فأما أصحاب الطبائع فقالوا إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى و لا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته و زعموا أن الحكمة تشهد بذلك فقيل لهم فمن أعطي الطبيعة هذه الحكمة و الوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها و هذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة و القدرة على مثل هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه في صفات الخالق و إن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم و قد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد و التدبير في الأشياء و زعموا أن كونها بالعرض و الاتفاق و كان مما احتجوا به هذه الآيات التي تكون على غير مجرى العرف و العادة كإنسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا أو يكون المولود مشوها مبدل الخلق فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد و تقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون و قد كان أرسطاطاليس رد عليهم فقال إن الذي يكون بالعرض و الاتفاق إنما هو شيء يأتي في الفرط مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها و ليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا و أنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال و منهاج واحد كالإنسان يولد و له يدان و رجلان و خمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشيء فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها و يسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه فكما أن الذي يحدث في بعض أعمال الأعراض لعلة فيه لا يوجب عليها جميعا الإهمال و عدم الصانع كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض و الاتفاق فقول من قال في الأشياء إن كونها بالعرض و الاتفاق من قبيل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة بعرض يعرض له خطأ و خطل فإن قالوا و لم صار مثل هذا يحدث في الأشياء قيل لهم ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة و لا يمكن أن يكون سواه كما قال القائلون بل هو تقدير و عمد من خالق حكيم إذ جعل للطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى و منهاج معروف و تزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق و قدرته في بلوغ غايتها و إتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين يا مفضل خذ ما آتيتك و احفظ ما منحتك و كن لربك من الشاكرين و لآلائه من الحامدين و لأوليائه من المطيعين فقد شرحت لك من الأدلة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد قليلا من كثير و جزء من كل فتدبره و فكر فيه و اعتبر به فقلت بمعونتك يا مولاي أقر على ذلك و أبلغه إن شاء الله فوضع يده على صدري فقال احفظ بمشيئة الله و لا تنس إن شاء الله فخررت مغشيا علي فلما أفقت قال كيف ترى نفسك يا مفضل فقلت قد استغنيت بمعونة مولاي و تأييده عن الكتاب الذي كتبته و صار ذلك بين يدي كأنما أقرأه من كفي فلمولاي الحمد و الشكر كما هو أهله و مستحقه فقال يا مفضل فرغ قلبك و اجمع إليك ذهنك و عقلك و طمأنينتك فسألقي إليك من علم ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله بينهما و فيهما من عجائب خلقه و أصناف الملائكة و صفوفهم و مقاماتهم و مراتبهم إلى سدرة المنتهى و سائر الخلق من الجن و الإنس إلى الأرض السابعة السفلى و ما تحت الثرى حتى يكون ما وعيته جزء من أجزاء انصرف إذا شئت مصاحبا مكلوء فأنت منا بالمكان الرفيع و موضعك من قلوب المؤمنين موضع الماء من الصدى و لاتسألن عما وعدتك حتى أحدث لك منه ذكرا قال المفضل فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله