.: النبي سليمان (عليه السلام) :.
مقدمة:
القرآن الكريم يزف البشرى لداود في أنه سيرزق بولد صالح هو سليمان، وسيتولى الحكم وأعباء الرسالة من بعده، وهو يقول: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (1)
على عكس (التوراة) الموجودة اليوم والتي صورت (سليمان) أحد السلاطين الجبابرة وباني معابد الأوثان الضخمة ومستهتر النساء بعد القرآن الكريم (سليمان) من أنبياء الله العظام ونموذج للحكومة والمقدرة المنقطة النظير، وقد أعطى القرآن الكريم بعرضه البحوث المختلفة المتعلقة بسليمان دروساً للبشر هي الأساس من ذكر قصته.
إن الله تعالى أعطى لهذا الرسول العظيم مواهب عظيمة، فمن وسيلة النقل السريعة جداً والتي استطاع بواسطتها التنقل في مملكته الواسعة في مدة قصيرة، إلى المواد المعدنية المختلفة، إلى القوى العاملة الفعالة الكافية لتصنيع تلك المعادن.
وقد قام سليمان (عليه السلام) بالاستفادة من المواهب المذكورة، ببناء المعابد الضخمة، وترغيب الناس بالعبادة، وكذلك فقد نظم برامج واسعة لاستضافة أفراد جيشه وعماله وسائر الناس في مملكته.
ومن الأواني التي جاء ذكرها في القرآن الكريم يمكننا تخيل أكثر من ذلك.
وفي قبال ذلك طالبه الله تعالى بأداء الشكر على هذه النعم، مع تأكيده سبحانه على أن أداء شكر النعم يتحقق من فئة قليلة نادرة.
ثم اتضح كيف أن رجلاً بكل هذه القدرة والعظمة كان أمام الموت ضعيفاً لا حول له ولا قوة بحيث فارق الحياة فجأة وفي لحظة واحدة. نعم.. كيف أن الأجل لم يعطه حتى فرصة الجلوس أو الاستلقاء على سريره. ذلك حتى لا يتوهم المغرورون والعاصون حينما يبلغون مقاماً أو منصباً أن قد أصبحوا مقتدرين حقيقة، فإن المقتدر الحقيقي الذي كان الجن والإنس والشياطين خدماً بين يديه، والذي كان يجول في الأرض والسماء وقد بلغ قمة الهيبة والحشمة.. ثم في لحظة قصيرة فارق الدنيا.
واتضح كذلك كيف أن عصاً تافهةً، أقامت جثمانه مدة، وجعلت الجن يعملون بجد واجتهاد وهم يلحظون جثمانه الواقف أو الجالس، ثم كيف أسقطته الأرضة على الأرض وكيف اضطربت بسقوطه الدولة بكل مسؤوليها. نعم، عصاً تافهة أقامت دولة عظيمة، ثم حشرة صغيرة أوقفت تلك الدولة.
الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع:
القرآن الكريم يتطرق إلى أحد الامتحانات التي امتحن الله بها عبده سليمان، الامتحان في ترك العمل بالأولى، وكيف توجه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالباً منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى. (2)
يقول سبحانه ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ (3)(4).
يستفاد من هذا الكلام الإلهي بصورة عامة أن موضوع امتحان سليمان كان بواسطة جسد خالي من الروح ألقي على كرسيه وأمام عينيه، أمر لم يكن يتوقعه، وآماله كانت متعلقة بشيء آخر، والقرآن لا يعطي تفصيلات أخرى في هذا المجال.
وقد أورد المفسرون والمحدثون تفسيرات متعددة في هذا المجال، وأفضلها وأوضحها ما يلي:
إن سليمان (عليه السلام) كان متزوجاً من عدة نساء، وكان يأمل أن يرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء، فحدث نفسه يوماً قائلاً: لأطوفن على نسائي كي أرزق بعدد من الأولاد لعلهم يساعدونني في تحقيق أهدافي، ولكونه غفل عن قوله تعالى (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه، تلك العبارة التي تبين توكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كل الأمور والأحوال، فلم يرزق سوى ولد ميت ناقص الخلقة جيء به وألقي على كرسي سليمان (عليه السلام).
سليمان (عليه السلام) غرق – هنا- في تفكير عميق، وتألم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة واعتمد على قواه الذاتية، فتاب إلى الله وعاد إليه. (5)
على أي حال فإن القرآن الكريم يكرر الحديث بصورة مفصلة حول قضية توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمنتها الآية السابقة: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (6)
دولة سليمان العريضة:
استجاب الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكاً يتميز بامتيازات خاصة ونعم كبيرة، ويمكن إيجازها في خمسة أقسام:
فسخرنا له الريح
1/ تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ﴾ (7).
من الطبيعي أن الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتصال سريعة، كي يتمكن صاحب ذلك الملك من تفقد كل مناطق مملكته بسرعة في الأوقات الضرورية، وهذا الامتياز منحه الباري عز وجل لسليمان (عليه السلام). (8)
الجن في خدمة سليمان
2/ النعمة الأخرى التي أنعمها الباري عز وجل على عبده سليمان (عليه السلام)، هي تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ﴾ (9).
أي إن المجموعة منها منشغلة في البر ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية، وأخرى منشغلة بالغوص في البحر.
وبهذا الشكل فإن الله وضع تحت تصرف سليمان قوة مستعدة لتنفيذ ما يحتاج إليه، فالشياطين – التي من طبيعتها التمرد والعصيان – سخرت لسليمان لتبني له، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.
ومسألة تسخير الشياطين لسليمان وتنفيذها ما يحتاج إليه، لم ترد في هذه الآية فقط، وإنما وردت في عدة آيات من آيات القرآن المجيد، ولكن في بعض الآيات استخدمت كلمة ﴿الشَّيَاطِينَ﴾ فيها، فيما استخدمت كلمة (الجن) في بعضها الآخر.
إن الجن موجودات مخفية عن أنظارنا، ولها عقول وشعور وقدرة، وبضعها مؤمن وبعضها الآخر كافر، ولا يوجد هناك أي مانع من أن توضع – بأمر من الله – تحت تصرف بعض الأنبياء، لتنجز له بعض الأعمال. (10)
ولقد صيغت حول (الجن) أساطير وحكايات وقصص خرافية كثيرة، لو حذفناها لكان أصل وجودهم والصفات الخاصة بهم التي وردت في القرآن موضوعاً لا يخالف العلم والعقل مطلقاً.
وعلى كل حال، يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾، أن تسخير هذه القوة العظيمة كان – أيضاً – بأمر الله، وأنهم كانوا يتعرضون للعقاب لدى تقصيرهم في أداء مهامهم.
القرآن يشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامة، التي كان يقوم بها فريق الجن بأمر سليمان.
يقول تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ﴾ (11).
فكل ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعماله الهائلة.
وعلى كل حال، فإن هؤلاء العمال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظل حكومته الإلهية والعقائدية، حتى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.
َ﴿تَمَاثِيلَ﴾ المذكورة في القرآن، جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة، وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت؟ أو لماذا أمر سليمان بصنعها؟.
يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني، كما نلاحظ ذلك في المباني المهمة القديمة في عصرنا الحالي، أو حتى في بعض المباني الجديدة.
أو لإضفاء الأبهة والهيبة على المباني التي بنيت، حيث أن رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلاً يضفي نوعاً من الأبهة في أفكار غالبية الناس. (12)
الشياطين في الأغلال والأصفاد:
3/ النعمة الأخرى التي أنعمها الباري عز وجل على سليمان، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبية، لأن هناك من الشياطين من لا فائدة فيه، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل، كي يبقى المجتمع في أمان من شرورهم، كما جاء في القرآن المجيد ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾. (13)
4/ النعمة الرابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد، ومنعها عمن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة، ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (14).
5/ والنعمة الخامسة والأخيرة التي من الله سبحانه وتعالى بها على سليمان، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته، ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (15).
هذه الآية – في الحقيقة – هي الرد المناسب على أولئك الذين يدنسون قدسية أنبياء الله العظام بادعاءات باطلة وواهية يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرف، وبهذا الشكل فإنها تبرئ ساحته من كل تلك الاتهامات الباطلة والمزيفة، وتشيد بمرتبته عند البارئ عز وجل، حتى أن عبارة ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ التي تبشره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله، هي – في نفس الوقت – إشارة إلى زيف الإدعاءات المحرفة التي نسبتها كتب التوراة إليه، والتي تدعي أن سليمان أنجر في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام، وعمد إلى بناء معبد للأصنام، إلا أن القرآن الكريم ينفي ويدحض كل تلك البدع والخرافات.
سليمان في وادي النمل
يستفاد من القرآن الكريم أن (حكومة سليمان) لم تكن حكومة مألوفة، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة.
وفي الحقيقة فإن الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخر لها من قوى، ونحن نعرف أن هذه الأمور عند الله – في نظر الإنسان الموحد – يسيرة وسهلة!.
وأول ما يبدأ القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.
وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير، ومن أجل المحافظة على النظم يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾.
إن سليمان (عليه السلام) كان قد جمع جنوده وحركهم نحو نقطة ما، لكن هذه النقطة أية نقطة هي؟ وأين كان يتجه سليمان؟ ليس ذلك معلوماً على وجه الدقة.
واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل، أنها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم: بل هي منطقة على مقربة من (الشام).
وعلى كل حال، فإن سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم (حتى أتوا على وادي النمل).
فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة، ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. (16)
(فتبسم ضاحكاً من قولها).
هناك كلمات مختلفة عند المفسرين في الشيء الذي أضحك سليمان، والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان، بحيث تحذر نملة صويحباتها من النمل.. تحذرهن من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون: فضحك من أجلها!
قال بعضهم: كان ضحك سليمان سروراً منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.
وقال بعضهم: كان ضحكه وتبسمه لأن الله أعطاه هذه القدرة، وهي أنه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.
وعلى كل حال، فإن سليمان توجه نحو الله.. داعياً وشاكراً ومستزيداً فضله ﴿وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾.
(وأن أعمل صالحاً ترضاه)
والطلب الثالث الذي طلبه سليمان من ربه، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾. (17) (18)
سليمان (عليه السلام) يستعرض قواته القتالية:
في أحد الأيام وعند العصر استعرض سليمان (عليه السلام) خيوله الأصيلة التي كان قد أعدها لجهاد أعدائه، إذ مرت تلك الخيول مع فرسانها أمام سليمان (عليه السلام) في استعراض منسق ومرتب. وبما أن الملك العادل وصاحب النفوذ عليه أن يمتلك جيشاً قوياً، والخيول السريعة إحدى الوسائل المهمة التي يجب أن تتوفر لدى ذلك الجيش، فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجاً من أعماله.
إذ يقول: (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد).
ولكي يطرد سليمان التصور في أذهان الآخرين في أن حبه لهذه الخيول القوية ناتج من حبه للدنيا، جاء في قوله تعالى: (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) إني أحب هذه الخيل من أجل الله وتنفيذ أمره، وأريد الاستفادة منها في جهاد الأعداء.
واستمر سليمان (عليه السلام) ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدة لجهاد أعداء الله، وهو يعيش حالة من السرور، حتى توارت عن أنظاره (حتى توارت بالحجاب).
كان هذا المشهد جميلاً ولطيفاً لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرة أخرى (ردوها علي) وعندما نفذت أوامره بإعادة الخيل، عمد سليمان (عليه السلام) إلى مسح سوقها وأعناقها ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾. (19)
وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأن من الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه. وأبرز في نفس الوقت تعلقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب. (20)
قضاء داود وسليمان عليهما السلام
يشير القرآن الكريم إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشار إشارة خفية إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فيقول: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾. (21)
وبالرغم من أن القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفية، واكتفى بإشارة إجمالية واستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد، إلا أنه وردت بحوث كثيرة حولها في الروايات الإسلامية وأقوال المفسرين.
فقال جماعة: إن القصة كان كما يلي: إن قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلاً إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم بأن تعطى كل الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان – والذي كان طفلاً آنذاك – لأبيه: يا نبي الله العظيم، غير هذا الحكم وعدله! فقال الأب: وكيف ذاك؟ قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الأولى يرد إلى صاحبه، وترد الأغنام أيضاً إلى صاحبها. وأيد الله حكم سليمان.
لكن يبقى هنا استفهام مهم:
ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال: إن المعيار كان جبران الخسارة، فينظر داود إلى أن الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبراً للخسارة، لأن التقصير من جانب صاحب الأغنام.
وينبغي الالتفات إلى أننا نقرأ في بعض الروايات أن على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدي على زرع الآخرين في الليل، كما أن من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار.
أما معيار حكم سليمان (عليه السلام) فقد كان يرى أن خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!
بناءً على هذا فإن الاثنين قد قضيا بالحق والعدل، مع فارق أن حكم سليمان كان أدق، لأن الخسارة لا تدفع مرة واحدة في مكان واحد، بل تؤدي بصورة تدريجية بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضاً. وإضافةً إلى ما مر، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران، لأن جذور النباتات لم تتلف، بل ذهبت منافعها المؤقتة، ولذلك فإن من الأعدل ألا تثقل أصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان، بل تنقل منافعها فقط.
وعلى كل حال، فإن الله تعالى يؤيد حكم سليمان في هذه القصة على هذه الشاكلة: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ ولكن هذا لا يعني أن حكم داود كان اشتباهاً وخطأ ً، لأنه تعالى يضيف مباشرةً ﴿وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ (22).
قصة الهدهد وملكة سبأ:
يشير القرآن إلى جانب آخر من حياة سليمان (عليه السلام) المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ. فيقول أولاً.
وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنه كان يراقب وضع البلاد بدقة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء، حتى لو كان طائراً واحداً.
وهناك كلام بين المفسرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.
فقال بعضهم: كان سليمان (عليه السلام) عندما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.
وقال بعضهم: كان الهدهد مأموراً من قبل سليمان بالتقصي عن الماء كلما دعت الحاجة إليه.. وعندما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.
وعلى كل حال، فهذا التعبير ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ ثم قوله ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أو لغير عذر؟
ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور، فضلاً عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف (سليمان) قائلاً ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾. (23)
وفي الحقيقة فإن سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلف.. وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب.. مرحلة العقاب بما دون الإعدام، ومرحلة العقاب بالإعدام.
وقد برهن سليمان ضمناً أنه – حتى بالنسبة للطائر الضعيف – يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعول على القوة والقدرة أبداً.
الهدهد والنبأ الهام:
ولكن غيبة الهدهد لم تطل ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد﴾ عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.
وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم، أخبره أولاً بخبر مقتضب مهم إلى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطلع عليه، برغم ما عنده من علم، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان، فصل الهدهد له الخبر. (24)
فإن الهدهد أخذ يفصل لسليمان ما حدث فقال: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾
لقد بين الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته!
فقال أولاً: إنه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات، والآخر إنني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم، والثالث: لها عرش عظيم – ولعله أعظم من عرش سليمان – لأن الهدهد كان رأى عرش سليمان حتماً، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنه عظيم.
وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت (نفوذ أمرك وحكومتك)! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم...
ولما سمع سليمان (عليه السلام) كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلا أن الهدهد لم يمهله طويلاً فأخبره بخبر جديد.. خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدهم الشيطان عن طريق الحق ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾.
وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أني لا أتصور أنهم يثوبون إلى رشدهم ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾. (25)
وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضاً، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروج عبادة الشمس.. والناس على دين ملوكهم.
معابدهم وأوضاعهم الأخرى تدل على أنهم سادرون في التيه، ويتباهون بهذا الضلال والانحراف، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد، فمن البعيد إمكان هدايتهم.
كتاب سليمان لملكة سبأ:
لقد أصغى سليمان (عليه السلام) إلى كلام الهدهد بكل اهتمام.. وفكر ملياً، ولعل سليمان كان يظن أن كلام الهدهد صحيح، ولا دليل على كذب بهذا الحجم.. لكن حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة (ساذجة) بسيطة، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمة كبيرة!.. فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾. (26)
سليمان (عليه السلام) لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب.. ولم يصدق كلامه من دون دليل.. بل جعله أساساً للتحقيق!
فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق، وسلمه إلى الهدهد وقال له: ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾.
ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان، واطلعت على مضمونه، وحيث أنها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه، ومحتوى الكتاب يدل على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة سبأ لذلك فكرت ملياً، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمة تستشير من حولها، لذلك فقد دعتهم وتوجهت إليهم ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾. (27)
ثم إن ملكة سبأ تحدث عن مضمون الكتاب فقالت: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾. (28)
وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها.. التفتت إليهم و ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾.
لقد أرادت الملكة بهذه الاستشارة تقوية مركزها في قومها، وأن تلفت أنظارهم إليها، كما أرادت ضمناً أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تقدم عليه من تصميم.
فالتفتت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها فـ ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾. (29)
وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها.. كما أبدوا رغبتهم في الاعتماد على القوة والحضور في ميدان الحرب.
أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها:
ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾.
فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيهم وينهبون ثرواتهم وأموالهم..
وفي الحقيقة.. إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين:
1/ الإفساد والتخريب.
2/ وإذلال الأعزة.
لأنهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الأمة وعزتها.. وهما على طرفي نقيض دائماً.
ثم أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟
وهل سليمان نبي حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذل الناس أم يحترمهم ويعزهم؟
فينبغي أن نرسل شيئاً إليه ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾. (30)
فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية.. فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوة فنحن أقوياء.. وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبي، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل!
ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان، لكنه بتنكيرها بين عظمتها، إلا أن المفسرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق:
قال بعضهم: أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة، وقد ألبست الرجال ثياب نساء والنساء ثياب رجال، وجعلت الأقراط في آذان الرجال والأسورة في أيديهم، وألبست الجواري تيجاناً.. وكتبت في رسالتها إلى سليمان: لو كنت نبياً فميز الرجال من النساء!.
وبعثت أولئك على مراكب ثمينة، ومعهم جواهر وأحجار كريمة، وأوصت رسولها –في الضمن- أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنه نبي.
لا تخدعوني بالمال:
خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان (في الشام) ظناً منهم أن سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم.
لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان.. فإن سليمان (عليه السلام) مضافاً إلى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا ﴿قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾ فما قيمة المال، إزاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى بَلْ ﴿أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾.
أجل، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الزخارف، فيهدي بعضكم لبعض فيشرق وجه تلمع عيناه! إلا أن هذه الأمور لا قيمة لها عندي ولا أكترث بها.
ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل، قال لرسول ملكة سبأ الخاص ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (31).
وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديداً جدياً جديراً بأن يؤخذ بنظر الاعتبار بالنسبة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!
ومع ملاحظة أن سليمان طلب من أولئك شيئين: ترك الاستعلاء، والتسليم للحق ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهدية دليلاً على امتناعهم من قبول الحق وترك الاستعلاء، ولذلك هددهم باستخدام القوة العسكرية.
ولو أن ملكة سبأ وقومها طلبوا من سليمان الدليل والمعجزة (على أنه نبي مطاع) لأعطاهم الحق أن يتحروا ويفصحوا أكثر.. إلا أن إرسال الهدية ظاهره أنهم في مقام الإنكار.
واتضح كذلك أن أهم خبر مزعج أخبر به الهدهد عن هذه الجماعة (ملكة سبأ وقومها) أنهم كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله الذي له مافي السماوات والأرض فكان سليمان (عليه السلام) قلقاً من هذا الأمر.. ومن المعلوم أن عبادة الأصنام ليست أمراً هيناً تسكت عنه الأديان السماوية، أو أن تتحمل عبدة الأصنام على أنهم أقلية دينية، بل تستخدم القوة إذا لزم الأمر وتحطم الأصنام ويطوى الشرك ومريدوه من الوجود!.
ومما بيناه من توضيحات آنفاً يظهر أنه لا تنافي من تهديدات سليمان والأصل الأساس ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ لأن عبادة الأصنام ليست ديناً، بل هي خرافة وانحراف.
حضور العرش في طرف عين:
وأخيراً عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة ملك سليمان (عليه السلام) المعجزة وجهازه الحكومي، وكل واحد في هذه الأمور دليل على أنه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكاً كسائر الملوك، بل هو مرسل من قبل الله حقاً، وحكومته حكومة إلهية.
وهنا اتضح لأولئك جميعاً أنهم غير قادرين على مواجهته عسكرياً، بل إذا استطاعوا – فرضاً- فهم على احتمال قوي من مواجهة نبي عظيم ذي سلطة واسعة!.
لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟
فوصل هذا الخبر – عن أي طريق كان إلى سمع سليمان (عليه السلام) فعزم على إظهار قدرته العجيبة- والملكة وأصحابها في الطريق إليه –ليعرفهم قبل كل شيء على إعجازه، ليذعنوا له ويسلموا لدعوته.. لذلك التفت إلى من حوله و ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾
وهنا أظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمان (عليه السلام)، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب! إذ ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾
أما الشخص الآخر كان رجلاً صالحاً له علم ببعض مافي الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.
فما وافق سليمان (عليه السلام) على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالاستعانة بقوته المعنوية ﴿طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾. (32)(33)
نور الإيمان في قلب الملكة:
نواجه مشهداً آخر، مما جرى بين سليمان وملكة سبأ فسليمان من أجل يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها، ويهيئ الجو لإيمانها بالله، أمر أن يغيروا عرشها وينكروه فـ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾.
وبالرغم من أني المجيء بعرشها من سبأ إلى الشام كان كافياً لأن لا تعرفه ببساطة.. ولكن مع ذلك فإن سليمان أمر أن يوجدوا تغييرات فيه، من قبيل تبديل بعض علاماته، أو تغيير ألوانه ومواضع مجوهراته. (34)
وعلى كل حال فلما جاءت ﴿قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾
إن ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾
فلو قالت: يشبه، لأخطأت.. ولو قالت: هو نفسه، لخالفت الاحتياط، لأن مجيء عرشها إلى أرض سليمان لم يكن مسألة ممكنة بالطرق الاعتيادية، إلا أن تكون معجزة.
وقد جاء في التواريخ أن ملكة سبأ كانت قد أودعت عرشها الثمين في مكان محفوظ، وفي قصر مخصوص فيه غرفة عليها حرس كثير!
ومع ذلك كله فإن ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له من تغييرات.. فقالت مباشرة: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾. (35)
أي، إذا كان مراد سليمان (عليه السلام) من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به، فإننا كنا نعرف حقانيته بعلائم أخر.. كنا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.
أجل، إنها ودعت ماضيها الأسود برؤية هذه العلائم المثيرة، وخطت نحو مرحلة جديدة من الحياة المملوءة بنور الإيمان واليقين.
دخول الملكة قصر سليمان الخاص:
وفي نهاية هذه القصة يجري الكلام عن مشهد آخر، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.
وكان سليمان قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير، وأن يجري الماء من تحتها.
فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾. (36)
إلا أن سليمان (عليه السلام) التفت إليها وقال: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ﴾ فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك. (37)
وحين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. (38)
لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام وكنت غارقة في الزينة والتجميل وكنت أتصور أني أعلى الناس في الدنيا.
أما الآن فإنني أفهم أنني ضعيفة جداً وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبل غليل روحه!.
رباه.. أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري، خاضعة عنقي إليك.
عاقبة أمر ملكة سبأ:
كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيراً ولحقت بالصالحين.. لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها، وواصلت حكمها من قبل سليمان، أو بقيت عند سليمان وتزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم (تبع)؟
هذه الأمور لم يشر إليها القرآن الكريم، لأنها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية!.. إلا أن المؤرخين والمفسرين كلاً منهم اختار رأياً، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك، وإن كان المشهور أنها تزوجت من سليمان نفسه.
إلا أنه ينبغي أن نذكر بهذا الأمر المهم، وهو أنه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضاً، مما يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية، وربما يغشي هذه الحقائق التاريخية. ظل مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع.. وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تراقب مراقبة تامة!.
موت ذا عبرة:
في آخر حديث عن النبي سليمان (عليه السلام) يخبرنا الله سبحانه وتعالى فيه بطريقه موت ذلك النبي العجيبة والداعية للاعتبار، فيوضح تلك الحقيقة الساطعة، وهي كيف أن نبياً بتلك العظمة وحاكماً بكل تلك القدرة والأبهة، لم يستطع حين أخذ الموت بتلابيبه من أن يستلقي على سرير مريح، وانتزعت روحه من بدنه بتلك السهولة والسرعة.
إن سليمان كان واقفاً متكئاً على عصاه حين فاجأه الموت واستل روحه من بدنه، وبقي جثمان سليمان مدة على حالته، حتى أكلت الأرضة –التي عبر عنها القرآن بـ(دابة الأرض)- عصاه، فاختل توازنه وهوى على الأرض، وبذا علم بموته.
الجميل هو أن سليمان بن داود أمر الجن فصنعوا له قبة من قوارير فبينما هو متكئ على عصاه في القبة والجن ينظرون إليه، قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز وجل الأرضة فأكلت منسأته – وهي العصا- ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾. (39)
لماذا خفي موت سليمان مدة من الزمن؟
كم هي المدة التي ظل فيها موت سليمان مخفياً عن حكومته، هل كانت سنة، أم شهراً، أم عدة أيام؟ إختلف المفسرون حول هذا الموضوع.
هل أن الكتمان كان من قبل مقربيه الذين قصدوا من وراء ذلك تمشية أمور الدولة، أم أنهم هم الآخرون قد خفي عليهم ذلك؟
يبدو من المستبعد تماماً أن يخفى أمر وفاته عن حاشيته لمدة طويلة، لا بل حتى لأكثر من يوم واحد، لأن من المسلم أن هناك أفراداً كانوا مكلفين بإيصال احتياجاته وغذائه إليه، وهؤلاء سيعلمون بموته حتماً، وعليه فلا يستبعد- كما قال بعض المفسرين- أنهم علموا بأمر موته، لكنهم أخفوا ذلك الأمر لغايات معينة، لذا فقد ورد في بعض الروايات بأن ((آصف بن برخيا)) وزير سليمان الخاص، هو الذي كان يدير أمور الدولة.
ألم تشكل مسألة عدم تناول الطعام والماء لمدة طويلة تساؤلاً لدى ناطريه؟
مع اليقين بأن كل أعمال سليمان (عليه السلام) كانت عجيبة، فيمكن إعتبار هذه المسألة من عجائبه أيضاً، وحتى أنه ورد في بعض الروايات أنه بعد مدة من بقاء سليمان (عليه السلام) على حاله كثر الهمس بين البعض في وجوب عيادة سليمان، لأنه على حاله منذ مدة لم يتحرك ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم. ولكن حينما تحطمت العصا، وسقط الجثمان على الأرض تبددت كل هذه الأفكار والأوهام.
1- سورة ص، 30
2- إيجاز محتوى الآيات، سمح مرة أخرى لناسجي قصص الخيال أن ينسجوا قصصاً خيالية وهمية أخرى، ويلصقوا التهم بهذا النبي الكبير مالا يليق بالنبوة، ويتنافى مع مقام العصمة، ويتنافى أساساً مع المنطق والعقل، وهذا بحد ذاته امتحان للمحققين في علوم القرآن، فلو أننا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل.
3- سورة ص، 34
4- (الكرسي) يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة، ويبدو أنه كان للسلاطين نوعان من الكراسي، الأول: له أرجل قصيرة ويستخدم في الأوقات العادية، والثاني: له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية، ويطلق على الأول اسم (كرسي) وعلى الثاني اسم (عرش).
5- القصص الكاذبة القبيحة التي تحدثت عن فقدان خاتم سليمان، وعثور احد الشياطين عليه، وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان، كما ورد في بعض الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب (التلمود) اليهودي المليء بالخرافات الإسرائيلية لا يتناسب مع العقل والمنطق. وهذه القصص – في حقيقة الأمر- دليل انحطاط أفكار مبتدعيها، ولهذا فإن المحققين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرد اختلاقات، وقالوا: إن مقام النبوة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم، ولم يسترد الباري عز وجل النبوة من أحد أنبيائه بعد أن بعثه بها، حتى يبعث الشيطان بصورة نبي ليجلس مكان سليمان (40) يوماً يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم.
6- سورة ص، 35
7- سورة ص، 36
8- أما كيف كانت الريح تطيع أوامره؟ وبأي سرعة كانت تسير؟ وعلى أي شيء كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر عبر الرياح؟ وماهي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن انخفاض وارتفاع ضغط الهواء، وغيرها من المشاكل.
خلاصة الأمر: ماهي هذه الواسطة السرية وذات الأسرار الخفية التي كانت موضوعة تحت تصرف سليمان في ذلك العصر؟
تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا، وكل ما نعرفه أن تلك الأمور الخارقة توضع تحت تصرف الأنبياء لتسهل لهم القيام بمهامهم. وهذه القضايا ليست بقضايا عادية، وإنما هي نعم خارقة ومعجزات، وهذه الأشياء تعد شيئاً بسيطاً في مقابل قدرة الباري عز وجل، وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها في الوقت الذي لا نعرف أي شيء عن جزئياتها.
9- سورة ص، 37
10- وهناك احتمال وارد أيضاً، وهو أن كلمة الشياطين لها معنى واسع قد يشمل حتى العصاة من البشر، وقد استخدم هذا المعنى في الآية (112) من سورة الأنعام، وبهذا الترتيب فإن الله سبحانه وتعالى منح سليمان قوة جعلت حتى المتمردين العصاة ينصاعون لأوامره.
11- سبأ، 13-12.
12- هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحاً في شريعة سليمان (عليه السلام) مع كونه حراماً في الشريعة الإسلامية؟ أو أن التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم؟
أو أنها كانت مجرد نقوش ورسوم على الجدران –كما نلاحظ في الآثار القديمة- وهي غير محرمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسمة.
كل ذلك محتمل، لأن تحريم صناعة المجسمات في الإسلام، كان يقصد مكافحة قضية عبادة الأوثان واقتلاعها من الجذور، في حين أن ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان، لذا لم تحرم في شريعته!
ولكننا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: (والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنها الشجر وشبهه) وبالاستناد لهذه الرواية فإن صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراماً أيضاً.
13- وهنا يطرح هذا السؤال: إن كان المراد من الشياطين هم شياطين الجن، فإن أولئك لهم جسم شفاف لا يتناسب مع استخدام الأغلال والسلاسل والقيود.
لهذا قال البعض: إنها كناية عن اعتقال ومنع تلك الشياطين من أداء أي نشاط تخريبي، وإن كان المقصود من الشياطين هم المتمردون والعصاة من بني آدم فإن الأغلال والقيود تبقى محافظة على مفهومها الأصلي، أي إنّ استخدامها هنا وارد.
14- عبارة (بغير حساب) إما أن تكون إشارة إلى أن البارئ عز وجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات، أو أن العطاء الإلهي كان عظيماً بحيث أنه مهما منح منه فإنه يبقى عظيماً وكثيراً.
15- سورة ص، 40-38
16- ويستفاد ضمناً من جملة (لا يشعرون) أن عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأن مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنما ذلك عدم توجههم والتفاتهم.
17- النمل، 19-17
18- معرفة سليمان بلغة الحيوانات ومنطقها ليس لنا كثير معرفة بعالم الحيوانات، وما يزال الغموض والإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله، وبالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.
إننا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها، فبناء خلايا النحل بشكلها المنظم الدقيق، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدو، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض، والعثور على بيوتها وأوكارها من الأماكن البعيدة، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها، وتوقعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.
كل هذه الأمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيراً من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلها! ثم بعد هذا كله فإن كثيراً من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية يعجز عنها حتى الإنسان. إلى أنه ليس من الواضح أن هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس!.. ترى هل تعلم الحيوانات واقعاً: من نحن؟! وما نعمل. وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاءً بهذا المستوى، إلى أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها. فعلى هذا الحساب إذا كنا قرأنا في القصة السابقة، أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده، وحذر من البقاء، وأنه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده، وسليمان عرف هذا الموضوع تماماً فلا مجال للعجب. ثم بعد هذا فإن حكومة سليمان – كما قلنا آنفاً- كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسرين اعتقادهم بأن هذا المستوى من الإطلاع والمعرفة –من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان- هو بنفسه إعجاز خارق للعادة، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور القرون.
والغرض أنه لا دليل عندنا على حمل قصة سليمان والنمل، أو سليمان والهدهد، على الكناية أو لسان الحال، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي.
19- سورة ص، 33-31
20- ما ذكرناه يتطابق مع ما ذهب إليه بعض المفسرين كالفخر الرازي، كما تمت الاستفادة من بعض ما ورد عن العالم الشيعي الكبير السيد المرتضى، إذا قال في كتابه (تنزيه الأنبياء) في باب نفي الادعاءات الباطلة والمحرمة التي ينسها بعض المفسرين ورواة الحديث إلى سليمان (إن الله ابتدأ الآية بمدحه والثناء عليه فقال <نعم العبد إنه أواب> فلا يمكن أن يثني عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبح إليه، وأنه يتلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة، والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل وشغفه بها كان عن إذن ربه وبأمره وبتذكيره إياه، لأن الله تعالى قد أمرنا بإرباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان (عليه السلام) مأموراً بمثل ذلك)
21- الأنبياء، 78
22- الأنبياء، 79
23- النمل، 22- 20
24- ومما ينبغي الالتفات إليه أن جنود سليمان –حتى الطيور الممتثلة لأوامره- كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول: (أحطت بما لم تحط به).
فتعامل مع الهدهد (وعلاقته) مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة، إذ يتملقون في البدء مدة طويلة، ثم يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرة أمام الطود، ثم يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق، ولا يستطيعون أن يصرحوا في كلامهم أبداً، بل يكنون كناية أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!
أجل، إن الهدهد قال بصراحة: غيابي لم يكن اعتباطاً وعبثاً، بل جئتك بخبر يقين (مهم) لم تحط به!
وهذا التعبير درس كبير للجميع، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد يعرف موضوعاً لا يعرفه أعلم من في عصره، لئلا يكون الإنسان مغروراً بعلمه، حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوة الواسع.
25- النمل، 24- 22
26- النمل، 27
27- ترى حقاً أن ملكة سبأ لم تكن رأت (حامل الكتاب) إلا أنها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلاً ومفترى أبداً؟ أم أنها رأت الرسول بأم عينيها، ورأت كيفية وصول الكتاب المدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمة، ومهما كان الأمر فإنها عولت على الكتاب بكل اطمئنان؟
وقول الملكة (إني ألقي إلي كتاب كريم) <أي قيم> لعله لمحتواه العميق، أو لأنه بدئ باسم الله أو لأنه ختم بإمضاء صحيح أو لأن مرسله رجل عظيم.
صحيح أنهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس، إلا أننا نعرف أن كثيراً من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله –أيضاً- ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.
28- ومن البعيد –كما يبدو- أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات (وهذه الألفاظ العربية). إذاً فالجمل الآنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى، أو أنها خلاصة ما كان كتبه سليمان، وقد أدتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.
29- النمل 32- 28 .
30- النمل 35- 34.
31- النمل 37- 36.
32- النمل 40- 38
33- وهناك اختلاف بين المفسرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة، من كان؟ ومن أين له هذه القدرة العجيبة، ومالمراد (عنده علم من الكتاب)؟
إلا أن الظاهر أن هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته.
وأما (علم الكتاب) فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية، المعرفة العميقة التي تمكنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة؟
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ الذي علم الله بعضه ذلك الرجل (آصف) ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين، ويحضره عند سليمان؟
وقال كثير من المفسرين، إن هذا الرجل الؤمن كان عارفاً بالاسم الأعظم، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!.
السؤال الآخر: كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟!
والجواب: أن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون لع قدرة على بعض الأمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلا أن الفرق بين ما يقومون به مما يخرق العادة وبين المعجزة هو أنه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة، فهي (أعمالهم الخارقة للعادة) محدودة دائماً، في حين أن المعاجز تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!.
لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدد قدرته –على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أمور البلد، ليأتيه بعرش ملكة سبأ، في حين أن آصف بن برخيا لم يحدد قدرته، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة، ومن المسلم به أن سليمان (عليه السلام) يشجع الأعمال التي تبين للناس الأشخاص الصالحين، ويباركها، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم، فيعدونه دليلاً على تقواه وطهارته!.
34- ولكن يطرح هذا السؤال: مالهدف الذي كان سليمان (عليه السلام) يتوخاه من اختبار عقل (ودراية) ملكة سبأ وذكائها؟
لعل هذا الاختبار كان لمعرفة أي منطق يواجهها به؟ وكيف يأتي لها بدليل لإثبات المباني العقائدية؟ أو كان يفكر أن يتزوجها، وكان يريد أن يعرف هل هي جديرة بأن تكون زوجة له، أم لا؟ أو أراد –واقعاً- أن يعهد لها بمسؤولية بعد إيمانها، فلابد من معرفة مقدار استعدادها لقبول المسؤولية!
35- النمل 42- 41
36- (اللجة) في الأصل مأخوذة من اللجاج، ومعناه الشدة، ثم أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير (لجة) على وزن (ضجة)، أما الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى (لجة) على وزن (جبة) وهي هنا في الآية بهذا المعنى الاخير.
37- وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أن سليمان نبي كبير، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزين الرائق، والصرح الممرد والبساط الممهد!.. وصحيح أنه كان حاكماً مبسوط اليد، إلا أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.
إلا أنه، ما يمنع أن يري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة، يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية!
ما يمنعه –بدلاً من أن يغير جيشاً لجباً فيسفك الدماء- أن يجعل فكر ملكة سبأ حائراً ومبهوتاً بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلاً، خاصة أنها كانت امرأة تهتم بهذه الأمور والتشريفات.
ولا سيما أن أغلب المفسرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام، وكان هدفه أن يريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له، وهذا الأمر يدل على أن سليمان (عليه السلام) كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوة الظاهرية وفق بها للقيام بمثل هذا العمل!.
وبتعبير آخر: إن هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب – لم تكن أمراً مسرفاً.
38- النمل، 44
39- ويجب أن نذكر هنا أيضاً، بأن قصة النبي سليمان (عليه السلام) ككثير من قصص الأنبياء، اختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوهت صورة هذا النبي العظيم، وأكثر هذا الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم، ولو اقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النبي لما واجهتنا أية مشكلة.