا على من آذاكم و قد امتنعت علينا بنو قريظة بما شرطناه عليهم و دعوناه إلى حكم محمد و قد رضينا به فاسأله أن لا ينقض شرطنا فقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول ابعثوا إلي رجلا منكم ليحضر كلامي و كلام محمد فإن علمتم أنه يحكم لكم و يقركم على ما كنتم عليه فارضوا به و إن لم يفعل فلا ترضوه لحكمه و جاء عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله ص و معه رجل من اليهود فقال يا رسول الله إن هؤلاء اليهود لهم العدد و العدة و المنعة و قد كانوا كتب بينهم كتاب شرط اتفقوا عليه فيما بينهم و رضوا جميعا به و هم صائرون إليك فلا تنقض عليهم شرطهم فاغتم من كلامه و لم يجبه و دخل ص منزله فأنزل الله عليه يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يعني تعالى عبد الله بن أبي بن سلول ثم قال سبحانه وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يعني به الرجل اليهودي الذي وافى مع عبد الله بن أبي بن سلول ليسمع ما يقول رسول الله ص من الجواب لعبد الله و قال لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إلى قوله تعالى فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً و جعل سبحانه الأمر إلى رسوله إن شاء أن يحكم حكم بينهم و إن شاء أعرض عنهم ثم قال تعالى وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ و مثل ذلك الظهار في كتاب الله تعالى فإن العرب كانت إذا ظاهر رجل منهم امرأته حرمت عليه إلى آخر الأبد فلما هاجر رسول الله ص كان بالمدينة رجل من الأنصار يقال له أوس بن الصامت و كان أول رجل ظاهر في الإسلام و كان كبير السن به ضعف فجرى بينه و بين أهله كلام و كانت امرأته يسمى خولة بنت ثعلبة الأنصاري فقال لها أوس أنت علي كظهر أمي ثم إنه ندم على ما كان منه و قال ويحك إنا كنا في الجاهلية نحرم علينا الأزواج في مثل هذا من قبل الإسلام فلو أتيت رسول الله ص تسأله عن ذلك فجاءت خولة بنت ثعلبة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله زوجي ظاهر مني و هو أبو أولادي و ابن عمي قد كان هذا الظهار في الجاهلية يحرم الزوجات على الأزواج أبدا فقال لها ما أظنك إلا أن حرمت عليه إلى آخر الأبد فجزعت جزعا شديدا و بكت ثم قامت فرفعت يديها إلى السماء و قالت إلى الله أشكو فراق زوجي فرحمها أهل البيت و بكوا لبكائها فأنزل الله على نبيه قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إلى قوله وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ... فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فقال لها رسول الله ص قولي لأوس بن الصامت زوجك يعتق نسمة فقالت يا رسول الله و أنى له نسمة لا و الله ما له خادم غيري قال فيصوم شهرين متتابعين قالت إنه شيخ كبير لا يقدر على الصيام قال فمريه أن يتصدق على ستين مسكينا قالت و أنى له الصدقة فو الله ما بين لابتيها أحوج منا قال فقولي فليمض إلى أم المنذر فليأخذ منها شطر وسق تمر فليتصدق على ستين مسكينا قال فعادت إلى أوس فقال لها ما وراك قال خير و أنت ذميم إن رسول الله ص يأمرك أن تمضي إلى أم المنذر فتأخذ منها وسق تمر فلتصدق به على ستين مسكينا و مثل ذلك في اللعان أن رسول الله ص لما رجع من غزاة تبوك قام إليه عويمر بن الحارث العجلاني فقال يا رسول الله إن امرأتي زنت بشريك بن السمخاط فأعرض عنه فأعاد عليه القول فأعرض عنه فأعاد ثالثة فقام ص و دخل فنزل اللعان فخرج إليه فقال ائتني بأهلك فقد أنزل الله فيكما قرآنا فمضى و أتى بأهله و أتى معها قومها و كانت في شرف من الأنصار فوافوا رسول الله ص و هو يصلي العصر فلما فرغ أقبل عليهما و قال لهما تقدما إلى المنبر فلاعنا فتقدم عويمر إلى المنبر فتلا عليهما رسول الله ص آية اللعان وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به فقال لها رسول الله ص
و العني نفسك بالخامسة فشهدت و قالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به فقال لهما رسول الله ص اذهبا و لن يحل لك و لن تحلي له أبدا فقال عويمر يا رسول الله فالذي أعطيتها فقال له إن كنت صادقا فهو لها بما استحللته من فرجها و إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه و فرق بينهما و مثله أن قوما من أصحاب رسول الله ص ترهبوا و حرموا أنفسهم من طيبات الدنيا و حلفوا على ذلك أنهم لا يرجعون إلى ما كانوا عليه أبدا و لا يدخلون فيه بعد وقتهم ذلك منهم عثمان بن مظعون و سلمان و تمام عشرة من المهاجرين و الأنصار فأما عثمان بن مظعون فحرم على نفسه النساء و الآخر حرم الإفطار بالنهار إلى غير ذلك من مشاق التكليف فجاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى بيت أم سلمة فقالت لها لم عطلت نفسك من الطيب و الصبغ و الخضاب و غيره فقالت لأن عثمان بن مظعون زوجي ما قربني مذ كذا و كذا قالت أم سلمة و لم ذا قالت لأنه قد حرم على نفسه النساء و ترهب فأخبرت أم سلمة رسول الله ص بذلك و خرج إلى أصحابه و قال أ ترغبون عن النساء إني آتي النساء و أفطر بالنهار و أنام الليل فمن رغب عن سنتي فليس مني و أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فقالوا يا رسول الله إنا قد حلفنا على ذلك فأنزل الله عز و جل لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ إلى قوله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ و مثله أن قوما من الأنصار كانوا يعرفون ببني أبيرق و كانوا منافقين قد أظهروا الإسلام و أسروا النفاق و هم ثلاثة إخوة يقال لهم بشر و مبشر و بشير و كان بشر يكنى أبا طعمة و كان رجلا حثيثا شاعرا قال فنقبوا على رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن زيد بن عامر و كان عم قتادة بن النعمان الأنصاري و كان قتادة ممن شهد بدرا فأخذوا طعاما كان قد أعده لعياله و سيفا و درعا فقال رفاعة لابن أخيه قتادة إن بني أبيرق قد فعلوا بي كذا فلما بلغ بني أبيرق ذلك جاءوا إليهما و قالوا لهما إن هذا من عمل لبيد بن سهل و كان لبيد بن سهل رجلا صالحا شجاعا بطلا إلا أنه فقير لا مال له فبلغ لبيدا قولهم فأخذ سيفه و خرج إليهم فقال لهم يا بني أبيرق أ ترموني بالسرقة و أنتم أولى به مني و الله لتبينن ذلك أو لأمكنن سيفي منكم فلا يزالوا يلاطفونه حتى رجع عنهم و قالوا له أنت بريء من هذا فجاء قتادة بن النعمان إلى رسول الله ص فقال له بأبي أنت و أمي إن أهل بيت منا نقبوا على عمي و أخذوا له كذا و كذا و هم أهل بيت سوء و ذكرهم بقبيح فبلغ ذلك بني أبيرق فمشوا إلى رسول الله ص و معهم رجل من بني عمهم يقال له أشتر بن عروة و كان رجلا فصيحا خطيبا فقال يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا لهم حسب و نسب و صلاح فرماهم بالسرق و ذكرهم بالقبيح و قال فيهم غير الواجب قال رسول الله ص إن كان ما قلته حقا فبئس ما صنع فاغتم قتادة من ذلك و رجع إلى عمه فقال يا ليتني مت و لم أكن كلمت رسول الله ص في هذا فأنزل الله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً إلى قوله وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً و مثله أن قريشا كانوا إذا حجوا وقفوا بالمزدلفة و لم يقفوا بعرفات
و كان تلبيتهم إذا أحرموا في الجاهلية لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك فجاءهم إبليس في صورة شيخ و قال لهم ليس هذا تلبية أسلافكم قالوا كيف كانت تلبية أسلافنا فقال كانت اللهم لبيك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لك لا شريك لك إلا شريكا هو لك فنفرت قريش من قوله فقال لا تنفروا من قولي و على رسلكم حتى آتي آخر كلامي فقالوا له قل فقال إلا شريك لك هو لك تملكه و ما ملك أ لا ترون أنه تملك الشريك و الشريك لا يملكه فرضيت قريش بذلك فلما بعث الله سبحانه رسوله ص نهاهم عن ذلك و قال إن هذا شريك فقالوا ليس بشريك لأنه لا يملكه و ما ملك فأنزل الله سبحانه ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ إلى آخر الآية فأعلمهم أنهم لا يرضون بهذا فكيف ينسبون إلى الله و مثله حديث تميم الداري مع ابن مندي و ابن أبي مارية و ما كان من خبرهم في السفر و كانا رجلين نصرانيين و تميم الداري رجل من رءوس المسلمين خرجوا في سفر لهم و كان مع تميم الداري خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة من ذهب أخرج معه ليبيعه في بعض أسواق العرب فلما فصلوا عن المدينة اعتل تميم علة شديدة فلما حضرته الوفاة دفع جميع ما كان معه إلى ابن مندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى أهله و ذريته فلما قدما إلى المدينة أخذا المتاع و الآنية و القلادة فسألوهما هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق نفقة واسعة قالا ما مرض إلا أياما قلائل قالوا فهل سرقت منه شيء من متاعه في سفره هذا قالا لا لم يسرق منه شيء قالوا فهل اتجر معكما في سفره تجارة خسر فيها قالا لم يتجر في شيء قالوا فإنا افتقدنا أفضل شيء كان معه آنية منقوشة بالذهب و قلادة من ذهب فقالا أما الذي دفعه إلينا فقد أديناه إليكم فقدموهما إلى رسول الله ص فأوجب عليهما اليمين فحلفا و خلى سبيلهما ثم إن تلك الآنية و القلادة ظهرت عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله فأخبروه فأنزل الله عز و جل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فأطلق سبحانه شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان ذلك في السفر و لم يجدوا أحدا من المسلمين عند حضور الموت ثم قال تعالى تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ يعني صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أنهما أحق بذلك يعني تعالى يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما فإنهما كذبا فيما حلفا و لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ فأمر رسول الله ص أولياءهم أن يحلفوا بالله على ما ادعوه فحلفوا فلما حلفوا أخذ رسول الله ص الآنية و القلادة من ابن مندي و ابن أبي مارية و ردهما إلى أولياء تميم
ثم قال الله عز و جل ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا و منه الحديث في أمر عائشة و ما رماها به عبد الله بن أبي بن سلول و حسان بن ثابت و مسطح بن أثاثة فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية فكل ما كان من هذا و شبهه في كتاب الله تعالى فهو تأويله قبل تنزيله و مثله في القرآن كثير في مواضع شتى و أما ما تأويله بعد تنزيله فهي الأمور التي أخبر الله عز و جل رسوله ص أنها ستكون بعده مثل ما أخبر به من أمور القاسطين و المارقين و الخوارج و قتل عمار جرى ذلك المجرى و أخبار الساعة و الرجعة و صفات القيامة مثل قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً و قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ الآية و قوله سبحانه وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ و قوله تعالى وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ و قوله عز و جل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ إلى آخر الآية و قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فنزلت هذه و لم يكن غلبت و غلبت بعد ذلك و مثله وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فهذه الآيات و أشباههما نزلت قبل تأويلها و كل ذلك تأويله بعد تنزيله و أما ما تأويله مع تنزيله فمثل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فيحتاج من سمع هذا التنزيل عن رسول الله ص أن يعرف هؤلاء الصادقين الذين أمروا بالكينونية معهم و يجب على الرسول أن يدل عليهم و يجب على الأمة حينئذ امتثال الأمر و مثله قوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فلم يستغن الناس في هذا المعنى بالتنزيل دون التفسير كما استغنوا بالآيات المتقدمة التي ذكرت في آيات ما تأويله في تنزيله اللاتي ذكرناها في الآيات المتقدمة إلا حين بين لهم رسول الله ص أن الولاة للأمر الذي فرض الله طاعتهم من عترته المنصوص عليهم و مثله قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فلم يستغن الناس عن بيان ذلك من رسول الله ص و حدود الصلاة كيف يصلونها و عددها و ركوعها و سجودها و مواقيتها و ما يتصل بها و كذلك الزكاة و الصوم و فرائض الحج و سائر الفرائض إنما أنزلها الله و أمر بها في كتابه مجملة غير مشروحة للناس في معنى التنزيل و كان رسول الله ص هو المفسر لها و المعلم للأمة كيف يؤدونها و بهذه الطريقة وجب عليه ص تعريف الأمة الصادقين عن الله عز و جل وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً
و مثله قوله سبحانه في سورة التوبة وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ و مثله قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ و مثله قوله عز و جل وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و مثل قوله عز و جل لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ فوجب على الأمة أن يعرفوا هؤلاء المنزل فيهم هذه الآيات من هم و من غضب الله عليهم ليعرفوا بأسمائهم حتى يتبرءوا منهم و لا يتولوهم قال الله تعالى وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ و مثل ذلك كثير في كتاب الله تعالى من الأمر بطاعة الأصفياء و نعتهم و التبري ممن خالفهم و قد خرج رسول الله ص مما وجب عليه و لم يمض من الدنيا حتى بين للأمة حال الأولياء من أولي الأمر و نص عليهم و أخذ البيعة على الأمة بالسمع لهم و الطاعة و أبان لهم أيضا أسماء من نهاهم عن ولايتهم فما أقل من أطاع في ذلك و ما أكثر من عصى فيه و مال إلى الدنيا و زخرفها فالويل لهم و أما ما أنزل الله تعالى في كتابه مما تأويله حكاية في نفس تنزيله و شرح معناه فمن ذلك قصة أهل الكهف و ذلك أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر نضر بن حارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط و عاص بن وائل إلى رث و إلى نجران ليتعلموا من اليهود و النصارى مسائل يلقونها على رسول الله ص فقال لهم علماء اليهود و النصارى سلوه عن مسائل فإن أجابكم عنها فهو النبي المنتظر الذي أخبرت به التوراة ثم تسألوه عن مسألة أخرى فإن ادعى علمها فهو كاذب لأنه لا يعلم علمها غير الله فقالوا و ما هذه الثلاث مسائل قالوا سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول غابوا ثم ناموا كم مقدار ما ناموا إلى أن انتبهوا و كم كان عددهم و لما انتبهوا ما الذي صنعوا و صنعه قومهم و كم لهم من حيث انتبهوا إلى يومنا هذا و ما كانت قصتهم و سلوه عن موسى بن عمران كيف كان حاله مع العالم حين اتبعه و فارقه و سلوه عن طائف طاف الشرق و الغرب من مطلع الشمس إلى مغربها من كان و كيف كان حاله ثم كتبوا لهم شرح حال الثلاث مسائل على ما عندهم في التوراة قالوا لهم فما المسألة الأخرى قال سلوه عن قيام الساعة فقدم الثلاثة نفر بالمسائل إلى قريش و هم قاطعون أن لا علم لديه منها فمشت قريش إلى رسول الله ص و هو في الحجر و عنده عمه أبو طالب فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك محمدا خالف قومه و سفه أحلامهم و عاب آلهتهم و سبها و أفسد الشباب من رجالهم و فرق جماعتهم و زعم أن أخبار السماء تأتيه و قد جئنا بمسائل فإن أخبرنا بها علمنا أنه صادق و إن لم يخبرنا بها علمنا أنه كاذب فقال لهم أبو طالب دونكم فسلوه عما بدا لكم تجدوه مليا فقالوا يا محمد أخبرنا عن فئة كانوا في الزمان الأول ثم غابوا ثم ناموا و انتبهوا كم عددهم و كم ناموا و ما كان خبرهم مع قومهم و أخبرنا عن موسى بن عمران و العالم الذي اتبعه كيف كانت قصته معه و أخبرنا عن طائف طاف الشرق و الغرب من مطلع الشمس إلى مغربها و كيف كان خبره فقال لهم رسول الله ص إني لا أخبركم بشيء إلا من عند ربي و إنما أنتظر الوحي يجيء ثم أخبركم بهذا غدا و لم يستثن إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتى شك جماعة من أصحابه و اغتم رسول الله ص و فرحت قريش بذلك و أكثر المشركون القول فلما كان بعد أربعين صباحا نزل عليه بسورة الكهف و فيها قصص ثلاث مسائل و المسألة الأخرى فتلاها عليهم
فلما سمعوا بهرهم ما سمعوه و قالوا قد بينت فأحسنت إلا أن المسألة المفردة ما فهمنا الجواب عنها فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها إلى قوله سبحانه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ و مثل قصة عبد الله بن أبي بن سلول و ذلك أن رسول الله ص لما خرج في غزاة تبوك نزل في منصرفه منزلا قليل الماء و كان عبد الله بن أبي بن سلول رجلا شريفا مطاعا في قومه و كان يضرب قبته وسط العسكر فيجتمع إليه قومه من الخزرج و من كان على مثل رأيه من المنافقين فاجتمع الناس على بئر كانت في ذلك المنزل قليلة الماء و كان في العسكر رجل من المهاجرين يقال لها جهجهان بن وبر فأدلى دلوه و أدلى معه رجل يقال له سنان بن عبد الله من الأنصار فتعلق دلوه بدلو جهجهان فتواثبا و أخذ جهجهان شيئا فضرب به رأس ابن سنان فشجه شجة موضحة و صاح جهجهان إلى قريش و المهاجرين فسمع عبد الله بن أبي بن سلول نداء المهاجرين فقال ما هذا قالوا جهجهان ينتدب المهاجرين و قريشا على الخزرج و الأوس فقال أ و قد فعلوها قالوا نعم قال أما و الله لقد كنت كارها لهذا المسير ثم أقبل على قومه فقال لهم قد قلت لا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا و يخرجوا عنكم أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل و لما سمع زيد بن أرقم ذلك جاء إلى رسول الله ص و كان ابن أرقم أصغرهم سنا فيمن كان في مجلس عبد الله بن أبي بن سلول فقال زيد يا رسول الله قد علمت حال عبد الله بن أبي بن سلول فينا و شرفه و لا يمنعني ذلك أن أخبرك بما سمعت ثم أخبره بالخبر فأمر رسول الله ص بالمسير فقال أصحابه و الله ما هذا وقت مسير و إن ذلك لأمر حدث و لما بلغ الأنصار ما قاله زيد بن أرقم لرسول الله ص لحق به سعد بن عبادة و قال يا رسول الله إن زيد بن أرقم كذب على عبد الله بن أبي بن سلول و إن كان عبد الله قال شيئا من هذا فلا تلمه فإنا كنا نظمنا له الجزع اليماني تاجا له لنتوجه فيكون ملكا علينا فلما وافيت يا رسول الله رأى أنك غلبته على أمر قد كان استتب له ثم أقبل سعد على زيد فقال يا زيد عمدت إلى شريفنا فكذبت عليه فلما نزل رسول الله ص المنزل الثاني مشى قوم عبد الله بن أبي بن سلول إليه فقالوا له امض إلى رسول الله ص حتى يستغفر لك فلوى عبد الله بن أبي بن سلول عنقه و استهزأ فلم يزالوا به حتى صار معهم إلى رسول الله ص فحلف لرسول الله ص أنه لم يقل من ذلك شيئا و أن زيد بن أرقم كذب عليه فأنزل الله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إلى آخر السورة و هذا أبواب التنزيل و التأويل و أما الرد على من أنكر خلق الجنة و النار فقال الله تعالى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى و قال رسول الله ص دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا من ياقوت أحمر يرى داخله من خارجه و خارجه من داخله من نوره فقلت يا جبرئيل لمن هذا القصر فقال لمن أطاب الكلام و أدام الصيام و أطعم الطعام و تهجد بالليل و الناس نيام فقلت يا رسول الله و في أمتك من يطيق هذا فقال لي ادن مني فدنوت فقال ما تدري ما إطابة الكلام فقلت الله و رسوله أعلم فقال هو سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر أ تدري ما إدامة الصيام فقال الله أعلم
و رسوله فقال من صام شهر رمضان و لم يفطر منه يوما أ تدري ما إطعام الطعام فقلت الله و رسوله أعلم فقال من طلب لعياله ما يكف به وجوههم أ تدري ما التهجد بالليل و الناس نيام فقلت الله و رسوله أعلم فقال من لا ينام حتى يصلي العشاء الآخرة و يريد بالناس هاهنا اليهود و النصارى لأنهم ينامون بين الصلاتين و قال ص لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان و رأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ربما أمسكوا فقلت لهم ما بالكم قد أمسكتم فقالوا حتى تجيئنا النفقة فقلت و ما نفقتكم قالوا قول المؤمن سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر فإذا قال بنينا و إذا سكت أمسكنا و قال ص لما أسري بي إلى سبع سماواته و أخذ جبرئيل بيدي و أدخلني الجنة و أجلسني على درنوك من درانيك الجنة و ناولني سفرجلة فانفلقت نصفين و خرج حوراء منها فقامت بين يدي و قالت السلام عليك يا محمد السلام عليك يا أحمد السلام عليك يا رسول الله فقلت و عليك السلام من أنت فقال أنا الراضية المرضية خلقني الجبار من ثلاثة أنواع أعلائي من الكافور و وسطي من العنبر و أسفلي من المسك عجنت بماء الحيوان قال لي ربي كوني فكنت و هذا و مثله دليل على خلق الجنة و بالعكس من ذلك الكلام في النار و أما من أنكر البداء فقد قال الله في كتابه فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ و ذلك أن الله سبحانه أراد أن يهلك الأرض في ذلك الوقت ثم تداركهم برحمته فبدا له في هلاكهم و أنزل على رسوله وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ و مثله قوله تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثم بدا له وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و كقوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ثم بدا له تعالى فقال الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ و هكذا يجري الأمر في الناسخ و المنسوخ و هو يدل على تصحيح البداء و قوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ فهل يمحو إلا ما كان و هل يثبت إلا ما لم يكن و مثل هذا كثير في كتاب الله عز و جل و أما الرد على من أنكر الثواب و العقاب في الدنيا و بعد الموت قبل القيامة فيقول الله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ الآية وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ يعني السماوات و الأرض قبل القيامة فإذا كانت القيامة بدلت السماوات و الأرض و مثل قوله تعالى وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة و مثل قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ و الغدو و العشي لا يكونان في القيامة التي هي دار الخلود و إنما يكونان في الدنيا و قال الله تعالى في أهل الجنة وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا و البكرة و العشي إنما يكونان من الليل و النهار في جنة الحياة قبل يوم القيامة
قال الله تعالى لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً و مثله قوله سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و أما الرد على من أنكر المعراج فقوله تعالى وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى إلى قوله عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى فسدرة المنتهى في السماء السابعة ثم قال سبحانه وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ و إنما أمر رسوله أن يسأل الرسل في السماء و مثله قوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني الأنبياء ع هذا كله ليلة المعراج و أما الرد على المجبرة و هم الذين زعموا أن الأفعال إنما هي منسوبة إلى العباد مجازا لا حقيقة و إنما حقيقتها لله لا للعباد و تأولوا في ذلك آيات من كتاب الله تعالى لم يعرفوا معناها كما في قوله تعالى وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا فرد عليهم أهل الحق فقالوا لهم إن في قولكم ذلك بطلان الثواب و العقاب إذا نسبتم أفعالكم إلى الله تعالى عما يصفون و كيف يعاقب مخلوقا على غير فعل منه قال الله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ لا يجوز أن يكون إلا على الحقيقة لفعلها و قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و قوله سبحانه كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ و قوله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و قوله تعالى فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ إلى قوله وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ و مثل هذا كثير في كتاب الله تعالى و فيه بطلان ما ادعوه و نسبوه إلى الله تعالى أن يأمر خلقه بما لا يقدرون أو ينهاهم عما ليس فيهم صنع و لا اكتساب و خالفهم فرقة أخرى في قولهم فقالوا إن الأفعال نحن نخلقها عند فعلنا لها و ليس فيها صنع و لا اكتساب و لا مشية و لا إرادة و يكون ما يشاء إبليس و لا يكون ما لا يشاء فضادوا المجبرة في قولهم و ادعوا أنهم خلاقون مع الله و احتجوا بقوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقالوا قوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ يثبت خلاقين غيره فجهلوا هذه اللفظة و لم يعرفوا معنى الخلق و على كم وجه هو فسئل ع عن ذلك و قيل له هل فوض الله تعالى إلى العباد ما يفعلون فقال الله أعز و أجل من ذلك قيل فهل يجبرهم على ما يفعلون قال الله سبحانه أعدل من أن يجبرهم على فعل ثم يعذبهم عليه قيل أ بين الهاتين المنزلتين منزلة ثالثة فقال نعم كما بين السماء و الأرض فقيل ما هي قال سر من أسرار الله و أما الرد على من أنكر الرجعة فقول الله عز و جل وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي إلى الدنيا و أما معنى حشر الآخرة فقوله عز و جل وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً و قوله سبحانه وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ في الرجعة فأما
في القيامة فإنهم يرجعون و مثل قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و هذا لا يكون إلا في الرجعة و مثله ما خاطب الله تعالى به الأئمة و وعدهم من النصر و الانتقام من أعدائهم فقال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً و هذا إنما يكون إذا رجعوا إلى الدنيا و مثله قوله تعالى وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ و قوله سبحانه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي رجعة الدنيا و مثله قوله أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ ثم ماتوا و قوله عز و جل وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فردهم الله تعالى بعد الموت إلى الدنيا و شربوا و نكحوا و مثله خبر العزير و أما من أنكر فضل رسول الله ص فالدليل على بطلان قوله قول الله عز و جل وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فأول من سبق من الرسل إلى بلى محمد رسول الله ص لأن روحه أقرب الأرواح إلى ملكوت الله تعالى و الدليل على ذلك قول جبرئيل ع لما أسري برسول الله ص إلى السماء السابعة قال يا محمد تقدم فإنك قد وطئت موطئا لم يطأ قبلك ملك مقرب و لا نبي مرسل فلو لا أن روحه كانت من ذلك المكان لم يقدر أن يتجاوزه و ذلك أنه إذا أمر الله تعالى فأول ما يصل أمره إلى رسول الله ص لقربه إلى ملكوته ثم سائر الأنبياء على طبقاتهم و يزيد ذلك بيانا قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فأفضل الأنبياء الخمسة و أفضل الخمسة محمد صلى الله عليه و آله و عليهم أجمعين قال الله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ و الدليل على أنه أفضل الأنبياء أن الله سبحانه أخذ ميثاقه على سائر الأنبياء فقال سبحانه وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فهذا بيان فضل رسول الله ص على سائر المرسلين و النبيين و نطق به الكتاب و لما أسري برسول الله ص إلى السماء الرابعة و دخل إلى البيت المعمور جمع الله عز و جل له من النبيين من آدم فهلم حتى صلى بهم قال الله تعالى وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ و في هذا مقنع لمن تأمله و أما عصمة الأنبياء و المرسلين و الأوصياء ع فقد قيل في ذلك أقاويل تختلف قال بعض الناس هو مانع من الله تعالى يمنعهم عن المعاصي فيما فرض الله عليهم من التبليغ عنه إلى خلقه و هو فعل الله دونهم و قال آخرون العصمة من فعلهم لأنهم يحمدون عليها و قال آخرون يجوز على الأنبياء و المرسلين و الأوصياء
ما يجوز على غيرهم من الذنوب كلها و الأول باطل لقوله وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا و قوله تعالى وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع لأن العصم هو المنع و قد غلط من أجرى الرسل و الأنبياء مجرى العباد يقع منهم الأفعال الذميمة من أربعة وجوه من الحسد و الحرص و الشهوة و الغضب فجميع تصرفات الناس التي هي من قبل الأجساد لا يحدث إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة و الأنبياء و الرسل و الأوصياء ع لا يقع منهم فعل من جهة الحسد لأن الحاسد إنما يحسد من هو فوقه و ليس فوق الأنبياء و الرسل و الأوصياء أحد منزلة أعلى من منازلهم فيحسدوه عليها و لا يجوز أن يقع منهم فعل من جهة الحرص في الدنيا على شيء من أحوالها لأن الحرص مقرون به الأمل و حال الأمل منقطعة عنهم لأنهم يعرفون مواضعهم من كرامة الله عز و جل و أما الشهوة فجعلها الله تعالى فيهم لما أراده من بقائهم في الدنيا و انقطاع الخلائق لهم و فاقتهم إليهم فلو لا موضع الشهوة لما أكلوا فبطل قوة أجسامهم عن تكليفاتهم و يبطل حال النكاح فلا يكون لهم نسل و لا ولد و ما جرى مجرى ذلك فالشهوة مركبة فيهم لذلك و هم معصومون مما يعرض لغيرهم من قبيح الشهوات و يكون الاصطبار و ترك الغضب فيهم فهم لا يغضبون إلا في طاعة الله تعالى قال الله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً فالفصل يقع بين الأنبياء و الرسل و الأوصياء من جهة الغضب و لا يكون غضبهم إلا لله تعالى و في الله سبحانه فهذا معنى عصمة الله تعالى الأنبياء و الرسل و الأوصياء فهم صلوات الله عليهم يجتمعون مع العباد في الشهوة و الغضب على الأسماء و يباينونهم في المعنى و أما الرد على المشبهة فقول الله عز و جل وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فإذا انتهى إلى الله فأمسكوا و تكلموا فيما دون ذلك من العرش فما دونه و ارجعوا إلى الكلام في مخاطبة النبي ص و المراد غيره فمن ذلك قول الله عز و جل وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً و المخاطبة لرسول الله ص و المراد بالخطاب الأمة و منه قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ و المخاطبة له و المراد بالخطاب أمته أما ما نزل في كتاب الله تعالى مما هو مخاطبة لقوم و المراد به قوم آخرون فقول الله عز و جل وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً و المعنى و الخطاب مصروف إلى أمة محمد ص و أصل التنزيل لبني إسرائيل و أما الاحتجاج على من أنكر الحدوث مع ما تقدم فهو أنا لما رأينا هذا العالم المتحرك متناهية أزمانه و أعيانه و حركاته و أكوانه و جميع ما فيه و وجدنا ما غاب عنا من ذلك يلحقه النهاية و وجدنا العقل يتعلق بما لا نهاية و لو لا
ذلك لم يجد العقل دليلا يفرق ما بينهما و لم يكن لنا بد من إثبات ما لا نهاية له معلوما معقولا أبديا سرمديا ليس بمعلوم أنه مقصور القوى و لا مقدور و لا متجزئ و لا منقسم فوجب عند ذلك أن يكون ما لا يتناهى مثل ما يتناهى و إذ قد ثبت لنا ذلك فقد ثبت في عقولنا أن ما لا يتناهى هو القديم الأزلي و إذا ثبت شيء قديم و شيء محدث فقد استغنى القديم البارئ للأشياء عن المحدث الذي أنشأه و برأه و أحدثه و صح عندنا بالحجة العقلية أنه المحدث للأشياء و أنه لا خالق إلا هو فتبارك الله المحدث لكل محدث الصانع لكل مصنوع المبتدع للأشياء من غير شيء و إذا صح أني لا أقدر أن أحدث مثلي استحال أن يحدثني مثلي فتعالى المحدث للأشياء عما يقول الملحدون علوا كبيرا و لما لم يكن إلى إثبات صانع العالم طريق إلا بالعقل لأنه لا يحس فيدركه العيان أو شيء من الحواس فلو كان غير واحد بل اثنين أو أكثر لأوجب العقل عدة صناع كما أوجب إثبات الصانع الواحد و لو كان صانع العالم اثنين لم يجر تدبيرهما على نظام و لم ينسق أحوالهما على إحكام و لا تمام لأنه معقول من الاثنين الاختلاف في دواعيهما و أفعالهما و لا يجوز أن يقال إنهما متفقان و لا يختلفان لأن كل من جاز عليه الاتفاق جاز عليه الاختلاف أ لا ترى أن المتفقين لا يخلو أن يقدر كل منهما على ذلك أو لا يقدر كل منهما على ذلك فإن قدرا كانا جميعا عاجزين و إن لم يقدرا كانا جاهلين و العاجز و الجاهل لا يكون إلها و لا قديما و أما الرد على من قال بالرأي و القياس و الاستحسان و الاجتهاد و من يقول إن الاختلاف رحمة فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي و القياس قد استعمل شبهات الأحكام لما عجزوا عن عرفان إصابة الحكم و قالوا ما من حادثة إلا و لله فيها حكم و لا يخلو الحكم من وجهين إما أن يكون نصا أو دليلا و إذ رأينا الحادثة قد عدم نصها فزعنا أي رجعنا إلى الاستدلال عليها بأشباهها و نظائرها لأنا متى لم نفزع إلى ذلك أخلناها من أن يكون لها حكم و لا يجوز أن يبطل حكم الله في حادثة من الحوادث لأنه سبحانه يقول ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ و لما رأينا الحكم لا يخلو و الحدث لا ينفك من الحكم التمسناه من النظائر لكي لا تخلو الحادثة من الحكم بالنص أو بالاستدلال و هذا جائز عندنا قالوا و قد رأينا الله تعالى قاس في كتابه بالتشبيه و التمثيل فقال خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فشبه الشيء بأقرب الأشياء به شبها قالوا و قد رأينا النبي استعمل الرأي و القياس بقوله للمرأة الخثعمية حين سألت عن حجها عن أبيها فقال أ رأيت لو كان على أبيك دين لكنت تقضينه عنه فقد أفتاها بشيء لم تسأل عنه و قوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن أ رأيت يا معاذ إن نزلت بك حادثة لم تجد لها في كتاب الله عز و جل أثرا و لا في السنة ما أنت صانع قال أستعمل رأيي فيها فقال الحمد لله الذي وفق رسوله إلى ماء يرضيه قالوا و قد استعمل الرأي و القياس كثير من الصحابة و نحن على آثارهم مقتدون و لهم احتجاج كثير في مثل هذا فقد كذبوا على الله تعالى في قولهم إنه احتاج إلى القياس و كذبوا على رسوله ص قالوا عنه ما لم يقل من الجواب المستحيل فنقول لهم ردا عليهم إن أصول أحكام العبادات و ما يحدث في الأمة من النوازل و الحوادث لما كانت موجودة عن السمع و النطق و النص المختص في كتاب ففروعها مثلها و إنما أردنا بالأصول في جميع العبادات و المفترضات التي نص الله عز و جل عليها و أخبرنا عن وجوبها و عن النبي ص و عن وصيه المنصوص عليه بعده في البيان من أوقاتها و كيفيتها و أقدارها في مقاديرها عن الله عز و جل مثل فرض الصلاة
و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و حد الزنا و حد السرق و أشباهها مما نزل في الكتاب مجملا بلا تفسير فكان رسول الله ص هو المفسر و المعبر عن جمل الفرائض فعرفنا أن فرض صلاة الظهر أربع و وقتها بعد زوال الشمس يفصل مقدار ما تقرأ الإنسان ثلاثين آية و هذا الفرق بين صلاة الزوال و بين صلاة الظهر و وقت العصر آخر وقت الظهر إلى وقت مهبط الشمس و أن المغرب ثلاث ركعات و وقتها حين الغروب إلى إدبار الشفق و الحمرة و أن وقت صلاة العشاء الآخرة و هي أربع ركعات و أوسع الأوقات أول وقتها حين اشتباك النجوم و غيبوبة الشفق و انبساط الكلام و آخر وقتها ثلث الليل و روي نصفه و الصبح ركعتان و وقته طلوع الفجر إلى إسفار الصبح و أن الزكاة يجب في مال دون مال و مقدار دون مقدار و وقت دون أوقات و كذلك جميع الفرائض التي أوجبها الله سبحانه على عباده بمبلغ الطاقات و كنه الاستطاعات فلو لا ما ورد النص به من تنزيل كتاب الله تعالى و ما أبان رسوله و فسره لنا و إبانة الأثر و صحيح الخبر لقوم آخرين لم يكن لأحد من الناس المأمورين بأداء الفرائض أن يوجب ذلك بعقله و إقامة معاني فروضه و بيان مراد الله تعالى في جميع ما قدمنا ذكره على حقيقة شروطه و لا تصح إقامة فروضه بالقياس و الرأي و لا أن يهتدي العقول على انفرادها و لو انفرد لا يوجب فرض صلاة الظهر أربعا دون خمس أو ثلاث و لا يفصل أيضا بين قبل الزوال و بعده و لا تقدم السجود على الركوع و الركوع على السجود أو حد زنا المحصن و البكر و لا بين العقارات و المال النقد في وجوب الزكاة و لو خلينا بين عقولنا و بين هذه الفرائض لم يصح فعل ذلك كله بالعقل على مجرده و لم يفصل بين القياس و ما فصلت الشريعة و النصوص إذ كانت الشريعة موجودة عن السمع و النطق الذي ليس لنا أن نتجاوز حدودها و لو جاز ذلك و صح لاستغنينا عن إرسال الرسل إلينا بالأمر و النهي منه تعالى و لما كانت الأصول لا تجب على ما هي من بيان فرضها إلا بالسمع و النطق فكذلك الفروع و الحوادث التي تنوب و تطرق منه تعالى لم يوجب الحكم فيها بالقياس دون النص بالسمع و النطق و أما احتجاجهم و اعتلالهم بأن القياس هو التشبيه و التمثيل و أن الحكم جائز به و رد الحوادث أيضا إليه فذلك محال بين و مقام شنيع لأنا نجد شيئا قد وفق الله تعالى بين أحكامها و إن كانت متفرقة و نجد أشياء و قد فرق الله بين أحكامها و إن كانت مجتمعة فدلنا ذلك من فعل الله تعالى على أن اشتباه الشيئين غير موجب لاشتباه الحكمين كما ادعاه مستحلو القياس و الرأي و ذلك أنهم لما عجزوا عن إقامة الأحكام على ما أنزل في كتاب الله تعالى و عدلوا عن أخذها من أهلها ممن فرض الله سبحانه طاعتهم على عباده ممن لا يزل و لا يخطئ و لا ينسى الذين أنزل الله كتابه عليهم و أمر الأمة برد ما اشتبه عليهم من الأحكام إليهم و طلبوا الرئاسة رغبة في حطام الدنيا و ركبوا طرائق أسلافهم ممن ادعى منزلة أولياء الله لزمهم العجز فادعوا أن الرأي و القياس واجب فبان لذوي العقول عجزهم و إلحادهم في دين الله تعالى و ذلك أن العقل على مجرده و انفراده لا يوجب و لا يفصل بين أخذ شيء بغصب و نهب و بين أخذه بسرقة و إن كانا مشتبهين و الواحد منهما يوجب القطع و الآخر لا يوجبه و يدل أيضا على فساد ما احتجوا به من رد الشيء في الحكم إلى اعتبار نظائره أنا نجد الزنا من المحصن و البكر سواء و أحدهما يوجب الرجم و الآخر يوجب الجلد فعلمنا أن الأحكام مأخذها من السمع و النطق على حسب ما يرد به التوقيف دون اعتبار النظائر و الأعيان و هذه دلالة واضحة على فساد قولهم و لو كان الحكم في الدين بالقياس لكان باطن القدمين أولى بالمسح من ظاهرهما قال الله تعالى حكاية عن إبليس في قوله بالقياس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فذمه الله لما لم يدر ما بينهما و قد ذم رسول الله ص و الأئمة ع القياس يرث ذلك بعضهم عن بعض و يرويه عنهم أولياؤهم
و أما الرد على من قال بالاجتهاد فإنهم يزعمون أن كل مجتهد مصيب على أنهم لا يقولون مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحق عند الله عز و جل لأنهم في حال اجتهادهم ينتقلون من اجتهاد إلى اجتهاد و احتجاجهم أن الحكم به قاطع قول باطل منقطع منتقض فأي دليل أدل من هذا على ضعف اعتقاد من قال بالاجتهاد و الرأي إذ كان حالهم تئول إلى ما وصفناه و زعموا أيضا أنه محال أن يجتهدوا فيذهب الحق من جماعتهم و قولهم بذلك فاسد لأنهم إن اجتهدوا فاختلفوا فالتقصير واقع بهم و أعجب من هذا أنهم يقولون مع قولهم بالاجتهاد و الرأي إن الله تعالى بهذا المذهب لم يكلفهم إلا بما يطيقونه و كلام النبي ص و احتجوا بقول الله تعالى وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و هو بزعمهم وجه الاجتهاد و غلطوا في هذا التأويل غلطا بينا قالوا و من قول الرسول ما قاله لمعاذ بن جبل و ادعوا أنه أجاز ذلك و الصحيح أن الله سبحانه لم يكلف العباد اجتهادا لأنه قد نصب لهم أدلة و أقام لهم إعلاما و أثبت عليهم الحجة فمحال أن يضطرهم إلى ما لا يطيقون بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال و الحرام و لم يتركهم سدى و مهما عجزوا عنه ردوه إلى الرسل و الأئمة صلوات الله عليهم و هو يقول ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ و يقول الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي و يقول سبحانه فيه تبيان كل شيء و من الدليل على فساد قولهم في الاجتهاد و الرأي و القياس أنه لن يخلو الشيء أن يكون تمثيلا على أصل أو يستخرج البحث عنه فإن كان بحث عنه فإنه لا يجوز في عدل الله تعالى تكليف العباد ذلك و إن كان تمثيلا على أصل فلن يخلو الأصل أن يكون حرم لمصلحة الخلق أو لمعنى في نفسه خاص فإن كان حرم لمعنى في نفسه خاص فقد كان قبل ذلك حلالا ثم حرم بعد ذلك لمعنى فيه بل لو كان العلة المعنى لم يكن التحريم له أولى من التحليل و لما فسد هذا الوجه من دعواهم علمنا أنه لمعنى أن الله تعالى إنما حرم الأشياء لمصلحة الخلق لا للعلة التي فيها و نحن إنما ننفي القول بالاجتهاد لأن الحق عندنا مما قدمناه ذكره من الأصول التي نصبها الله تعالى و الدلائل التي أقامها لنا كالكتاب و السنة و الإمام الحجة و لن يخلو الخلق عندنا من أحد هذه الأربعة وجوه التي ذكرناها و ما خالفها فباطل و أما اعتلالهم بما اعتلوا به من شطر المسجد الحرام و البيت فمستحيل بين الخطإ لأن معنى شطره نحوه فبطل الاجتهاد فيه و زعموا أن على الذي لم يهتد إلى الأدلة و الأعلام المنصوصة للقبلة أن يستعمل رأيه حتى يصيب بغاية اجتهاده و لم يقولوا حتى يصيب نحو توجهه إليه و قد قال الله عز و جل وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني تعالى على نصب من العلامات و الأدلة و هي التي نص على حكمها بذكر العلامات و النجوم في ظاهر الآية ثم قال تعالى وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و لم يقل و إن الذين اضطروا إلى الاجتهاد فدل على أن الله تعالى أوجب عليهم استعمال الدليل في التوجه و عند الاشتباه عليهم لإصابة الحق فمعنى شطره نحوه يعني تعالى نحو علاماته المنصوصة عليه و معنى شطره نحوه إن كان مرئيا و بالدلائل و الأعلام إن كان محجوبا فلو علمت القبلة الواجب استقبالها و التولي و التوجه إليها و لم يكن الدليل عليها موجودا حتى استوى الجهات كلها له حينئذ أن يصلي بحال اجتهاد و حيث أحب و اختار حتى يكون على يقين من بيان الأدلة المنصوبة و العلامات المبثوثة فإن مال عن هذا الموضع ما ذكرناه حتى يجعل الشرق غربا و الغرب شرقا زال معنى اجتهاده و فسد اعتقاده
و قد جاء عن النبي ص خبر منصوص مجمع عليه أن الأدلة المنصوبة على بيت الله الحرام لا يذهب بكليتها بحادثة من الحوادث منا من الله عز و جل على عباده في إقامة ما افترضه عليهم و زعمت طائفة ممن يقول بالاجتهاد أنه إذا أشكل عليه من جهة حتى يستوي عنده الجهات كلها تحرى و اتبع اجتهاده حيث بلغ به فإن ذلك جائز بزعمهم و إن كان لم يصب وجه حقيقة القبلة و زعموا أيضا أنه إذا كان على هذا السبيل مائة رجل لم يجز لأحد منهم أن يتبع اجتهاد الآخر فهم بهذه الأقوال ينقضون أصل اعتقادهم و زعموا أن الضرير و المكفوف له أن يقتدي بأحد هؤلاء المجتهدين فله أن ينتقل عن قول الأول منهم إلى قول الآخر فجعلوا مع اجتهادهم كمن لم يجتهد فلم يئول بهم الاجتهاد إلا إلى حال الضلال و الانتقال من حال إلى حال فأي دين أبدع و أي قول أشنع من هذه المقالة أو أبين عجزا ممن يظن أنه من أهل الإسلام و هو على مثل هذا الحال نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى و اتباع الهوى و إياه نستعين على ما يقرب منه إنه سميع مجيب
أقول وجدت رسالة قديمة مفتتحها هكذا
حدثنا جعفر بن محمد بن قولويه القمي رحمه الله قال حدثني سعد الأشعري القمي أبو القاسم رحمه الله و هو مصنفه الحمد لله ذي النعماء و الآلاء و المجد و العز و الكبرياء و صلى الله على محمد سيد الأنبياء و على آله البررة الأتقياء روى مشايخنا عن أصحابنا عن أبي عبد الله ع قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل
و ساق الحديث إلى آخره لكنه غير الترتيب و فرقه على الأبواب و زاد فيما بين ذلك بعض الأخبار
باب 129- احتجاجات أمير المؤمنين صلوات الله عليه على الزنديق المدعي للتناقض في القرآن و أمثاله
1- ج، ]الإحتجاج[ جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين ع و قال لو لا ما في القرآن من الاختلاف و التناقض لدخلت في دينكم فقال له علي ع و ما هو قال قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ و قوله فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا و قوله وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا و قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ و قوله وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قوله تعالى يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قوله إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و قوله لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ و قوله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ و قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و قوله وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى و قوله لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الآيتين و قوله ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً و قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ و قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ و قوله بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ و قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ و قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ و قوله وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و قوله وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ و قوله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ قال أمير المؤمنين ع فأما قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ يعني إنما نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئا فصاروا منسيين من الخير و كذلك تفسير قوله عز و جل فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به و برسوله و خافوه بالغيب و أما قوله وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فإن ربنا تبارك و تعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى و لا يغفل بل هو الحفيظ العليم و قد يقول العرب قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي إنه لا يأمر لهم بخير و لا يذكرهم به قال ع و أما قوله عز و جل يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و قوله عز و جل وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قوله عز و جل يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قوله ع إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و قوله لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ و قوله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة و المراد يكفر أهل المعاصي بعضهم ببعض و يلعن بعضهم بعضا و الكفر في هذه الآية البراءة يقول يتبرأ بعضهم من بعض و نظيرها في سورة إبراهيم ع قول الشيطان إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ و قول إبراهيم خليل الرحمن كَفَرْنا بِكُمْ يعني تبرأنا منكم ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيها فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لزالت جميع الخلق عن معايشهم و انصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله و لا يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع و يفضوا إلى الدماء ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و هؤلاء خاصة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد فلم ينفعهم إيمانهم بالله مع مخالفتهم رسله و شكهم فيما أتوا به عن ربهم و نقضهم عهودهم في أوصيائهم و استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير فكذبهم الله بما انتحلوه من الإيمان بقوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فيختم الله على أفواههم و تستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فيشهد بكل معصية كانت منهم ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الأمر و عظم البلاء فذلك قول الله عز و جل يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ الآية
ثم يجتمعون في موطن آخر و يستنطق فيه أولياء الله و أصفياؤه فلا يتكلم أحد إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا فتقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم فأخبروا أنهم قد أدوا ذلك إلى أممهم و يسأل الأمم فتجحد كما قال الله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فيقولون ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فتستشهد الرسل رسول الله ص فيشهد بصدق الرسل و تكذيب من يجحدها من الأمم فيقول لكل أمة منهم بلى قد جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم و كذلك قال الله تعالى لنبيه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فلا يستطيعون رد شهادته خوفا من أن يختم الله على أفواههم و أن تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون و يشهد على منافقي قومه و أمته و كفارهم بإلحادهم و عنادهم و نقضهم عهده و تغييرهم سنته و اعتدائهم على أهل بيته و انقلابهم على أعقابهم و ارتدادهم على أدبارهم و احتذائهم في ذلك سنة من تقدمهم من الأمم الظالمة الخائنة لأنبيائها فيقولون بأجمعهم رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ثم يجتمعون في موطن آخر يكون فيه مقام محمد ص و هو المقام المحمود فيثني على الله عز و جل بما لم يثن عليه أحد قبله ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد ص ثم يثني على الأنبياء بما لم يثن عليهم أحد مثله ثم يثني على كل مؤمن و مؤمنة يبدأ بالصديقين و الشهداء ثم بالصالحين فتحمده أهل السماوات و أهل الأرضين فذلك قوله عز و جل عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ و نصيب و ويل لمن لم يكن له في هذا المقام حظ و لا نصيب ثم يجتمعون في موطن آخر يلجمون فيه و يتبرأ بعضهم من بعض و هذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه نسأل الله بركة ذلك اليوم قال علي ع و أما قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز و جل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى نهر الحيوان فيغتسلون منه و يشربون من آخر فتبيض وجوههم فيذهب عنهم كل أذى و قذى و وعث ثم يؤمرون بدخول الجنة فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم و منه يدخلون الجنة فذلك قوله عز و جل في تسليم الملائكة عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ فعند ذلك أثيبوا بدخول الجنة و النظر إلى ما وعدهم الله عز و جل فذلك قوله تعالى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و الناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة أ لم تسمع إلى قوله تعالى فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي منتظرة بم يرجع المرسلون و أما قوله وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى يعني محمدا ص حين كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز و جل و قوله في آخر الآية ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى رأى جبرئيل ع في صورته مرتين هذه المرة و مرة أخرى و ذلك أن خلق جبرئيل ع خلق عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم و لا صفتهم إلا رب العالمين قال علي ع و أما قوله تعالى ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
كذلك قال الله تعالى قد كان الرسول يوحي إليه رسل السماء فتبلغ رسل السماء إلى رسل الأرض و قد كان الكلام بين رسل أهل الأرض و بينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء و قد قال رسول الله ص يا جبرئيل هل رأيت ربك عز و جل فقال جبرئيل ع إن ربي عز و جل لا يرى فقال رسول الله ص من أين تأخذ الوحي قال آخذه من إسرافيل قال و من أين يأخذه إسرافيل قال يأخذه من ملك من فوقه من الروحانيين قال فمن أين يأخذه ذلك الملك قال يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي و هو كلام الله عز و جل و كلام الله عز و جل ليس بنحو واحد منه ما كلم الله عز و جل به الرسل و منه ما قذف في قلوبهم و منه رؤيا يراها الرسل و منه وحي و تنزيل يتلى و يقرأ فهو كلام الله عز و جل قال علي ع و أما قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فإنما يعني به يوم القيامة عن ثواب ربهم لمحجوبون و قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يخبر محمدا ص عن المشركين و المنافقين الذين لم يستجيبوا لله و لرسوله فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني بذلك العذاب يأتيهم في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى فهذا خبر يخبر به النبي ص عنهم ثم قال يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الآية يعني لم تكن آمنت من قبل أن تجيء هذه الآية و هذه الآية هي طلوع الشمس من مغربها و قال في آية أخرى فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني أرسل عليهم عذابا و كذلك إتيانه بنيانهم حيث قال فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ يعني أرسل عليهم العذاب قال علي ع و أما قوله عز و جل بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ و قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ و قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ و قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يعني البعث فسماه الله لقاء و كذلك قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني من كان يؤمن أنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث و كذلك تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يعني أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون و قال علي ع و أما قوله عز و جل وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها يعني تيقنوا أنهم داخلوها و كذلك قوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ و أما قوله عز و جل للمنافقين وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فهو ظن شك و ليس ظن يقين و الظن ظنان ظن شك و ظن يقين فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين و ما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك قال ع و أما قوله عز و جل وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فهو ميزان العدل تؤخذ به الخلائق يوم القيامة يديل الله تبارك و تعالى الخلائق بعضهم من بعض و يجزيهم بأعمالهم و يقتص للمظلوم من الظالم و معنى قوله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فهو قلة الحساب
و كثرته و الناس يومئذ على طبقات و منازل فمنهم من يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً و منهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يتلبسوا من أمر الدنيا بشيء و إنما الحساب هناك على من تلبس بها هاهنا و منهم من يحاسب على النقير و القطمير و يصير إلى عذاب السعير و منهم أئمة الكفر و قادة الضلالة فأولئك لا يقيم لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً و لا يعبأ بهم لأنهم لم يعبئوا بأمره و نهيه و يوم القيامة هم فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ و من سؤال هذا الزنديق أن قال أجد الله يقول قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ و ما أشبه ذلك فمرة يجعل الفعل لنفسه و مرة لملك الموت و مرة للملائكة و أجده يقول فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ و يقول وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أعلم في الآية الأولى أن الأعمال الصالحة لا تكفر و أعلم في الآية الثانية أن الإيمان و الأعمال الصالحة لا ينفع إلا بعد الاهتداء و أجده يقول وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا فكيف يسأل الحي الأموات قبل البعث و النشور و أجده يقول إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فما هذه الأمانة و من هذا الإنسان و ليس من صفة العزيز الحكيم التلبيس على عباده و أجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و بتكذيبه نوحا لما قال إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بقوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ و بوصفه إبراهيم بأنه عبد كوكبا مرة و مرة قمرا و مرة شمسا و بقوله في يوسف ع وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ و بتهجينه موسى حيث قال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي الآية و ببعثه على داود ع جبرئيل و ميكائيل حيث تسورا المحراب إلى آخر القصة و بحبسه يونس في بطن الحوت حيث ذهب مغاضبا مذنبا فأظهر خطأ الأنبياء و زللهم ثم وارى أسماء من اغتر و فتن خلقه و ضل و أضل و كنى عن أسمائهم في قوله يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي فمن هذا الظالم الذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء و أجده يقول وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا و هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ فمرة يجيئهم و مرة يجيئونه و أجده يخبر أنه يتلو نبيه شاهد منه و كان الذي تلاه عبد الأصنام برهة من دهره و أجده يقول لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فما هذه النعيم الذي يسأل العباد عنه و أجده يقول بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ما هذه البقية و أجده يقول يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ و كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ و أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ما معنى الجنب و الوجه و اليمين و الشمال فإن الأمر في ذلك ملتبس جدا و أجده يقول الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و يقول أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ و هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ و هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ و ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الآية و أجده يقول وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و ليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء و لا كل النساء أيتام فما معنى ذلك و أجده يقول وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ و كيف يظلم الله و من هؤلاء الظلمة و أجده يقول قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فما هذه الواحدة و أجده يقول وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ و قد أرى مخالفي الإسلام معتكفين على باطلهم غير مقلعين عنه و أرى غيرهم من أهل الفساد مختلفين في مذاهبهم يلعن بعضهم بعضا فأي موضع للرحمة العامة المشتملة عليهم و أجده قد بين فضل نبيه على سائر الأنبياء ثم خاطبه في أضعاف ما أثنى
عليه في الكتاب من الإزراء عليه و انخفاض محله و غير ذلك من تهجينه و تأنيبه ما لم يخاطب به أحدا من الأنبياء مثل قوله وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ و قوله وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً و قوله وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ و قوله وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ و هو يقول ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ و كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ فإذا كانت الأشياء تحصى في الإمام و هو وصي النبي فالنبي أولى أن يكون بعيدا من الصفة التي قال فيها وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ و هذه كلها صفات مختلفة و أحوال مناقضة و أمور مشككة فإن يكن الرسول و الكتاب حقا فقد هلكت لشكي في ذلك و إن كانا باطلين فما علي من بأس فقال أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه سبوح قدوس رب الملائكة و الروح تبارك الله و تعالى هو الحي الدائم القائم عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ هات أيضا ما شككت فيه قال حسبي ما ذكرت يا أمير المؤمنين قال ع سأنبئك بتأويل ما سألت وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و عليه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فأما قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و قوله يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ و تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا و تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ و الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فهو تبارك و تعالى أجل و أعظم من أن يتولى ذلك بنفسه و فعل رسله و ملائكته فعله لأنهم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فاصطفى جل ذكره من الملائكة رسلا و سفرة بينه و بين خلقه و هم الذين قال الله فيهم اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ فمن كان من أهل الطاعة تولت قبض روحه ملائكة الرحمة و من كان من أهل المعصية تولى قبض روحه ملائكة النقمة و لملك الموت أعوان من ملائكة الرحمة و النقمة يصدرون عن أمره و فعلهم فعله و كل ما يأتونه منسوب إليه و إذا كان فعلهم فعل ملك الموت ففعل ملك الموت فعل الله لأنه يتوفى الأنفس على يد من يشاء و يعطي و يمنع و يثيب و يعاقب على يد من يشاء و إن فعل أمناؤه فعله كما قال وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ و أما قوله وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ و قوله وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى فإن ذلك كله لا يغني إلا مع الاهتداء و ليس كل من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقا بالنجاة مما هلك به الغواة و لو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد و إقرارها بالله و نجا سائر المقرين بالوحدانية من إبليس فمن دونه مع الكفر و قد بين الله ذلك بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ و بقوله الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ و للإيمان حالات و منازل يطول شرحها و من ذلك أن الإيمان قد يكون على وجهين إيمان بالقلب و إيمان باللسان كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله ص لما قهرهم السيف و شملهم الخوف فإنهم آمنوا بألسنتهم و لم تؤمن قلوبهم فالإيمان بالقلب هو التسليم للرب و من سلم الأمور
لمالكها لم يستكبر عن أمره كما استكبر إبليس عن السجود لآدم و استكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يرد بها غير زخرف الدنيا و التمكين من النظرة فكذلك لا تنفع الصلاة و الصدقة إلا مع الاهتداء إلى سبيل النجاة و طرق الحق و قد قطع الله عذر عباده بتبيين آياته و إرسال رسله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ و لم يخل أرضه من عالم بما يحتاج الخليقة إليه و متعلم على سبيل نجاة أولئك هم الأقلون عددا و قد بين الله ذلك في أمم الأنبياء و جعلهم مثلا لمن تأخر مثل قوله في قوم نوح وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ و قوله فيمن آمن من أمة موسى وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ و قوله في حواري عيسى حيث قال لسائر بني إسرائيل مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يعني أنهم يسلمون لأهل الفضل فضلهم و لا يستكبرون عن أمر ربهم فما أجابه منهم إلا الحواريون و قد جعل الله للعلم أهلا و فرض على العباد طاعتهم بقوله أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و بقوله وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و بقوله اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ و بقوله وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و بقوله وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و البيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء و أبوابها أوصياؤهم فكل عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل الاصطفاء و عهودهم و حدودهم و شرائعهم و سننهم و معالم دينهم مردود غير مقبول و أهله بمحل كفر و إن شملتهم صفة الإيمان أ لم تسمع إلى قول الله تعالى وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه بالله مع دفعه حق أوليائه و حبط عمله وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ و كذلك قال الله سبحانه فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا و هذا كثير في كتاب الله عز و جل و الهداية هي الولاية كما قال الله عز و جل وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ و الَّذِينَ آمَنُوا في هذا الموضع هم المؤتمنون على الخلائق من الحجج و الأوصياء في عصر بعد عصر و ليس كل من أقر أيضا من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمنا إن المنافقين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و يدفعون عهد رسول الله ص بما عهد به من دين الله و عزائمه و براهين نبوته إلى وصيه و يضمرون من الكراهة لذلك و النقض لما أبرمه منه عند إمكان الأمر لهم فيه فيما قد بينه الله لنبيه بقوله فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و بقوله وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ و مثل قوله لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الأمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء و هذا كثير في كتاب الله عز و جل و قد شق على النبي ص ما يئول إليه عاقبة أمرهم
و اطلاع الله إياه على بوارهم فأوحى الله عز و جل فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ و أما قوله وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا فهذا من براهين نبينا ص التي آتاه الله إياها و أوجب به الحجة على سائر خلقه لأنه لما ختم به الأنبياء و جعله الله رسولا إلى جميع الأمم و سائر الملل خصه الله بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه و أقروا أجمعين بفضله و فضل الأوصياء و الحجج في الأرض من بعده و فضل شيعة وصيه من المؤمنين و المؤمنات الذين سلموا لأهل الفضل فضلهم و لم يستكبروا عن أمرهم و عرف من أطاعهم و عصاهم من أممهم و سائر من مضى و من غبر أو تقدم أو تأخر و أما هفوات الأنبياء ع و ما بينه الله في كتابه و وقوع الكناية عن أسماء من اجترم أعظم مما اجترمته الأنبياء ممن شهد الكتاب بظلمهم فإن ذلك من أدل الدلائل على حكمة الله عز و جل الباهرة و قدرته القاهرة و عزته الظاهرة لأنه علم أن براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم و أن منهم من يتخذ بعضهم إلها كالذي كان من النصارى في ابن مريم فذكرها دلالة على تخلفهم عن الكمال الذي تفرد به عز و جل أ لم تسمع إلى قوله في صفة عيسى ع حيث قال فيه و في أمه كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ يعني من أكل الطعام كان له ثفل و من كان له ثفل فهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم و لم يكن عن أسماء الأنبياء تجبرا و تعززا بل تعريفا لأهل الاستبصار أن الكناية عن أسماء ذوي الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى و أنها من فعل المغيرين و المبدلين الذين جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ و اعتاضوا الدنيا من الدين و قد بين الله تعالى قصص المغيرين بقوله لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا و بقوله وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ و بقوله إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ بعد فقد الرسول ما يقيمون به أود باطلهم حسب ما فعلته اليهود و النصارى بعد فقد موسى و عيسى ع من تغيير التوراة و الإنجيل و تحريف الكلم عن مواضعه و بقوله يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ يعني أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما يدل على ما أحدثوه فيه و حرفوا منه و بين عن إفكهم و تلبيسهم و كتمان ما علموه منه و لذلك قال لهم لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ و ضرب مثلهم بقوله فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فالزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل و يبطل و يتلاشى عند التحصيل و الذي ينفع الناس منه فالتنزيل الحقيقي الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و القلوب تقبله و الأرض في هذا الموضع هي محل العلم و قراره و ليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين و لا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل و الكفر و الملل المنحرفة عن قبلتنا و إبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق و المخالف بوقوع الاصطلاح على الايتمار لهم و الرضا بهم و لأن
أهل الباطل في القديم و الحديث أكثر عددا من أهل الحق و لأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز و جل لنبيه ص فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ و إيجابه مثل ذلك على أوليائه و أهل طاعته بقوله لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فحسبك من الجواب في هذا الموضع ما سمعت فإن شريعة التقية تحظر التصريح بأكثر منه و أما قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا و قوله وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى و قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فذلك كله حق و ليست جيئته جل ذكره كجيئة خلقه فإنه رب كل شيء و من كتاب الله عز و جل ما يكون تأويله على غير تنزيله و لا يشبه تأويله كلام البشر و لا فعل البشر و سأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله و هو حكاية الله عز و جل عن إبراهيم ع حيث قال إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي فذهابه إلى ربه توجهه إليه في عبادته و اجتهاده أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله و قال أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ و قال وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فإنزاله ذلك خلقه إياه و كذلك قوله إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي الجاحدين فالتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره و معنى قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فإنما هي خاطب نبينا ص هل ينتظرون المنافقون و المشركون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ فيعاينوهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني بذلك أمر ربك و الآيات هي العذاب في دار الدنيا كما عذب الأمم السالفة و القرون الخالية و قال أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتيانا و قال قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي لعنهم الله أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا و كذلك قال قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ أي لعن الإنسان و قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى فسمى فعل النبي فعلا له أ لا ترى تأويله على غير تنزيله و مثل قوله بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ فسمى البعث لقاء و كذلك قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي يوقنون أنهم مبعوثون و مثله قوله أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أي أ ليس يوقنون أنهم مبعوثون و اللقاء عند المؤمن البعث و عند الكافر المعاينة و النظر و قد يكون بعض ظن الكافر يقينا و ذلك قوله وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي أيقنوا أنهم مواقعوها و أما قوله في المنافقين وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فليس ذلك بيقين و لكنه شك فاللفظ واحد في الظاهر و مخالف في الباطن و كذلك قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يعني استوى تدبيره و علا أمره و قوله وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ و قوله هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قوله
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ فإنما أراد بذلك استيلاء أمنائه بالقدرة التي ركبها فيهم على جميع خلقه و أن فعلهم فعله فافهم عني ما أقول لك فإني إنما أزيدك في الشرح لأثلج في صدرك و صدر من لعله بعد اليوم يشك في مثل ما شككت فيه فلا يجد مجيبا عما يسأل عنه لعموم الطغيان و الافتتان و لاضطرار أهل العلم بتأويل الكتاب إلى الاكتتام و الاحتجاب خيفة من أهل الظلم و البغي أما إنه سيأتي على الناس زمان يكون الحق فيه مستورا و الباطل ظاهرا مشهورا و ذلك إذا كان أولى الناس به أعداهم له و اقترب الوعد الحق و عظم الإلحاد و ظهر الفساد هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً و نحلهم الكفار أسماء الأشرار فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب الناس إليه ثم يتيح الله الفرج لأوليائه فيظهر صاحب الأمر على أعدائه و أما قوله وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فذلك حجة الله أقامها على خلقه و عرفهم أنه لا يستحق مجلس النبي ص إلا من يقوم مقامه و لا يتلوه إلا من يكون في الطهارة مثله منزلة لئلا يتسع لمن ماسه رجس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق لمقام رسول الله و ليضيق العذر على من يعينه على إثمه و ظلمه إذ كان الله قد حظر على من ماسه الكفر تقلد ما فوضه إلى أنبيائه و أوليائه بقوله لإبراهيم لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي المشركين لأنه سمى الشرك ظلما بقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فلما علم إبراهيم ع أن عهد الله تبارك اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام قال وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ و اعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين و الكفار على الأبرار فَقَدِ افْتَرى على الله إِثْماً عَظِيماً إذا كان قد بين الله في كتابه الفرق بين المحق و المبطل و الطاهر و النجس و المؤمن و الكافر و أنه لا يتلو النبي ص عند فقده إلا من حل محله صدقا و عدلا و طهارة و فضلا و أما الأمانة التي ذكرتها فهي الأمانة التي لا تجب و لا يجوز أن تكون إلا في الأنبياء و أوصيائهم لأن الله تبارك و تعالى ائتمنهم على خلقه و جعلهم حججا في أرضه فبالسامري و من اجتمع معه و أعانه من الكفار على عبادة العجل عند غيبة موسى ما تم انتحال محل موسى ع من الطغام و الاحتمال لتلك الأمانة التي لا ينبغي إلا لطاهر من الرجس فاحتمل وزرها و وزر من سلك في سبيله من الظالمين و أعوانهم و لذلك قال النبي ص من استن سنة حق كان له أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من استن سنة باطل كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة و لهذا القول عن النبي ص شاهد من كتاب الله و هو قول الله عز و جل في قصة قابيل قاتل أخيه مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً و للإحياء في هذا الموضع تأويل في الباطن ليس كظاهره و هو من هداها لأن الهداية هي حياة الأبد و من سماه الله حيا لم يمت أبدا إنما ينقله من دار محنة إلى دار راحة و منحة و أما ما أراك من الخطاب بالانفراد مرة و بالجمع مرة من صفة البارئ جل ذكره فإن الله تبارك و تعالى على ما وصف به نفسه بالانفراد و الوحدانية هو النور الأزلي القديم الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا يتغير و يحكم ما يشاء وَ يَخْتارُ و لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ و لا راد لقضائه و لا ما خلق زاد في ملكه و عزه و لا
نقص منه ما لم يخلقه و إنما أراد بالخلق إظهار قدرته و إبداء سلطانه و تبيين براهين حكمته فخلق ما شاء كما شاء و أجرى فعل بعض الأشياء على أيدي من اصطفى من أمنائه فكان فعلهم فعله و أمرهم أمره كما قال مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ و جعل السماء و الأرض وعاء لمن شاء من خلقه ليميز الخبيث من الطيب مع سابق علمه بالفريقين من أهلها و ليجعل ذلك مثالا لأوليائه و أمنائه و عرف الخليقة فضل منزلة أوليائه و فرض عليهم من طاعتهم مثل الذي فرضه منه لنفسه و ألزمهم الحجة بأن خاطبهم خطابا يدل على انفراده و توحده و بأن له أولياء تجري أفعالهم و أحكامهم مجرى فعله فهم العباد المكرمون الذين لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ هم الذين أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ و عرف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ و هم النعيم الذي يسأل العباد عنه لأن الله تبارك و تعالى أنعم بهم على من اتبعهم من أوليائهم قال السائل من هؤلاء الحجج قال ع هم رسول الله ص و من حل محله من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه و برسوله و فرض على العباد من طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه و هم ولاة الأمر الذين قال الله فيهم أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و قال فيهم وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قال السائل ما ذلك الأمر قال علي ع الذي تنزل به الملائكة في الليلة التي يفرق فيها كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ من خلق و رزق و أجل و عمل و حياة و موت و علم غيب السماوات و الأرض و المعجزات التي لا تنبغي إلا لله و أصفيائه و السفرة بينه و بين خلقه و هم وجه الله الذي قال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
هم بقية الله يعني المهدي الذي يأتي عند انقضاء هذه النظرة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما و جورا و من آياته الغيبة و الاكتتام عند عموم الطغيان و حلول الانتقام و لو كان هذا الأمر الذي عرفتك نبأه للنبي دون غيره لكان الخطاب يدل على فعل خاص غير دائم و لا مستقبل و لقال نزلت الملائكة و فرق كل أمر حكيم و لم يقل تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ و يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ و قد زاد جل ذكره في التبيان و إثبات الحجة بقوله في أصفيائه و أوليائه ع أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ تعريفا للخليقة قربهم أ لا ترى أنك تقول فلان إلى جنب فلان إذا أردت أن تصف قربه منه و إنما جعل الله تبارك و تعالى في كتابه هذه الرموز التي لا يعلمها غيره و غير أنبيائه و حججه في أرضه لعلمه بما يحدثه في كتابه المبدلون من إسقاط أسماء حججه منه و تلبيسهم ذلك على الأمة ليعينوهم على باطلهم فأثبت فيه الرموز و أعمى قلوبهم و أبصارهم لما عليهم في تركها و ترك غيرها من الخطاب الدال على ما أحدثوه فيه و جعل أهل الكتاب المقيمين به و العالمين بظاهره و باطنه من شجرة أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها أي يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه في الوقت بعد الوقت و جعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ و لو علم المنافقون لعنهم الله ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بينت لك تأويلها لأسقطوها معما أسقطوا منه و لكن الله تبارك اسمه ماض حكمه بإيجاب الحجة على خلقه كما قال فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أغشى أبصارهم و جعل على قلوبهم أكنة عن تأمل ذلك فتركوه بحاله و حجبوا عن تأكيد الملبس بإبطاله فالسعداء يتثبتون عليه و الأشقياء يعمون عنه وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ثم إن الله جل ذكره بسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسه و صح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام و قسما لا يعرفه إلا الله و أمناؤه الراسخون في العلم و إنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله ص من علم الكتاب ما لم يجعله الله لهم و ليقودهم الاضطرار إلى الايتمار لمن ولاه أمرهم فاستكبروا عن طاعته تعززا و افتراء على الله عز و جل و اغترارا بكثرة من ظاهرهم و عاونهم و عاند الله جل اسمه و رسوله ص فأما ما علمه الجاهل و العالم من فضل رسول الله ص من كتاب الله و هو قول الله سبحانه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ و قوله إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً و لهذه الآية ظاهر و باطن فالظاهر قوله صَلُّوا عَلَيْهِ و الباطن قوله وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً أي سلموا لمن وصاه و استخلفه عليكم فضله و ما عهد به إليه تسليما و هذا مما أخبرتك أنه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه و صفا ذهنه و صح تميزه و كذلك قوله سلام على آل ياسين لأن الله سمى النبي ص بهذا الاسم حيث قال يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لعلمه بأنهم يسقطون قول سلام على آل محمد كما أسقطوا غيره و ما زال رسول الله ص يتألفهم و يقربهم يجلسهم عن يمينه و شماله حتى أذن الله عز و جل له في إبعادهم
بقوله وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا و بقوله فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ و كذلك قال الله عز و جل يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ و لم يسم بأسمائهم و أسماء آبائهم و أمهاتهم و أما قوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فإنما أنزلت كل شيء هالك إلا دينه لأنه من المحال أن يهلك منه كل شيء و يبقى الوجه هو أجل و أعظم و أكرم من ذلك إنما يهلك من ليس منه أ لا ترى أنه قال كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ففصل بين خلقه و وجهه و أما ظهورك على تناكر قوله وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ و ليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء و لا كل النساء أيتاما فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن و بين القول في اليتامى و بين نكاح النساء من الخطاب و القصص أكثر من ثلث القرآن و هذا و ما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر و التأمل و وجد المعطلون و أهل الملل المخالفة مساغا إلى القدح في القرآن و لو شرحت لك كل ما أسقط و حرف و بدل مما يجري هذا المجرى لطال و ظهر ما تحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء و مثالب الأعداء و أما قوله وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فهو تبارك اسمه أجل و أعظم من أن يظلم و لكنه قرن أمناءه على خلقه بنفسه و عرف الخليقة جلالة قدرهم عنده و أن ظلمهم ظلمه بقوله وَ ما ظَلَمُونا ببغضهم أولياءنا و معونة أعدائهم عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ إذ حرموها الجنة و أوجبوا عليها خلود النار و أما قوله إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فإن الله جل ذكره أنزل عزائم الشرائع و آيات الفرائض في أوقات مختلفة كما خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و لو شاء أن يخلقها في أقل من لمح البصر لخلق و لكنه جعل الأناة و المداراة مثالا لأمنائه و إيجابا للحجة على خلقه فكان أول ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية و الربوبية و الشهادة بأن لا إله إلا الله فلما أقروا بذلك تلاه بالإقرار لنبيه ص بالنبوة و الشهادة له بالرسالة فلما انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج ثم الجهاد ثم الزكاة ثم الصدقات و ما يجري مجراها من مال الفيء فقال المنافقون هل بقي لربك علينا بعد الذي فرضته علينا شيء آخر يفترضه فتذكره لتسكن أنفسنا أنه لم يبق غيره فأنزل الله في ذلك قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعني الولاية فأنزل إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ و ليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة يومئذ أحد و هو راكع غير رجل واحد لو ذكر اسمه في الكتاب لأسقط مع ما أسقط من ذكره و هذا و ما أشبهه من الرموز التي ذكرت لك ثبوتها في الكتاب ليجهل معناه المحرفون فيبلغ إليك و إلى أمثالك و عند ذلك قال الله عز و جل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً و أما قوله لنبيه ص وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فإنك ترى أهل الملل المخالفة للإيمان و من يجري مجراهم من الكفار مقيمين على كفرهم إلى هذه الغاية و أنه لو كان رحمة عليهم لاهتدوا جميعا و نجوا من عذاب السعير فإن الله تبارك و تعالى اسمه إنما يعني بذلك أنه جعله سبيلا
لإنظار أهل هذه الدار و لأن الأنبياء قبله بعثوا بالتصريح لا بالتعريض فكان النبي ص فيهم إذا صدع بأمر الله و أجابه قومه سلموا و سلم أهل دارهم من سائر الخليقة و إن خالفوه هلكوا و هلك أهل دارهم بالآفة التي كانت نبيهم يتوعدهم بها و يخوفهم حلولها و نزولها بساحتهم من خسف أو قذف أو زجر أو ريح أو زلزلة أو غير ذلك من أصناف العذاب التي هلكت بها الأمم الخالية و إن الله علم من نبينا و من الحجج في الأرض الصبر على ما لم يطق من تقدمهم من الأنبياء الصبر على مثله فبعثه الله بالتعريض لا بالتصريح و أثبت حجة الله تعريضا لا تصريحا بقوله في وصيه من كنت مولاه فهذا مولاه و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي و ليس من خليقة النبي و لا من شيمته أن يقول قولا لا معنى له فيلزم الأمة أن تعلم أنه لما كانت النبوة و الأخوة موجودتين في خلقة هارون و معدومتين فيمن جعله النبي ص بمنزلته أنه قد استخلفه على أمته كما استخلف موسى هارون حيث قال اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي و لو قال لهم لا تقلدوا الإمامة إلا فلانا بعينه و إلا نزل بكم العذاب لأتاهم العذاب الأليم و زال باب الإنظار و الإمهال و بما أمر بسد باب الجمع و ترك بابه ثم قال ما سددت و لا تركت و لكنني أمرت فأطعت فقالوا سددت بابنا و تركت لأحدثنا سنا فأما ما ذكروه من حداثة سنه فإن الله لم يستصغر يوشع بن نون حيث أمر موسى أن يعهد بالوصية إليه و هو في سن ابن سبع سنين و لا استصغر يحيى و عيسى لما استودعهما عزائمه و براهين حكمته و إنما فعل ذلك جل ذكره لعلمه بعاقبة الأمور و أن وصيه لا يرجع بعده ضالا و لا كافرا و بأن عمد النبي ص إلى سورة براءة فدفعها إلى من علم أن الأمة تؤثره على وصيه و أمره بقراءتها على أهل مكة فلما ولى من بين أيديهم أتبعه بوصيه و أمره بارتجاعها منه و النفوذ إلى مكة ليقرأها على أهلها و قال
إن الله عز و جل أوحى إلي أن لا يؤدي عني إلا رجل مني دلالة منه على خيانة من علم أن الأمة يختاره على وصيه ثم شفع ذلك بضم الرجل الذي ارتجع سورة براءة منه و من يوازره في تقدم المحل عند الأمة إلى علم النفاق عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل و ولاهما عمر و حرس عسكره و ختم أمرهما بأن ضمهما عند وفاته إلى مولاه أسامة بن زيد و أمرهما بطاعته و التصريف بين أمره و نهيه و كان آخر ما عهد به في أمر أمته قوله أنفذوا جيش أسامة يكرر ذلك على أسماعهم إيجابا للحجة عليهم في إيثار المنافقين على الصادقين و لو عددت كل ما كان من رسول الله ص في إظهار معايب المستولين على تراثه لطال و أن السابق منهم إلى تقلد ما ليس له بأهل قام هاتفا على المنبر لعجزه عن القيام بأمر الأمة و مستقيلا مما تقلده لقصور معرفته عن تأويل ما كان يسأل عنه و جهله بما يأتي و يذر ثم أقام على ظلمه و لم يرض باحتقاب عظيم الوزر في ذلك حتى عقد الأمر من بعده لغيره فأتى التالي له بتسفيه رأيه و القدح و الطعن على أحكامه و رفع السيف عمن كان صاحبه وضعه عليه و رد النساء اللاتي كان سباهن على أزواجهن و بعضهن حوامل و قوله قد نهيته عن قتال أهل القبلة فقال لي إنك لحدب على أهل الكفر و كان هو في ظلمه لهم أولى باسم الكفر منهم و لم يزل يخطئه و يظهر الإزراء عليه و يقول على المنبر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه و كان يقول قبل ذلك قولا ظاهرا أنه حسنة من حسناته و يود أنه كان شعرة في صدره و غير ذلك من القول المتناقض المؤكد بحجج الدافعين لدين الإسلام و أتى من أمر الشورى و تأكيده بها عقد الظلم و الإلحاد و البغي و الفساد حتى تقرر على إرادته ما لم يخف على ذي لب موقع ضرره و لم تطق الأمة الصبر على ما أظهره الثالث من سوء الفعل فعاجلته بالقتل و اتسع بما جنوه من ذلك لمن وافقهم على ظلمهم و كفرهم و نفاقهم محاولة مثل ما أتوه من الاستيلاء على أمر الأمة كل ذلك لتتم النظرة التي أوجبها الله تبارك و تعالى لعدوه إبليس إلى أن يبلغ الكتاب أجله وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ و يقترب الوعد الحق الذي بينه الله في كتابه بقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و ذلك إذا لم يبق من الإسلام إلا اسمه و من القرآن إلا رسمه و غاب صاحب الأمر بإيضاح العذر له في ذلك لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون أقرب الناس إليه أشدهم عداوة له و عند ذلك يؤيده الله بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها و يظهر دين نبيه ص على يديه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ و أما ما ذكرته من الخطاب الدال على تهجين النبي ص و الإزراء به و التأنيب له مع ما أظهره الله تبارك و تعالى في كتابه من تفضيله إياه على سائر الأنبياء فلأن الله عز و جل جعل لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا من المشركين كما قال في كتابه و بحسب جلالة منزلة نبينا ص عند ربه كذلك عظم محنته لعدوه و الذي عاد منه في حال شقاقه و نفاقه و كل أذى و مشقة لدفع نبوته و تكذيبه إياه و سعيه في مكارهه و قصده لنقض كل ما أبرمه و اجتهاده و من مالأه على كفره و فساده و نفاقه و إلحاده في إبطال دعواه و تغيير ملته و مخالفة سنته و لم ير شيئا أبلغ في تمام كيده من تنفيرهم من موالاة وصيه و إيحاشهم منه و صدهم عنه و إغرائهم بعداوته و القصد لتغيير الكتاب الذي جاء به و إسقاط ما فيه من فضل ذوي الفضل و كفر ذوي الكفر منه و ممن وافقه على ظلمه و بغيه و شركه و لقد علم الله ذلك منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا و قال يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ و لقد أحضروا الكتاب كملا
مشتملا على التأويل و التنزيل و المحكم و المتشابه و الناسخ و المنسوخ لم يسقط منه حرف ألف و لا لام فلما وقفوا على ما بينه الله من أسماء أهل الحق و الباطل و أن ذلك إن ظهر نقض ما عقدوه قالوا لا حاجة لنا فيه و نحن مستغنون عنه بما عندنا و لذلك قال فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ثم دفعهم الاضطرار بورود المسائل عليهم عما لا يعلمون تأويله إلى جمعه و تأليفه و تضمينه من تلقائهم ما يقيمون به دعائم كفرهم فصرخ مناديهم من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به و وكلوا تأليفه و نظمه إلى بعض من وافقهم على معاداة أولياء الله فألفه على اختيارهم و ما يدل للمتأمل له على اختلال تمييزهم و تقريبهم و تركوا منه ما قدروا أنه لهم و هو عليهم و زادوا تناكره و تنافره و علم الله أن ذلك يظهر و يبين فقال ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و انكشف لأهل الاستبصار عوارهم و افتراؤهم و الذي بدا في الكتاب من الإزراء على النبي ص من فرية الملحدين و لذلك قال جل ذكره لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً فيذكر لنبيه ص من ما يحدثه عدوه في كتابه من بعده بقوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يعني أنه ما من نبي تمنى مفارقه ما يعاينه من نفاق قومهم و عقوقهم و الانتقال عنهم إلى دار الإقامة إلا ألقى الشيطان المعرض بعداوته عند فقده في الكتاب الذي أنزل عليه ذمه و القدح فيه و الطعن عليه فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله و لا تصغي إليه غير قلوب المنافقين و الجاهلين و يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ بأن يحمي أولياءه من الضلال و العدوان و مشايعة أهل الكفر و الطغيان الذين لم يرض الله أن يجعلهم كالأنعام حتى قال بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا فافهم هذا و اعمل به و اعلم أنك ما قد تركت مما يجب عليك السؤال عنه أكثر مما سألت و إني قد اقتصرت على تفسير يسير من كثير لعدم حملة العلم و قلة الراغبين في التماسه و في دون ما بينت لك بلاغ لذوي الألباب قال السائل حسبي ما سمعت يا أمير المؤمنين شكر الله لك استنقاذي من عماية الشك و طخية الإفك و أجزل على ذلك مثوبتك إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و صلى الله أولا و آخرا على أنوار الهدايات و أعلام البرايات محمد و آله أصحاب الدلالات
2- يد، ]التوحيد[ القطان عن ابن زكريا القطان عن ابن حبيب عن أحمد بن يعقوب بن مطر عن محمد بن الحسن بن عبد العزيز الأحدب الجنديسابوري قال وجدت في كتاب أبي بخطه حدثنا طلحة بن يزيد عن عبيد الله عبيد عن أبي معمر السعداني أن رجلا أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع فقال يا أمير المؤمنين إني قد شككت في كتاب الله المنزل قال له علي ع ثكلتك أمك و كيف شككت في كتاب الله المنزل قال لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا فكيف لا أشك فيه فقال علي بن أبي طالب ع إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضا و لا يكذب بعضه بعضا و لكنك لم ترزق عقلا تنتفع به فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز و جل قال له الرجل إني وجدت الله يقول فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا و قال أيضا نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ و قال وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فمرة يخبر أنه ينسى و مرة يخبر أنه لا ينسى فأنى ذلك يا أمير المؤمنين قال هات ما شككت فيه أيضا قال و أجد الله يقول يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و قال و قد استنطقوا فقالوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قال إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و قال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ و قال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فمرة يخبر أنهم يتكلمون و مرة أنهم لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و مرة يخبر أن الخلق لا ينطقون و يقول عن مقالتهم وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و مرة يخبر أنهم يختصمون فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله عز و جل يقول وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و يقول لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و يقول وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى و يقول يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و من أدركته الأبصار فقد أحاط به العلم فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات أيضا ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله تبارك و تعالى يقول وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ و قال وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً و قال وَ ناداهُما رَبُّهُما و قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ و قال يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله جل جلاله يقول هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا و قد يسمى الإنسان سميعا بصيرا و ملكا و ربا فمرة يخبر أن له أسامي كثيرة مشتركة و مرة يقول هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك ما شككت فيه قال و وجدت الله تبارك اسمه يقول وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ و يقول وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ و يقول كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ كيف ينظر إليهم من يحجب عنه فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك أيضا ما شككت فيه قال و أجد الله عز ذكره يقول أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ و قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و قال وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ و قال إنه هو الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ
وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قال وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات أيضا ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله جل ثناؤه يقول وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا و قال وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و قال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ و قال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً فمرة يقول يَأْتِيَ رَبُّكَ و مرة يقول يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله جل جلاله يقول بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ و ذكر المؤمنين فقال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ و قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ و قال مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ و قال فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً فمرة يخبر أنهم يلقونه و مرة يخبر أنه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و مرة يقول وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال هات ويحك ما شككت فيه قال و أجد الله تبارك و تعالى يقول وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و قال يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ و قال وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فمرة يخبر أنهم يظنون و مرة يخبر أنهم يعلمون و الظن شك فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيما تسمع قال ويحك هات ما شككت فيه قال و أجد الله تعالى ذكره يقول قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ و قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و قال تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ و قال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ و قال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فأنى ذلك يا أمير المؤمنين و كيف لا أشك فيها تسمع و قد هلكت إن لم ترحمني و تشرح لي صدري فيما عسى أن يجري ذلك على يديك فإن كان الرب تبارك و تعالى حقا و الكتاب حقا و الرسل حقا فقد هلكت و خسرت و إن تكن الرسل باطلا فما علي بأس و قد نجوت فقال علي ع قدوس ربنا قدوس تبارك و تعالى علوا كبيرا نشهد أنه هو الدائم الذي لا يزول و لا نشك فيه و لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ و أن الكتاب حق و الرسل حق و أن الثواب و العقاب حق فإن رزقت زيادة إيمان أو حرمته فإن ذلك بيد الله إن شاء رزقك و إن شاء حرمك ذلك و لكن سأعلمك ما شككت فيه و لا قوة إلا بالله فإن أراد الله بك خيرا أعلمك بعلمه و ثبتك و إن يكن شرا ضللت و هلكت أما قوله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا لم
يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا فصاروا منسيين من الخير و كذلك تفسير قوله عز و جل فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به و برسله و خافوه بالغيب و أما قوله وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فإن ربنا تبارك و تعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى و لا يغفل بل هو الحفيظ العليم و قد يقول العرب في باب النسيان قد نسينا فلان فلا يذكرنا أي أنه لا يأمر لهم بخير و لا يذكرهم به فهل فهمت ما ذكر الله عز و جل قال نعم فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك قال و أما قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و قوله وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و قوله يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قوله إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و قوله لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ و قوله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فإن ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يجمع الله عز و جل الخلائق يومئذ في مواطن يتفرقون و يكلم بعضهم بعضا و يستغفر بعضهم لبعض أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا من الرؤساء و الأتباع و يلعن أهل المعاصي الذين بدت منهم البغضاء و تعاونوا على الظلم و العدوان في دار الدنيا المستكبرين و المستضعفين يكفر بعضهم ببعض و يلعن بعضهم بعضا و الكفر في هذه الآية البراءة يقول فيبرأ بعضهم من بعض و نظيرها في سورة إبراهيم ع قول الشيطان إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ و قول إبراهيم خليل الرحمن كَفَرْنا بِكُمْ يعني تبرأنا منكم ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معايشهم و لتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله فلا يزالون يبكون الدم ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فيختم الله تبارك و تعالى على أفواههم و يستنطق الأيدي و الأرجل و الجلود فتشهد بكل معصية كانت منهم ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيفر بعضهم من بعض فذلك قوله عز و جل يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ فيستنطقون ف لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن فذلك قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ثم يجتمعون في موطن آخر فيكون فيه مقام محمد ص و هو المقام المحمود فيثني على الله تبارك و تعالى بما لم يثن عليه أحد قبله ثم يثني على الملائكة كلهم فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد ص ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد مثله ثم يثني على كل مؤمن و مؤمنة يبدأ بالصديقين و الشهداء ثم بالصالحين فيحمده أهل السماوات و أهل الأرض و ذلك قوله عز و جل عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً
فطوبى لمن كان له في ذلك المقام حظ و نصيب و ويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظ و لا نصيب ثم يجتمعون في موطن آخر و يدال بعضهم عن بعض و هذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه نسأل الله بركة ذلك اليوم قال فرجت عني فرج الله عنك يا أمير المؤمنين و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك فقال ع و أما قوله عز و جل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ و قوله وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى و قوله يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فأما قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فإن ذلك في موضع ينتهي فيه أولياء الله عز و جل بعد ما يفرغ من الحساب إلى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه و يشربون منه فتنضر وجوههم إشراقا فيذهب عنهم كل قذى و وعث ثم يؤمرون بدخول الجنة فمن هذا المقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم و منه يدخلون الجنة فذلك قول الله عز و جل في تسليم الملائكة عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ فعند ذلك أيقنوا بدخول الجنة و النظر إلى ما وعدهم ربهم فذلك قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و إنما يعني بالنظر إليه النظر إلى ثوابه تبارك و تعالى و أما قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فهو كما قال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و لا تحيط به الأوهام وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يعني يحيط بها وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ و ذلك مدح امتدح به ربنا نفسه تبارك و تعالى و تقدس علوا كبيرا و قد سأل موسى ع و جرى على لسانه من حمد الله عز و جل رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فكانت مسألة تلك أمرا عظيما و سأل أمرا جسيما فعوقب فقال الله تبارك و تعالى لَنْ تَرانِي في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة و لكن إن أردت أن تراني في الدنيا ف انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فأبدى الله جل ثناؤه بعض آياته و تجلى ربنا تبارك للجبل فتقطع الجبل فصار رميما وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً ثم أحياه الله و بعثه فقال سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ يعني أول مؤمن آمن بك منهم أنه لن يراك و أما قوله وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى يعني محمدا حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله و قوله في آخر الآية ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى رأى جبرئيل ع في صورته مرتين هذه المرة و مرة أخرى و ذلك أن خلق جبرئيل ع عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلا الله رب العالمين و أما قوله يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لا تحيط الخلائق بالله عز و جل علما إذ هو تبارك و تعالى جعل على أبصار القلوب الغطاء فلا فهم يناله بالكيف و لا قلب يثبته بالحدود فلا نصفه إلا كما وصف نفسه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الأول و الآخر و الظاهر و الباطن الخالق البارئ المصور خلق الأشياء فليس من الأشياء شيء مثله تبارك و تعالى فقال فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فأعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين فقال ع و أما قوله وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
و قوله وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً و قوله وَ ناداهُما رَبُّهُما و قوله يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فأما قوله ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ما ينبغي لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا و ليس بكائن إلا من وراء حجاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ كذلك قال الله تبارك و تعالى علوا كبيرا قد كان الرسول يوحي إليه من رسل السماء فتبلغ رسل السماء رسل الأرض و قد كان الكلام بين رسل أهل الأرض و بينه من غير أن يرسل بالكلام مع رسل أهل السماء و قد قال رسول الله ص يا جبرئيل هل رأيت ربك فقال جبرئيل ع إن ربي لا يرى فقال رسول الله ص فمن أين تأخذ الوحي فقال آخذه من إسرافيل فقال و من أين يأخذه إسرافيل قال يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين قال فمن أين يأخذه ذلك الملك قال يقذف في قلبه قذفا فهذا وحي و هو كلام الله عز و جل و كلام الله ليس بنحو واحد منه ما كلم الله به الرسل و منه ما قذفه في قلوبهم و منه رؤيا يريها الرسل و منه وحي و تنزيل يتلى و يقرأ فهو كلام الله فاكتف بما وصفت لك من كلام الله فإن معنى كلام الله ليس بنحو واحد فإنه منه ما تبلغ منه رسل السماء رسل الأرض قال فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين فقال ع و أما قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا فإن تأويله هل تعلم له أحدا اسمه الله غير الله تبارك و تعالى فإياك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء فإنه رب تنزيل يشبه بكلام البشر و هو كلام الله و تأويله لا يشبه كلام البشر كما ليس شيء من خلقه يشبهه كذلك لا يشبه فعله تعالى شيئا من أفعال البشر و لا يشبه شيء من كلامه بكلام البشر فكلام الله تبارك و تعالى صفته و كلام البشر أفعالهم فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك و تضل قال فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين قال ع و أما قوله وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ كذلك ربنا لا يعزب عنه شيء و كيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ و أما قوله لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يخبر أنه لا يصيبهم بخير و قد يقول العرب و الله ما ينظر إلينا فلان و إنما يعنون بذلك أنه لا يصيبنا منه بخير فذلك النظر هاهنا من الله تبارك و تعالى إلى خلقه فنظره إليهم رحمة لهم قال فرجت عني فرج الله عنك و حللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين فقال ع و أما قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فإنما يعني بذلك يوم القيامة أنهم عن ثواب ربهم يومئذ لمحجوبون و قوله أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ و قوله وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ و قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى و قوله وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قوله وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فكذلك الله تبارك و تعالى سبوحا قدوسا أن يجري منه ما يجري من المخلوقين و هو اللطيف الخبير و أجل و أكبر أن ينزل به شيء مما ينزل
بخلقه شاهد لكل نجوى و هو الوكيل على كل شيء و المنير لكل شيء و المدبر للأشياء كلها تعالى الله عن أن يكون على عرشه علوا كبيرا و أما قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا و قوله وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ و قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ فإن ذلك حق كما قال الله عز و جل و ليس له جيئة كجيئة الخلق و قد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله تأويله على غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله من ذلك قول إبراهيم ع إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى الله جل و عز أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله و قال وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني السلاح و غير ذلك و قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يخبر محمدا ص عن المشركين و المنافقين الذين لم يستجيبوا لله و لرسوله فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ حيث لم يستجيبوا لله و لرسوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني بذلك العذاب في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى فهذا خبر يخبر به النبي ص عنهم ثم قال يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني من قبل أن تجيء هذه الآية و هذه الآية طلوع الشمس من مغربها و إنما يكتفي أولو الألباب و الحجى و أولو النهى أن يعلموا أنه إذا انكشف الغطاء رَأَوْا ما يُوعَدُونَ و قال في آية أخرى فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني أرسل عليهم عذابا و كذلك إتيانه بنيانهم و قال الله عز و جل فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فإتيانه بنيانهم من القواعد إرسال العذاب و كذلك ما وصف من أمر الآخرة تبارك اسمه و تعالى علوا كبيرا و تجري أموره في ذلك اليوم الذي كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ كما تجري أموره في الدنيا لا يلعب و لا يأفل مع الآفلين فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما جال في صدرك مما وصف الله عز و جل في كتابه و لا تجعل كلامه ككلام البشر هو أعظم و أجل و أكرم و أعز و تبارك و تعالى من أن يصفه الواصفون إلا بما وصف نفسه في قوله عز و جل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك و حللت عني عقدة فقال ع و أما قوله بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ و ذكره المؤمنين الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ و قوله لغيرهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ و قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً فأما قوله بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ يعني البعث فسماه الله عز و جل لقاءه و كذلك ذكره المؤمنين الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون و يحاسبون و يجزون بالثواب و العقاب و الظن هاهنا اليقين و كذلك قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً و قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني فمن كان يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقاء فإنه يعني بذلك البعث
و كذلك قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ يعني أنه لا يزول الإيمان عن قلوبهم يوم يبعثون قال فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك فقد حللت عني عقدة فقال ع و أما قوله وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها يعني أيقنوا أنهم داخلوها و أما قوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ و قوله يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ و قوله للمنافقين وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فإن قوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ يقول إني ظننت أني أبعث فأحاسب لقوله مُلاقٍ حِسابِيَهْ و قوله للمنافقين تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فهذا الظن ظن شك فليس الظن ظن يقين و الظن ظنان ظن شك و ظن يقين فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين و ما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك فافهم ما فسرت لك قال فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك فقال ع و أما قوله تبارك و تعالى وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك و تعالى الخلق بعضهم من بعض بالموازين و في غير هذا الحديث الموازين هم الأنبياء و الأوصياء ع و قوله عز و جل فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فإن ذلك خاصة و أما قوله فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ فإن رسول الله ص قال قال الله عز و جل لقد حقت كرامتي أو قال مودتي لمن يراقبني و يتحاب بجلالي إن وجوههم يوم القيامة من نور على منابر من نور عليهم ثياب خضر قيل من هم يا رسول الله قال قوم ليسوا بأنبياء و لا شهداء و لكنهم تحابوا بجلال الله و يدخلون الجنة بغير حساب نسأل الله أن يجعلنا منهم برحمته و أما قوله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فإنما يعني الحساب بوزن الحسنات و السيئات و الحسنات ثقل الميزان و السيئات خفة الميزان و أما قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها و قوله تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ و قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ و قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فإن الله تبارك و تعالى يدبر الأمور كيف يشاء و يوكل من خلقه من يشاء بما يشاء أما ملك الموت فإن الله عز و جل يوكله بخاصة من يشاء من خلقه و يوكل رسله من الملائكة خاصة بما يشاء من خلقه تبارك و تعالى و الملائكة الذين سماهم الله عز و جل وكلهم بخاصة من يشاء من خلقه تبارك و تعالى يدبر الأمور كيف يشاء و ليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفسره لكل الناس لأن منهم القوي و الضعيف و لأن منه ما يطاق حمله و منه ما لا يطاق حمله إلا أن يسهل الله له حمله و أعانه عليه من خاصة أوليائه و إنما يكفيك أن تعلم أن الله المحيي المميت و أنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه من ملائكته و غيرهم قال فرجت عني يا أمير المؤمنين أنفع الله المسلمين بك فقال علي ع للرجل لئن كنت قد شرح الله صدرك بما قد بينت لك فأنت و الذي فلق الحبة و برأ النسمة من المؤمنين حقا فقال الرجل يا أمير المؤمنين كيف لي بأن أعلم أني من المؤمنين حقا قال لا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله على لسان نبيه ص و شهد له رسول الله ص بالجنة أو شرح الله صدره ليعلم ما في الكتب التي أنزلها الله عز و جل على رسله و أنبيائه قال يا أمير المؤمنين و من يطيق ذلك قال من شرح الله صدره و وفقه له فعليك بالعمل لله في سر أمرك و علانيتك فلا شيء يعدل العمل