1- روى محمد بن سنان قال حدثنا المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالسا في الروضة بين القبر و المنبر و أنا مفكر فيما خص الله به سيدنا محمدا ص من الشرف و الفضائل و ما منحه و أعطاه و شرفه به و حباه مما لا يعرفه الجمهور من الأمة و ما جهلوه من فضله و عظيم منزلته و خطر مرتبته فإني لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه فلما استقر به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلم ابن أبي العوجاء فقال لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله و حاز الشرف بجميع خصاله و نال الحظوة في كل أحواله فقال له صاحبه إنه كان فيلسوفا ادعى المرتبة العظمى و المنزلة الكبرى و أتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول و ضلت فيها الأحلام و غاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات و هي حسير فلما استجاب لدعوته العقلاء و الفصحاء و الخطباء دخل الناس في دينه أفواجا فقرن اسمه باسم ناموسه فصار يهتف به على رءوس الصوامع في جميع البلدان و المواضع التي انتهت إليها دعوته و علت بها كلمته و ظهرت فيها حجته برا و بحرا و سهلا و جبلا في كل يوم و ليلة خمس مرات مرددا في الأذان و الإقامة ليتجدد في كل ساعة ذكره لئلا يخمل أمره فقال ابن أبي العوجاء دع ذكر محمد ص فقد تحير فيه عقلي و ضل في أمره فكري و حدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به ثم ذكر ابتداء الأشياء و زعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه و لا تقدير و لا صانع له و لا مدبر بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبر و على هذا كانت الدنيا لم تزل و لا تزال
بيان الحوز الجمع و كل من ضم إلى نفسه شيئا فقد حازه و الحظوة بالضم و الكسر و الحاء المهملة و الظاء المعجمة المكانة و المنزلة و الفيلسوف العالم و خساء البصر أي كل و الناموس صاحب السر المطلع على أمرك أو صاحب سر الخير و جبرئيل ع و الحاذق و من يلطف مدخله ذكرها الفيروزآبادي و مراده هنا الرب تعالى شأنه و خمل ذكره خفي و الخامل الساقط الذي لا نباهة له و قوله الذي يمشي به أي يذهب إلى دين محمد ص و غيره بسببه أو يهتدي به كقوله تعالى نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ و في بعض النسخ يسمي إما بالتشديد أي يذكر اسمه أو بالتخفيف أي يرتفع الناس به و يدعون الانتساب إليه
قال المفضل فلم أملك نفسي غضبا و غيظا و حنقا فقلت يا عدو الله ألحدت في دين الله و أنكرت البارئ جل قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم و صورك في أتم صورة و نقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت فلو تفكرت في نفسك و صدقك لطيف حسك لوجدت دلائل الربوبية و آثار الصنعة فيك قائمة و شواهده جل و تقدس في خلقك واضحة و براهينه لك لائحة فقال يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك فإن ثبت لك حجة تبعناك و إن لم تكن منهم فلا كلام لك و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا و لا بمثل دليلك يجادلنا و لقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا و لا تعدى في جوابنا و إنه للحليم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق و يسمع كلامنا و يصغي إلينا و يستعرف حجتنا حتى استفرغنا ما عندنا و ظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير و خطاب قصير يلزمنا به الحجة و يقطع العذر و لا نستطيع لجوابه ردا فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه
بيان و صدقك بالتخفيف أي قال لك صدقا لطيف حسك أي حسك اللطيف أي لم يلتبس على حسك غرائب صنع الله فيك لمعاندتك للحق و في بعض النسخ حسنك فالمراد بصدق الحسن ظهور ما أخفى الله فيه منه على الناظر و على الوجهين يمكن أن يقرأ صدقك بالتشديد بتكلف لا يخفى على المتأمل و الرزين الوقور و الرصين بالصاد المهملة الحكم الثابت و الخرق بالضم ضد الرفق و النزق الطيش و الخفة عند الغضب و قوله استفرغنا لعله من الإفراغ بمعنى الصب قال الفيروزآبادي استفرغ مجهوده بذل طاقته و الإدحاض الإبطال
قال المفضل فخرجت من المسجد محزونا مفكرا فيما بلى به الإسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها فدخلت على مولاي صلوات الله عليه فرآني منكسرا فقال ما لك فأخبرته بما سمعت من الدهريين و بما رددت عليهما فقال لألقين إليك من حكمة البارئ جل و علا و تقدس اسمه في خلق العالم و السباع و البهائم و الطير و الهوام و كل ذي روح من الأنعام و النبات و الشجرة المثمرة و غير ذات الثمر و الحبوب و البقول المأكول من ذلك و غير المأكول ما يعتبر به المعتبرون و يسكن إلى معرفته المؤمنون و يتحير فيه الملحدون فبكر علي غدا قال المفضل فانصرفت من عنده فرحا مسرورا و طالت على تلك الليلة انتظارا لما وعدني به فلما أصبحت غدوت فاستوذن لي فدخلت و قمت بين يديه فأمرني بالجلوس فجلست ثم نهض إلى حجره كان يخلو فيها فنهضت بنهوضه فقال اتبعني فتبعته فدخل و دخلت خلفه فجلس و جلست بين يديه فقال يا مفضل كأني بك و قد طالت عليك هذه الليلة انتظارا لما وعدتك فقلت أجل يا مولاي فقال يا مفضل إن الله كان و لا شيء قبله و هو باق و لا نهاية له فله الحمد على ما ألهمنا و له الشكر على ما منحنا و قد خصنا من العلوم بأعلاها و من المعالي بأسناها و اصطفانا على جميع الخلق بعلمه و جعلنا مهيمنين عليهم بحكمه فقلت يا مولاي أ تأذن لي أن أكتب ما تشرحه و كنت أعددت معي ما أكتب فيه فقال لي افعل
بيان أسناها أي أرفعها أو أضوؤها و المهيمن الأمين و المؤتمن و الشاهد
يا مفضل إن الشكاك جهلوا الأسباب و المعاني في الخلقة و قصرت أفهامهم عن تأمل الصواب و الحكمة فيما ذرأ البارئ جل قدسه و برأ من صنوف خلقه في البر و البحر و السهل و الوعر فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود و بضعف بصائرهم إلى التكذيب و العنود حتى أنكروا خلق الأشياء و ادعوا أن كونها بالإهمال لا صنعة فيها و لا تقدير و لا حكمة من مدبر و لا صانع تعالى الله عما يصفون و قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ فهم في ضلالهم و عماهم و تحيرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء و أحسنه و فرشت بأحسن الفرش و أفخره و أعد فيها ضروب الأطعمة و الأشربة و الملابس و المآرب التي يحتاج إليها لا يستغني عنها و وضع كل شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير و حكمة من التدبير فجعلوا يترددون فيها يمينا و شمالا و يطوفون بيوتها إدبارا و إقبالا محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار و ما أعد فيها و ربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه و أعد للحاجة إليه و هو جاهل بالمعنى فيه و لما أعد و لما ذا جعل كذلك فتذمر و تسخط و ذم الدار و بانيها فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة و ثبات الصنعة فإنهم لما غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب و العلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى و لا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته و حسن صنعته و صواب تهيئته و ربما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه و الإرب فيه فيسرع إلى ذمه و وصفه بالإحالة و الخطإ كالذي أقدمت عليه المانوية الكفرة و جاهرت به الملحدة المارقة الفجرة و أشباههم من أهل الضلال المعللين أنفسهم بالمحال فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته و هداه لدينه و وفقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق و الوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير و صواب التعبير بالدلالة القائمة الدالة علىصانعها أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك و يرغب إليه في الثبات عليه و الزيادة منه فإنه جل اسمه يقول لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ
بيان قاتلهم الله أي قتلهم أو لعنهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق و قال الجوهري ظل يتذمر على فلان إذا تنكر له و أوعده انتهى و غربت بمعنى غابت و الإرب بالفتح و الكسر الحاجة و وصفه بالإحالة أي بأنه يستحيل أن يكون له خالق مدبر أو يستحيل أن يكون من فعله تعالى و المانوية فرقة من الثنوية أصحاب ماني الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير و أحدث دينا بين المجوسية و النصرانية و كان يقول بنبوة المسيح على نبينا و آله و عليه السلام و لا يقول بنبوة موسى على نبينا و آله و عليه السلام و زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور و الآخر ظلمة و هؤلاء ينسبون الخيرات إلى النور و الشرور إلى الظلمة و ينسبون خلق السباع و الموذيات و العقارب و الحيات إلى الظلمة فأشار ع إلى فساد وهمهم بأن هذا لجهلهم بمصالح هذه السباع و العقارب و الحيات التي يزعمون أنها من الشرور التي لا يليق بالحكيم خلقها قوله ع المعللين أي الشاغلين أنفسهم عن طاعة ربهم بأمور يحكم العقل السليم باستحالته قال الفيروزآبادي علله بطعام و غيره تعليلا شغله به
يا مفضل أول العبر و الأدلة على البارئ جل قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هي عليه فإنك إذا تأملت العالم بفكرك و ميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده فالسماء مرفوعة كالسقف و الأرض ممدودة كالبساط و النجوم منضودة كالمصابيح و الجواهر مخزونة كالذخائر و كل شيء فيها لشأنه معد و الإنسان كالمملك ذلك البيت و المخول جميع ما فيه و ضروب النبات مهيأة لمآربه و صنوف الحيوان مصروفة في مصالحه و منافعه ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملائمة و أن الخالق له واحد و هو الذي ألفه و نظمه بعضا إلى بعض جل قدسه و تعالى جده و كرم وجهه و لا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون و جل و عظم عما ينتحله الملحدون
بيان قال الفيروزآبادي نضد متاعه ينضده جعل بعضه فوق بعض فهو منضود انتهى و التخويل الإعطاء و التمليك قوله ع و أن الخالق له واحد أقول أشار ع بذلك إلى أقوى براهين التوحيد و هو أن ائتلاف أجزاء العالم و احتياج بعضها إلى بعض و انتظام بعضها ببعض يدل على وحدة مدبرها كما أن ارتباط أجزاء الشخص بعضها ببعض و انتظام بعض أعضائه مع بعض يدل على وحدة مدبره و قد قيل في تطبيق العالم الكبير على العالم الصغير لطائف لا يسع المقام ذكرها و ربما يستدل عليه أيضا بما قد تقرر من أن المتلازمين إما أن يكون أحدهما علة للآخر أو هما معلولا علة ثالثة و سيأتي الكلام فيه في باب التوحيد
نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء و لا دفع أذى و لا استجلاب منفعة و لا دفع مضرة فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه و استحكم بدنه و قوي أديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج و أعنفه حتى يولد و إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثدييها فانقلب الطعم و اللون إلى ضرب آخر من الغذاء و هو أشد موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ و حرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي أمه كالإداوتين المعلقتين لحاجته إليه فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء حتى إذا تحرك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد و يقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه و يسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك و كان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر و عز الرجل الذي يخرج به من حد الصباء و شبه النساء و إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل و بقاؤه
بيان الأديم الجلد و الطلق وجع الولادة و يقال أزعجه أي قلعه عن مكانه و يقال تلمظ إذا أخرج لسانه فمسح به شفتيه و تلمظت الحية إذا أخرجت لسانها كتلمظت الأكل و الإداوة بالكسر إناء صغير من جلد يتخذ للماء و الطواحن الأضراس و يطلق الأضراس غالبا على المآخير و الأسنان على المقاديم كما هو الظاهر هنا و إن لم يفرق اللغويون بينهما و المراد بالطواحن هنا جميع الأسنان و الإساغة الأكل و الشرب بسهولة
اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الإنسان في هذه الأحوال المختلفة هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال أ فرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم و هو في الرحم أ لم يكن سيذوى و يجف كما يجف النبات إذا فقد الماء و لو لم يزعجه المخاض عند استحكامه أ لم يكن سيبقى في الرحم كالموءود في الأرض و لو لم يوافقه اللبن مع ولادته أ لم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه و لا يصلح عليه بدنه و لو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها أ لم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه و لا يصلح لعمل ثم كان تشتغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء فلا ترى له جلالة و لا وقارا فقال المفضل فقلت يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته و لا ينبت الشعر في وجهه و إن بلغ حال الكبر فقال ذلك بما قدمت أيديهم و إن الله ليس بظلام للعبيد فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شيء من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد و التقدير يأتيان بالخطإ و المحال لأنهما ضد الإهمال و هذا فظيع من القول و جهل من قائله لأن الإهمال لا يأتي بالصواب و التضاد لا يأتي بالنظام تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا و لو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف و ورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة و يوما بعد يوم و اعتبر ذلك بأن من سبي من بلد إلى بلد و هو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلم الكلام و قبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه و رطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شيء و حالا بعد حال حتى يألف الأشياء و يتمرن و يستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها و الحيرة فيها إلى التصرف و الاضطراب إلى المعاش بعقله و حيلته و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية و في هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد و ما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة و ما يوجب تربية للآباء على الأبناء من المكلفات بالبر و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء و حياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه و أمه و لا يمتنع من نكاح أمه و أخته و ذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن و أقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع و أعظم و أفظع و أقبح و أبشع لو خرج المولود من بطن أمه و هو يعقل أن يرى منها ما لا يحل له و لا يحسن به أن يراه أ فلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب و خلا من الخطإ دقيقه و جليله
بيان أ فرأيت أي أخبرني قال الزمخشري لما كانت مشاهدة الأشياء و رؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما و صحة الخبر عنها استعملوا أ رأيت بمعنى أخبر انتهى و يقال ذوى العود أي يبس و الموءود الذي دفن في الأرض حيا كما كان المشركون يفعلون في الجاهلية ببناتهم قوله ع أو يقيمه أي عدم طلوع الأسنان قوله ع ذلك بما قدمت أيديهم يحتمل أن يكون هذا لتعذيب الآباء و إن كان الأولاد يؤجرون لقباحة منظرهم أو للأولاد لما كان في علمه تعالى صدوره عنهم باختيارهم و يرصده أي يرقبه قوله ع فإن كان الإهمال أي إذا لم يكن الأشياء منوطة بأسبابها و لم ترتبط الأمور بعللها فكما جاز أن يحصل هذا الترتيب و النظام التام بلا سبب فجاز أن يصير التدبير في الأمور سببا لاختلالها و هذا خلاف ما يحكم به عقول كافة الخلق لما نرى من سعيهم في تدبير الأمور و ذمهم من يأتي بها على غير تأمل و روية و يحتمل أن يكون المراد أن الوجدان يحكم بتضاد آثار الأمور المتضادة و ربما أمكن إقامة البرهان عليه أيضا فإذا أتى الإهمال بالصواب يجب أن يأتي ضده و هو التدبير بالخطإ و هذا أفظع و أشنع و المراد بالمحال الأمر الباطل الذي لم يأت على وجهه الذي ينبغي أن يكون عليه قال الفيروزآبادي المحال من الكلام بالضم ما عدل عن وجهه انتهى و التيه الضلال و الحيرة و الغضاضة بالفتح الذلة و المنقصة و قوله ع معصبا أي مشدودا و التسجية التغطية بثوب يمد عليه و الغبي على فعيل قليل الفطنة و الاعتبار من العبرة و ذكر في مقابله السهو و الغفلة و قوله ما قدر و ما يوجب كلاهما معطوفان على موضع و قوله من المكلفات بيان لما يوجب أي لذهب التكاليف المتعلقة بالأولاد بأن يبروا آباءهم و يعطفوا عليهم عند حاجة الآباء إلى تربيتهم و إعانتهم لكبرهم و ضعفهم جزاء لما قاسوا من الشدائد في تربيتهم قوله أن يرى خبر لقوله أقل ما في ذلك
اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة و اعلم أن في أدمغة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة و عللا عظيمة من ذهاب البصر و غيره فالبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم و السلامة في أبصارهم أ فليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء و والداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان ليسكتاه و يتوخيان في الأمور مرضاته لئلا يبكي و هما لا يعلمان أن البكاء أصلح له و أجمل عاقبة فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال و لو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنه لا منفعة فيه من أجل أنهم لا يعرفونه و لا يعلمون السبب فيه فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون و كثير مما يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جل قدسه و علت كلمته فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حد البله و الجنون و التخليط إلى غير ذلك من الأمراض المختلفة كالفالج و اللقوة و ما أشبههما فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم فتفضل على خلقه بما جهلوه و نظر لهم بما لم يعرفوه و لو عرفوا نعمه عليهم لشغلهم ذلك عن التمادي في معصيته فسبحانه ما أجل نعمته و أسبغها على المستحقين و غيرهم من خلقه و تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا
بيان الدءوب الجد و التعب و التوخي التحري و القصد و قوله ع كل ما لا يعرفه أي مما لا يقصر عنه علم المخلوقين و يقال أبطل أي جاء بالباطل
انظر الآن يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر و الأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك فجعل للذكر آلة ناشزة تمتد حتى تصل النطفة إلى الرحم إذ كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره و خلق للأنثى وعاء قعر ليشتمل على الماءين جميعا و يحتمل الولد و يتسع له و يصونه حتى يستحكم أ ليس ذلك من تدبير حكيم لطيف سبحانه و تعالى عما يشركون
بيان المشاكلة المشابهة و المناسبة و اسم الإشارة راجع إلى ما مضى من التدبير في الخلق و يحتمل إرجاعه إلى الجماع
فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع و تدبير كل منها للإرب فاليدان للعلاج و الرجلان للسعي و العينان للاهتداء و الفم للاغتذاء و المعدة للهضم و الكبد للتخليص و المنافذ لتنفيذ الفضول و الأوعية لحملها و الفرج لإقامة النسل و كذلك جميع الأعضاء إذا تأملتها و أعملت فكرك فيها و نظرك وجدت كل شيء منها قد قدر لشيء على صواب و حكمة قال المفضل فقلت يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة فقال سلهم عن هذه الطبيعة أ هي شيء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم و القدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صنعته و إن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم و لا عمد و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم و أن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه
إيضاح قوله ع فما يمنعهم لعل المراد أنهم إذا قالوا بذلك فقد أثبتوا الصانع فلم يسمونه بالطبيعة و هي ليست بذات علم و إرادة و قدرة قوله ع علم أن هذا الفعل أي ظاهر بطلان هذا الزعم و الذي صار سببا لذهولهم أن الله تعالى أجرى عادته بأن يخلق الأشياء بأسبابها فذهبوا إلى استقلال تلك الأسباب في ذلك و بعبارة أخرى إن سنة الله و عادته قد جرت لحكم كثيرة أن تكون الأشياء بحسب بادئ النظر مستندة إلى غيره تعالى ثم يعلم بعد الاعتبار و التفكر أن الكل مستند إلى قدرته و تأثيره تعالى و إنما هذه الأشياء وسائل و شرائط لذلك فلذا تحيروا في الصانع تعالى فالضمير المنصوب في قوله أجراها راجع إلى السنة و ضمير عليه راجع إلى الموصول
فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن و ما فيه من التدبير فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه و تبعث بصفوة إلى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفي للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكاها و ذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ثم إن الكبد تقبله فيستحيل بلطف التدبير دما و ينفذ إلى البدن كله في مجاري مهيئة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء حتى يطرد في الأرض كلها و ينفذ ما يخرج منه من الخبث و الفضول إلى مفايض قد أعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة و ما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال و ما كان من البلة و الرطوبة جرى إلى المثانة فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن و وضع هذه الأعضاء منه مواضعها و إعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه و تنهكه فتبارك من أحسن التقدير و أحكم التدبير و له الحمد كما هو أهله و مستحقه قال المفضل فقلت صف نشوء الأبدان و نموها حالا بعد حال حتى تبلغ التمام و الكمال فقال ع أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين و لا تناله يد و يدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه و صلاحه من الأحشاء و الجوارح و العوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام و اللحم و الشحم و المخ و العصب و العروق و الغضاريف فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمي بجميع أعضائه و هو ثابت على شكل و هيئة لا تتزايد و لا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في عمره أو يستوفي مدته قبل ذلك هل هذا إلا من لطيف التدبير و الحكمة يا مفضل انظر إلى ما خص به الإنسان في خلقه تشريفا و تفضيلا على البهائم فإنه خلق ينتصب قائما و يستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه و جوارحه و يمكنه العلاج و العمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال
بيان قال الفيروزآبادي وشجت العروق و الأغصان اشتبكت و قال نكا القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فنديت انتهى و المفايض في بعض النسخ بالفاء أي مجاري من فاض الماء و في بعضها بالغين من غاض الماء غيضا أي نضب و ذهب في الأرض و المغيض المكان الذي يغيض فيه و إلى في قوله إلى ما في تركيب بمعنى مع و قال الفيروزآبادي الغضروف كل عظم رخو يؤكل و هو مارن الأنف و بعض الكتف و رءوس الأضلاع و رهابة الصدر و داخل فوق الأذن انتهى و قوله تتزايد و لا تنقص أي النسبة بين الأعضاء و بلوغ الأشد و هو القوة أن يكتهل و يستوفي السن الذي يستحكم فيها قوته و عقله و تميزه
انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الإنسان في خلقه و شرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من المطالعة الأشياء و لم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين و الرجلين فتعرضها الآفات و تصيبها من مباشرة العمل و الحركة ما يعللها و يؤثر فيها و ينقص منها و لا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن و الظهر فيعسر تقلبها و اطلاعها نحو الأشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواس و هو بمنزلة الصومعة لها فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان و لم يكن بصر يدركها لم يكن منفعة فيها و خلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات و لم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب و كذلك سائر الحواس ثم هذا يرجع متكافئا فلو كان بصر و لم يكن ألوان لما كان للبصر معنى و لو كان سمع و لم يكن أصوات لم يكن للسمع موضع فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكل حاسة محسوسا يعمل فيه و لكل محسوس حاسة تدركه و مع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس و المحسوسات لا يتم الحواس إلا بها كمثل الضياء و الهواء فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون و لو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت فهل يخفى على من صح نظره و أعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس و المحسوسات بعضها يلقى بعضا و تهيئة أشياء آخر بها تتم الحواس لا يكون إلا بعمد و تقدير من لطيف خبير
بيان قوله ع بعضها يلقى بعضا حال أو صفة بتأويل أو تقدير
فكر يا مفضل فيمن عدم البصر من الناس و ما يناله من الخلل في أموره فإنه لا يعرف موضع قدمه و لا يبصر ما بين يديه فلا يفرق بين الألوان و بين المنظر الحسن و القبيح و لا يرى حفرة إن هجم عليها و لا عدوا إن أهوى إليه بسيف و لا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة و التجارة و الصياغة حتى أنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى و كذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة فإنه يفقد روح المخاطبة و المحاورة و يعدم لذة الأصوات و اللحون الشجية المطربة و يعظم المئونة على الناس في محاورته حتى يتبرموا به و لا يسمع شيئا من أخبار الناس و أحاديثهم حتى يكون كالغائب و هو شاهد أو كالميت و هو حي فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيرا مما يهتدي إليه البهائم أ فلا ترى كيف صارت الجوارح و العقل و سائر الخلال التي بها صلاح الإنسان و التي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها فلم كان كذلك إلا لأنه خلق بعلم و تقدير
بيان روح المخاطبة بالفتح أي راحتها و لذتها و الشجو الحزن و لا يتوهم جواز الاستدلال به على عدم حرمة الغناء مطلقا لاحتمال أن يكون المراد الأفراد المحللة منها كما ذكرها الأصحاب و سيأتي ذكرها في بابه أو يكون فائدة إدراك تلك اللذة عظم الثواب في تركها لوجهه تعالى و قوله ع يوافي خلقه خبر صارت
قال المفضل فقلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي قال ع ذلك للتأديب و الموعظة لمن يحل ذلك به و لغيره بسببه كما قد يؤدب الملوك الناس للتنكيل و الموعظة فلا تنكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم و يصوب من تدبيرهم ثم للذين ينزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت أن شكروا و أنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها حتى أنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا و أزواجا و ما في ذلك من الحكمة و التقدير و الصواب في التدبير فالرأس مما خلق فردا و لم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد أ لا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا إرب فيه و لا حاجة إليه و إن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه و إن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ و أشباه هذا من الأخلاط و اليدان مما خلق أزواجا و لم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة لأن ذلك كان يخل به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء أ لا ترى أن النجار و البناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته و إن تكلف ذلك لم يحكمه و لم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان يتعاونان على العمل أطل الفكر يا مفضل في الصوت و الكلام و تهيئة آلاته في الإنسان فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت و اللسان و الشفتان و الأسنان لصياغة الحروف و النغم أ لا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين و من سقطت شفته لم يصحح الفاء و من ثقل لسانه لم يفصح الراء و أشبه شيء بذلك المزمار الأعظم فالحنجرة يشبه قصبة المزمار و الرية يشبه الزق الذي ينفخ فيه لتدخل الريح و العضلات التي تقبض على الرية ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزمار و الشفتان و الأسنان التي تصوغ الصوت حروفا و نغما كالأصابع التي يختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه و إن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة و التعريف فإن المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام و إقامة الحروف و فيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرية فتروح على الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو احتبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان و باللسان تذاق الطعوم فيميز بينها و يعرف كل واحد منها حلوها من مرها و حامضها من مزها و مالحها من عذبها و طيبها من خبيثها و فيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام و الشراب و الأسنان تمضغ الطعام حتى تلين و يسهل إساغته و هي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكها و تدعمهما من داخل الفم و اعتبر ذلك بأنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة و مضطربها و بالشفتين يترشف الشراب حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد و قدر لا يثج ثجا فيغص به الشارب أو ينكي في الجوف ثم هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء و يطبقهما إذا شاء ففيما وصفنا من هذا بيان أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف و ينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى و ذلك كالفأس يستعمل في النجارة و الحفر و غيرهما من الأعمال و لو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض و تمسكه فلا يضطرب و لرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما يفته هد الصدمة و الصكة التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر حتى صار بمنزلة الفرو للرأس يستره من شدة الحر و البرد فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه و جعله ينبوع الحس و المستحق للحيطة و الصيانة بعلو منزلته من البدن و ارتفاع درجته و خطر مرتبته
بيان المز بين الحلو و الحامض و الثج السيلان و الغصص أن يقف الشيء في الحلق فلم يكد يسيغه و الجمجمة عظم الرأس المشتمل على الدماغ و البيضة هي التي توضع على الرأس في الحرب و ألفت الكسر و هد البناء كسره و ضعضعه و هدته المصيبة أي أوهنت ركنه و الحيطة بالكسر الحياطة و الرعاية
تأمل يا مفضل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء و الأشفار كالأشراج و أولجها في هذا الغار و أظلها بالحجاب و ما عليه من الشعر
بيان الجفن غطاء العين من أعلى و أسفل و الأشفار هي حروف الأجفان التي عليها الشعر و الأشراج العرى و كأنه ع شبه الأشفار بالعرى و الخيط المشدود بها فإن بهما ترفع الأستار و تسدل عند الحاجة إليهما أو بالعرى التي تكون في العيبة من الأدم و غيره يكون فيها خيط إذا شدت به يكون ما في العيبة محفوظا مستورا و كلاهما مناسب و الأول أنسب بالغشاء قال الجزري في حديث الأحنف فأدخلت ثياب صوني العيبة فأشرجتها يقال أشرجت العيبة و شرجتها إذا شددتها بالشرج و هي العرى انتهى و أولجها يعني أدخلها
يا مفضل من غيب الفؤاد في جوف الصدر و كساه المدرعة التي هي غشاؤه و حصنه بالجوانح و ما عليها من اللحم و العصب لئلا يصل إليه ما ينكؤه من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت و هو الحلقوم المتصل بالرية و الآخر منفذ الغذاء و هو المريء المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها و جعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرية فيقتل من جعل الرية مروحة الفؤاد لا تفتر و لا تخل لكيلا تتحيز الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف من جعل لمنافذ البول و الغائط أشراجا تضبطهما لئلا يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا بل الذي لا يحصى منه و لا يعلمه الناس أكثر من جعل المعدة عصبانية شديدة و قدرها لهضم الطعام الغليظ و من جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء و لتهضم و تعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلا الله القادر أ ترى الإهمال يأتي بشيء من ذلك كلا بل هو تدبير من مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها لا يعجزه شيء وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
تبيان الجوانح الأضلاع التي مما يلي الصدر و قوله ع لا تخل من الإخلال بالشيء بمعنى تركه و قوله تتحيز إما من الحيز أي تسكن أو من قولهم تحيزت الحية أي تلوت
فكر يا مفضل لم صارت المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام هل ذلك إلا ليحفظه و يصونه لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلا لتضبطه فلا يفيض لم صارت الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها و معونة على العمل لم صار داخل الأذن ملتويا كهيئة الكوكب إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع و ليتكسر حمة الريح فلا ينكي في السمع لم حمل الإنسان على فخذيه و أليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليهما كما يألم من نحل جسمه و قل لحمه إذا لم يكن بينه و بين الأرض حائل يقيه صلابتها من جعل الإنسان ذكرا و أنثى إلا من خلقه متناسلا و من خلقه متناسلا إلا من خلقه مؤملا و من خلقه مؤملا و من أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملا و خلقه عاملا إلا من جعله محتاجا و من جعله محتاجا إلا من ضربه بالحاجة و من ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه من خصه بالفهم إلا من أوجب له الجزاء و من وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول و من ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره فكر و تدبر ما وصفته هل تجد الإهمال على هذا النظام و الترتيب تبارك الله عما يصفون
بيان الكوكب المحبس و اطرد الشيء تبع بعضه بعضا و جرى و قال الجوهري حمة الحر معظمه و قوله ع إلا من خلقه مؤملا إشارة إلى أن الأمل و الرجاء في البقاء هو السبب لتحصيل النسل و لذا جعل الإنسان ذا أمل لبقاء نوعه قوله ع إلا من ضربه بالحاجة أي سبب له أسباب الاحتياج و خلقه بحيث يحتاج قوله ع إلا من توكل بتقويمه أي تكفل برفع حاجته و تقويم أوده و الحول القوة
أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرية تروح عن الفؤاد حتى لو اختلفت تلك الثقب و تزايل بعضها عن بعض لما وصل الروح إلى الفؤاد و لهلك الإنسان أ فيستجيز ذو فكر و روية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال و لا يجد شاهدا من نفسه ينزعه عن هذا القول لو رأيت فردا من مصراعين فيه كلوب أ كنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر فتبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة و هكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل و بقائه فتبا و خيبة و تعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير و العمد فيها لو كان فرج الرجل مسترخيا كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتى يفرغ النطفة فيه و لو كان منعظا أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش أو يمشي بين الناس و شيء شاخص أمامه ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال و النساء جميعا فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت و لا يكون على الرجال منه مئونة بل جعل فيه القوة على الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك لما قدر أن يكون فيه دوام النسل و بقاؤه
توضيح قال الجوهري وزعته أزعه وزعا كففته انتهى و الكلوب بالتشديد حديدة معوجة الرأس و في بعض النسخ كلون و هو فارسي قوله ع مهيأة في بعض النسخ بالياء فلفظة من تعليلية و في بعضها بالنون فمن تعليلية أو ابتدائية أي إنما يتم عيشه بأنثى و على التقديرين يحتمل أن يكون بمعنى مع أن جوز استعماله فيه و قال الجوهري تبا لفلان تنصبه على المصدر بإضمار فعل أي ألزمه الله هلاكا و خسرانا و قال التعس الهلاك يقال تعسا لفلان أي ألزمه الله هلاكا
اعتبر الآن يا مفضل بعظيم النعمة على الإنسان في مطعمه و مشربه و تسهيل خروج الأذى أ ليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع فيها فكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه فلم يجعله بارزا من خلفه و لا ناشرا من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان و تحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فيواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء و جلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصبا مهيئا لانحدار الثفل فتبارك الله من تظاهرت آلاؤه و لا تحصى نعماؤه
بيان ألفى أي وجد و قوله ع منصبا إما من الانصباب كناية عن التدلي أو من باب التفعيل من النصب قال الفيروزآبادي نصب الشيء وضعه و رفعه ضد كنصبه فانتصب و تنصب
فكر يا مفضل في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان فبعضها حداد لقطع الطعام و قرضه و بعضها عراض لمضغه و رضه فلم ينقص واحد من الصفتين إذ كان محتاجا إليهما جميعا تأمل و اعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر و الأظفار فإنهما لما كانا مما يطول و يكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا جعلا عديمي الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما و لو كان قص الشعر و تقليم الأظفار مما يوجد له مس من ذلك لكان الإنسان من ذلك بين مكروهين إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيثقل عليه و إما أن يخففه بوجع و ألم يتألم منه قال المفضل فقلت فلم لم يجعل ذلك خلقه لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه فقال ع إن لله تبارك اسمه في ذلك على العبد نعما لا يعرفها فيحمد عليها اعلم أن آلام البدن و أدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامه و بخروج الأظفار من أناملها و لذلك أمر الإنسان بالنورة و حلق الرأس و قص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر و الأظفار في النبات فتخرج الآلام و الأدواء بخروجها و إذا طالا تحيرا و قل خروجهما فاحتبست الآلام و الأدواء في البدن فأحدثت عللا و أوجاعا و منع مع ذلك الشعر من المواضع التي يضر بالإنسان و يحدث عليه الفساد و الضرر لو نبت الشعر في العين أ لم يكن سيعمى البصر و لو نبت في الفم أ لم يكن سيغص على الإنسان طعامه و شرابه و لو نبت في باطن الكف أ لم يكن سيعوقه عن صحة اللمس و بعض الأعمال فلو نبت في فرج المرأة أو على ذكر الرجل أ لم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع فانظر كيف تنكب الشعر هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ثم ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم و السباع و سائر المتناسلات فإنك ترى أجسامهن مجللة بالشعر و ترى هذه المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطأ و المضرة و تأتي بالصواب و المنفعة أن المنانية و أشباههم حين اجتهدوا في عيب الخلقة و العمد عابوا الشعر النابت على الركب و الإبطين و لم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنقع المياه أ فلا ترى إلى هذه المواضع أستر و أهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مئونة هذا البدن و تكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإن اهتمامه بتنظيف بدنه و أخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته و يكف عاديته و يشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و البطالة تأمل الريق و ما فيه من المنفعة فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق و اللهوات فلا يجف فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه تشهد بذلك المشاهدة و اعلم أن الرطوبة مطية الغذاء و قد تجري من هذه البلة إلى موضع آخر من المرة فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان و لو يبست المرة لهلك الإنسان و لقد قال قوم من جهلة المتكلمين و ضعفة المتفلسفين بقلة التميز و قصور العلم لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه و يدخل يده فيعالج ما أراد علاجه أ لم يكن أصلح من أن يكون مصمتا محجوبا عن البصر و اليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول و حس العرق و ما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط و الشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أنه كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض و الموت و كان يستشعر البقاء و يغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو و الأشر ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح و تتحلب فيفسد على الإنسان مقعده و مرقده و ثياب بذلته و زينته بل كان يفسد عليه عيشه ثم إن المعدة و الكبد و الفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته و اليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزية و بطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان أ فلا ترى أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ و خطل
إيضاح الركب بالتحريك منبت العانة و مستنقع الماء بالفتح مجتمعه و شرة الشباب بالكسر حرصه و نشاطه و العادية الظلم و الشر و الأشر بالتحريك البطر و شدة الفرح و اللهوات جمع لهات و هي اللحمة في سقف أقصى الفم و قوله ع من المرة بيان لموضع آخر و عتا عتوا استكبر و جاوز الحد و يقال تحلب العرق أي سال و الخطل المنطق الفاسد المضطرب
فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم و النوم و الجماع و ما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه و يستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن و قوامه و الكرا تقضي النوم الذي فيه راحة البدن و إجمام قواه و الشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل و بقاؤه و لو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه و لم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالتثقل و الكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء بشيء مما يصلح ببدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض و الموت و كذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالتفكر في حاجته إلى راحة البدن و إجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدمغه حتى ينهك بدنه و لو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد و لا يحفل به فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان و صلاحه محرك من نفس الطبع يحركه لذلك و يحدوه عليه و اعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء و تورده على المعدة و قوة ممسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها و قوة هاضمة و هي التي تطبخه و تستخرج صفوه و تبثه في البدن و قوة دافعة تدفعه و تحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها تفكر في تقدير هذه القوى الأربعة التي في البدن و أفعالها و تقديرها للحاجة إليها و الإرب فيها و ما في ذلك من التدبير و الحكمة و لو لا الجاذبة كيف يتحرك الإنسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن و لو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة و لو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن و يسد خلله و لو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع و يخرج أولا فأولا أ فلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه و حسن تقديره هذه القوى بالبدن و القيام بما فيه صلاحه و سأمثل لك في ذلك مثالا إن البدن بمنزلة دار الملك و له فيها حشم و صبية و قوام موكلون بالدار فواحد لإقضاء حوائج الحشم و إيرادها عليهم و آخر لقبض ما يرد و خزنه إلى أن يعالج و يهيأ و آخر لعلاج ذلك و تهيئته و تفريقه و آخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار و إخراجه منها فالملك في هذا هو الخلاق الحكيم ملك العالمين و الدار هي البدن و الحشم هي الأعضاء و القوام هي هذه القوى الأربع و لعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع و أفعالها بعد الذي وصفت فضلا و تزدادا و ليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء و لا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب و تصحيح الأبدان و ذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين و شفاء النفوس من الغي كالذي أوضحته بالوصف الشافي و المثل المضروب من التدبير و الحكمة فيها
تبيان الطعم بالضم الأكل و الكرا السهر و الجمام بالفتح الراحة يقال جم الفرس جما و جماما إذا ذهب إعياؤه و الشبق بالتحريك شدة شهوة الجماع و توانى في حاجته أي قصر و لا يحفل به أي لا يبالي به و تحدر الثفل كتنصر أي ترسل و قوله ع و لو لا الجاذبة يدل على أن لها مدخلا في شهوة الطعام و قوله ع خلله كأنه بالضم جمع الخلة و هي الحاجة أو بالكسر أي الخلال و الفرج التي حصلت في البدن بتحلل الرطوبات قوله ع و لعلك ترى يحتمل أن يكون الغرض دفع توهم السائل كون ذكر التمثيل بعد ذكر القوى و منافعها على الوجه الذي ذكره الأطباء و اكتفوا به إطنابا و تكرارا و حاصله أن الأطباء إنما ذكروها على ما يحتاجون إليه في صناعتهم من ذكر أفعال تلك القوى و سبب تعطلها و لذا لم يحتاجوا إلى ذكر ما أوردنا من التمثيل و نحن إنما ذكرنا هذا التمثيل لتتضح دلالتها على صانعها و مدبرها إذ هذه مقصودنا من ذكرها و يحتمل أن يكون الغرض رفع توهم أن ذكره هذه القوى بعد كونها مذكورة في كتب الأطباء فضل لا حاجة إليه بأن الغرض مختلف في بياننا و بيانهم و بذلك يختلف التقرير أيضا فلذا ذكرنا هاهنا بهذا التقرير الشافي فالضمير في قوله وصفت على بناء المجهول راجع إلى القوى و العائد محذوف أي وصفت به لكنه بعيد
تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس و موقعها من الإنسان أعني الفكر و الوهم و العقل و الحفظ و غير ذلك أ فرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله و كم من خلل كان يدخل عليه في أموره و معاشه و تجاربه إذا لم يحفظ ما له و عليه و ما أخذه و ما أعطى و ما رأى و ما سمع و ما قال و ما قيل له و لم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به و ما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى و لا يحفظ علما و لو درسه عمره و لا يعتقد دينا و لا ينتفع بتجربة و لا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلا فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال و كيف موقع الواحدة منها دون الجميع و أعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة و لا انقضت له حسرة و لا مات له حقد و لا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات و لا رجا غفلة من سلطان و لا فترة من حاسد أ فلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ و النسيان و هما مختلفان متضادان و جعل له في كل منهما ضرب من المصلحة و ما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة و قد تراها تجتمع على ما فيه الصلاح و المنفعة
بيان دون الجميع أي فضلا عن الجميع و يقال سلا عنه أي نسيه و قد مضى منا ما يمكن أن يستعمل في فهم آخر الكلام في موضعين فتذكر
انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدرة العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف و لم يوف بالعدات و لم تقض الحوائج و لم يتحر الجميل و لم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء حتى أن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس من لو لا الحياء لم يرع حق والديه و لم يصل ذا رحم و لم يؤد أمانة و لم يعف عن فاحشة أ فلا ترى كيف وفي للإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه و تمام أمره
بيان إقراء الضيف ضيافتهم و إكرامهم و التنكب التجنب و وفي على بناء المجهول من التوفية و هي إعطاء الشيء وافيا
تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عما في ضميره و ما يخطر بقلبه و نتيجة فكره و به يفهم عن غيره ما في نفسه و لو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء و لا تفهم عن مخبر شيئا و كذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين و أخبار الباقين للآتين و بها تخلد الكتب في العلوم و الآداب و غيرها و بها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه و بين غيره من المعاملات و الحساب و لولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض و أخبار الغائبين عن أوطانهم و درست العلوم و ضاعت الآداب و عظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم و معاملاتهم و ما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم و ما روي لهم مما لا يسعهم جهله و لعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة و الفطنة و ليست مما أعطيه الإنسان من خلقه و طباعه و كذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم و لهذا صار يختلف في الأمم المختلفة بألسن مختلفة و كذلك الكتابة ككتابة العربي و السرياني و العبراني و الرومي و غيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان و إن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل و الحيلة عطية و هبة من الله عز و جل في خلقه فإنه لو لم يكن لسان مهيأ للكلام و ذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا و لو لم يكن له كف مهيأة و أصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا و اعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها و لا كتابة فأصل ذلك فطرة البارئ جل و عز و ما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ
بيان كلامه هاهنا مشعر بأن واضع اللغات البشر فتدبر
ذكر يا مفضل فيما أعطي الإنسان علمه و ما منع فإنه أعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه و دنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك و تعالى بالدلائل و الشواهد القائمة في الخلق و معرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة و بر الوالدين و أداء الأمانة و مواساة أهل الخلة و أشباه ذلك مما قد توجد معرفته و الإقرار و الاعتراف به في الطبع و الفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة و كذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة و الغراس و استخراج الأرضين و اقتناء الأغنام و الأنعام و استنباط المياه و معرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام و المعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر و ركوب السفن و الغوص في البحر و ضروب الحيل في صيد الوحش و الطير و الحيتان و التصرف في الصناعات و وجوه المتاجر و المكاسب و غير ذلك مما يطول شرحه و يكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه و دنياه و منع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه و لا طاقته أن يعلم كعلم الغيب و ما هو كائن و بعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء و ما تحت الأرض و ما في لجج البحار و أقطار العالم و ما في قلوب الناس و ما في الأرحام و أشباه هذا مما حجب على الناس علمه و قد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما بين من خطئهم فيما يقضون عليه و يحكمون به فيما ادعوا علمه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه و دنياه و حجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره و نقصه و كلا الأمرين فيهما صلاحه تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره و كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت و توقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس و إن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله أ لا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كل الأمور و في كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أ و ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شيء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات و تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه و يبني عليه أمره فيصفح الله عنه و يتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل و يعد و يمني نفسه التوبة في الآجل و لأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه و التلذذ و معاناة التوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل و قد نفد المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصالح فإن قلت و ها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم قلنا إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى
عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي و لا ينصرف عن المساوي فإنما ذلك من مرحه و من قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره و لا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته و لم يكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه و لئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت و إن كان صنف من الناس يلهون عنه و لا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها
بيان انهمك الرجل في الأمر أي جد و لج و التسلف الاقتراض كأنه يجري معاملة مع ربه بأن يتصرف في اللذات عاجلا و يعد ربه في عوضها التوبة ليؤدي إليه آجلا و في بعض النسخ يستسلف و هو طلب بيع الشيء سلفا و المعاناة مقاساة العناء و المشقة و يرهقه أي يغشاه و يلحقه و انتهاك المحارم المبالغة في خرقها و إتيانها و الارعواء الكف عن الشيء و قيل الندم على الشيء و الانصراف عنه و تركه و المرح شدة الفرح و قال الفيروزآبادي العقيلة من كل شيء أكرمه و كريمة الإبل و قال العقال ككتاب زكاة عام من الإبل
فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء و لو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها أو مضرة يتحذر منها و تكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد فكر في هذه الأشياء التي تراها موجودة معدة في العالم من مآربهم فالتراب للبناء و الحديد للصناعات و الخشب للسفن و غيرها و الحجارة للأرحاء و غيرها و النحاس للأواني و الذهب و الفضة للمعاملة و الجوهر للذخيرة و الحبوب للغذاء و الثمار للتفكه و اللحم للمأكل و الطيب للتلذذ و الأدوية للتصحيح و الدواب للحمولة و الحطب للتوقد و الرماد للكلس و الرمل للأرض و كم عسى أن يحصي المحصي من هذا و شبهه أ رأيت لو أن داخلا دخل دارا فنظر إلى خزائن مملوة من كل ما يحتاج إليه الناس و رأى كل ما فيها مجموعا معدا لأسباب معروفة لكان يتوهم أن مثل هذا يكون بالإهمال و من غير عمد فكيف يستجيز قائل أن يقول هذا في العالم و ما أعد فيه من هذه الأشياء
بيان التفكه التنعم الكلس بالكسر الصاروج قوله ع للأرض أي لفرشها
اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان و ما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه و كلف طحنه و عجنه و خبزه و خلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه و غزله و نسجه و خلق له الشجر فكلف غرسها و سقيها و القيام عليها و خلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها و خلطها و صنعها و كذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة و ترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل و حركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفي هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل و عمل لما حملته الأرض أشرا و بطرا و لبلغ به كذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه و لو كفي الناس كل ما يحتاجون إليه لما تهنئوا بالعيش و لا وجدوا له لذة أ لا ترى لو أن امرأ نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم و مشرب و خدمة لتبرم بالفراغ و نازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء و كان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة و لتكفه عن تعاطي ما لا يناله و لا خير فيه إن ناله و اعلم يا مفضل إن رأس معاش الإنسان و حياته الخبز و الماء فانظر كيف دبر الأمر فيهما فإن حاجة الإنسان إلى الماء أشد من حاجته إلى الخبز و ذلك أن صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش و الذي يحتاج إليه من الماء أكثر مما يحتاج إليه من الخبز لأنه يحتاج إليه لشربه و وضوئه و غسله و غسل ثيابه و سقي أنعامه و زرعه فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه و تكلفه و جعل الخبز متعذرا لا ينال إلا بالحيلة و الحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشر و العبث أ لا ترى أن الصبي يدفع إلى المؤدب و هو طفل لم يكمل ذاته للتعليم كل ذلك ليشتغل عن اللعب و العبث اللذين ربما جنيا عليه و على أهله المكروه العظيم و هكذا الإنسان لو خلا من الشغل لخرج من الأشر و العبث و البطر إلى ما يعظم ضرره عليه و على من قرب منه و اعتبر ذلك بمن نشأ في الجدة و رفاهية العيش و الترفه و الكفاية و ما يخرجه ذلك إليه اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بآخر كما يتشابه الوحوش و الطير و غير ذلك فإنك ترى السرب من الظباء و القطا تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها و بين الأخرى و ترى الناس مختلفة صورهم و خلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة و العلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم و حلاهم لما يجري بينهم من المعاملات و ليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه و حليته أ لا ترى أن التشابه في الطير و الوحش لا يضرهما شيئا و ليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأمان تشابها شديدا فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما
حتى يعطى أحدهما بالآخر و يؤخذ أحدهما بذنب الآخر و قد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصورة فمن لطف لعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلا من وسعت رحمته كل شيء لو رأيت تمثال الإنسان مصورا على حائط فقال لك قائل إن هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أ كنت تقبل ذلك بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصور جماد و لا تنكر في الإنسان الحي الناطق لم صارت أبدان الحيوان و هي تغتذي أبدا لا تنمي بل تنتهي إلى غاية من النمو ثم تقف و لا تتجاوزها لو لا التدبير في ذلك فإن من تدبير الحكيم فيها أن يكون أبدان كل صنف منها على مقدار معلوم غير متفاوت في الكبير و الصغير و صارت تنمي حتى تصل إلى غايتها ثم يقف ثم لا يزيد و الغذاء مع ذلك دائم لا ينقطع و لو كانت تنمي نموا دائما لعظمت أبدانها و اشتبهت مقاديرها حتى لا يكون لشيء منها حد يعرف لم صارت أجسام الإنس خاصة تثقل عن الحركة و المشي و يجفو عن الصناعات اللطيفة إلا لتعظيم المئونة فيما يحتاج إليه الناس للملبس و المضجع و التكفين و غير ذلك لو كان الإنسان لا يصيبه ألم و لا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش و يتواضع لله و يتعطف على الناس أ ما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع و استكان و رغب إلى ربه في العافية و بسط يديه بالصدقة و لو كان لا يألم من الضرب بم كان السلطان يعاقب الدعار و يذل العصاة المردة و بم كان الصبيان يتعلمون العلوم و الصناعات و بم كان العبيد يذلون لأربابهم و يذعنون لطاعتهم أ فليس هذا توبيخ لابن أبي العوجاء و ذويه اللذين جحدوا التدبير و المانوية الذين أنكروا الألم و الوجع لو لم يولد من الحيوان إلا ذكر فقط أو إناث فقط أ لم يكن النسل منقطعا و باد مع ذلك أجناس الحيوان فصار بعض الأولاد يأتي ذكورا و بعضها يأتي إناثا ليدوم التناسل و لا ينقطع لم صار الرجل و المرأة إذا أدركا نبتت لهما العانة ثم نبتت اللحية للرجل و تخلفت عن المرأة لو لا التدبير في ذلك فإنه لما جعل الله تبارك و تعالى الرجل قيما و رقيبا على المرأة و جعل المرأة عرسا و خولا للرجل أعطى الرجل اللحية لما له من العزة و الجلالة و الهيبة و منعها المرأة لتبقى لها نظارة الوجه و البهجة التي تشاكل المفاكهة و المضاجعة أ فلا ترى الخلقة كيف يأتي بالصواب في الأشياء و تتخلل مواضع الخطإ فتعطى و تمنع على قدر الإرب و المصلحة بتدبير الحكيم عز و جل
بيان جنى الذنب عليه يجنيه جناية جره إليه و الجدة بالتخفيف الغناء قوله ع في تشابه الأشياء أي قد يشبه مال شخص بمال شخص آخر كثوب أو نعل أو دينار أو درهم فيصير سببا للاشتباه و التشاجر و التنازع فضلا عن تشابه الصورة فإنه أعظم فسادا و المراد أن الناس كثيرا ما يشتبه عليهم أمر رجلين لتشابه لباسهما و مركوبهما و غير ذلك فيؤخذ أحدهما بالآخر فكيف مع تشابه الصورة قوله ع و اشتبهت مقاديرها أي لم يعرف غاية ما ينتهي إليه مقداره فيشتبه الأمر عليه فيما يريد أن يهيئه لنفسه من دار و دابة و ثياب و زوجة قوله ع و يجفو أي يبعد و يجتنب و لا يداوم على الصناعات اللطيفة أي التي فيها دقة و لطافة قال الجزري و في الحديث اقرءوا القرآن و لا تجفوا عنه أي تعاهدوه و تبعدوا عن تلاوته انتهى. و الحاصل أن الله تعالى جعل الإنسان بحيث تثقل عن الحركة و المشي قبل سائر الحيوانات و تكل عن الأعمال الدقيقة لتعظم عليه مئونة تحصيل ما يحتاج إليه فلا يبطر و لا يطغى أو ليكون لهذه الأعمال أجر فيصير سببا لمعايش أقوام يزاولونها و الدعار في بعض النسخ بالمهملة من الدعر محركة الفساد و الفسق و الخبث و في بعضها بالمعجمة من الدغرة و هي أخذ الشيء اختلاسا و العرس بالكسر امرأة الرجل و الخول محركة ما أعطاك الله من النعم و العبيد و الإماء و المفاكهة الممازحة و المضاحكة قوله ع و تخلل مواضع الخطإ يحتمل أن تكون الجملة حالية أي تأتي بالصواب مع أنها تدخل مواضع هي مظنة الخطإ من قولهم تخللت القوم أي دخلت خلالهم و يحتمل أن يكون المراد بالتخلل التخلف أو الخروج من خلالها لكن تطبيقهما على المعاني اللغوية يحتاج إلى تكلف
قال المفضل ثم حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة و قال بكر إلي غدا إن شاء الله فانصرفت من عنده مسرورا بما عرفته مبتهجا بما أوتيته حامدا لله على ما أنعم به علي شاكرا لأنعمه على ما منحني بما عرفنيه مولاي و تفضل به علي فبت في ليلتي مسرورا بما منحنيه محبورا بما علمنيه
تم المجلس الأول و يتلوه المجلس الثاني من كتاب الأدلة على الخلق و التدبير و الرد على القائلين بالإهمال و منكري العمد برواية المفضل عن الصادق صلوات الله عليه و على آبائه
قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستوذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال الحمد لله مدير الأدوار و معيد الأكوار طبقا عن طبق و عالما بعد عالم لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى عدلا منه تقدست أسماؤه و جلت آلاؤه لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يشهد بذلك قوله جل قدسه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ في نظائر لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء و لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ و لذلك قال سيدنا محمد صلوات الله عليه و آله إنما هي أعمالكم ترد إليكم ثم أطرق هنية ثم قال يا مفضل الخلق حيارى عمهون سكارى في طغيانهم يترددون و بشياطينهم و طواغيتهم يقتدون بصراء عمي لا يبصرون نطقاء بكم لا يعقلون سمعاء صم لا يسمعون رضوا بالدون و حسبوا أنهم مهتدون حادوا عن مدرجة الأكياس و رتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون و عن المجازات مزحزحون يا ويلهم ما أشقاهم و أطول عناءهم و أشد بلاءهم يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ قال المفضل فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت و نجوت إذ عرفت ثم قال أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة و لو كانت كذلك لا تنثني و لا تتصرف في الأعمال و لا هي على غاية اللين و الرخاوة فكانت لا تتحامل و لا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو تنثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب و عروق تشده و يضم بعضه إلى بعض و غلفت فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله و من أشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان و تلف بالخرق و تشد بالخيوط و يطلى فوق ذلك بالصمغ فيكون العيدان بمنزلة العظام و الخرق بمنزلة اللحم و الخيوط بمنزلة العصب و العروق و الطلا بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان و فكر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم و العظم و العصب أعطيت أيضا السمع و البصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان و لا تصرفت في شيء من مآربه ثم منعت الذهن و العقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد و حملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون و يذعنون بالكد الشديد و هم مع ذلك غير عديمي العقل و الذهن فيقال في جواب ذلك أن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل و الطحن و ما أشبه ذلك و لا يغرون بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد و البغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقهم من التعب الفادح في أبدانهم و الضيق و الكد في معاشهم
إيضاح مدير الأدوار لعل فيه مضافا محذوفا أي ذوي الأدوار أو الإسناد مجازي و في بعض النسخ بالباء الموحدة و هو أضهر و الأكوار جمع كور بالفتح و هو الجماعة الكثيرة من الإبل و القطيع من الغنم و يقال كل دور كور و المراد إما استئناف قرن بعد قرن و زمان بعد زمان أو إعادة أهل الأكوار و الأدوار جميعا في القيامة و الأول أظهر و قال الجزري قيل للقرن طبق لأنهم طبق للأرض ثم ينقرضون فيأتي طبق آخر قوله ع في نظائر أي قالها في ضمن نظائر لها أو مع نظائرها قوله ص إنما هي أي المثوبات و العقوبات أعمالكم أي جزاؤها و العمه التحير و التردد و الحيد الميل و المدرجة المذهب و المسلك و زحزحه أبعده و الانثناء الانعطاف و الميل قوله ع و لا يغرون في بعض النسخ بالغين المعجمة و الراء المهملة على بناء المفعول من قولهم أغريت الكلب بالصيد أي لا يؤثر فيهم الإغراء و التحريص على جميع الأعمال التي يحتاج إليها الخلق من ذلك العمل الذي تأتي به الدواب و في بعضها بالعين المهملة و الزاي المعجمة من عزي من باب تعب أي صبر على ما نابه و الأول أظهر و الفادح من قولهم فدحه الدين أثقله ثم اعلم أنه ينبغي حمل السؤال على أنه كان يمكن أن يكتفى بخلق الحيوانات لأن بعضهم ينقادون و يطيعون بعضا فالجواب منطبق من غير تكلف
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان و في خلقها على ما هي عليه بما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن و فطنة و علاج لمثل هذه الصناعات من البناء و التجارة و الصياغة و غير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء و أوكدها هذه الصناعات و آكلات اللحم لما قدر أن يكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن و مخاليب تصلح لأخذ الصيد و لا تصلح للصناعات و آكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذات صنعة و لا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاول طلب الرعي و لبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض ليتهيأ للركوب و الحمولة تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد و براثن شداد و أشداق و أفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك و أعينت بسلاح و أدوات تصلح للصيد و كذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير و مخاليب مهيأة لفعلها و لو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا يحتاج إليه لأنها لا تصيد و لا تأكل اللحم و لو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي به تصيد و تتعيش أ فلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه و طبقته بل ما فيه بقاؤه و صلاحه انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل و التربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أمهاتها ما عند أمهات البشر من الرفق و العلم بالتربية و القوة عليها بالأكف و الأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض و الاستقلال بأنفسها و كذلك ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج و الدراج و القبج تدرج و تلقط حين ينقاب عنها البيض فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام و اليمام و الحمر فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها و لذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما تزرق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد و لا تموت فكل أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي و لو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه و يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة و يعتمد على واحدة و ذو الأربع ينقل اثنين و يعتمد على اثنين و ذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمين من أحد جانبيه و يعتمد على قائمين من الجانب الآخر
لما يثبت على الأرض كما لا يثبت السرير و ما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره و ينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض و لا يسقط إذا مشى أ ما ترى الحمار كيف يذل للطحن و الحمولة و هو يرى الفرس مودعا منعما و البعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي و الثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه و يحرث به و الفرس الكريم يركب السيوف و الأسنة بالمؤاتاة لفارسه و القطيع من الغنم يرعاه رجل واحد و لو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في ناحية لم يلحقها و كذلك جميع الأصناف مسخرة للإنسان فبم كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل و الروية فإنها لو كانت تعقل و تروي في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده و الثور على صاحبه و تتفرق الغنم عن راعيها و أشباه هذا من الأمور و كذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل و روية فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد و الذئاب و النمورة و الدببة لو تعاونت و تظاهرت على الناس أ فلا ترى كيف حجر ذلك عليها و صارت مكان ما كان يخاف من أقدمها و نكايتها تهاب مساكن الناس و تحجم عنها ثم لا تظهر و لا تنشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف للإنس بل مقموعة ممنوعة منهم و لو لا ذلك لساورتهم في مساكنهم و ضيعت عليهم ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه و محاماة عنه و حفاظ له فهو ينتقل على الحيطان و السطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه و ذب الدغار عنه و يبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه و دون ماشيته و ماله و يألفه غاية الإلف حتى يصبر معه على الجوع و الجفوة فلم طبع الكلب على هذا الإلف إلا ليكون حارسا للإنسان له عين بأنياب و مخالب و نباح هائل ليذعر منه السارق و يتجنب الواضع التي يحميها و يخفرها
بيان و أوكدها أي أوكد الأشياء و أحوجها إلى هذا النوع من الخلق هذه الصناعات و يحتمل إرجاع الضمير إلى جنس البشر فيكون فعلا أي ألزمها أو ألهمها هذه الصناعات و لا يبعد إرجاعه إلى الأكف أيضا قوله ع مدمجة أي انضم بعضها إلى بعض قال الجوهري دمج الشيء دموجا إذا دخل في الشيء و استحكم فيه و أدمجت الشيء إذا لففته في ثوب و في بعض النسخ مدبحة بالباء و الحاء المهملة و لعل المراد معوجة من قولهم دبح تدبيحا أي بسط ظهره و طأطأ رأسه و هو تصحيف و البراثن من السباع و الطير بمنزلة الأصابع من الإنسان و المخلب ظفر البرثن و الململم بفتح اللامين المجتمع المدور المصموم و الأخمص من باطن القدم ما لا يصيب الأرض و الشدق جانب الفم و الطعم بالضم الطعام و الأمات جمع الأم و قيل إنما تستعمل في البهائم و أما في الناس فيقال أمهات و يقال قاب الطير بيضته فلقها فانقابت و اليمام حمام الوحش و الحمر بضم الحاء و فتح الميم طائر و قد يشدد الميم و يقال مج الرجل الطعام من فيه إذا رمى به و المودع من الخيل بفتح الدال المستريح و نير الفدان بالكسر الخشبة المعترضة في عنق الثورين قوله ع يركب السيوف أي يستقبلها بجرأة كأنه يركبها أو بمعنى يرتكب مواجهتها و المواتاة الموافقة و الدببة كعنبة جمع الدب و يقال أحجم القوم عنه أي نكصوا و تأخروا و تهيبوا أخذه و ساوره واثبه و يقال حاميت عنه أي منعت منه و العين بالفتح الغلظ في الجسم و الخشونة و الخفر المنع
يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردى في حفرة و ترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم و لو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض أ لا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه و لكن بيده تكرمه له على سائر الأكلات فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خطمها مشقوقا من أسفله لتقبض به على العلف ثم تقضمه و أعينت بالجحفلة تتناول بها ما قرب و ما بعد اعتبر بذنبها و المنفعة لها فيه فإنه بمنزلة الطبق على الدبر و الحياء جميعا يواريهما و يسترهما و من منافعها فيه أن ما بين الدبر و مراقي البطن منها و ضر يجتمع عليه الذباب و البعوض فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن ذلك الموضع و منها أن الدابة تستريح إلى تحريكه و تصريفه يمنة و يسره فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها و شغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف و التقلب كان لها في تحريك الذنب راحة و فيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم يعرف مواقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها و في شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها و جعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها و لو كان أسفل البطن كمكان الفرج من المرأة لم يتمكن الفحل منها أ لا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا كما يأتي الرجل المرأة تأمل مشفر الفيل و ما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف و الماء و ازدرادهما إلى جوفه و لو لا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدمه ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه و كيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة فإن قال قائل فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام قيل له إن رأس الفيل و أذنيه أمر عظيم و ثقل ثقيل و لو كان ذلك على عنق عظيمة لهدها و أوهنها فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا ينال منه ما وصفنا و خلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدمه العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب
ارتفع و برز حتى يتمكن الفحل من ضربها فاعتبر كيف جعل حياء للأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل و دوامه فكر في خلق الزرافة و اختلاف أعضائها و شبهها بأعضاء أصناف من الحيوان فرأسها رأس فرس و عنقها عنق جمل و أظلافها أظلاف بقرة و جلدها جلد نمر و زعم ناس من الجهال بالله عز و جل أن نتاجها من فحول شتى قالوا و سبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة و ينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى و هذا جهل من قائله و قلة معرفته بالبارئ جل قدسه و ليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف فلا الفرس يلقح الجمل و لا الجمل يلقح البقر و إنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله و يقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمارة فيخرج بينهما البغل و يلقح الذئب الضبع فيخرج بينهما السمع على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو من كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس و عضو من الجمل و أظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في البغل فإنك ترى رأسه و أذنيه و كفله و ذنبه و حوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس و الحمار و شحيجه كالممتزج من صهيل الفرس و نهيق الحمار فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء و ليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء و يفرق ما شاء منها في أيها شاء و يزيد في الخلقة ما شاء و ينقص منها ما شاء دلالة على قدرته على الأشياء و أنه لا يعجزه شيء أراده جل و تعالى فأما طول عنقها و المنفعة لها في ذلك فإن منشأها و مرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق لتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتتقوت من ثمارها تأمل خلق القرد و شبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس و الوجه و المنكبين و الصدر و كذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان و خص من ذلك بالذهن و الفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومي إليه و يحكي كثيرا مما يرى الإنسان يفعله حتى أنه يقرب من خلق الإنسان و شمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم و سنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب و إنه لو لا فضيلة فضله الله بها في الذهن و العقل و النطق كان كبعض البهائم على أن في جسم القرد فضولا أخرى يفرق بينه و بين الإنسان كالخطم و الذنب المسدل و الشعر المجلل للجسم كله و هذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان و عقله و نطقه و الفصل الفاصل بينه و بين الإنسان بالصحة هو النقص في العقل و الذهن و النطق
بيان شخص البصر ارتفع و شخص الرجل بصره إذا فتح عينيه و الخطم بالفتح من كل طائر منقاره و من كل دابة مقدم أنفه و فمه و قضم كسمع أكل بأطراف أسنانه و الجحفلة بمنزلة الشفة للبغال و الحمير و الخيل و هي بتقديم الجيم على الحاء المهملة و الطبق محركة غطاء كل شيء و الحياء الفرج و المراد بمراقي البطن ما ارتفع منه من وسط أو قرب منه و الوضر الدرن و المذبة بكسر الميم ما يذب به الذباب و بطحه ألقاه على وجهه و كفحته كفحا و كفاحا إذا استقبلته و المشفر من البعير كالجحفلة من الفرس و قال الجوهري الزرافة و الزرافة بفتح الزاي و ضمها مخففة الفاء دابة يقال لها بالفارسية أشتر گاو پلنگ و قال الفيروزآبادي السمع بكسر السين و سكون الميم ولد الذئب من الضبع لا يموت حتف أنفه كالحية و عدوه أسرع من الطير و وثبته تزيد على ثلاثين ذراعا و قال شحيج البغل و الحمار صوته و الغياطل جمع الغيطل و هو الشجر الكثير الملتف قوله ع أن يكون أي خلق كذلك لأن يكون عبرة للإنسان و السنخ بالكسر الأصل قوله بالصحة هو النقص في العقل أي الفصل الصحيح الذي يصلح واقعا أن يكون فاصلا و في أكثر النسخ و هو و على هذا لا يبعد أن تكون تصحيف القحة أي قلة الحياء
انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامهم هذه الكسوة من الشعر و الوبر و الصوف ليقيها من البرد و كثرة الآفات و ألبست قوائمها الأظلاف و الحوافر و الأخفاف ليقيها من الحفا إذ كانت لا أيدي لها و لا أكف و لا أصابع مهيأة للغزل و النسج فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقتهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها و الاستبدال بها فأما الإنسان فإنه ذو حيلة و كف مهيأة للعمل فهو ينسج و يغزل و يتخذ لنفسه الكسوة و يستبدل بها حالا بعد حال و له في ذلك صلاح من جهات من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث و ما يخرجه إليه الكفاية و منها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء و لبسها إذا شاء و منها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال و روعة فيتلذذ بلبسها و تبديلها و كذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف و النعال يقي بها قدميه و في ذلك معايش لمن يعمله من الناس و مكاسب يكون فيها معاشهم و منها أقواتهم و أقوات عيالهم فصار الشعر و الوبر و الصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة و الأظلاف و الحوافر و الأخفاف مقام الحذاء
بيان قال الجوهري قال الكسائي رجل حاف بين الحفوة و الحفاء بالمد و هو الذي يمشي بلا خف و لا نعل و قال و أما الذي حفي من كثرة المشي أي رقت قدمه أو حافره فإنه حف بين الحفا مقصورا و أحفاه غيره انتهى قوله ع و روعه من قولهم راعني الشيء أعجبني
فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم فإنهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم و إلا فأين جيف هذه الوحوش و السباع و غيرها لا يرى منها شيء و ليست قليلة فتخفى لقلتها بل لو قال قائل إنها أكثر من الناس لصدق فاعتبر ذلك بما تراه في الصحاري و الجبال من أسراب الظباء و المها و الحمير و الوعول و الأيائل و غير ذلك من الوحوش و أصناف السباع من الأسد و الضباع و الذئاب و النمور و غيرها و ضروب الهوام و الحشرات و دواب الأرض و كذلك أسراب الطير من الغربان و القطا و الإوز و الكراكي و الحمام و سباع الطير جميعا و كلها لا يرى منها شيء إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها و لو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء و يحدث الأمراض و الوباء فانظر إلى هذا الذي يخلص إليه الناس و عملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا و ادكارا في البهائم و غيرها ليسلم الناس من معرة ما يحدث عليهم من الأمراض و الفساد
توضيح السرب بالكسر و السربة القطيع من الظباء و القطا و الخيل و نحوها و الجمع أسراب و المهاة البقرة الوحشية و الجمع مها و الوعل بالفتح و ككتف تيس الجبل و الجمع وعال و وعول و الأيل بضم الهمزة و كسرها و فتح الياء المشددة و كسيد الذكر من الأوعال و يقال هو الذي يسمى بالفارسية گوزن و الجمع أياييل و القانص الصائد و خلص إليه وصل و المراد بالتمثيل ما ذكره الله تعالى في قصة قابيل و المعرة الأذى
فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع و الخلقة لطفا من الله عز و جل لهم لئلا يخلو من نعمه جل و عز أحد من خلقه لا بعقل و روية فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله و يقف على الغدير و هو مجهود عطشا فيعج عجيجا عاليا و لا يشرب منه و لو شرب لمات من ساعته فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظماء الغالب خوفا من المضرة في الشرب و ذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه و الثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت و نفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها فمن أعان الثعلب العديم النطق و الروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا و شبهه فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما يقوى عليه السباع من مساورة الصيد أعين بادهاء و الفطنة و الاحتيال لمعاشه و الدلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله و يشرحه حتى يطفو على الماء يكمن تحته و يثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة قال المفضل فقلت خبرني يا مولاي عن التنين و السحاب فقال ع إن السحاب كالموكل به يختطفه حيثما ثقفه كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من السحاب و لا يخرج إلا في القيظ مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة من غيمة قلت فلم وكل السحاب بالتنين يرصده و يختطفه إذا وجده قال ليدفع عن الناس مضرته
بيان قوله لا بعقل و روية لعل المراد أن هذه الأمور من محض لطفه تعالى حيث يلهمهم ذلك لا بعقل و روية و في أكثر النسخ لا يعقل و مروته و هو تصحيف و المراد معلوم و الجهد الطاقة و المشقة أي أصابته مشقة عظيمة من العطش و العجيج الصياح و رفع الصوت و أعوزه الشيء أي احتاج إليه و التماوت إظهار الموت حيلة و المساورة هي الوثوب على وجه الصيد و قال الفيروزآبادي الدلفين بالضم دابة بحرية تنجي الغريق و قوله ع يثور الماء أي يهيجه و يحركه و التنين حية عظيمة معروفة و ثقفه أي وجده و القيظ صميم الصيف من طلوع الثريا إلى طلوع سهيل و الصحو ذهاب الغيم
قال المفضل فقلت قد وصفت لي مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر فصف لي الذرة و النمل و الطير فقال ع يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها فمن أين هذا التقدير و الصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق و كبيره انظر إلى النمل و احتشادها في جمع القوت و إعداده فإنك ترى الجماعة منها إذ انقلبت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد و التشمير ما ليس للناس مثله أ ما تريهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشر من الأرض كي لا يفيض السيل فيغرقها فكل هذا منه بلا عقل و لا روية بل خلقه خلق عليها لمصلحة لطفا من الله عز و جل انظر إلى هذا الذي يقال له الليث و تسميه العامة أسد الذباب و ما أعطي من الحيلة و الرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمأن و غفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث يناله وثبة ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف و استرخى ثم يقبل عليه فيفترسه و يحيا بذلك منه فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا و مصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أجال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه فكذلك يحكى صيد الكلاب و الفهود و هكذا يحكى صيد الأشراك و الحبائل فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة و استعمال آلات فيها فلا تزدر بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة و النملة و ما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار و هو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد
بيان الاحتشاد الاجتماع و الزبية بالضم الحفرة و النشر بالفتح و بالتحريك المكان المرتفع و قال الجوهري الليث الأسد و ضرب من العناكب يصطاد الذباب بالوثب انتهى و الموات بالفتح ما لا روح فيه و يقال ما به حراك كسحاب أي حركه و الشرك بالتحريك حبالة الصائد و يقال أحال عليه بالسوط يضربه أي أقبل قوله ع فكذلك أي كفعل الليث و قوله هكذا أي كالعنكبوت و الازدراء الاحتقار قوله ع فلا يضع منه أي لا ينقص من قدر المعنى النفيس تمثيله بالشيء الحقير قال الفيروزآبادي وضع عنه حط من قدره
تأمل يا مفضل جسم الطائر و خلقته فإنه حين قدر أن يكون طائرا في الجو خفف جسمه و أدمج خلقه فاقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين و من الأصابع الخمس على أربع و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء و تنفذ فيه و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران و كسي كله الريش ليداخله الهواء فيقله و لما قدر أن يكون طعمه الحب و اللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان و خلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب و لا يتقصف من نهش اللحم و لما عدم الأسنان و صار يزدرد الحب صحيحا و اللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ و اعتبر ذلك بأن عجم العنب و غيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا و يطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل مما يبيض بيضا و لا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته و عاقته عن النهوض و الطيران فجعل كل شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا و بعضها أسبوعين و بعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسع حوصلته للغذاء ثم يربيه و يغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم و يستخرجه بعد أن يستقر في حوصلته و يغذو به فراخه و لأي معنى يحتمل هذه المشقة و ليس بذي روية و لا تفكر و لا يأمل في فراخه ما يأمل الإنسان في ولده من العز و الرفد و بقاء الذكر فهذا هو فعل يشهد بأنه معطوف على فراخه لعله لا يعرفها و لا يفكر فيها و هي دوام النسل و بقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره انظر إلى الدجاجة كيف تهيج لحضن البيض و التفريخ و ليس لها بيض مجتمع و لا وكر موطأ بل تنبعث و تنتفخ و تقوقي و تمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه و تفرخ فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل و من أخذها بإقامة النسل و لا روية و لا تفكر لو لا أنها مجبولة على ذلك اعتبر بخلق البيضة و ما فيها من المح الأصفر الخاثر و الماء الأبيض الرقيق فبعضه لينتشر منه الفرخ و بعضه ليغذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة و ما في ذلك من التدبير فإنه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحصنة التي لا مساغ لشيء إليها لجعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه فكر في حوصلة الطائر و ما قدر له فإن مسلك الطعم إلى القانصة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال عليه و متى كان يستوفي طعمه فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثم تنفذه إلى القانصة على مهل و في الحوصلة أيضا خلة أخرى فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه
توضيح أقله أي حمله و رفعه و جسا كدعا صلب و يبس و يقال سحجت جلده فانسحج أي قشرته فانقشر و التقصف التكسر و الغريض الطري أي غير مطبوخ و العجم بالتحريك النوى و حضن الطائر بيضته يحضنه إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحه و زق الطائر فرخه يزقه أي أطعمه بفيه و تقوقي أي تصيح و المح بضم الميم و الحاء المهملة صفرة البيض و في بعض النسخ بالخاء المعجمة و قال الأصمعي أخثرت الزبد تركته خاثرا و ذلك إذا لم تذبه و تنقاب أي تنفلق
قال المفضل فقلت يا مولاي إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان و الأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط و اختلاف مقاديرها بالمرج و الإهمال فقال يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس و الدراج و التدارج على استواء و مقابلة كنحو ما يخط بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف و لو كان بالإهمال لعدم الاستواء و لكان مختلفا تأمل ريش الطير كيف هو فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط و الشعرة إلى الشعرة ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا و لا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر إذا طار و ترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته و هو القصبة التي هو في وسط الريشة و هو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر و لا يعوقه عن الطيران
بيان المرج بالتحريك الفساد و الاضطراب و الاختلاط و في بعض النسخ بالزاي المعجمة و الأول أظهر و الوشي نقش الثوب و يكون من كل لون و السلوك جمع السلك و هو جمع السلكة بالكسر الخيط يخاط بها
هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين و عرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فإنه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة فوق مرقب و هو يتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى شيئا مما يتقوت به خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله و لو كان قصير الساقين و كان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور و يذعر منه فيتفرق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته و لا يفسد عليه مطلبه تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق و ذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض و لو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض و ربما أعين مع طول العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة له و إمكانا أ فلا ترى أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب و الحكمة
توضيح ماء ضحضاح أي قريب القعر و الربيئة بالهمز العين و الطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو و لا يكون إلا على جبل أو شرف و المرقب الموضع المشرف يرتفع عليه الرقيب و الذعر الخوف
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده و لا هي تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة و الطلب و كذلك الخلق كله فسبحان من قدر الرزق كيف قوته فلم يجعل مما لا يقدر عليه إذ جعل للخلق حاجة إليه و لم يجعله مبذولا و ينال بالهوينا إذ كان لإصلاح في ذلك فإنه لو كان يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تتقلب عليه و لا تنقلع حتى تبشم فتهلك و كان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر و البطر حتى يكثر الفساد و يظهر الفواحش أ علمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل كمثل البوم و الهام و الخفاش قلت لا يا مولاي قال إن معاشها من ضروب تنتشر في هذا الجو من البعوض و الفراش و أشباه الجراد و اليعاسيب و ذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو لا يخلو منها موضع و اعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذا شيء كثير فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل إنه يأتي من الصحاري و البراري قيل له كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد و كيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه مع أن هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو و اعرف مع ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقه الطير و ذوات الأربع أقرب و ذلك أنه ذو أذنين ناشزتين و أسنان و وبر و هو يلد ولادا و يرضع و يبول و يمشي إذا مشى على أربع و كل هذا خلاف صفة الطير ثم هو أيضا مما يخرج بالليل و يتقوت مما يسري في الجو من الفراش و ما أشبهه و قد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش و إن غذاءه من النسيم وحده و ذلك يفسد و يبطل من جهتين إحداهما خروج ما يخرج منه من الثفل و البول فإن هذا لا يكون من غير طعم و الأخرى أنه ذو أسنان و لو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى و ليس في الخلقة شيء لا معنى له و أما المآرب فيه فمعروفة حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال و من أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل شأنه و تصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن تمرة فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها لتبلعه فبينما هو يتقلب و يضطرب في طلب حيلة منها إذا وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي و تتقلب حتى ماتت أ فرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة العظيمة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة اعتبر بهذا و كثير من الأشياء تكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث به أو خبر يسمع به انظر إلى النحل و احتشاده في صنعة العسل و تهيئة البيوت المسدسة و ما ترى في ذلك اجتماعه من دقائق الفطنة فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا و إذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس و إذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه فضلا عما سوى ذلك ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب و الحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها و سخره فيها لمصلحة الناس انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه و أقواه فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء و إن دلفت عساكره نحو بلد من البلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه أ لا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله و رجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك أ فليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشى السهل و الجبل و البدو و الحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي
متى كان يجتمع منه هذه الكثرة و في كم من سنة كان يرتفع فاستدل بذلك على القدرة التي لا يئودها شيء و يكثر عليها تأمل خلق السمك و مشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي إذا كان مسكنه الماء و خلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس و هو منغمس في اللجة و جعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة و كسي جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع و الجواشن لتقيه من الآفات فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف و الماء يحجبه فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه و إلا فكيف يعلم به و بموضعه و اعلم أن من فيه إلى صماخيه منافذ فهو يعب الماء بفيه و يرسله من صماخيه فتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم فكر الآن في كثرة نسله و ما خص به من ذلك فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة و العلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان فإن أكثرها يأكل السمك حتى أن السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك فإذا مر بها خطفته فلما كانت السباع تأكل السمك و الطير يأكل السمك و الناس يأكلون السمك و السمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك و دواب الماء و الأصداف و الأصناف التي لا تحصى و لا تعرف منافعها إلا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث مثل القرمز فإنه إنما عرف الناس صبغه بأن كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى الحلزون فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغا و أشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال و زمانا بعد زمان قال المفضل حان وقت الزوال فقام مولاي ع إلى الصلاة و قال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت و قد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما منحنيه حامدا لله على ما آتانيه فبت ليلتي مسرورا مبتهجا
بيان البشم محركة التخمة و السأمة بشم كفرح و أبشمه الطعام و الفراش هي التي تقع في السراج و اليعسوب أمير النحل و طائر أصغر من الجرادة أو أعظم و قوله ع ناشزتين بالمعجمة أي مرتفعين و في بعض النسخ بالمهملة أي مبسوطتين و السري السير بالليل و قال الفيروزآبادي و التمرة كقبرة و ابن تمرة طائر أصغر من العصفور انتهى و فغر فاه أي فتحه و الحسك محركة نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم قوله ع غبيا جاهلا أي ليس له عقل يتصرف في سائر الأشياء على نحو تصرفه في ذلك الأمر المخصوص فظهر أن خصوص هذا الأمر إلهام من مدبر حكيم أو خلقة و طبيعة جبله عليها ليصدر عنه خصوص هذا الأمر لما فيه من المصلحة مع كونه غافلا عن المصلحة أيضا و لعل هذا يؤيد ما يقال إن الحيوانات العجم غير مدركة للكليات و يقال دلفت الكتيبة في الحرب أي تقدمت و يقال دلفناهم فالعساكر تحتمل الرفع و النصب و الرجل بالفتح جمع راجل خلاف الفارس و انساب جرى و مشى مسرعا و لا يئودها أي لا يثقلها و لجة الماء معظمه و المجذاف ما تجري به السفينة و انتجع طلب الكلاء في موضعه و حافات الآجام جوانبها و عكف على الشيء أقبل عليه مواظبا و قال الفيروزآبادي القرمز صبغ أرمني يكون من عصارة دود في آجامهم و قال الحلزون محركة دابة تكون في الرمث أي بعض مراعي الإبل و يظهر من كلامه ع اتحادهما و يحتمل أن يكون المراد أن من صبغ الحلزون تفطنوا بإعمال القرمز للصبغ لتشابههما تم المجلس الثاني
المجلس الثالث قال المفضل فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستوذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست فقال ع الحمد لله الذي اصطفانا و لم يصطف علينا اصطفانا بعلمه و أيدنا بحلمه من شذ عنا فالنار مأواه و من تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان و ما دبر به و تنقله في أحواله و ما فيه من الاعتبار و شرحت لك أمر الحيوان و أنا ابتدئ الآن بذكر السماء و الشمس و القمر و النجوم و الفلك و الليل و النهار و الحر و البرد و الرياح و الجواهر الأربعة الأرض و الماء و الهواء و النار و المطر و الصخر و الجبال و الطين و الحجارة و المعادن و النبات و النخل و الشجر و ما في ذلك من الأدلة و العبر فكر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر و تقوية حتى أن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة و ما قرب منها إلى السواد و قد وصف الحذاق منهم لمن كل بصره الاطلاع في إجانة خضراء مملوة ماء فانظر كيف جعل الله جل و تعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المنقلبة عليه فلا ينكي فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر و الروية و التجارب يوجد مفروغا منه في الخلقة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ليعتبر بها المعتبرون و يفكر فيها الملحدون قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
بيان اصطفانا بعلمه أي اختارنا و فضلنا على الخلق بأن أعطانا من علمه ما لم يعط أحدا و أيدنا بحلمه أي قوانا على تبليغ الرسالة بما حلانا به من حلمه لنصبر على ما يلقانا من أذى الناس و تكذيبهم و الدوحة الشجرة العظيمة و الصخر الحجر العظام و أديم السماء وجهها كما يطلق أديم الأرض على وجهها و يمكن أن يكون ع شبهها بالأديم و قوله ع حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بالرفع خبر مبتدإ محذوف أو بالنصب بالحالية أو بكونه مفعولا لأجله
فكر يا مفضل في طلوع الشمس و غروبها لإقامة دولتي النهار و الليل فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كله فلم يكن الناس يسعون في معايشهم و يتصرفون في أمورهم و الدنيا مظلمة عليهم و لم يكونوا يتهنئون بالعيش مع فقدهم لذة النور و روحه و الإرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره و الزيادة في شرحه بل تأمل المنفعة في غروبها فلو لا غربها لم يكن للناس هدء و لا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدء و الراحة لسكون أبدانهم و جموم حواسهم و انبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل و مطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدء و لا قرار حرصا على الكسب و الجمع و الادخار ثم كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس بضيائها و تحمي كل ما عليها من حيوان و نبات فقدرها الله بحكمته و تدبيره تطلع وقتا و تغرب وقتا بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا و يقروا فصار النور و الظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس و انحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة و ما في ذلك من التدبير و المصلحة ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر و النبات فيتولد فيهما مواد الثمار و يستكثف الهواء فينشأ منه السحاب و المطر و تشد أبدان الحيوان و تقوى و في الربيع تتحرك و تظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات و تنور الأشجار و يهيج الحيوان للسفاد و في الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار و تتحلل فضول الأبدان و يجف وجه الأرض فتهيأ للبناء و الأعمال و في الخريف يصفو الهواء و يرتفع الأمراض و يصح الأبدان و يمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله و يطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة و ما في ذلك من التدبير فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة الشتاء و الربيع و الصيف و الخريف و يستوفيها على التمام و في هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات و الثمار و تنتهي إلى غاياتها ثم تعود فيستأنف النشوء و النمو أ لا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة و أخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت و عصر من غابر الأيام و بها يحسب الناس الأعمال و الأوقات الموقتة للديون و الإجارات و المعاملات و غير ذلك من أمورهم و بمسير الشمس يكمل السنة و يقوم حساب الزمان على الصحة انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها و منفعتها إلى كثير من الجهات لأن الجبال و الجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع في أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور و تمشي جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها و الإرب التي قدرت له و لو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء أ فلا يرى الناس كيف هذه الأمور الجليلة التي لم تكن عندهم فيها حيلة فصار تجري على مجاريها لا تعتل و لا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم و ما فيه بقاؤه استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور و لا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة و نشوء الثمار و تصرمها و لذلك صارت شهور القمر و سنوه تتخلف عن شهور الشمس و سنيها و صار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء و مرة بالصيف فكر في إنارته في ظلمة الليل و الإرب في ذلك فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدء الحيوان و برد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في تقصي الأعمال بالنهار أو لشدة الحر و إفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالا
شتى كحرث الأرض و ضرب اللبن و قطع الخشب و ما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك و أنسا للسائرين و جعل طلوعه في بعض الليل دون بعض و نقص مع ذلك من نور الشمس و ضيائها لكيلا تنبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار و يمتنعوا من الهدء و القرار فيهلكهم ذلك و في تصرف القمر خاصة في مهله و محاقه و زيادته و نقصانه و كسوفه من التنبيه على قدرة الله خالقه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون
إيضاح الدولة بالفتح و الضم انقلاب الزمان و دالت الأيام دارت و الله يداولها بين الناس و هدأ كمنع هدءا و هدوءا سكن و يقال نكيت في العدو نكاية إذا قتلت فيهم و جرحت و جثم الإنسان و الطائر و النعام يجثم جثما و جثوما لزم مكانه لم يبرح و المراد جثومهم في الليل و التظاهر التعاون و نور الشجر أي أخرج نوره و حدم النار شدة احتراقها و التقصي بلوغ أقصى الشيء و نهايته و الغابر الباقي و الماضي و المراد هنا الثاني و بزغت الشمس بزوغا شرقت أو البزوغ ابتداء الطلوع و قال الجوهري اعتل عليه و اعتله إذا اعتاقه عن أمر انتهى و ليلة داجية أي مظلمة
فكر يا مفضل في النجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلا مجتمعة و بعضها مطلقة تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب و الآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين و النملة تدور ذات الشمال و النملة في تلك تتحرك حركتين مختلفتين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها و الأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة أو تكون كلها منتقلة فإن الإهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس بإهمال كما تزعم المعطلة فإن قال قائل و لم صار بعض النجوم راتبا و بعضها منتقلا قلنا إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة و مسيرها في كل برج من البروج كما قد يستدل على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس و النجوم في منازلها و لو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه لأنه إنما يوقف بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها و لو كان تنقلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ لقائل أن يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا ففي اختلاف سيرها و تصرفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة و تحتجب في بعضها كمثل الثريا و الجوزاء و الشعريين و سهيل فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم تكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس و يهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور و الجوزاء إذا طلعت و احتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كل واحد و احتجابه في وقت غير وقت الآخر لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته و كما جعلت الثريا و أشباهها تظهر حينا و تحجب حينا لضرب من المصلحة كذلك جعلت بنات النعش ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر و البحر للطرق المجهولة و ذلك أنها لا تغيب و لا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا و صار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب و المصلحة و فيهما مآرب أخرى علامات و دلالات على أوقات كثيرة من الأعمال كالزراعة و الغراس و السفر في البر و البحر و أشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار و الرياح و الحر و البرد و بها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار
الموحشة و اللجج الهائلة مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة و مدبرة و مشرقة و مغربة من العبر فإنها تسير أسرع السير و أحثه أ رأيت لو كانت الشمس و القمر و النجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه أ لم تكن ستخطف الأبصار بوهجها و شعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت و اضطرمت في الجو و كذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضر في الأبصار و تنكأ فيها و بأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها و جعل فيها جزء يسير من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر و يمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي في جوف الليل و إن لم يكن شيء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه فتأمل اللطف و الحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة و مدة لحاجة إليها و جعل خلالها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا فكر في هذا الفلك بشمسه و قمره و نجومه و بروجه تدور على العالم في هذا الدوران الدائم بهذا التقدير و الوزن لما في اختلاف الليل و النهار و هذه الأزمان الأربعة المتوالية على الأرض و ما عليها من أصناف الحيوان و النبات من ضروب المصلحة كالذي بينت و شخصت لك آنفا و هل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر و صواب و حكمة من مقدر حكيم فإن قال قائل إن هذا شيء اتفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب تراه يدور و يسقي حديقة فيها شجر و نبات فترى كل شيء من آلته مقدرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة و ما فيها و بم كان يثبت هذا القول لو قاله و ما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه أ فينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع و مقدر و يقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة يقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض و ما عليها أنه شيء اتفق أن يكون بلا صنعة و لا تدبير لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات و غيرها أي شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه
بيان قوله ع لا تفارق مراكزها لعل المراد أنه ليس لها حركة بينة ظاهرة كما في السيارات أو لا تختلف نسب بعضها إلى بعض بالقرب و البعد بأن تكون الجملة التالية مفسرة لها و يحتمل أن يكون المراد بمراكزها البروج التي تنسب إليها على ما هو المصطلح بين العرب من اعتبار محاذاة تلك الأشكال في الانتقال إلى البروج و إن انتقلت عن مواضعها و عليه ينبغي أن يحمل قوله ع و بعضها مطلقة تنتقل في البروج أو على ما ذكرنا سابقا من كون انتقالها في البروج ظاهرة بينة يعرفه كل أحد و الأول أظهر كما سيظهر من كلامه ع قوله فإن الإهمال معنى واحد يحتمل أن يكون المراد أن الطبيعة أو الدهر الذين يجعلونهما أصحاب الإهمال مؤثرين كل منهما أمر واحد غير ذي شعور و إرادة و لا يمكن صدور الأمرين المختلفين عن مثل ذلك كما مر أو المراد أن العقل يحكم بأن هذين الأمرين المتسقين الجاريين على قانون الحكمة لا يكون إلا من حكيم راعى فيهما دقائق الحكم أو المراد أن الإهمال أي عدم الحاجة إلى العلة و ترجيح الأمر الممكن من غير مرجح كما تزعمون أمر واحد حاصل فيهما فلم صارت إحداهما راتبة و الأخرى منتقلة و لم لم يعكس الأمر و الأول أظهر كما لا يخفى قوله ع لبطلت الدلالات ظاهره كون الأوضاع النجومية علامات للحوادث قوله ع في البروج الراتبة يدل ظاهرا على ما أشرنا إليه من أنه ع راعى في انتقال البروج محاذاة نفس الأشكال و إن أمكن أن يكون المراد بيان حكمة بطء الحركة ليصلح كون تلك الأشكال علامات للبروج و لو بقربها منها لكنه بعيد قوله ع و الشعريين قال الجوهري الشعرى الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء و طلوعه في شدة الحر و هما الشعريان و الشعرى العبور التي في الجوزاء و الشعرى القميصاء التي في الذراع تزعم العرب أنهما أختا سهيل انتهى و القفار جمع قفر و هو الخلأ من الأرض و خطف البرق البصر ذهب به و وهج النار بالتسكين توقدها و قوله حثيثا أي مسرعا و تجافى أي لم يلزم مكانه و برح مكانه زال عنه
فكر يا مفضل في مقادير النهار و الليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك أ فرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة أ لم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان و نبات أما الحيوان فكان لا يهدأ و لا يقر طول هذه المدة و لا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار و لا الإنسان كان يفتر عن العمل و الحركة و كان ذلك سيهلكها أجمع و يؤديها إلى التلف و أما النبات فكان يطول عليه حر النهار و وهج الشمس حتى يجف و يحترق و كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة و التصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا و تخمد الحرارة الطبيعية من النبات حتى يعفن و يفسد كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس اعتبر بهذه الحر و البرد كيف يتعاوران العالم و يتصرفان هذا التصرف من الزيادة و النقصان و الاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة و ما فيهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها و فيها صلاحها فإنه لو لا الحر و البرد و تداولهما الأبدان لفسدت و أخوت و انتكثت فكر في دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج و الترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء و الآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة و النقصان و لو كان دخول إحداهما على الأخرى مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان و أسقمها كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك و أسقم بدنه فلم جعل الله عز و جل هذا الترسل في الحر و البرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة و لم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك فإن زعم زاعم أن هذا الترسل في دخول الحر و البرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في الارتفاع و الانحطاط سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها و انحطاطها فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين سئل عن العلة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقي من هذا القول حتى استقر على العمد و التدبير لو لا الحر لما كانت الثمار الجاسية المرة تنضج فتلين و تعذب حتى يتفكه بها رطبة و يابسة و لو لا البرد لما كان الزرع يفرخ هكذا و يريع الريع الكثير الذي يتسع للقوت و ما يرد في الأرض للبذر أ فلا ترى ما في الحر و البرد من عظيم الغناء و المنفعة و كلاهما مع غنائه و المنفعة فيه يؤلم الأبدان و يمضها و في ذلك عبرة لمن فكر و دلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم و ما فيه
بيان قوله ع لا يجاوز ذلك أي في معظم المعمورة و قال الفيروزآبادي خوت الدار تهدمت و النجوم خيا أمحلت فلم تمطر كأخوت و قال المنتكث المهزول و قال الترسل الرفق و التؤدة انتهى قوله ع ببعد ما بين المشرقين أي المشرق و المغرب كناية عن عظم الدائرة التي يقطع عليها البروج أو مشرق الصيف و الشتاء و الأول أظهر قوله ع الجاسية أي الصلبة و يتفكه بها أي يتمتع بها و الريع النماء و الزيادة و قال الجوهري أمضني الجرح إمضاضا إذا أوجعك و فيه لغة أخرى مضني الجرح و لم يعرفها الأصمعي
و أنبهك يا مفضل على الريح و ما فيها أ لست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس و يحرض الأصحاء و ينهك المرضى و يفسد الثمار و يعفن البقول و يعقب الوباء في الأبدان و الآفة في الغلات ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق و أنبئك عن الهواء بخلة أخرى فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء و الهواء يؤديه إلى المسامع و الناس يتكلمون في حوائجهم و معاملاتهم طول نهارهم و بعض ليلهم فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم و يفدحهم و كانوا يحتاجون في تجديده و الاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأن ما يلقى من الكلام أكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيا و يحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع و حسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة و ما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان و الممسك لها من داخل بما تستنشق منه و من خارج بما تباشر من روحه و فيه تطرد هذه الأصوات فيؤدى بها من البعد البعيد و هو الحامل لهذه الأراييح ينقلها من موضع إلى موضع أ لا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت و هو القابل لهذا الحر و البرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه و منه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام و تزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكثف فيمطر و تفضه حتى يستخف فيتفشى و تلقح الشجر و تسير السفن و ترخي الأطعمة و تبرد الماء و تشب النار و تجفف الأشياء الندية و بالجملة أنها تحيي كلما في الأرض فلو لا الريح لذوي النبات و مات الحيوان و حمت الأشياء و فسدت
توضيح ركود الريح سكونها و الحرض فساد البدن و يقال نهكته الحمى أي أضنته و هزلته و قوله ع و الهواء يؤديه يدل على ما هو المنصور من تكيف الهواء بكيفية الصوت على ما فصل في محله و يقال كربه الأمر أي شق عليه و فدحه الدين أي أثقله و ريثما فعل كذا أي قدر ما فعله و يبلغ إما على بناء المجرد فالعالم فاعله أو على التفعيل فالهواء فاعله و الروح بالفتح الراحة و نسيم الريح و اطرد الشيء تبع بعضه بعضا و جرى و الأراييح جمع للريح و تزجي السحاب على بناء الإفعال أي تسوغه و تفضه أي تفرقه و التفشي الانتشار و ترخي الأطعمة على التفعيل أو الإفعال أي تصيرها رخوة لطيفة و تشب النار أي توقدها
فكر يا مفضل فيما خلق الله عز و جل علته هذه الجواهر الأربعة ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض و امتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس و مزارعهم و مراعيهم و منابت أخشابهم و أحطابهم و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيمة غناؤها و لعل من ينكر هذه الفلوات الخاوية و القفار الموحشة فيقول ما المنفعة فيها فهي مأوى هذه الوحوش و محالها و مرعاها ثم فيها بعد متنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم فكم بيداء و كم فدفد حالت قصورا و جنانا بانتقال الناس إليها و حلولهم فيها و لو لا سعة الأرض و فسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزبه أمر يضطره إلى الانتقال عنه ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للأشياء فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم و الجلوس عليها لراحتهم و النوم لهدئهم و الإتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة متكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء و التجارة و الصناعة و ما أشبه ذلك بل كانوا لا يتهنئون بالعيش و الأرض ترتج من تحتهم و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلة مكثها حتى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها فإن قال قائل فلم صارت هذه الأرض تزلزل قيل له إن الزلزلة و ما أشبهها موعظة و ترهيب يرهب بها الناس ليرعووا و ينزعوا عن المعاصي و كذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم و أموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم و استقامتهم و يدخر لهم إن صلحوا من الثواب و العوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من أمور الدنيا و ربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للخاصة و العامة ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة و كذلك الحجارة و إنما الفرق بينها و بين الحجارة فضل يبس في الحجارة أ فرأيت لوأن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا أ كانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان و كان يمكن بها حرث أو بناء أ فلا ترى كيف تنصب من يبس الحجارة و جعلت على ما هي عليه من اللين و الرخاوة و لتهيأ للاعتماد و من تدبير الحكيم جل و علا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عز و جل كذلك إلا لينحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها و ترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكأنما يرفع أحد جانبي السطح و يخفض الآخر لينحدر الماء عنه و لا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بينها و لو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها و يقطع الطرق و المسالك ثم الماء لو لا كثرته و تدفقه في العيون و الأدوية و الأنهار لضاق عما يحتاج الناس إليه لشربهم و شرب أنعامهم و مواشيهم و سقي زروعهم و أشجارهم و أصناف غلاتهم و شرب ما يرده من الوحوش و الطير و السباع و تتقلب فيه الحيتان و دواب الماء و فيه منافع آخر أنت بها عارف و عن عظم موقعها غافل فإنه سوى الأمر الجليل المعروف من غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان و النبات يمزج بالأشربة فتلين و تطيب لشاربها و به تنظف الأبدان و الأمتعة من الدرن الذي يغشاها و به يبل التراب فيصلح للاعتمال و به يكف عادية النار إذا اضطرمت و أشرف الناس على المكروه و به يسيغ الغصان ما غص به و به يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار و قلت ما الإرب فيه فاعلم أنه مكتنف و مضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك و دواب البحر و معدن اللؤلؤ و الياقوت و العنبر و أصناف شتى تستخرج من البحر و في سواحله منابت العود و اليلنجوج و ضروب من الطيب و العقاقير ثم هو بعد مركب الناس و محمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق و من العراق
إلى العراق فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت و بقيت في بلدانها و أيدي أهلها لأن أجر حملها كان يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها و كان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها و الآخر انقطاع معاش من يحملها و يتعيش بفضلها و هكذا الهواء لو لا كثرته و سعته لاختنق هذا الأنام من الدخان و البخار التي يتحير فيه و يعجز عما يحول إلى السحاب و الضباب أولا أولا و قد تقدم من صفته ما فيه كفاية و النار أيضا كذلك فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم و الماء كانت تحرق العالم و ما فيه و لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح فجعلت كالمخزونة في الأخشاب تلتمس عند الحاجة إليها و تمسك بالمادة و الحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة و الحطب فتعظم المئونة في ذلك و لا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه بل هي على تهيئة و تقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها و السلامة من ضررها ثم فيه خلة أخرى و هي أنها مما خص به الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه فأما البهائم فلا تستعمل النار و لا تستمتع بها و لما قدر الله عز و جل أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفا و أصابع مهيأة لقدح النار و استعمالها و لم يعط البهائم مثل ذلك لكنها أعينت بالصبر على الجفاء و الخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان و أنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها و هي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا من ليلهم و لو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور فمن كان يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل و كيف كانت حال من عرض له وجعفي وقت من أوقات الليل فاحتاج أن يعالج ضمادا أو سفوفا أو شيئا يستشفي به فأما منافعها في نضج الأطعمة و دفاء الأبدان و تجفيف أشياء و تحليل أشياء و أشباه ذلك فأكثر من أن تحصى و أظهر من أن تخفى
تبيان العقاقير أصول الأدوية و الغناء بالفتح المنفعة و الخاوية الخالية و الفدفد الفلاة و المكان الصلب الغليظ و المرتفع و الأرض المستوية و الفسحة بالضم السعة و يقال لي عن هذا الأمر مندوحة و منتدح أي سعة و حزبه أمر أي أصابه و الراتبة الثابتة و الراكنة الساكنة و هدأ هدءا و هدوءا سكن و قوله ع رجراجة أي متزلزلة متحركة و التكفي الانقلاب و التمايل و التحرك و الارتجاج الاضطراب و الارعواء الرجوع عن الجهل و الكف عن القبيح و الصلد و يكسر الصلب الأملس قوله ع كيف تنصب كذا في أكثر النسخ و النصب يكون بمعنى الرفع و الوضع و لعل المراد هنا الثاني و الظاهر أنه تصحيف نقصت أو نحوه قوله ع إن مهب الشمال أرفع أي بعد ما خرجت الأرض من الكروية الحقيقية صار ما يلي الشمال منها في أكثر المعمورة أرفع مما يلي الجنوب و لذا ترى أكثر الأنهار كدجلة و الفرات و غيرهما تجري من الشمال إلى الجنوب و لما كان الماء الساكن في جوف الأرض تابعا للأرض في ارتفاعه و انخفاضه فلذا صارت العيون المتفجرة تجري هكذا من الشمال إلى الجنوب حتى تجري على وجه الأرض و لذا حكموا بفوقية الشمال على الجنوب في حكم اجتماع البئر و البالوعة و إذا تأملت فيما ذكرنا يظهر لك ما بينه ع من الحكم في ذلك و أنه لا ينافي كروية الأرض و التدفق التصبب قوله ع فإنه سوى الأمر الجليل الضمير راجع إلى الماء و هو اسم إن و يمزج خبره أي للماء سوى النفع الجليل المعروف و هو كونه سببا لحياة كل شيء منافع أخرى منها أنه يمزج مع الأشربة و قال الجوهري الحميم الماء الحار و قد استحممت إذا اغتسلت به ثم صار كل اغتسال استحماما بأي ماء كان انتهى و الوصب محركة المرض و المكتنف بفتح النون من الكنف بمعنى الحفظ و الإحاطة و اكتنفه أي أحاط به و يظهر منه أن نوعا من الياقوت يتكون في البحر و قيل أطلق على المرجان مجازا و يحتمل أن يكون المراد ما يستخرج منه بالغوص و إن لم يتكون فيه و اليلنجوج عود البخور و من العراق أي البصرة و إلى العراق أي الكوفة أو بالعكس قوله ع و يعجز أي لو لا كثرة الهواء لعجز الهواء عما يستحيل الهواء إليه من السحاب و الضباب التي تتكون من الهواء أولا أولا أي تدريجا أي كان الهواء لا يفي بذلك أو لا يتسع لذلك الضباب بالفتح ندى كالغيم أو سحاب رقيق كالدخان و الأحايين جمع أحيان و هو جمع حين بمعنى الدهر و الزمان قوله ع فلا هي تمسك بالمادة و الحطب أي دائما بحيث إذا انطفأت لم يمكن إعادتها و المادة الزيادة المتصلة و المراد هنا الدهن و مثله و دفاء الأبدان بالكسر دفع البرد عنها
فكر يا مفضل في الصحو و المطر كيف يعتقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه و لو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده أ لا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول و الخضر و استرخت أبدان الحيوان و خصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض و فسدت الطرق و المسالك و أن الصحو إذا دام جفت الأرض و احترق النبات و غيض ماء العيون و الأودية فأضر ذلك بالناس و غلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء و دفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء و استقامت فإن قال قائل و لم لا يكون في شيء من ذلك مضرة البتة قيل له ليمض ذلك الإنسان و يؤلمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه و يصلح ما فسد منه كذلك إذا طغى و أشر احتاج إلى ما يعضه و يؤلمه ليرعوي و يقصر عن مساويه و يثبته على ما فيه حظه و رشده و لو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطير من ذهب و فضة أ لم يكن سيعظم عندهم و يذهب له به الصوت فأين هذا من مطرة رواء إذ يعمر به البلاد و يزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب و الفضة في أقاليم الأرض كلها أ فلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها و أعظم النعمة على الناس فيها و هم عنها ساهون و ربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيذمر و يسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جهلا بمحمود العاقبة و قلة معرفة لعظيم الغناء و المنفعة فيها تأمل نزوله على الأرض و التدبير في ذلك فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليتفشى ما غلظ و ارتفع منها فيرويه و لو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها و يقل ما يزرع في الأرض أ لا ترى أن الذي يزرع سيحا أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض و ربما تزرع هذه البراري الواسعة و سفوح الجبال و ذراها فتغل الغلة الكثيرة و بها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع و ما يجري في ذلك بينهم من التشاجر و التظالم حتى يستأثر بالماء ذوو العزة و القوة و يحرمه الضعفاء ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قطر الأرض فيرويها و لو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثم كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع و يحيي الأرض و الزرع القائم و في نزوله أيضا مصالح أخرى فإنه يلين الأبدان و يجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك و يغسل ما يسقط على الشجر و الزرع من الداء المسمى باليرقان إلى أشباه هذا من المنافع فإن قال قائل أ و ليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه أو برد يكون فيه تحطم الغلات و بخوره يحدثها في الهواء فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان و الآفات في الغلات قيل بلى قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الإنسان و كفه عن ركوب المعاصي و التمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله
بيان يعتقبان أي يأتي كل منهما عقيب صاحبه و خصر الهواء بكسر الصاد المهملة يقال خصر يومنا أي اشتد برده و ماء خاصر بارد و في أكثر النسخ بالحاء المهملة و السين من حسر أي كل و هو لا يستقيم إلا بتكلف و تجوز و في بعضها بالخاء المعجمة و الثاء المثلثة من قولهم خثر اللبن خثرا إذا غلظ و البشع الكريه الطعم الذي يأخذ بالحلق و القنطار معيار و يروى أنه ألف و مائتا أوقية و يقال هو مائة و عشرون رطلا و يقال هو ملء مسك الثور ذهبا قوله ع و يذهب له به الصوت أي يملأ صيت كرمه و جوده الآفاق و الذمر الملامة و التهدد قوله ليتفشى التفشي الاتساع و الأظهر ليغشى بالغين المعجمة كما في بعض النسخ و الحطم الكسر و الاندفاق الانصباب و اليرقان آفة للزرع و قوله مما عسى أن يرزأ من الرزء المصيبة
انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين و الحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها و المنافع فيها كثيرة فمن ذلك أن يسقط عليها الثلوج فيبقى في قلالها لمن يحتاج إليه و يذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام و ينبت فيها ضروب من النبات و العقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل و يكون فيها كهوف و مقايل للوحوش من السباع العادية و يتخذ منها الحصون و القلاع المنيعة للتحرز من الأعداء و ينحت منها الحجارة للبناء و الأرحاء و يوجد فيها معادن لضروب من الجواهر و فيها خلال أخرى لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه
تفسير المقايل في بعض النسخ بالقاف و كأنه من القيلولة و في بعضها بالغين و لعله من الغيل الشجر الملتف و في بعض كتب اللغة المغالة العش و في بعض النسخ معاقل جمع المعقل و هو الملجأ
فكر يا مفضل في هذه المعادن و ما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و الجبس و الزرانيخ و المرتك و القونيا و الزيبق و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الياقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما يخرج منها من القار و الموميا و الكبريت و النفط و غير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم و اجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر و يستفيض في العالم حتى تكثر الذهب و الفضة و يسقطا عند الناس فلا يكون لهما قيمة و يبطل الانتفاع بهما في الشراء و البيع و المعاملات و لا كان يجيء السلطان الأموال و لا يدخرهما أحد للأعقاب و قد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس و الزجاج من الرمل و الفضة من الرصاص و الذهب من الفضة و أشباه ذلك مما لا مضرة فيه فانظر كيف أعطوا إرادتهم فيما لا ضرر فيه و منعوا ذلك فيما كان ضارا لهم لو نالوه و من أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره و لا حيلة في عبوره و من ورائه أمثال الجبال من الفضة تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته و سعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس و قلة انتفاعهم به و اعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشيء الطريف مما يحدثه الناس من الأواني و الأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا و كثر في أيدي الناس سقط عندهم و خست قيمته و نفاسة الأشياء من عزتها
بيان الكلس بالكسر الصاروج و الجبس بالكسر الجص و في أكثر النسخ الجبسين و لم أجده فيما عندنا من كتب اللغة لكن في كتب الطب كما في أكثر النسخ و المرتك كمقعد المرداسنج و القونيا بالباء الموحدة أو الياء المثناة من تحت و لم أجدهما في كتب اللغة لكن في القاموس القونة القطعة من الحديد أو الصفر يرفع بها الإناء و في بعض النسخ و التوتياء و في كتب اللغة أنه حجر يكتحل به و القار القير و جبي الخراج جباية جمعه و الإيغال المبالغة في الدخول و الذهاب و انصلت مضى و سبق
فكر يا مفضل في هذا النبات و ما فيه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء و الأتبان للعلف و الحطب للوقود و الخشب لكل شيء من أنواع النجارة و غيرها و اللحاء و الورق و الأصول و العروق و الصموغ لضروب من المنافع أ رأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض و لم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا و إن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب و الحطب و الأتبان و سائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره و نضارته التي لا يعد لها شيء من مناظر العالم و ملاهيه
بيان لحاء الشجرة بالكسر قشرها
فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة و أكثر و أقل و كان يجوز أن يكون الحبة تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة متسع لما يرد في الأرض من البذر و ما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل أ لا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطى أهله ما يبذرونه في أرضهم و ما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت و الزراعة و كذلك الشجر و النبت و النخل يريع الريع الكثير فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس و يستعملونه في مآربهم و ما يرد فيغرس في الأرض و لو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ و لا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل و لا لغرس ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف تأمل نبات هذه الحبوب من العدس و الماش و الباقلاء و ما أشبه ذلك فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها و تحجبها من الآفات إلى أن تشد و تستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه فأما البر و ما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رءوسها مثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل أ و ليس قد ينال الطير من البر و الحبوب قيل له بلى على هذا قدر الأمر فيها لأن الطير خلق من خلق الله و قد جعل الله تبارك و تعالى له فيما تخرج الأرض حظا و لكن حضنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث فيها و يفسد الفساد الفاحش فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شيء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت و يخرج الزراع من زرعه صفرا فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به و يبقى أكثره للإنسان فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه و شقي به و كان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير تأمل الحكمة في خلق الشجر و أصناف النبات فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان و لا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان و ما عليها من الورق و الثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها و صارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان أمهاتها أ لا ترى إلى عمد الفساطيط و الخيم كيف تمد بالأطناب من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه و تقيمه و لو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال و الدوح العظام في الريح العاصف فانظر إلى حكمة الخلقة كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط و الخيم متقدمة في خلق الشجر لأن خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط و الخيم أ لا ترى عمدها و عيدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة
بيان ينسفه بالكسر أي يقلعه و بشم الحيوان بشما من باب تعب اتخم من كثرة الأكل و الكدح العمل و السعي و الشقا الشدة و العسر شقي كرضي و الدوح بفتح الدال و سكون الواو جمع الدوحة و هي الشجرة العظيمة
تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها و عرضها و منها دقاق تتخلل الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل و لاحتيج إلى آلات و حركة و علاج و كلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال و السهل و بقاع الأرض كلها بلا حركة و لا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شيء و الأمر المطاع و اعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها و توصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منها و في الغلاظ منها معنى آخر فإنها تمسك الورقة بصلابتها و متانتها لئلا تنهتك و تتمزق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها و عرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة و إن كانت لا تدركها على الحقيقة فكر في هذا العجم و النوى و العلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق كما يحرز الشيء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع آخر فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ثم بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار و رقتها و لو لا ذلك لتشدخت و تفسخت و أسرع إليه الفساد و بعضه يؤكل و يستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح و قد تبين لك موضع الإرب في العجم و النوى فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة و فوق العجم من العنبة فما العلة فيه و لما ذا يخرج في هذه الهيئة و قد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السرو و الدلب و ما أشبه ذلك فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موته فيحتبس الحرارة الغريزية في عوده و يتولد فيه مواد الثمار ثم تحيا و تنتشر فتأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد و ترى الرياحين تلقاك في أفنانها كأنها تجيئك بأنفسها فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم و ما العلة فيه إلا تفكية الإنسان بهذه الثمار و الأنوار و العجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها اعتبر بخلق الرمانة و ما ترى فيها من أثر العمد و التدبير فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها و حبا مرصوفا رصفا كنحو ما ينضد بالأيدي و ترى الحب مقسوما أقساما و كل قسم منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج و ألطفه و قشره يضم ذلك كله فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده و ذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء أ لا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ثم لف بتلك اللفائف لتضمه و تمسكه فلا يضطرب و غشي فوق ذلك بالقشرة المستحصنة ليصونه و يحصنه من الآفات فهذا قليل من كثير و هي وصف الرمان و فيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب و التذرع في الكلام و لكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة و الاعتبار
بيان قوله ع معجما لعل المراد شدة ارتباطها قال الفيروزآبادي باب معجم كمكرم مقفل انتهى و يحتمل أن يكون كناية عن خفائها كقوله ص صلاة النهار عجماء و قوله ع إن عاق دون الغرس أي غرس الأغصان عائق تغرس النوى بدلها و الشدخ الكسر و الغمز و المشدخ هو بسر يغمز و ييبس للشتاء و الدلب بالضم الصنار قوله ع فيحتبس الحرارة الغريزية يدل على أن الحرارة الغريزية لا يختص بالحيوان بل يوجد في النبات أيضا كما صرح به جماعة من المحققين و يقال رصفت الحجارة في البناء رصفا أي ضممت بعضها إلى بعض و استحصف استحكم و التذرع كثرة الكلام و الإفراط فيه
فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء و القثاء و البطيخ و ما في ذلك من التدبير و الحكمة فإنه حين قدر أن يحتمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض و لو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع و الشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة و لينقصف قبل إدراكها و انتهائها إلى غايتها فانظر كيف صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثمارها فتحملها عنه فترى الأصل من القرع و البطيخ مفترشا للأرض ثماره مبثوثة عليها و حواليه كأنه هرة ممتدة و قد اكتنفتها إجراؤها لترضع منها و انظر كيف صارت الأصناف توافي في وقت المشاكل لها من حمارة الصيف و وقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح و تشوق إليها و لو كانت توافي في الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها و اقشعرارا منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان أ لا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره و ليستوخم مغبته
توضيح قال الفيروزآبادي اليقطين ما لا ساق له من النبات و نحوه و القصف الكسر و قال الجوهري الجرو و الجرو و الجرو ولد الكلب و السباع و الجمع أجر و أصله أجرو على أفعل و جراء و جمع الجراء أجرية و الجرو و الجروة الصغير من القثاء انتهى و الحمارة بتخفيف الميم و تشديد الراء و قد يخفف في الشعر شدة الحر و في الأساس ما لي أراك تشرح إلى كل رتبة و هو إظهار الرغبة إليها و فيه هو شره العين يطمع في كل ما يراه يرمي نفسه عليه و يتمناه انتهى و استوخمه لم يجده مريئا موافقا و المغبة العاقبة
فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث يحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل و هو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من غير خيوط ممدودة كالسدى و أخرى معه معترضة كاللحمة كنحو ما ينسج بالأيدي و ذلك ليشتد و يصلب و لا ينقصف من حمل القنوان الثقلية و هز الرياح العواصب إذا صار نخلة و ليتهيأ للسقوف و الجسور و غير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا و كذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضا طولا و عرضا كتداخل أجزاء اللحم و فيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف و غير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب و الأسرة و التوابيت و ما أشبه ذلك و من جسيم المصالح في الخشب أنه يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه و ليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن و الأظراف تحمل أمثال الجبال من الحمولة و أنى كان ينال الناس هذا الوفق و خفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد و كانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسرا وجوده فكر في هذه العقاقير و ما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج و هذا ينزف المرة السوداء مثل الأفتيمون و هذا ينفي الرياح مثل السكبينج و هذا يحلل الأورام و أشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة و من فطن الناس بها إلا من جعل هذا فيها و متى كان يوقف على هذا منها بالعرض و الاتفاق كما قال قائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه و لطيف رويته و تجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ و بعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم و أشباه هذا كثير و لعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري و البراري حيث لا أنس و لا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه و ليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش و حبه علف للطير و عوده و أفنانه حطب فيستعمله الناس و فيه بعد أشياء تعالج به الأبدان و أخرى تدبغ به الجلود و أخرى تصبغ به الأمتعة و أشباه هذا من المصالح أ لست تعلم أن أخس النبات و أحقره هذا البردي و ما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك و السوقة و الحصر التي يستعملها كل صنف من الناس و ليعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني و يجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب و تنكسر و أشباه هذا من المنافع فاعتبر بما ترىمن ضروب المآرب في صغير الخلق و كبيره و بما له قيمة و ما لا قيمة له و أخس من هذا و أحقره الزبل و العذرة التي اجتمعت فيها الخساسة و النجاسة معا و موقعها من الزروع و البقول و الخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح و لا يزكو إلا بالزبل و السماد الذي يستقذره الناس و يكرهون الدنو منه و اعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين و ربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطنوا طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها قال المفضل و حان وقت الزوال فقام مولاي إلى الصلاة و قال بكر إلي غدا إن شاء الله فانصرفت و قد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسرورا
بيان قوله ع ليصلح بيان لما يتحصل مما مر لا للمتانة فقط و النزف النزح قوله ع هب الإنسان أي سلمنا أنه كذلك و الحصر بالضم اعتقال البطن و السوقة بالضم الرعية للواحد و الجمع و المذكر و المؤنث و الغلف بضمة و بضمتين و كركع جمع غلاف و الزبل بالكسر السرقين و قال الفيروزآبادي السماد السرقين برماد و قال الجزري هو ما يطرح في أصول الزرع و الخضر من العذرة و الزبل ليجود نباته أقول يدل ظاهرا على جواز استعمال العذرات النجسة في ذلك و ربما يستدل به على تطهير الاستحالة
المجلس الرابع قال المفضل فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستوذن لي فأمرني بالجلوس فجلست فقال ع منا التحميد و التسبيح و التعظيم و التقديس للاسم الأقدم و النور الأعظم العلي العلام ذي الجلال و الإكرام و منشئ الأنام و مفتي العوالم و الدهور و صاحب السر المستور و الغيب المحظور و الاسم المخزون و العلم المكنون و صلواته و بركاته على مبلغ وحيه و مؤدي رسالته الذي ابتعثه بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فعليه و على آله من بارئه الصلوات الطيبات و التحيات الزاكيات الناميات و عليه و عليهم السلام و الرحمة و البركات في الماضين و الغابرين أبد الآبدين و دهر الداهرين و هم أهله و مستحقه قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد في الإنسان و الحيوان و النبات و الشجر و غير ذلك مما فيه عبرة لمن اعتبر و أنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخالق و الخلق و العمد و التدبير و ما أنكرت المعطلة و المنانية من المكاره و المصائب و ما أنكروه من الموت و الفناء و ما قاله أصحاب الطبائع و من زعم أن كون الأشياء بالعرض و الاتفاق ليتسع ذلك القول في الرد عليهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد ذريعة إلى جحود الخلق و التدبير و الخالق فيقال في جواب ذلك إنه إن لم يكن خالق و مدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا و أفظع فمن ذلك أن يسقط السماء على الأرض و تهوي الأرض فتذهب سفلا و تتخلف الشمس عن الطلوع أصلا و تجف الأنهار و العيون حتى لا يوجد ماء للشفة و تركد الريح حتى تحم الأشياء و تفسد و يفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء و الجراد و ما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم و تمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أ فلا ترى أن العالم يصان و يحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره و يلذع أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فتكون وقوعها بهم موعظة و كشفها عنهم رحمة و قد أنكرت المعطلة ما أنكرت المنانية من المكاره و المصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم يحدث فيه هذه الأمور المكروهة و القائل بهذا القول يذهب به إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر و لو كان هكذا كان الإنسان سيخرج من الأشر و العتو إلى ما لا يصلح في دين و دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره و وجد مضضها اتعظ و أبصر كثيرا مما كان جهله و غفل عنه و رجع إلى كثير مما كان يجب عليه و المنكرون لهذه الأمور الموذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة و يتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة و يتكرهون الأدب و العمل و يحبون أن يتفرغوا للهو و البطالة و ينالوا كل مطعم و مشرب و لا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشوء و العادة و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء و الأسقام و ما لهم في الأدب من الصلاح و في الأدوية من المنفعة و إن شاب ذلك بعض الكراهة فإن قالوا و لم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي حتى لا يحتاج إلى أن
يلذعه بهذه المكاره قيل إذا كان يكون غير محمود على حسنة يأتيها و لا مستحق للثواب عليها فإن قالوا و ما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب بعد أن يصير إلى غاية النعيم و اللذة قيل لهم اعرضوا على امرئ صحيح الجسم و العقل أن يجلس منعما و يكفى كل ما يحتاج إليه بلا سعي و لا استحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي و الحركة أشد اغتباطا و سرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق و كذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه و الاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة بأن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا و جعل له السبيل إلى أن ينال بسعي و استحقاق فيكمل له السرور و الاغتباط بما يناله منه فإن قالوا أ و ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير و إن كان لا يستحقه فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة قيل لهم إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب و الضراوة على الفواحش و انتهاك المحارم فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لو وثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه و أهله و ماله من الناس لو لم يخافوا الحساب و العقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل و الحكمة معا و موضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب و وضع الأمور غير مواضعها و قد يتعلق هؤلاء بالآفات التي تصيب الناس فتعم البر و الفاجر أو يبتلى بها البر و يسلم الفاجر منها فقالوا كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم و ما الحجة فيه فيقال لهم إن هذه الآفات و إن كانت تنال الصالح و الطالح جميعا فإن الله جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما أما الصالحون فإن الذي يصيبهم من هذا يردهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر و الصبر و أما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم و ردعهم عن المعاصي و الفواحش و كذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا في ذلك أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه من البر و الصلاح و يزدادون فيه رغبة و بصيرة و أما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم و تطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاقهم فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس و الصفح عمن أساء إليهم و لعل قائلا يقول إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق و الغرق و السيل و الخسف فيقال لهم إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من تكاليفها و النجاة من مكارهها و أما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم و حبسهم عن الازدياد منها و جملة القول أن الخالق تعالى ذكره بحكمته و قدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخيرة و المنفعة فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة أخذها الصانع الرفيق و استعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم و أموالهم فيصيرها جميعا إلى الخيرة و المنفعة فإن قال و لم يحدث على الناس قيل له لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي و يفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض و الدعة و هذه الحوادث التي تحدث عليهم تردعهم و تنبههم على ما فيه رشدهم فلو أخلوا منهما لغلوا في الطغيان و المعصية كما على الناس في أول الزمان حتى وجب عليهم البوار بالطوفان و تطهير الأرض منهم
و مما ينتقده الجاحدون للعمد و التقدير الموت و الفناء فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا مبرءين من الآفات فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته فينظر ما محصوله أ فرأيت لو كان كل من دخل العالم و يدخله يبقون و لا يموت أحد منهم أ لم تكن الأرض تضيق بهم حتى تعوزهم المساكن و المزارع و المعاش فإنهم و الموت يفنيهم أولا أولا يتنافسون في المساكن و المزارع حتى ينشب بينهم في ذلك الحروب و يسفك فيهم الدماء فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون و لا يموتون و كان يغلب عليهم الحرث و الشره و قساوة القلوب فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء ينال و لا أفرج لأحد عن شيء يسأله و لا سلا عن شيء مما يحدث عليه ثم كانوا يملون الحياة و كل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل الحياة من طال عمره حتى يتمنى الموت و الراحة من الدنيا فإن قالوا إنه كان ينبغي أن يرفع عنهم المكاره و الأوصاب حتى لا يتمنوا الموت و لا يشتاقوا إليه فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو و الأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدين و الدنيا و إن قالوا إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن و المعاش قيل لهم إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم و الاستمتاع بنعم الله و مواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن واحد لا يتوالدون و لا يتناسلون فإن قالوا كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق و يخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن و المعاش عنهم ثم لو كانوا لا يتوالدون و لا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات و ذوي الأرحام و الانتصار بهم عند الشدائد و موضع تربية الأولاد و السرور بهم ففي هذا دليل على أن كلما تذهب إليه الأوهام سوى ما جرى به التدبير خطأ و سفاه من الرأي و القول و لعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير و نحن نرى الناس في هذه الدنيا من عز بز فالقوي يظلم و يغصب و الضعيف يظلم و يسأم الخسف و الصالح فقير مبتلى و الفاسق معافى موسع عليه و من ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على
القياس القائم فكان الصالح هو المرزوق و الطالح هو المحروم و كان القوي يمنع من ظلم الضعيف و المتهتك للمحارم يعاجل بالعقوبة فيقال في جواب ذلك إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به الإنسان على غيره من الخلق و حمل النفس على البر و العمل الصالح احتسابا للثواب و ثقة بما وعد الله منه و لصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا و العلف و يلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك و لم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم ثم لا يعرف ما غاب و لا يعمل إلا على الحاضر و كان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل الصالحات للرزق و السعة في هذه الدنيا و يكون الممتنع من الظلم و الفواحش إنما يعف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته حتى يكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبها شيء من اليقين بما عند الله و لا يستحقون ثواب الآخرة و النعيم الدائم فيها مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى و الفقر و العافية و البلاء ليست بجارية على خلاف قياسه بل قد تجري على ذلك أحيانا و الأمر المفهوم فقد ترى كثيرا من الصالحين يرزقون المال لضروب من التدبير و كيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون و الأبرار هم المحرومون فيؤثرون الفسق على الصلاح و ترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم و عظم ضررهم على الناس و على أنفسهم كما عوجل فرعون بالغرق و بختنصر بالتيه و بلبيس بالقتل و إن أمهل بعض الأشرار بالعقوبة و أخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض و لا يبطل تدبيرهم بل يكون تأخيرهم ما أخروه أو تعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي و التدبير و إذا كانت الشواهد تشهد و قياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه فإنه لا يصح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز و إما جهل و إما شرارة و كل هذه محال في صنعته عز و جل و تعالى ذكره و ذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة و الجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب و الحكمة و الشرير لا يتطاول لخلقها و إنشائها و إذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة و إن كان لا تدرك كنه ذلك التدبير و مخارجه فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة و لا تعرف أسبابه لأنها لا تعرف دخلة أمر الملوك و أسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب و الشاهد المحنة و لو شككت في بعض الأدوية و الأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث أنه حار أو بارد أ لم تكن ستقضي عليه بذلك و تنفي الشك فيه عن نفسك فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخالق و التدبير مع هذه الشواهد الكثيرة و أكثر منها ما لا يحصى كثرة لو كان نصف العالم و ما فيه مشكلا صوابه لما كان من حزم الرأي و سمت الأدب أن يقضي على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر و ما يظهر فيه من الصواب و الإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية فكيف و كل ما كان فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح و أصوب منه
بيان قوله ع للاسم الأقدم لعل المراد بالاسم المسمى أو المراد الاسم الذي أظهره و أثبته في اللوح قبل سائر الأسماء أو المراد الاسم الذي يخص الذات فهو أسبق الأسماء في الاعتبار و أشرفها كما يظهر من الآثار قوله و الغيب المحظور أي الممنوع عن غيره تعالى إلا من ارتضاه لذلك قوله بالعرض قال الفيروزآبادي عرض الشيء ظهر و العرض أن يموت الإنسان من غير علة و الاجتياح الاستيصال قوله ع و يلذع يقال لذعته النار أي أحرقته و لذعه بلسانه أي أوجعه بكلام و في بعض النسخ بإهمال الأول و إعجام الثاني من لدغ العقرب و يقال رثيت لفلان أي رققت له و المضض محركة وجع المصيبة قوله ع إذا كان يكون غير محمود يمكن أن يقرأ إذا بالتنوين و بدونها و على الثاني يكون خبر كان محذوفا أي إذا كان الإنسان كذلك. ثم اعلم أنه ينبغي أن تحمل العصمة المأخوذة في السؤال على غير المعنى المشهور الذي سيأتي تحقيقه في باب عصمة الأئمة ع بل المراد العصمة بمعنى الإلجاء الذي لم يبق معه اختيار و لذا فرع ع عليه عدم استحقاق الثواب و إلا فالعصمة التي اتصفت بها الأنبياء و الأئمة ع لا ينافي ذلك كما سنحققه في مقامه إن شاء الله تعالى و يمكن أن يقال على تقدير أن يكون المراد هذا المعنى أيضا بأنه إذا صار هذا عاما في جميع البشر لا يتأتى في بعض المواد التي لا تستحق ذلك من نفوس الأشرار و الفجار إلا بالإلجاء الرافع للاستحقاق قوله ع إلى غاية الكلب و الضراوة قال الجوهري دفعت عنك كلب فلان أي شره و أذاه و الكلب أيضا شبيه بالجنون و قال ضري الكلب بالصيد ضراوة أي تعود أقول لما كان السؤال مبنيا على فرض العصمة ظاهرا فتصحيح هذا الجواب في غاية الإشكال و خطر بالبال وجوه الأول أن لا يكون السؤال مبنيا على فرض العصمة بل يكون المراد أنه لما ذكرت أن العصمة تنافي الاستحقاق فنقول لم لم يبذل لهم الثواب على أي حال بأن يكلفهم العمل ليستحقوا الثواب إن أرادوا استحقاقه و إلا أعطاهم من غير استحقاق إذ كثير من الناس يطلبون النعيم بغير استحقاق فلا يكون عليهم في الدنيا و الآخرة سخط على المخالفة و على هذا الجواب ظاهر الانطباق على السؤال كما لا يخفى. الثاني أن يكون السؤال مبنيا على فرض العصمة في بعضهم و هم الذين يطلبون الثواب و لا يريدون استحقاقه كما هو ظاهر السياق و يكون حاصل الجواب أنه لو كان المجبور على الخيرات مثابا فمقتضى العدل أن يكون غير المجبور الطالب للخير و الاستحقاق غير معاقب على حال و إلا لكان له الحجة على ربه بأنك لم تعصمني كما عصمت غيري و منعت عني اللطف بالبلايا و الصوارف عن المعاصي في الدنيا ثم تعذبني على المعاصي
فعلى هذا فلو علم غير المعصومين ذلك لدعتهم الدواعي النفسانية إلى غاية الفساد و هذا وجه وجيه لكن يحتاج إلى طي بعض المقدمات. الثالث أن يكون السؤال مبنيا على ذلك الفرض أيضا لكن يكون الجواب مبنيا على أنه قد يستلزم المحال نقيضه إذا الكلام في هذا النوع من الخلق المسمى بالإنسان الذي اقتضت الحكمة أن يكون قد ركبت فيه أنواع الشهوات و الدواعي فلو فرضته على غير تلك الحالة لكان من قبيل فرض الشيء إنسانا و ملكا و هما لا يجتمعان فعلى هذا يلزمه أيضا لفرض كونه إنسانا أن يدعوه عدم خوف العقاب و الفراغ إلى الأشر و البطر و أنواع المعاصي و حاصله يرجع إلى تغيير الجواب الأول إلى جواب آخر لا يرد عليه السؤال على غاية اللطف و الدقة. و الردع الكف و المنع و قوله يغتبطون على البناء للفاعل من الاغتباط و هو حسن الحال بحيث يتمنى غيره حاله و الحض الحث و التحريص و تمحيص الأوزار تنقيصها أو إزالتها قوله ع فإن قال و لم يحدث على الناس أقول لما كان آخر الكلام موهما لأن هذه الأمور بعد حدوثها يصيرها الله تعالى إلى الحكمة و الصلاح سأل ثانيا ما السبب في أصل الحدوث حتى يحتاج إلى أن يجعله الله صلاحا و يحتمل أن يكون مراده أنا علمنا أن في وجودها صلاحا فهل في عدمها فساد و الجواب على التقديرين ظاهر و قال الفيروزآبادي عوز الشيء كفرح لم يوجد و أعوزه الشيء احتاج إليه و الدهر أحوجه و قال تناشبوا تضاموا و تعلق بعضهم ببعض و نشبه الأمر كلزم زنة و معنى و قال أفرجوا عن الطريق و القتيل انكشفوا و عن المكان تركوه انتهى و المراد هنا عدم التخلية بين أحد و بين ما يريده قوله ع و لا سلا عن شيء أي لا ينسى و يتسلى عن شيء من المصائب إذ بتذكر الموت تزول شدة المحن من قولهم سلا عن الشيء أي نسيه و قال الجوهري بزه يبزه بزا سلبه و في المثل من عز بز أي من غلب أخذ السلب و قال سامه خسفا و خسفا بالضم أي أولاه ذلا و قال الفيروزآبادي لمع بيده أشار و قال تفاقم الأمر عظم قوله ع و بختنصر بالتيه أقول لعله إشارة إلى ما ذكره جماعة من المؤرخين أن ملكا من الملائكة لطم بختنصر لطمة
و مسخه و صار في الوحش في صورة أسد و هو مع ذلك يعقل ما يفعله الإنسان ثم رده الله تعالى إلى صورة الإنس و أعاد إليه ملكه فلما عاد إلى ملكه أراد قتل دانيال فقتله الله على يد واحد من غلمانه و قيل في سبب قتله أن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره و صعدت إلى رأسه فكان لا يقر و لا يسكن حتى يدق رأسه فمات من ذلك و بلبيس غير معروف عند المؤرخين و التطاول هنا مبالغة في الطول بمعنى الفضل و الإحسان و دخلة الرجل مثلثة نيته و مذهبه و جمع أمره و بطانته قوله ع و الشاهد المحنة أي بالشاهد يمكن امتحان الغائب
و اعلم يا مفضل أن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس و تفسيره الزينة و كذلك سمته الفلاسفة و من ادعى الحكمة أ فكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير و النظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا و نظاما حتى سموه زينة ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب و الإتقان على غاية الحسن و البهاء أعجب يا مفضل من قوم لا يقضون صناعة الطب بالخطإ و هم يرون الطبيب يخطئ و يقضون على العالم بالإهمال و لا يرون شيئا منه مهملا بل أعجب من أخلاق من ادعى الحكمة حتى جهلوا مواضعها في الخلق فأرسلوا ألسنتهم بالذم للخالق جل و علا بل العجب من المخذول ماني حين ادعى علم الأسرار و عمي عن دلائل الحكمة في الخلق حتى نسبه إلى الخطإ و نسب خالقه إلى الجعل تبارك الحليم الكريم و أعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدرك بالحس ما لا يدرك بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجهود و التكذيب فقالوا و لم لا يدرك بالعقل قيل لأنه فوق مرتبة العقل كما لا يدرك البصر ما هو فوق مرتبته فإنك لو رأيت حجرا يرتفع في الهواء علمت أن راميا رمى به فليس هذا العلم من قبل البصر بل من قبل العقل لأن العقل هو الذي يميزه فيعلم أن الحجر لا يذهب علوا من تلقاء نفسه أ فلا ترى كيف وقف البصر على حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل على حده من معرفة الخالق فلا يعدوه و لكن يعقله بعقل أقر أن فيه نفسا و لم يعاينها و لم يدركها بحاسة من الحواس و على حسب هذا أيضا نقول إن العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار و لا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته فإن قالوا فكيف يكلف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف و لا يحيط به قيل لهم إنما كلف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه و هو أن يوقنوا به و يقفوا عند أمره و نهيه و لم يكلفوا الإحاطة بصفته كما أن الملك لا يكلف رعيته أن يعلموا أ طويل هو أم قصير أبيض هو أم أسمر و إنما يكلفهم الإذعان بسلطانه و الانتهاء إلى أمره أ لا ترى أن رجلا لو أتى باب الملك فقال اعرض علي نفسك حتى أتقصى معرفتك و إلا لم أسمع لك كان قد أحل نفسه العقوبة فكذا القائل إنه لا يقر بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرض لسخطه فإن قالوا أ و ليس قد نصفه فنقول هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم كل هذه صفات إقرار و ليست صفات إحاطة فإنا نعلم أنه حكيم و لا نعلم بكنه ذلك منه و كذلك قدير و جواد و سائر صفاته كما قد نرى السماء و لا ندري ما جوهرها و نرى البحر و لا ندري أين منتهاه بل فوق هذا المثال بما لا نهاية له لأن الأمثال كلها تقصر عنه و لكنها تقود العقل إلى معرفته فإن قالوا و لم يختلف فيه قيل لهم لقصر الأوهام عن مدى عظمته و تعديها أقدارها في طلب معرفته و أنها تروم الإحاطة به و هي تعجز عن ذلك و ما دونه فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم و لا يوقف على حقيقة أمرها و لذلك كثرت الأقاويل فيها و اختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها فقال بعضهم هو فلك أجوف مملو نارا له فم يجيش بهذا الوهج و الشعاع و قال آخرون هو سبحانه و قال آخرون هو جسم زجاجي يقبل نارية في العام و يرسل عليه شعاعها و قال آخرون هو صفو
لطيف ينعقد من ماء البحر و قال آخرون هو أجزاء كثيرة مجتمعة من النار و قال آخرون هو من جوهر خامس سوى الجواهر الأربع ثم اختلفوا في شكلها فقال بعضهم هي بمنزلة صفيحة عريضة و قال آخرون هي كالكرة المدحرجة و كذلك اختلفوا في مقدارها فزعم بعضهم أنها مثل الأرض سواء و قال آخرون بل هي أقل من ذلك و قال آخرون هي أعظم من الجزيرة العظيمة و قال أصحاب الهندسة هي أضعاف الأرض مائة و سبعون مرة ففي اختلاف هذه الأقاويل منهم في الشمس دليل على أنهم لم يقفوا على الحقيقة من أمرها و إذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر و يدركها الحس قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها فكيف ما لطف عن الحس و استتر عن الوهم فإن قالوا و لم استتر قيل لهم لم يستتر بحيلة يخلص إليها كمن يحتجب عن الناس بالأبواب و الستور و إنما معنى قولنا استتر أنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطفت النفس و هي خلق من خلقه و ارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا و لم لطف و تعالى عن ذلك علوا كبيرا كان ذلك خطأ من القول لأنه لا يليق بالذي هو خالق كل شيء إلا أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه و تعالى فإن قالوا كيف يعقل أن يكون مباينا لكل شيء متعاليا قيل لهم الحق الذي تطلب معرفته من الأشياء هو الأربعة أوجه فأولها أن ينظر أ موجود هو أم ليس بموجود و الثاني أن يعرف ما هو في ذاته و جوهره و الثالث أن يعرف كيف هو و ما صفته و الرابع أن يعلم لما ذا هو و لأية علة فليس من هذه الوجوه شيء يمكن المخلوق أن يعرفه من الخالق حق معرفته غير أنه موجود فقط فإذا قلنا كيف و ما هو فممتنع علم كنهه و كمال المعرفة به و أما لما ذا هو فساقط في صفة الخالق لأنه جل ثناؤه علة كل شيء و ليس شيء بعلة له ثم ليس علم الإنسان بأنه موجود يوجب له أن يعلم ما هو كما أن علمه بوجود النفس لا يوجب أن يعلم ما هي و كيف هي و كذلك الأمور الروحانية اللطيفة فإن قالوا فأنتم الآن تصفون من قصور العلم عنه وصفا حتى كأنه غير معلوم قيل لهم هو كذلك من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه و الإحاطة به و هو من جهة أخرى أقرب من كل قريب إذا استدل عليه بالدلائل الشافية فهو من جهة كالواضح لا يخفى على أحد و هو من جهة كالغامض لا يدركه أحد و كذلك العقل أيضا ظاهر بشواهد و مستور بذاته فأما أصحاب الطبائع فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى و لا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته و زعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة و الوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها و هذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التحارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة و القدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه هي صفات الخالق و إن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل لخالق الحكيم و قد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد و التدبير في الأشياء و زعموا أن كونها بالعرض و الاتفاق و كان مما احتجوا به هذه الآفات التي تلد غير مجرى العرف و العادة كالإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد و تقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون و قد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض و الاتفاق إنما هو شيء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها و ليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا و أنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال و منهاج واحد كالإنسان يولد و له يدان و رجلان و خمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك
عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشيء فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها و يسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه فكما أن الذي يحدث في بعض الأعمال الأعراض لعلة فيه لا توجب عليها جميعا الإهمال و عدم الصانع كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض و الاتفاق فقول من قال في الأشياء إن كونها بالعرض و الاتفاق من قبل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة يعرض له خطأ و خطل فإن قالوا و لم صار مثل هذا يحدث في الأشياء قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة و لا يمكن أن يكون سواه كما قال قائلون بل هو تقدير و عمد من خالق حكيم إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى و منهاج معروف و يزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق و قدرته في بلوغ غايتها و إتمام عملها فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ يا مفضل خذ ما آتيتك و احفظ ما منحتك و كن لربك من الشاكرين و لآلائه من الحامدين و لأوليائه من المطيعين فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد قليلا من كثير و جزاء من كل فتدبره و فكر فيه و اعتبر به فقلت بمعونتك يا مولاي أقوى على ذلك و أبلغه إن شاء الله فوضع يده على صدري فقال احفظ بمشية الله و لا تنس إن شاء الله فخررت مغشيا علي فلما أفقت قال كيف ترى نفسك يا مفضل فقلت قد استغنيت بمعونة مولاي و تأييده عن الكتاب الذي كتبته و صار ذلك بين يدي كأنما أقرؤه من كفي و لمولاي الحمد و الشكر كما هو أهله و مستحقه فقال يا مفضل فرغ قلبك و اجمع إليك ذهنك و عقلك و طمأنينتك فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله بينهما و فيهما من عجائب خلقه و أصناف الملائكة و صفوفهم و مقاماتهم و مراتبهم إلى سدرة المنتهى و سائر الخلق من الجن و الإنس إلى الأرض السابعة السفلى و ما تحت الثرى حتى يكون ما وعيته جزءا من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوءا فأنت منا بالمكان الرفيع و موضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى و لا تسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا قال المفضل فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله
بيان جاش البحر و القدر و غيرهما يجيش جيشا غلا قوله ع قال أصحاب الهندسة أقول المشهور بين متأخريهم أن جرم الشمس مائة و ستة و ستون مثلا و ربع و ثمن لجرم الأرض و ما ذكره ع لعله كان مذهب قدمائهم مع أنه قريب من المشهور و الاختلاف بين قدمائهم و متأخريهم في أمثال ذلك كثير قوله ع الحق الذي أي الأمور الحقة الثابتة التي تطلب معرفتها من بين الأشياء و في بعض النسخ لحق أي ما يحق و ينبغي أن تطلب معرفته من أحوال الأشياء هو أربعة أوجه و قال الجوهري قولهم لقيته في الفرط بعد الفرط إلى الحين بعد الحين و الصدى بالفتح العطش. ثم اعلم أن بعض تلك الفقرات تومئ إلى تجرد النفس و الله يعلم و حججه صلوات الله عليهم أجمعين