اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد ذريعة إلى جحود الخالق و التدبير و الخلق فيقال في جواب ذلك أنه إن لم يكن خالق و مدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا و أفظع فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض و تهوي الأرض فتذهب سفلا و تتخلف الشمس عن الطلوع أصلا و تجف الأنهار و العيون حتى لا يوجد ماء للشفه و تركد الريح حتى تخم الأشياء و تفسد و يفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء و الجراد و ما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم و تمتد حتى تجتاح كل ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثم لا تلبث أن ترفع أ فلا ترى أن العالم يصان و يحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره و يلذع أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم ثم لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة و كشفها عنهم رحمة و قد أنكرت المنانية من المكاره و المصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إن كان للعالم خالق رءوف رحيم فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة و القائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر و لو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر و العتو إلى ما لا يصلح في دين و لا دنيا كالذي ترى كثيرا من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه حتى أن أحدهم ينسى أنه بشر و أنه مربوب أو أن ضررا يمسه أو أن مكروها ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا أو يواسي فقيرا أو يرثي لمبتلى أو يتحنن على ضعيف أو يتعطف على مكروب فإذا عضته المكاره و وجد مضضها اتعظ و أبصر كثيرا مما كان جهله و غفل عنه و رجع إلى كثير مما كان يجب عليه و المنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة و يتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة و يتكرهون الأدب و العمل و يحبون أن يتفرغوا للهو و البطالة و ينالوا كل مطعم و مشرب و لا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو و العادة و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء و الأسقام و ما لهم في الأدب من الصلاح و في الأدوية من المنفعة و إن شاب ذلك بعض الكراهة فإن قالوا فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوئ حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره قيل إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها و لا مستحقا للثواب عليها فإن قالوا و ما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب بعد أن يصير إلى غاية النعيم و اللذات قيل لهم اعرضوا على امرئ صحيح الجسم و العقل أن يجلس منعما و يكفى كلما يحتاج إليه بلا سعي و لا استحقاق فانظروا هل تقبل نفسه ذلك بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي و الحركة أشد اغتباطا و سرورا منه بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق و كذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه و الاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة فإن أعد له الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا و جعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي و استحقاق فيكمل له السرور و الاغتباط بما يناله منه فإن قالوا أ و ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير و إن كان لا يستحقه فما الحجة في منع من رضي أن ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة قيل لهم إن هذا باب لو صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب و الضراوة على الفواحش و انتهاك المحارم فمن كان يكف نفسه عن فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة أو من كان يأمن على نفسه و أهله و ماله من الناس لو لم يخاف الحساب و العقاب فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة فيكون في ذلك تعطيل العدل و الحكمة معا و موضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب و وضع الأمور في غير مواضعها